بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 فبراير 2014

إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل للعلامة صالح بن عبدالعزيز آلشيخ7



 الشريط الثاني

نفيُ المِثْليِةِ الأولى ليس مستقيماً دائماً، أو ليس مفهوماً دائماً.

أما الثاني فإنه واضح من جهة العربية، وواضح من جهة العقيدة، وواضح من جهة دلالته على تأكيد النفي الذي جاء في الآية.

هذا خلاصة الكلام على قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ).

ثم قال / (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)

ومعنى (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) يعني أنه I لا شيء مما يصح أن يُطلق عليه أنه شيء يعجزه U ويُكْرِثُهُ ويُثْقِلُهُ ولا يكون قادرا عليه، بل هو سبحانه الموصوف بكمال القدرة وكمال العلم وكمال اتصافه بالصفات وكمال القوة، فلذلك لا شيء يعجزه I.

(وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)فيها تقرير لتوحيد الربوبية كما ذكرنا آنفا؛ لأن نفي العجز لأجل كمال القدرة، كمال الغنى، وكمال قوته I، وهذا راجع إلى أفراد توحيد الربوبية.

وفي الكلام على قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) مسائل:

$ المسألة الأولى:

أن هذا منتزع من قوله الله U ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾[فاطر:44]، فنفى سبحانه أن ثَمَّ شيءٌ يعجزه في السماوات وكذلك في الأرض، وعلَّلَ ذلك بكونه (عَلِيمًا قَدِيرًا).

ونفي العجز في الآية جاء مُعَلَّلاً بكمال علمه وقدرته؛ وذلك لأنَّ العجز في الجملة:

r    إما أن يرجع إلى عدم علم، فلأجل عدم علمه بالأمر عجز عنه.

r    وإما أن يرجع لعدم القدرة، فَعَلِمَ ولكن لا يقدر على إنفاذ ما علم أو ما يريد.

r    وإما أن يرجع إليهما معا.

ولذلك لما قال ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ عَلَّلَه بقوله ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا، ومن المتقرر في علم الأصول في مسالك العلة من أبواب القياس: أنّ التعليل في القرآن والسنة يُستفادُ من جهات؛ ومنها مجيء (إنَّ) بعد الخبر أو بعد الأمر والنهي.

وهنا لما أخبر عن نفسه بعدم العجز، وعلل ذلك بكونه سبحانه عليما قديرا، عَلِمْنَا أنَّ سبب عدم العجز هو كمال علمه سبحانه وكمال قدرته.

$ المسالة الثانية:

أن هذه الجملة نأخذ منها قاعدة قَعَّدها أئمة أهل السنة والجماعة وهي أنَّ النفي إذا كان في الكتاب والسنة فإنه لا يُراد به حقيقة النفي، وإنما يُراد به كمال ضده.

يعني أنّّ كل نَفْيٍ نُفِيَ عن الله U.

أنَّ كل نَفْيٍ أُضِيفَ لله U فنُفِيَ عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله في القرآن أو في السنة، فإن المقصود منه إثبات كمال الضِّد.

لأنَّ النفي المحض ليس بكمال، فقد يُنفَى عن الشيء الاتصاف بالصفة؛ لأنه ليس بأهلٍ لها، فيقال: فلان ليس بعالم. لأنّه ليس أهلاً لأن يتّصف بذلك، ويقال: فلان ليس بظالم لأنه ليس بقادر أصلا، كما قال الشاعر في وصف قوم يذمهم:

قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّــةٍ
وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْذَلِ

لأنهم لا يستطيعون أصلا أنْ يظلموا أو أن يعتدوا لعجزهم عن ذلك؛ لأن العرب كانت تفتخر بأنّ من لم يَظلِمْ يُظلَم كقول الشاعر وهو زهير:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

فتقرر أنَّ النفي المحض ليس بكمال، ولذلك نقرر القاعدة: أنّ النفي في الكتاب والسنة إنما هو لإثبات كمال الضد.

وأخذنا ذلك من قوله U ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا، فصار النفي نفي العجز عنه سبحانه فيه إثبات كمال علمه وقدرته.

وهذا خُذْهُ مطّرِداً في مثله قوله U ﴿وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البقرة:255]، وفي قوله U في أول آية الكرسي ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ﴾[البقرة:255]،  لكمال حياته وكمال قيوميته سبحانه، ﴿وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا فيه إثبات كمال قدرته U وكمال قوته، وفي قوله ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[الكهف:49] لكمال عدله سبحانه، وفي قوله ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4] وذلك لكمال اتصافه بصفاته، و في قوله ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاص:3] لكمال استغنائه سبحانه.

ففي كل نفيٍ جاء في الكتاب والسنة تأخذ إثبات الصفة التي هي بضد ذلك النفي.

ولهذا تُثْبَتُ بعض الصفات وتُثبتُ بعض الأسماء عند طائفة من أهل العلم بألفاظ لم ترد صراحة وأخذوها من النفي الذي جاء في الكتاب والسنة.

$ المسألة الثالثة:

أنّ قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) كما ذكرتُ لك من أفراد توحيد الربوبية.

والتمثيل عن العام ببعض أفراده في التوحيد صحيح؛ لأنَّ دِلالة الخاص على العام مؤكَّدةٌ واضحة لا يمكن أن تخرج دلالة الخاص عن الأمر الكلي العام.

