بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 ديسمبر 2014

هل الخروج ضد الحكام مسموح؟

الجواب: الخروج ضد الحكام بلية من البلايا التي ابتلى بها المسلمون من زمن قديم، وأهل السنة بحمد الله لا يرون الخروج على الحاكم المسلم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه)).

ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الآخر منهما)).

وعبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: دعانا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.

فالخروج على الحاكم يعتبر فتنة فبسببه تسفك الدماء ويضعف المسلمون، حتى لو كان الحاكم كافرًا فلا بد أن يكون لدى المسلمين القدرة على مواجهته، حتى لا تسفك دماء المسلمين، فإن الله عز وجل يقول: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا }.

فتاريخ أهل السنة من زمن قديم لا يجيزون الخروج على الحاكم المسلم، وفي هذا الزمن الخروج على الحاكم الكافر لا بد أن يكون بشروط، فإذا كان جاهلاً لا بد أن يعلم، وألا يؤدي المنكر إلى ما هو أنكر منه، ولا تسفك دماء المسلمين.

المرجع: تحفة المجيب (ص227)..للإمام الوادعي رحمه الله تعالى.

بعض القواعد والفوائد السلفية من رسالة الإمام السجزي

بعض القواعد والفوائد السلفية
من رسالة الإمام السجزي إلى أهل زبيد
في الرد على من أنكر الحرف والصوت
جمعها
خالد بن ضحوي الظفيري
13/12/1423هـ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فلقد قرأت رسالة عظيمة جليلة القدر للإمام أبي نصرٍ السجزيِّ -رحمه الله- في الرد على من أنكر الحرف والصوت، فوجدت أنها قد اشتملت على أصول سلفية وقواعد منهجية عظيمة، أحببت أن أجمع بعضها، لكي يستفيد منها السني، ويعلم أن هذه القواعد سار عليها السلف من قديم، وتواصوا بها إلى عصرنا هذا، خاصة وقد شوّش على هذه القواعد كثير من أهل البدع من أهل زماننا.
وقبل البدء بذلك، سأعرف بهذا الإمام.
اسمه ونسبه:
هو الإمام العلامة أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي البكري السجزي، والسجزي نسبة إلى سجستان وهي على غير القياس، والقياس أن يقال: السجستاني.
أشهر شيوخه:
1-أبو عبدالله الحاكم النيسابوري.
2-أبو أحمد الفرضي عبيد الله المقري.
3-أبو الحسن أحمد المجبر مسند بغداد.
أشهر تلاميذه:
1-الحافظ المتقن المحدث أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد النعماني مولاهم الحبال المصري.
2-الحافظ أبو الفضل جعفر بن يحيى التميمي المعروف بابن الحكاك.
3-الحافظ عبدالعزيز بن محمد النخشبي.
مؤلفاته:
1-الإبانة في الرد على الزائغين في مسألة القرآن. وهو مفقود.
2-رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت.
3-رواية الأبناء عن الآباء.
وفاته: 
توفي في مكة سنة أربع وأربعين وأربعمائة (444هـ) على الصحيح.
ثناء العلماء عليه:
قال تلميذه النخشبي: (العالم الحافظ شيخ متقن ثقة ثبت من أهل السنة).
وقال الذهبي: (الإمام العالم الحافظ المجود شيخ السنة أبو نصر عبيدالله بن سعيد … شيخ الحرم ومصنف الإبانة الكبرى في أن القرآن غير مخلوق وهو مجلد كبير دال على علم الرجل بفن الأثر) [السير (17/654)].
((هذه الترجمة مقتبسة من مقدمة تحقيق الكتاب للدكتور باكريم، فمن أراد المزيد فليرجع إليها)).


بعض القواعد والفوائد:
(1) من هم أهل السنة؟.
قال رحمه الله (ص99): ((فأهل السنة: هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح –رحمهم الله- عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه –رضي الله عنهم- فيما لم يثبت فيه نصّ في الكتاب ولا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-)).

(2) من علامات أهل البدع عدم توثيق أقوالهم بأدلة من الكتاب والسنة.
قال رحمه الله (ص:100-101): ((فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقُبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف؛ علم أنّه محدث زائغ وأنه لا يستحق أن يصغا إليه أو يناظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به، بل وتمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بيّن، وكتبهم عارية عن إسناد)).

(3) من قال بأن أخبار الآحاد لا توجب علماً، وبنى مذهبه على عقله، فهو مبتدع محدث.
قال –رحمه الله- (ص:101): ((ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-، لا يسمى محدثا بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف له لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد وهي لا توجب علماً وعقله موجب للعلم، يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً)).

(4) وصف العالم نفسه بأنه من أهل السنة وأن خصومه هم أهل البدع ليس بتزكية وليس مذموماً.
قال –رحمه الله- (ص:101): ((ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهله، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا)).

(5) أهل البدع يتظاهرون بما لا يعتقدونه مكراً وكيداً ليخدعوا من يحسن بهم الظنّ.
قال –رحمه الله- (ص:122) عند حديثه عن الأشاعرة: ((وأما تظاهرهم بخلاف ما يعتقدونه كفعل الزنادقة ففي إثباتهم أن الله سبحانه استوى على العرش، ومن عقدهم: أن الله سبحانه لا يجوز أن يوصف بأنه في سماء، ولا في أرض، ولا على عرش، ولا فوق)).

(6) لا يقال للمبتدع: (إمام)، وإن كان كبيراً في العلم، وإنما شرطه أن يكون ملازماً للمنهاج متبعاً للسلف.
قال –رحمه الله- (ص:130): ((وإن زماناً يقبل فيه قول من يرد على الله سبحانه، ويعدّ مع ذلك إماماً، لزمان صعب، والله المستعان)).
وقال (ص:207): ((فإذا تقدم واحد في هذه العلوم، وكان أخذه إياها ممن علم تقدمه فيها، وكونه متبعاً للسلف، مجانباً للبدع؛ حُكم بإمامته، واستحق أن يؤخذ عنه ويرجع إليه، ويعتمد عليه)).
وقال بعد ذكره جملة من أئمة السلف (ص:214): ((وكانوا أئمة في العلم، مشاهير بالاتباع، والأخذ عن أمثالهم، وكان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، وأتباع على مذهبهم، لكنهم وقعوا في شيء من البدع إما القدر أو التشيع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منـزلتهم عند أهل الحق)).
وقال (ص:216): ((واليوم فمن عرف منه لزوم المنهاج وظهر تقدمه في العلوم التي ذكرناها، فهو إمام مقتدى به، ومن زاغ عن الطريقة وفاوض أهل البدع والكلام، وجانب الحديث وأهله، استحق الهجران والترك، وإن كان متقدماً في تلك العلوم)).

(7) كلما كان المبتدع أكثر تستراً وأقرب إلى أهل السنة كان ضرره أكثر من غيره ممن هو ظاهر البدعة.
قال –رحمه الله- (ص:177-181): ((والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضرراً على عوام أهل السنة من هؤلاء، لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف (أي تأتي من الخلف) ولم تموه…فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء، والكلابية والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة، والذب عن السنة وأهلها، (ثم ذكر بعض عقائد الأشعري، ثم قال:) وكذلك كثير من مذهبه، يقول في الظاهر بقول أهل السنة مجملاً، ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة، فالجاهل يقبله بما يظهره، والعالم يجهره لما منه يخبره، والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإظهار أولئك ومجانبتهم أهل السنة، وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق)). 

(8) من علامات أهل البدع الطعن في علماء أهل السنة.
قال –رحمه الله- (ص:185): ((قال بعض سقاطهم: (ما بين شيوخ الحنابلة، وبين اليهود إلا خصلة واحدة) ولعمري إنّ بين الطائفتين خصلة واحدة، لكنها بخلاف ما تصوره الساقط، وتلك الخصلة أن الحنابلة على الإسلام والسنة، واليهود على الكفر والضلالة)).

(9) مناظرة أهل البدع فيها من الفساد العريض.
قال رحمه الله (ص:100-101): ((فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقُبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف؛ علم أنّه محدث زائغ وأنه لا يستحق أن يصغا إليه أو يناظر في قوله)).
وقال بعد أن ذكر الملحد والمجوسي وأهل سائر النحل (ص:200): ((وفي مناظرتهم أكبر فساد لانتشار شبههم بها في الناس، وجواز عدم من يصل إلى حلّها في الحال)).

(10) لا بأس من ذكر حال أهل البدع وشيء من ضلالهم للعوام حتى يحذروهم.
قال –رحمه الله- (ص:195): ((الفصل التاسع في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامّة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم)).

(11) لكل مبتدع نهاية يفتضح بها أمره مهما حاول التستر، بخلاف أهل الأثر.
قال –رحمه الله-(ص:195): ((ولكل مخالف للسنة وطريقة أهل الأثر ما يفتضح به عند التأمل، وأهل الأثر لا فضيحة عليهم عند محصل، لأنهم لم يحدثوا شيئاً وإنما تبعوا الأثر، ومن ادعى في الأثر فضيحة بعد الحكم بصحته، لم يكن مسلماً)).

(12) من مكائد أهل البدع استخدام أسلوب الموافقة لأهل السنة، ومدحهم، وتكذيب ما ينسب إليهم حتى يوقعوهم في شباكهم.
قال –رحمه الله- (ص:200-201): ((وفي ضمن هذا إخفاء المذهب عن قوم وإظهاره لآخرين، وهذا شبيه بالزندقة، وبهذا الفعل منهم دخل كثير من العوام والمبتدئين في مذهبهم لأنهم يظهرون له الموافقة في الأول ويكذبون بما ينسب إليهم حتى يصطادوه، فإذا وقع جروه قليلاً قليلاً حتى ينسلخ من السنة)).

(13) من أساليب أهل البدع لصرف الناس عن الحق نسبت أهله إلى سبّ العلماء، وإشاعة الأكاذيب ضدهم.
قال –رحمه الله- (ص:202): ((ومنها: ما ارتكبه أهل الوقت منهم، خصوصاً من كان منهم من المغاربة، وهو أن كل من يخالفهم نسبوه إلى سب العلماء لينفروا قلوب العوام عنه، وقرفوه بأقاويل لا يقول بها ولا يعتقدها بهتاً منهم وكذباً، لأن البهتان والكذب لا قبح لهما في العقل وإنما علم قبحهما بالسمع، والقائلون بخلاف قولهم؛ ضلاّل عندهم، ولا حرمة لهم)).

(14) أهل البدع من أئمة الضلال.
قال –رحمه الله- (ص:216): ((وأما أئمة الضلال: فالمشركون، والمدعون الربوبية، والمنافقون، ثم كل من أحدث في الإسلام حدثاً، وأسّس بخلاف الحديث طريقاً، ورد أمر المعتقدات إلى العقليات، ولم يُعرف شيوخه باتباع الأثر، ولم يأخذ السنة عن أهلها، أو أخذ عنهم ثم خالفهم)).

(15) المتبع للأثر يكرم ويقدر وإن كان صغيراً غير نسيب، والمخالف يهان وإن كان كبيراً نسيباً.
قال –رحمه الله- (ص:220): ((فالمتبع للأثر يجب تقدمه وإكرامه، وإن كان صغير السنّ غير نسيب، والمخالف له يلزم اجتنابه، وإن كان مسنّاً شريفاً)).

(16) الحذر من الركون إلى كلّ كتاب وإلى كلّ أحد، والتحذير من كتب المبتدعة، والرد على من قال: خذ الحق منها واترك الباطل.
حيث عقد فصلاً في ذلك (ص:231-234) فقال:
(( الفصل الحادي عشر في الحذر من الركون إلى كل أحد، والأخذ من كل كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر والكذب على المذاهب قد انتشر .
اعلموا رحمنا وإياكم الله سبحانه، أن هذا الفصل من أولى هذه الفصول بالضبط لعموم البلاء، وما يدخل على الناس بإهماله، وذلك أن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عز، ومن يبيع دينه بعرض يسير، أو تحبباً إلى من يراه قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص أن لا يركن إلى كل أحد ولا يعتمد على كل كتاب، ولا يسلّم عنانه إلى من أظهر له الموافقة ... .
فمن رام النجاة من هؤلاء، والسلامة من الأهواء فليكن ميزانه الكتاب، والأثر - في كل ما يسمع ويرى؛ فإن كان عالماً بهما عرضه عليهما - واتباعه للسلف .
ولا يقبل من أحد قولاً إلا طالبه على صحته بآية محكمة، أو سنة ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح ... .
وليحذر تصانيف من تغير حالهم فإن فيها العقارب وربما تعذّر الترياق)).

(17) من مكائد أهل البدع التستر بحب أئمة السنة والتمسح بهم، ليقبل الناس بدعتهم.
قال –رحمه الله- (ص:231): ((فلقد وقفت على رسالة عملها رجل من أهل أصبهان يعرف بابن اللبان وهو حي بعد فيما بلغني، وسماها "بشرح مقالة الإمام الأوحد أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل" وذكر فيها مذهب الأشعري المخالف لأحمد، أعطى منها نسخاً إلى جماعة يطوفون بها في البلاد، ويقولون هذا إمام من أئمـة أصحاب أحمد رحمة الله عليه، قد شرح مقالته ليكتبها العوام، ويظنوا صدق الناقل فيقعوا في الضلالة، فأُخرج هذا الرجل من بغداد بهذا السبب، وعاد إلى أصبهان)).

(18) من مدح أهل البدع وعظمهم وقدرهم، وطعن على أهل السنة، فهو مبتدع وإن أظهر السنة والسلفية.
قال –رحمه الله- (ص:232): ((وها هنا بمكة معنا من شغله برواية الحديث أكثر وقته ويصيح أنه ليس بأشعري، ثم يقول: رأيت منهم أفاضل، ومَن التراب تحت رجله أفضل من خلق، وإذا قدم البلد رجل منهم قصده قاضياً لحقّه، وإذا دخله رجل من أصحابنا جانبه وحذر منه. وكلما ذكر بين يديه شيخ من شيوخ الحنابلة وقع فيه، وقال: أحمد نبيل لكنه بُلي بمن يكذب، وهذا مكر منه لا يحيق إلا به)).

(19) من أساليب أهل البدع في صرف الناس عن العلماء، الطعن في طلابهم وتشويه صورتهم.
قال –رحمه الله- عند ذكره لأحد الأشاعرة (ص:232-233): ((وكلما ذُكر بين يديه شيخ من شيوخ الحنابلة وقع فيه، وقال: أحمد نبيل لكنه بُلي بمن يكذب. وهذا مكر منه لا يحيق إلا به، ولو جاز أن يقال: إن أصحاب أحمد كذبوا عليه في الظاهر من مذهبه، والمنصوص له لساغ أن يقال إن أصحاب مالك والشافعي وغيرهما كذبوا عليهم فيما نقلوا عنهم، وهذا لا يقوله إلا جاهل رقيق الدين قليل الحياء)).

(20) كثيراً ما يدخل في أهل السنة مَن هو مِن أهل البدع قاصداً إضلالهم وحرفهم عن السنة.
قال –رحمه الله- (ص:233): ((ومن الناس من يظهر الرد على الأشعرية ويقول: ما أتكلم في الحرف والصوت.
ومن كان هكذا لم يخل أمره من أحد وجهين:
إمّا أن يكون غير خبير بمذهب أهل الأثر، وهو يريد التظاهر به تكسباً أو تحبباً.
وإمّا أن يكون من القوم فيتظاهر بمخالفتهم، ليدلس قولهم فيما يقولونه، فيقبل منه، أو يحسّن قبيحهم فيتابع عليه ظنّاً أنّه مخالف لهم وكثيراً ما يتم على أهل السنة مثل هذا)).

(21) الاعتذار للعالم السني الذي مدح المبتدع بأنه لم يخبر مذهبه ولم يدرس آراءه، وليس هذا من الطعن فيه.
قال –رحمه الله- (ص:227) عند حديثه عن الإمام ابن أبي زيد والإمام القابسي واحتجاج الأشاعرة بأنهما قالا عن أبي الحسن بأنه إمام: ((فبان بما ذكرنا أن هذين الشيخين رحمهما الله إن قالا ما يحكى عنهما من إمامة الأشعري، فإنما قالاه لحسن ظنهما به، لتظاهره بالرد على المعتزلة، والروافض، ولم يخبرا مذهبه، ولو خبراه لما قالا ما قالاه)).

(22) من سبل النجاة من الأهواء المردية.
قال -رحمه الله- (ص:233-234): ((فمن رام النجاة من هؤلاء، والسلامة من الأهواء فليكن ميزانه الكتاب والأثر –في كل ما يسمع ويرى فإن كان عالماً بهما عرضه عليهما- واتباعه للسلف ،ولا يقبل من أحد قولاً إلا وطالبه على صحته بآية محكمة، أو سنة ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح، وليكثر النظر في كتب السنن لمن تقدم مثل: أبي داود السجستاني، وعبدالله بن أحمد بن حنبل، وأبي بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل السيرجاني، وخشيش بن أصرم النسائي، وعروة بن مروان الرقي، وعثمان بن سعيد الدارمي السجستاني، وليحذر تصانيف من تغيّر حالهم، فإن فيها العقارب، وربما تعذر الترياقي)).
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

الاثنين، 8 سبتمبر 2014

تقوية النجباء بأسماء ونصوص الفقهاء الناقلين للإجماع على نجاسة الدماء

تقوية النجباء بأسماء ونصوص الفقهاء الناقلين للإجماع على نجاسة الدماء
الحمد لله العلي الأعلى، عالم السر والنجوى، كاشف الشدات والبلوى، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله سيد الناس في الآخرة والأولى، والمبعوث رحمة للناس بالحق والهدى، وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه وأتباعه ما ظهر نجم وأشرقت شمس الضحى.
أما بعد، أيها الإخوة النبلاء الحصفاء - جملكم الله بالعلم والفقه في شريعته -:
فإن بين يديكم وأمام ناظريكم جزء فقهي يحمل هذا العنوان:
"تقوية النجباء بأسماء ونصوص الفقهاء الناقلين للإجماع على نجاسة الدماء"
وقد بدأت كتابته قبل سنين عديدة لعلها لا تبعد عن العشرين، وظللت أزيد فيه حيناً بعد حين، حتى خرج بهذه الصورة التي ترونها.
وأسأل الله تعالى أن ينفع به الكاتب والقارئ والناشر، إنه جواد كريم.
وما كان فيه من صواب وتسديد فمن الله وحده، هو المَانُّ بِه المتفضل، وما كان فيه من خطأ وزلل فمنِّي ومن الشيطان، وليس الله ورسوله ودينه وشريعته في شيء منه، وحسبي أني لم أتقصده.
وقد جعلت الكلام عن مسألة نجاسة الدم في عدة وقفات، تسهيلاً لضبطها، وإعانة على حفظها وفهمها، وتيسيراً للإلمام بها وإدراكها بوضوح.
فأقول مستعيناً بالله - جل وعلا - ربي وربكم:
الوقفة الأولى / عن أسماء العلماء الناقلين إجماع الفقهاء على نجاسة الدم، ونص كلامهم، ومورده ومصدره.
1- إمام أهل السنة والحديث أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رحمه الله -.
إذ قال الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"(1/ 273- طبعة عالم الفوائد):
وسُئل أحمد - رحمه الله -: الدم والقيح عندك سواء؟ فقال: "لا، الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه".اهـ
ونقله عنه أيضاً الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في "شرح العمدة في الفقه"(1/ 150- طبعة: مكتبة العبيكان).
2- أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "شرح مشكل الآثار"(10/ 108 حديث رقم:3953 - طبعة: مؤسسة الرسالة):
ثم رجعنا إلى طلب الأَوْلى من هذين القولين بالنظر الصحيح المرجوع إلى مثله عند عدم وجود حكم الأشياء المختلف فيها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فوجدنا الأصل المتفق عليه:
أن دماء الأنعام المأكولة لحومها نجسة، وأن وقوعها في المياه يفسدها، وإن أصابتها الثياب نجستها كدماء بني آدم في ذلك.اهـ
3- أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابي البستي الشافعي - رحمه الله -.
إذ قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"(1/ 395 رقم:227- طبعة دار الريان والمكتبة السلفية):
قال الخطابي: في هذا الحديث دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات، لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها إجماعاً، وهو قول الجمهور، أي: يتعين الماء لإزالة النجاسة.اهـ
4- أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم الظاهري - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات"(ص:19- طبعة دار الكتب العلمية):
واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان - حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه - نجس.اهـ
5- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النَّمري المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار"(3/ 204- طبعة مؤسسة الرسالة):
ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس، وأن القليل من الدم الذي لا يكون جارياً مسفوحاً مُتَجَاوزٌ عنه، وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها.اهـ
وقال أيضاً (3/ 211):
وإجماع العلماء على أن من صلى وثوبه الذي يستر عورته قد امتلأ بولاً أو عذرة أو دماً وهو عامد فلا صلاة له، وعليه الإعادة في الوقت وبعده، وهذا كله دليل عندهم على أن غسل النجاسات فرض واجب.اهـ
وقال في كتابه " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(22/ 230- تحقيق سعيد أحمد أعراب):
وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس.اهـ
6- أبو بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "تحفة الفقهاء"(1/ 49- طبعة دار الكتب العلمية):
أما الأول: وهو بيان أنواع النجاسات.
فمن ذلك: أن كل ما يخرج من بدن الانسان مما يتعلق بخروجه وجوب الوضوء أو الغسل فهو نجس، نحو الغائط والبول والدم والصديد، والقئ ملء الفم، ودم الحيض، والنفاس والاستحاضة، والودي، والمذي، والمني، ولا خلاف في هذه الجملة إلا في المني، فإن عند الشافعي هو طاهر.اهـ
7- القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن العربي المعافري المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " أحكام القرآن"(1/ 79- توزيع مكتبة عباس الباز):
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به.اهـ
8- علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(1/ 63- طبعة دار الكتب العلمية):
والثاني: أن نجاسة الميتات ليست لأعيانها بل لما فيها من الدماء السائلة والرطوبات النجسة ولم توجد في هذه الأشياء، وعلى هذا ما أُبِينَ من الحي من هذه الأجزاء وإن كان الْمُبان جزءاً فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها، فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظّفر ونحوِها، فهو على الاختلاف.اهـ
9- أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد القرطبي الأندلسي المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(1/ 193- طبعة مكتبة ابن تيمية):
وأما أنواع النجاسات، فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة:
ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم
نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً، أعني كثيراً، وعلى بول ابن آدم ورجيعه.اهـ
وقال أيضاً (1/ 199):
اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس.اهـ
10- أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " الجامع لأحكام القرآن"(2/ 149- طبعة دار الكتب العلمية):
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس.اهـ
11- أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي الشافعي - رحمه الله -.
إذ قال في "شرح صحيح مسلم"(3/ 204- عند حديث رقم:291- طبعة مكتبة المعارف):
وفيه: أن الدم نجس، وهو بإجماع المسلمين.اهـ
وقال في كتابه "المجموع"(2/ 576- طبعة دار إحياء التراث العربي):
والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب "الحاوي" عن بعض المتكلمين أنه قال: "هو طاهر"، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف، على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم لاسيما في المسائل الفقهيات.اهـ
12- عبد الله بن محمود بن مَودود الموصلي الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "الاختيار لتعليل المختار"(1/ 42 - طبعة: دار المعرفة - بيروت):
لأن قليل النجاسة عفو بالإجماع، كالتي لا يدركها البصر، ودم البعوض والبراغيث، والكثير معتبر بالإجماع.اهـ
وقال أيضاً (1 /43) معلقاً على ما جاء في المتن: "وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة":
كالغائط والبول والدم والصديد والقيء، ولا خلاف فيه.اهـ
13- أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "الذخيرة"( 1/185- طبعة دار الغرب الإسلامي):
والدم المسفوح نجس إجماعاً.اهـ
وقال في كتابه "الفروق"(1/ 229- الفرق رقم:84- طبعة دار الرسالة):
فالدم لم أرَ أحداً قضى عليه بالطهارة.اهـ
14- أبو زيد أو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المالكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه" إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك"(ص:4):
ولا خلاف في نجاسة الدم المسفوح.اهـ
15- علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي المعروف بالخازن - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "لباب التأويل في معاني التنزيل"(1/ 103- طبعة دار الكتب العلمية):
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل، ولا ينتفع به.اهـ
16- شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي - رحمه الله -.
إذ قال ابن قاسم - رحمه الله - في "حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع"(1/ 358):
فإن العفو مختص باليسير من دم الطاهر، وأما الدم الكثير منه فلا نزاع في نجاسته، حكاه الزركشي وغيره.اهـ
17- أبو حفص عمر بن إسحاق بن أحمد الهندي الغزنوي، الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة"(ص:25-26):
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الدماء التي خرجت من ثلاثة أسهم أصابت ثوبه وبدنه بلا شك، ولا تجوز الصلاة معها بالاتفاق، ولا يمكن إنكار ذلك، فإنه قد رآه المهاجري بالليل حتى هاله ما رأى من الدماء، فلما لم يدل مضيه في الصلاة على جواز الصلاة مع النجاسة، كذلك لم يدل على أن الدم لا ينقض الوضوء.اهـ
18- أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " اللباب في علوم الكتاب"(3/ 172- طبعة دار الكتب العلمية):
واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ.اهـ
19- سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(4/ 431- طبعة دار غراس):
الأول: نجاسة الدم، وهو إجماع.اهـ
وقال في كتابه " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(2/ 183- طبعة دار العاصمة):
السادسة: نجاسة الدم، وهو إجماع إلا من شذ.اهـ
ومراده بمن شذ بعض أهل الكلام الذين ذكرهم صاحب "الحاوي" من الشافعية.
20- أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " فتح الباري شرح صحيح البخاري"(1/ 420 عند حديث رقم:240- طبعة دار الريان):
والدم نجس اتفاقاً.اهـ
21- بدر الدين العيني محمود بن أحمد بن موسى العَيْنتَابي الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"(3/ 281- طبعة دار إحياء التراث العربي):
فإن الدم نجس، وهو إجماع المسلمين.اهـ
وقال أيضاً (3/141):
الدم نجس بالإجماع.اهـ
وقال في كتابه "شرح سنن أبي داود"(2/ 187- طبعة مكتبة الرشد):
ويستفاد من الحديث فوائد:
الأولى: فيه أن الدم نجس، وهو إجماع
المسلمين.اهـ
وقال في "البناية شرح الهداية"(1/ 727- طبعة دار الكتب العلمية):
كالدم مثلاً فإنه حرمه فأشبه بنص القرآن، ونجاسته مجمع عليها بلا خلاف، وهو حجة قطعية، والمراد من الدم: الدم المسفوح.اهـ
22- زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري الحنفي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(1/ 21- طبعة دار الكتاب الإسلامي):
وعلَّلَه السِّرَاج الهندي في "شرحِ الهداية" بأنه إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع.اهـ
23- أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه " تحفة المحتاج في شرح المنهاج"(1/ 294):
(ودم) إجماعاً حتى ما يبقى على العظام، ومن صرَّح بطهارته أراد أنه يُعفى عنه، واستَثنى منه الكبد والطحال والمسك.اهـ
24- عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي النجدي - رحمه الله -.
إذ قال في "حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع"(1/ 358):
فإن العفو مختص باليسير من دم الطاهر، وأما الدم الكثير منه فلا نزاع في نجاسته، حكاه الزركشي وغيره، وقال النووي: الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين، وقال: القيح نجس بلا خلاف، وكذا ماء القروح نجس بالاتفاق.اهـ
25- محمد الأمين الشنقيطي الجنكي - رحمه الله -.
إذ قال في كتابه "أضواء البيان"(2/399 - طبعة دار الفكر):
والدم نجس بلا خلاف.اهـ
تنبيه:
غالب النصوص المذكورة صريحة في الإجماع، وبعضها وهو قليل يفهم من السياق.
الوقفة الثانية / عن الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم - في تأكيد نجاسة الدم.
ومن هذه الآثار:
أولاً: أثر عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما -.
إذ قال ابن المنذر - رحمه الله - في كتابه "الأوسط"(1/ 277 رقم:708):
حدثنا يحيى بن محمد ثنا أحمد بن حنبل ثنا أبو عبد الصمد العَمِّي ثنا سليمان عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
(( إِذَا كَانَ الدَّمُ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ )).
وإسناده صحيح.
وقد أخرجه البيهقي - رحمه الله - في "سننه"(4100) في "باب: ما يجب غسله من الدم" من طريق أبي عبد الصمد العمي ثنا سليمان التيمي، به.
ثانياً: أثر عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -.
إذ قال عبد الرزاق - رحمه الله - في "مصنفه"(1453و3701):
عن معمر قال: قلت للزهري: الرجل يرى في ثوبه الدم القليل أو الكثير فقال: أخبرني سالم:
(( أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْصَرِفُ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَلَّى إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُعِيدُ )).
وإسناده صحيح.
وقال البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" جازماً:
(( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ )).
وقال ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(7286):
حدثنا حاتم بن وَرْدَان عن بُرْد عن نافع عن ابن عمر:
(( أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَضَعَهُ وَضَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَضَعَهُ خَرَجَ فَغَسَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ فَبَنَى عَلَى مَا كَانَ صَلَّى )).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في كتابه "فتح الباري"(1/ 348) عقبه:
وإسناده صحيح.اهـ
وأخرجها أيضاً أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الطهور"(418) والبغوي في"الجعديات"( 2355) وابن المنذر في الأوسط"(2/ 287رقم:727) والبيهقي في "المعرفة"( 4897).
الوقفة الثالثة / عن بعض من أشار إلى الإجماع عن العفو عن الدم اليسير.
قال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النَّمري المالكي - رحمه الله - في كتابه "الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار"(3/ 204- طبعة مؤسسة الرسالة):
ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس، وأن القليل من الدم الذي لا يكون جارياً مسفوحاً مُتَجاوز عنه، وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها.اهـ
وقال في كتابه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(22/ 232):
قد أجمع العلماء على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش.اهـ
وقال عبد الله بن محمود بن مَودود الموصلي الحنفي - رحمه الله - في كتابه "الاختيار لتعليل المختار"(1/ 42 - طبعة: دار المعرفة - بيروت):
لأن قليل النجاسة عفو بالإجماع، كالتي لا يدركها البصر، ودم البعوض والبراغيث، والكثير معتبر بالإجماع.اهـ
وقال أبو بكر بن المنذر النيسابوري - رحمه الله - في كتابه "الأوسط"(2/ 277-278 طبعة: دار الأوقاف القطرية):
وذلك أنهم قد أجمعوا في قليل الدم إن صلى فصلاته فيه جائزة.اهـ
وبعض أهل العلم نسب العفو عن اليسير إلى أكثر أهل العلم.
فقال أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد القرطبي الأندلسي المالكي - رحمه الله - في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(1/ 199- طبعة مكتبة ابن تيمية):
وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه، وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور.اهـ
وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي - رحمه الله - في كتابه "المغني"(2/ 481-482 - طبعة هجر):
أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم والقيح، وممن روي عنه:
ابن عباس وأبو هريرة وجابر وابن أبي أوفى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعروة ومحمد بن كنانة والنخعي وقتادة والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأصحاب الرأي.
وكان ابن عمر ينصرف من قليله وكثيره وقال الحسن: كثيره وقليله سواء، ونحوه عن سليمان التيمي لأنه نجاسة فأشبه البول.اهـ
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي - رحمه الله - كما في "مختصر اختلاف العلماء"(1/ 132 - مسألة رقم:20 - طبعة: دار البشائر):
وقال - الليث -: سمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلي وهو في ثوبه بأساً، ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير، والقيح مثل الدم.اهـ
ومن حجة العفو عن يسير الدم، وأنه لا يفسد صلاة المصلي إذا صلى به وهو على ثوبه أو بدنه:
الآثار الوارد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صحة الصلاة مع الدم القليل غير الفاحش.
ومن هذه الآثار:
أولاً: أثر ابن عباس - رضي الله عنهما -:
إذ قال ابن المنذر - رحمه الله - في كتابه "الأوسط"(1/ 277 رقم:708):
حدثنا يحيى بن محمد ثنا أحمد بن حنبل ثنا أبو عبد الصمد العَمِّي ثنا سليمان عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
(( إِذَا كَانَ الدَّمُ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ )).
وإسناده صحيح.
وأخرجه البيهقي - رحمه الله - في "سننه"(4100) في "باب: ما يجب غسله من الدم" من طريق أبي عبد الصمد العَمِّي ثنا سليمان التيمي، به.
ثانياً: أثر أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
إذ قال الدولابي - رحمه الله - في "الكنى والأسماء"(1176):
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا معاوية بن صالح عن توبة أبي صدقة:
(( أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَقْتُلُ الْقُمَّلَ وَالْبَرَاغِيثَ فِي الصَّلَاةِ )).
وإسناده حسن.
توبة هو مولى أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وقد روى عنه شعبة وهو لا يحدث إلا عن ثقة، ووثقه الذهبي.
وقال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في "تهذيب التهذيب"(961):
وقال أبو الفتح الأزدي: "لا يحتج به".
وقرأت بخط الذهبي: "بل هو ثقة"، روى عنه شعبة، يعنى: وروايته عنه: "توثيق له".اهـ
ثالثاً: أثر ابن عمر - رضي الله عنهما -:
إذ قال ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(1469):
حدثنا عبد الوهاب عن التيمي عن بكر قال:
(( رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فِي وَجْهِهِ فَخَرَجَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ، فَحَكَّهُ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ )).
وإسناده صحيح.
وقد علقه البخاري في "صحيحه"( قبل حديث رقم: 176) جازماً به، فقال:
(( وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ )).
وصححه ابن دقيق العيد كما في "خلاصة البدر المنير"( 541) وابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق"(2/ 120) و "فتح الباري"(1/ 282) والعيني في "عمدة القاري"(3/ 52) والألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"(1/ 683 - عند حديث رقم:470).
وأخرجه عبد الرزاق - رحمه الله - في "مصنفه"( 553) بنحوه:
عن ابن التيمي عن أبيه وحميد الطويل قالا: حدثنا بكر بن عبد الله المزني.
وقال أبو بكر الأثرم - رحمه الله - في "سننه"(113):
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا أيوب عن نافع عن ابن عمر:
(( أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ فَيَضَعُهُمَا عَلَى الأَرْضِ وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ )).
وإسناده حسن أو صحيح.
وأخرجه حرب الكرماني في "مسائله"(81) فقال:
حدثنا إسحاق بن عمرو بن سليط قال: ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن بكر بن عبد لله، بنحوه.
رابعاً: أثر أبي هريرة - رضي الله عنه -:
إذ قال عبد الرزاق - رحمه الله - في "مصنفه"( 556):
عن معمر عن جعفر بن برقان قال أخبرني ميمون بن مهران قال:
(( رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ فِي أَنْفِهِ فَخَرَجَتْ مُخَضَّبَةً دَمًا فَفَتَّهُ، ثُمَّ صَلَّى فَلَمْ يَتَوَضَّأْ )).
وإسناده صحيح.
وصححه ابن حزم في كتابه "المحلى"(1/ 239)
خامساً: أثر ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -:
إذ قال أبو بكر الأثرم - رحمه الله - في"سننه"(111):
حدثنا معاوية بن عمرو عن سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب:
(( أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَتَنَخَّمُ دَمًا عبيطاً وهو يصلي )).
وتابع معاوية: يعلى بن عبيد عن سفيان به، أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(64).
وعلقه البخاري جازماً به في "صحيحه"(قبل حديث رقم:176) فقال:
(( وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ )).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"( 1343) فقال:
حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن عطاء السائب، بنحوه.
وصححه ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"(1/ 282) والألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"(1/ 683 - عند حديث رقم:470).
وجود إسناده العيني في "عمدة القاري"(3/ 52).
سادساً: أثر معاذ بن جبل - رضي الله عنه -:
إذ قال عبد الرزاق في "مصنف"(1752)
عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن مالك بن يخامر قال:
(( رَأَيْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقْتُلُ الْقَمْلَةَ وَالْبَرَاغِيثَ فِي الصَّلاَة )).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(7560) عن وكيع عن ثور، بنحوه.
وأخرجه أيضاً (7560) من نفس الطريق، وقال:
قال ثور مَرَّةً: راشد بن سعد أو غيره.اهـ
وقال العلائي - رحمه الله - كتابه في "جامع التحصيل"(83):
ثور بن يزيد الكلاعي عن راشد بن سعد عن مالك بن يخامر قال:
(( رأيت معاذاً يقتل القمل والبراغيث في الصلاة )).
قال أحمد بن حنبل: لم يسمع ثور من راشد شيئاً.اهـ
وأخرج ابن أبي شيبة نحوه أيضاً (7555) فقال:
حدثنا عبد الله بن نمير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال:
(( كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَأْخُذُ الْبُرْغُوثَ فِي الصَّلاَة فَيَفْرُكُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَبْزُقُ عَلَيْهِ )).
وحسان بن عطية لم يدرك معاذ بن جبل - رضي الله عنه -.
ولا يعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً في عدم إعادة الصلاة مع الدم القليل، فيكون إجماعاً.
وقد قال أبو محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي - رحمه الله - في كتابه "المغني"(2/ 482 - طبعة هجر) في تقوية هذا القول بالآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم -:
ولنا: ما روي عن عائشة، قالت: (( قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، وفيه تصيبها الجنابة، ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها )).
وفي لفظ: (( ما كان لإحدانا إلا ثوب فيه تحيض، فإن أصابه شيء من دمها بلته بريقها ثم قصعته بظفرها )) رواه أبو داود.
وهذا يدل على العفو عنه، لأن الريق لا يُطَهَّر به، ويتنجس به ظفرها، وهو إخبار عن داوم الفعل، ومثل هذا لا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدر إلا عن أمره.
ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، فيكون إجماعاً.اهـ
وقال بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي - رحمه الله - في كتابه "العدة في شرح العمدة"(1/ 14 - طبعة: دار الأوقاف القطرية):
وروي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف.اهـ
وقال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الدمشقي - رحمه الله - في "شرح العمدة"(ص:420 - طبعة: دار العاصمة، وتحقيق: المشيقح) حاكياً حال الصحابة - رضي الله عنهم -:
وكانوا إذا وجدوا يسير الدم مضوا في صلاتهم، فعلم أن حمل شيء من البصاق ونحوه، وحمل شيء من يسير النجاسة المعفو عن يسيرها، لا كراهة فيه، ولا يشرع لإزالته شيء من العمل.اهـ
فإن قيل:
قد ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - إتمام الصلاة مع القليل، والخروج منها من القليل والكثير.
فيجاب عن ذلك بما قاله أبو محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي - رحمه الله - في كتابه "المغني"(2/ 481-482 - طبعة هجر):
أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم والقيح، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعاً.
وما حُكي عن ابن عمر، فقد روي عنه خلافه، فروى الأثرم بإسناده عن نافع: (( أن ابن عمر كان يسجد فيخرج يديه فيضعهما بالأرض وهما يقطران دما من شقاق كان في يديه، وعصر بثرة فخرج منها شيء من دم وقيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ )).
وانصرافه منه في بعض الحالات لا ينافي ما رويناه عنه، فقد يتورع الإنسان عن بعض ما يرى جوازه.اهـ
فإن قال قائل: إنه يلزم من يقول بالعفو عن يسيره أن يقول بطهارته.
فيقال له - سددك الله -:
إلزامك هذا ليس في محله، ولا إمام لك فيه من السلف الصالح ولا من بعدهم من أئمة الحديث والفقه، ووقوفك في الاستدلال حيث وقفوا خير لك وأسلم.
وقد قال أبو زكريا النووي - رحمه الله - في كتابه "المجموع"(2/ 576- طبعة دار إحياء التراث العربي):
والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب "الحاوي" عن بعض المتكلمين أنه قال: "هو طاهر"، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف، على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم لاسيما في المسائل الفقهيات.اهـ
تنبيه:
قد يرد في عبارات بعض متأخري الفقهاء:
أن الدم اليسير طاهر.
ومرادهم أنه يعامل معاملة الطاهر، فتصح الصلاة معه.قال أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي - رحمه الله - في كتابه " تحفة المحتاج في شرح المنهاج"(1/ 294):
(ودم) إجماعاً حتى ما يبقى على العظام، ومن صرَّح بطهارته أراد أنه يُعفى عنه.اهـ
الوقفة الرابعة / عن ضابط القليل والكثير من الدم.
قال الإمام الشافعي كما في "مختصر المزني"(9/ 22 - مع كتاب "الأم" - طبعة: دار الكتب العلمية):
ولو صلى رجل وفي ثوبه نجاسة من دم أو قيح وكان قليلاً مثل دم البراغيث وما يتعافاه الناس لم يُعد.اهـ
وقال أبو بكر بن المنذر النيسابوري - رحمه الله - في كتابه "الأوسط"(2/ 278- 297- طبعة: دار الأوقاف القطرية) تحت باب: " ذكر اختلاف أهل العلم في المقدار من الدم الذي يجب منه إعادة الصلاة":
واختلفوا في المقدار من الدم الذي يكون فاحشاً؟
فحكي عن مالك: أنه قال وقد سئل عن الكثير، فقال: نصف الثوب وأكثر.
واختلف فيه عن أحمد، فحَكى إسحاق بن منصور أنه قال وقد سئل عن الكثير، فقال: إذا كان شبراً في شبر، وحكاه يحيى بن محمد بن يحيى أنه قال وقد ذكر له شبر، فقال: هذا كثير، وحكى الأثرم عنه أنه لم يوقت في الفاحش وقتاً، ولكنه قال: على ما تستفحشه في نفسك.
وقال قتادة مرة: موضع الدرهم فاحش، وقال مرة: مثل الظفر.
وقالت طائفة: إذا كان الدم مقدار الدينار أو الدرهم يعيد الصلاة، روي هذا القول عن النخعي.
وقال حماد بن أبي سليمان: إذا كان موضع الدرهم في ثوبك فأعد الصلاة، وروي هذا القول عن ابن المسيب أنه قال ذلك، وكذلك قال الأوزاعي.
وقالت طائفة: إذا كان قدر الدرهم لا يضره، وإن كان أكثر من ذلك أعاد، وروي هذا القول عن النخعي.
وقال سعيد بن جبير: إذا كان أكثر من قدر الدرهم فانصرف.
وقال حماد: إذا كان أكثر من درهم يعيد صلاته.
وفي كتاب محمد بن الحسن: إذا كان أكثر من قدر الدرهم أعاد، قال بلغني عن النخعي أنه قال: قدر الدرهم، والدرهم قد يكون أكبر من الدرهم، فوضعناه على أكثر ما يكون فيها، استحسن ذلك، قلت: فإن كان قدر مثقال، قال: لا يعيد حتى يكون أكثر من ذلك.اهـ
الوقفة الخامسة / عن الإجابة عن بعض ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، والتي احتج بها بعض المتأخرين على عدم نجاسة الدم.
الدليل الأول:
قال الإمام البخاري - رحمه الله - في "صحيحه"( عند حديث رقم: 176) وتحت باب: " من لم يرَ الوضوء إِلا من المَخْرَجين من القُبُل والدُّبُر" مُعلِّقاً بصيغة التمريض:
ويُذكر عن جابر: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَرَكَعَ، وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ )).اهـ
وقول جابر - رضي الله عنهما - هذا:
قد وصله ابن المبارك في "الجهاد"(189) وابن هشام في "السيرة"(2/208) وأحمد (14704و14865) وأبو داود (198) وابن خزيمة (36) ومحمد بن نصر المروزي كما في "مختصر قيام الليل" (ص:152) والدارقطني (869) والحاكم (557) وابن حبان (1096) وابن جرير الطبري في "تاريخه"(2/558) وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة"(1/438) من طريق ابن إسحاق عن صدقة بن يسار عن عَقيل بن جابر عن جابر.
وفي بعض طرقه تصريح ابن إسحاق بالتحديث.
وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان والذهبي والعيني وأبو العلا المباركفوري، وحسنه النووي والألباني وابن قاسم، وقال الشوكاني: ثبت.
وقال ابن عبد الهادي في كتابه "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق"(1/ 293 مسألة:48 حديث رقم:324):
والدارقطني وقال: إسناده صالح.اهـ
وقال محققا "سنن الدارقطني":
لم نقف على كلامه في مطبوعة "السنن" ولا في "إتحاف المهرة"، فلعله في رواية أخرى أو نسخة أخرى.اهـ
ونسب الزيلعي وابن حجر العسقلاني والعيني وغيرهم الحديث إلى الدارقطني، ولم يذكروا كلامه على إسناده بأنه صالح.
ووجه الاستدلال منه:
أن دم الصحابي قد نزف على بدنه وثيابه، ولو كان نجساً لأُمر بإعادة الصلاة، إذ يبعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على واقعته.
وأجيب عن قول جابر - رضي الله عنه - والاستدلال به من عدة أوجه:
الأول: أن إسناده ضعيف، لأن فيه عَقيل بن جابر، وهو مجهول لا يعرف.
فقال ابن أبي حاتم - رحمه الله - في كتابه "الجرح والتعديل"(1206):
سمعت أبى يقول: عقيل بن جابر لا أعرفه.اهـ
وقال الذهبي - رحمه الله - في كتابه "ميزان الاعتدال"(5702):
عقيل بن جابر بن عبد الله الأنصاري عن أبيه فيه جهالة، ما روى عنه غير صدقة بن يسار.اهـ
وقال ابن عبد الهادي - رحمه الله - في كتابه "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق"(234):
وعَقيل بن جابر فيه جهالة.اهـ
وقال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في كتابه "تغليق التعليق على صحيح البخاري"(2/ 116):
وعَقيل بن جابر لم يرو عنه سوى صدقة.اهـ
وقال أيضاً:
وتعليق أبي عبد الله له بصيغة التمريض إما لكونه اختصره، وإما للاختلاف في ابن إسحاق، وما انضاف إليه من عدم العلم بعدالة عقيل.اهـ
وقال في كتابه "فتح الباري"(1/281):
وعَقيل - بفتح العين لا أعرف راوياً عنه غير صَدَقة.اهـ
وبنحوه قال العيني في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"(3/50).
ولم أجد لعقيل بن جابر - رحمه الله - غير هذا الحديث، لا في السنن والمسانيد والمعاجم والصحاح والطبقات والسيرة ولا في غيرها.
وقد ذكره ابن حبان في كتابه "الثقات"( 4797).
الثاني: أن ابن إسحاق قد تفرد به عن عقيل بن جابر، وعقيل بن جابر تفرد به عن أبيه جابر.
وقد تكلم غير واحد من الأئمة على تفردات ابن إسحاق.
الثالث: أن الأئمة الماضين - رحمهم الله - لم ينقل عن واحد منهم أنه استدل به على نجاسة الدم، وإنما يوردونه في باب نواقض الوضوء وأشباهه، عند الكلام على خروج الدم من غير السبيلين هل ينقض الوضوء أم لا؟.
منهم:
1- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - في "صحيحه"(عند حديث: 176).
حيث أورده تحت باب:
"من لم يَر الوضوء إلا من المَخْرَجَين من القُبُل والدُّبُر".
2- أبو داود سليمان بن الأشعث السّجِسْتاني- رحمه الله - في "سننه"(198).
حيث أورده تحت باب:
"الوضوء من الدم".
3- محمد بن إسحاق ابن خزيمة - رحمه الله - في "صحيحه"(36).
حيث ذكره تحت باب:
"ذِكْرِ الخبر الدَّالِّ على أن خروج الدم من غير مَخْرَج الحَدَث لا يُوجب الوضوء".
4- أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني - رحمه الله - في "سننه"(869).
حيث ذكره تحت باب:
"جواز الصلاة مع خروج الدم السائل من البدن".
5- أبو عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع - رحمه الله - حيث ذكره في كتابه "المستدرك على الصحيحين"(557) في باب الطهارة، وقال عقبه:
وهذه سُنَّة ضَيِّقة قد اعتقد أئمتنا بهذا الحديث أن خروج الدم من غير مخرج الحدث لا يُوجِب الوضوء.اهـ
6- أبو حاتم محمد بن حبان البستي - رحمه الله - في "صحيحه"(1096) حيث ذكره تحت باب:
نواقض الوضوء.
7- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي - رحمه الله - في "السنن الكبرى"(663) حيث ذكره تحت باب:
"تَرْك الوضوء من خروج الدم من غير مَخْرج الحَدَث".
8- أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي - رحمه الله - حيث ذكره في كتابه "شرح السنة"(1/328) تحت باب:
"مَا يُوجِب الوضوء".
وهكذا فعل أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة كما في البناية شرح الهداية (1/ 260-261) والحاوي الكبير (1/ 201) والمجموع (2/55) وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع (1/ 242) وغيرها.
الدليل الثاني:
ما قاله عبد الرزاق الصنعاني - رحمه الله - في "مصنفه"(459) ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير"(9219) وابن المنذر في "الأوسط"(142):
عن معمر عن قتادة عن ابن سيرين عن يحيى بن الجزَّار أنه قال:
(( صَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ مِنْ جَزُورٍ نَحَرَهَا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ )).
وقال الألباني - رحمه الله - في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1/ 606 عند رقم:300):
إسناده صحيح.اهـ
وأخرجه ابن أبي شيبة (3954) فقال:
حدثنا هشيم قال: أخبرنا خالد ومنصور عن ابن سيرين عن يحيى بن الجزار:
(( أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى وَعَلَى بَطْنِهِ فَرَثٌ وَدَمٌ، قَالَ: فَلَمْ يُعِدَّ الصَّلَاةَ )).
وأخرجه ابن المنذر - رحمه الله - في "الأوسط"(714) فقال:
حدثنا محمد بن علي نا سعيد بن منصور أنبأ هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن يحيى بن الجزار:
(( أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ نَحَرَ جَزُورًا فَأَصَابَهُ مِنْ قَرْشِهَا وَدَمِهَا فَصَلَّى وَلَمْ يَغْسِلْهُ )).
ووجه الاستدلال من هذا الأثر:
أن ابن مسعود - رضي الله عنه - صلى وعلى بطنه دم من جزور كان قد نحرها، ولو كان الدم نجساً لغسله قبل أن يصلي.
وأجيب عن هذا الأثر بعدة أجوبة:
الأول: أن الدم الذي كان على بطنه وصلى فيه محمول على أنه كان قليلاً، والقليل معفو عنه، لا تبطل صلاة المرء به، ولا يلزمه غسله.
والذي ينحر أو يذبح عن معرفة ومهارة، وقلة ثياب، يعرف كيف يُجَنِّب بدنه وثيابه كثرة دم ذبيحته.
وقد أشار أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله - إلى هذا الجواب في كتابه "شرح مشكل الآثار"(10/106) فقال:
وأما ما روي فيه عن ابن مسعود من حديث يحيى بن الجزار، فقد يحتمل أن يكون ذلك لم يكن له من المقدار ما يفسد به الصلاة، إذ كان قليل الدم في ذلك خِلافَ كثيره عند كثير من أهل العلم.اهـ
الثاني: أن هذا الأثر قد أمسك عن التحديث به أحد رواته الثقات الأثبات، وهو فقيه التابعين محمد بن سيرين - رحمه الله -، وذكر أنه قد أُنْكِر.
فقد قال ابن أبي شيبة - رحمه الله - في "مصنفه"(3954) فقال:
حدثنا هشيم قال: أخبرنا خالد ومنصور عن ابن سيرين عن يحيى بن الجزار:
(( أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى وَعَلَى بَطْنِهِ فَرَثٌ وَدَمٌ، قَالَ: فَلَمْ يُعِدَّ الصَّلَاةَ )).
ثم قال عقبه (3955):
حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس عن ابن سيرين:
(( أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدُ وَلَمْ يُعْجِبْهُ )).
وإسناده صحيح.
وقال أبو جعفر العقيلي - رحمه الله - في كتابه "الضعفاء"(2016):
حدثنا يحيى بن عثمان قال: حدثنا نعيم حثنا حسين بن حسن عن ابن عون قال:
(( قَالَ لِي مُحَمَّدٌ: إِنِّي أَعْرِضُ حَدِيثِي عَلَيْكَ, وَعَلَى أَيُّوبَ, فَعَرَضَ عَلَيْنَا, فَمَرَّ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ: «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى وَعَلَى بَطْنِهِ فَرْثٌ وَدَمٌ » فَقَالَ: أُنْكِرُ هَذَا )).
والإمساك عن التحديث به، والإخبار أنه أُنكِر، يدل على أنه قد أعل بشيء.
الثالث: أنه لم ينص أحد من العلماء على أن مذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - طهارة الدم.
ويؤكد ذلك نقل الكثير من العلماء الإجماع على نجاسته.
الرابع: أن المشهورين بالأخذ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من أصحابه وتلامذته مذهبهم نجاسة الدم.
تنبيه:
ابن الجزار راوي هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قد ذكر بعض من ترجم له أنه يروي عن ابن مسعود.
وقد تتبعت في كتب عديدة ما رواه عن ابن مسعود -، فرأيته في جميعها يروي عنه بواسطة.
ويحتاج هذا الأمر إلى تتبع أكثر، فلعل متوسع بالبحث يفيدني مشكوراً، أو يتيسر لي في وقت لاحق.
وقد قال شعبة بن الحجاج - رحمه الله -:
لم يسمع يحيى بن الجزار من علي إلا ثلاثة أحاديث.اهـ
وقيل للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -:
هل سمع من علي؟ قال: لا.اهـ.
وابن مسعود - رضي الله عنه - قد كانت وفاته سنة (32هـ).
وعلى بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانت وفاته سنة (40هـ).
الدليل الثالث:
ما قاله البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" معلقاً بصيغة الجزم:
قال الحسن - وهو البصري التابعي -: (( مَا زَالَ المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ )).
ووجه الا ستدلال منه:
أنه يحكي صلاة المسلمين بدماء جراحاتهم، ولو كانت نجسة لما صلوا فيها.
وأجيب عنه بأربعة أجوبة:
الأول: أن صلاة الإنسان في جراحه التي تثعب حالة ضرورة، كما كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي وجرحه يثعب دماً بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي - أخزاه الله -.
الثاني: أن الأئمة الماضين - رحمهم الله - لم ينقل عن أحد منهم أنه استدل به على نجاسة الدم.
والبخاري حين أورده في "صحيحه" أورده في باب:
"مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إِلَّا مِنَ المَخْرَجَيْنِ: مِنَ القُبُلِ وَالدُّبُرِ".
الثالث: أنه قد يكون قصد به دم الجراح اليسير.
وقد أورده ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه "إغاثة اللهفان" تحت فصل عنوانه:
"فصل: ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم ولا يعيد".
الرابع: أن الحسن البصري - رحمه الله - مذكور في من يرى نجاسة الدم، ولو كان فقه أثره طهارة الدم، لكن أولى الناس بالأخذ به، والعمل بما دلَّ عليه.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد منقول شبكة سحاب