ولهذا يجيء الإثبات مفصلا كما ذكرنا لأجل أنَّ الإثبات العام لله U في جميع الصفات حق، فيُثْبَتُ في كل موضع بحسبه.

فمن مثَّل في موضع ببعض أفراد الربوبية، فإن تمثيله لذلك حق وإنْ لم يُمَثِّل بجميع أفراد الربوبية، بخلاف الأسماء والصفات فإنَّ الأسماء والصفات تُمَثِّل عليها بأنواعها.

أهل السنة إذا ذكروا الأسماء والصفات تمثيلاً في هذا المقام فإنهم يذكرون تلك الأسماء والصفات والأفعال التي تدل على أنواع الصفات.

فيذكرون مثالاً للصفات الذاتية، ومثالاً للصفات الاختيارية، ومثالاً للصفات الفعلية حتى يكون ذلك عامّا لأجل أن لا يشترك أهل السنة مع أهل البدع في التعبير.

فإذا أتى مثلا في إثبات الصفات لا يقولون إننا نثبت صفات الرب U كالحياة والقدرة والسمع والعلم والبصر والإرادة والكلام ويسكتون، لأنَّ هذه السبع هي التي أثبتها الكُلَّابِيَّة والأشاعرة وطائفة، ولا يقولون نثبت الحياة والكلام لله والسمع والبصر ويسكتون، ولكن يذكرون هذا وهذا، فإذا ذكروا هذه السبع يقولون أيضا معها فهو سبحانه سميع بصير أو موصوف بالسمع والبصر والقدرة والكلام والإرادة والحياة والاستواء والنزول والرحمة والغضب والرضا فيجمعون -والوجه واليدان، إلى آخره فذكر الصفات ما جرى عليه الاتفاق وما لم يجرِ عليه الاتفاق - يعني بينهم وبين أهل البدع - تمييزًا لقول أهل السنة عن غيرهم.

وأما في الربوبية لأجل أنه لم يَجْرِ فيها الخلاف فإنه يسوغ أن يمثل لها ببعض أفرادها.

$ المسالة الرابعة:

أنَّ العجز هنا كما في الآية؛ جاء نفيه متعلقاً بالأشياء، ودِلالة الآية على النفي أبلغ وأعظم في قول المصنف (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)، لأنه جاء في الآية زيادة (مِنْ) التي تنقل العموم من ظهوره إلى النَّصِّيَّة فيه، فقال سبحانه ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾[فاطر:44]، فقوله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ لو قال: وما كان الله ليعجزه شيء لصَحَّ النفي وصار ظاهرا في العموم، وأما لمَّا قال (مِنْ شَيْءٍ) جاءت زيادة (مِنْ) هذه، لتنقل العموم المستفاد من مجيء النكرة في سياق النفي من ظهوره إلى النَّصِّيَّة فيه.

ومعنى الظهور في العموم: أنّه قد يَتَخَلَّفُ بعض الأفراد على سبيل النُّدْرَة.

وأما النَّصِّيَّة في العموم: فإنه لا يتخلَّفُ عن العموم شيء.

فلما نفى بمجيء النكرة في سياق النفي وجاء بزيادة (مِنْ) التي دلت على انتقال هذه النكرة المنفية من ظهورها في العموم إلى كونها نصاً صريحاً في العموم.

إذا تقرر هذا فالمَنْفِيُّ أن يعجزه سبحانه وتعالى هو الأشياء.

والأشياء جمع شيء، والشيء الذي جاء في الآية ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ، وفي قوله هنا (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)، وكذاك في قوله قبل (وَلا شيءَ مثْلُهُ)، تعريف شيء عندنا: أنّه ما يصح أن يُعْلَمَ أو يَؤُولُ إلى العلم، سواءً كان في الأعيان والذّوات، أو كان من الصفات والأحوال.

فكلمة (شيء) في النصوص تُفَسَّر عند المحققين من أهل السنة بأنها: ما يصح أن يُعلم أو يؤول إلى العلم.

قولنا (يصح أن يعلم) مما هو موجود أمامك أو ما يؤول إلى العلم لعدم وجوده ذَاتاً ولكنه موجود في القَدَرْ، كقول الله U ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾[الإنسان:1]، وقد كان شيئا لكن لا يذكره الناس؛ لأنهم لم يروه، ولكنه شيء يُعْلَمُ في حق الله U، وسيؤول إلى العلم في حق المخلوق والذِّكْرْ.

ولهذا في قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)، وقوله(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) راجع هنا إلى ما هو موجود وإلى ما ليس بموجود من الذوات والصفات والأحوال؛ لأنها جميعا إما أن تكون معلومة، أو تكون آيلة إلى العلم.

قال بعدها / (وَلا إلهَ غَيْرُهُ).

 وقوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) هذا مُنْتَزَع من قول الله U ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ هذه جاءت بها الرسل جميعا؛ جاء بها نوح، وجاء بها هود، وجاء بها صالح، وجاءت بها الأنبياء والرسل جميعا.

وهذا في المعنى كقوله U ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾[هود:1-2]، وكقوله U ﴿أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:32]، وكقوله U ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].

وفي قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) مسائل: