بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 فبراير 2014

إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل للعلامة صالح بن عبدالعزيز آلشيخ11



المسألة الثالثة:

أنَّ قوله (قَديمٌ) و(دَائمٌ) كما ذكرنا عند أهل السنة يُعَبَّرُ عنه بالأول والآخر كما جاء في النص.

والله I أوليته عند أهل السنة في ذاته وفي صفاته، وآخِرٌ سبحانه في ذاته وفي صفاته.

فهو سبحانه لم يزل متصفا بالصفات، وهو أولٌ بصفاته، وهو سبحانه لن ينقطع اتصافه بصفاته سبحانه وتعالى من الجهة الأخرى.

يعني أنَّ آخريته سبحانه آخِرِيَةُ ذاتٍ وصفات، وأوليته سبحانه أولية ذات وصفات.

فنقول عِلْمُ الله I أَوَّل، ورحمة الله U أُولى، وخلقه سبحانه أول.

يعني اتصافه بهذه الصفات كذاته سبحانه، فهو الأول الذي ليس قبله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وهذا سيأتي له مزيد بيان عند قوله (مَا زالَ بِصِفَاتِهِ قَديماً قَبْلَ خَلْقِهِ، لم يَزدَدْ بِكَوْنِهِم شَيْئاً، لم يكنْ قَبلَهُم مِنْ صِفَتِهِ، وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا).

المقصود أنّ التعبير عن صفات الله U بكونها أُولى والله U أوّل بذاته وصفاته هذا الموافق للنص، أما نقول الكلام القديم أو خَلْقُهُ القديم أو حكمته القديمة وأشباه ذلك فإنّ هذا يَرِد وأيضا يحتمل معنى غير صحيح.

الجملة الثانية قوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ).

وكونه سبحانه (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) ذلك لكمال حياته U وكمال قيوميته.

دلّ على ذلك قوله سبحانه ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾[الرحمن:26-27] ويدل عليها قوله ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[القصص:88] في أحد التفسيرين، ويدل عليها قوله U ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾[البقرة:255] وذلك لكمال حياته وكمال قيوميته، وإذا انتفى الأدنى انتفى الأعلى من باب أولى، ولهذا قال (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) I.

وأراد المصنف بقوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) أراد شيئين فيما يظهر:

× الأول: أن هذا فيه مزيد وصْفْ لله U بكمال الحياة وكمال القيومية U، وتفسير لقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء)

× والثاني: أنّ بعض أهل البدع زعموا أنَّ بعض صفات الله U تفنى، أو أن بعض آثار أسمائه U يبيد.

ونحن نطلق القول بأنه U لا يفنى ولا يبيد سبحانه وتعالى في ذاته وفي أسمائه وصفاته، ولا نقيِّدُ ذلك في الزمن المستقبل بشيء، بل نقول هو على إطلاقه؛ بأنه سبحانه آخر فليس بعده شيء، وأنه لن يزال متصفاً بصفاته بمشيئته وقدرته U.

فإذاً قوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) هذا لكمال ربوبيته سبحانه وكمال اتصافه بالصفات.

ثم قال (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ)

وهذه الجملة الأدلة عليها كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإنَّ الله I قال ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[الإنسان:30]، وقال سبحانه ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[التكوير:29]، و«ما شَاءَ الله كَانَ وَما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْنْ»[1]والله سبحانه يشاء الأشياء فتكون كما شاءها U، ولا تخرج مشيئة العبد عن مشيئة الله U للأشياء.

وقوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) يريد به المشيئة - يعني لا يكون إلا ما يشاؤه سبحانه - فالإرادة هنا المعني بها الإرادة الكونية.

وأراد بهذه الجملة الرد على القدرية الذين يزعمون أنّ الرب U أراد طاعة المطيع، وأراد إيمان المؤمن؛ أراد إيمان المكلف، ولكن المكلف أراد الكفر وأراد المعصية فكان ما لم يرد الله U،

وهذا قول الذين يقولون إنّ العبد يخلق فعل نفسه كما هو قول المعتزلة و طوائف أيضا من القدرية.

يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه وأنّ الله U لا يخلق فعله، فيحصل في الكون ما لا يريده U لأن الله سبحانه لا يريد الكفر ولا يريد الضلال ولا يريد المعصية.

وهذا القول باطل كما ذكرنا لك لأن الإرادة المراد بها هنا الإرادة الشرعية.

وهنا نخلص في هذه الجملة إلى مسائل:

$ المسألة الأولى:

أنه أراد بقوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) أراد بالإرادة هنا المشيئة.

والإرادة؛ إرادة الله U منقسمة إلى:

r    إرادة كونية - يعني فيما يحصل في كون الله U -.

r    وإرادة شرعية.

فأما الإرادة الكونية فكثيرة في النصوص وهي مرادفة للمشيئة، فمشيئة الله هي الإرادة الكونية، فإذا قلنا شاء الله كذا؛ يعني أراده كونا.

أما المشيئة فلا تنقسم إلى مشيئة كونية وإلى مشيئة شرعية؛ بل هي نوع واحد، هو مشيئة في كونه، أما الشرع فإنما يوصف بإرادة شرعية.

وهذا يعني أنّ الإرادة الكونية التي هي المشيئة هي التي لا يخرج أحد عنها.

فقد يقع الشيء مأذونا من الله U؛ شاءه الله I كوناً وقَدَرَاً، ولكنه لم يُرده شرعاً ولم يُرده ديناً.

فتختلف الإرادتان إذا تعلقت بمعصية العاصي وكفر الكافر.

فمِن جهة معصية العاصي وقعت بإرادة الله الكونية لكنها لم تقع بإرادة الله الشرعية، والله سبحانه قال ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾[غافر:31] وقال سبحانه ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185] وفي المشيئة قال U ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنفال:29] وهذا راجع إلى عِلم الله U فيهم بأنه سبحانه ما شاءه كان وما لم يشأه لم      يكن I.

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني في عِلم الله U فيما لم يقع، ولن يقع، لو وقع، ولو شاءه كيف يكون.

فإذاً صارت مشيئة الله U هي الإرادة، والإرادة مرتبطة بالعلم وبالحكمة.

وهذا خلاف الإرادة الشرعية فإنَّ الإرادة الشرعية مطلوبة من العبد؛ أَمْرْ.

 أَمَرَ بكذا، وَنَهَى عن كذا، فصار المأمور به والمنهي عنه مراداً له شرعا.

إذا تبين هذا فإذن قولنا (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) هذا راجع إلى الإرادة الكونية فقط.

والذين لم يفرقوا ما بين الإرادتين وقع منهم الغلط في معصية العاصي وضلال الكافر فيما سيأتي بيانه إن شاء الله في موضعه من مباحث القدر.

$ المسألة الثانية:

أن قوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) فيه تداخل ما بين إرادة الله U وإرادة العبد.

وإرادة العبد هي مشيئته، وهي خارجة عن رؤية الحكمة.

وأما إرادة الله U الكونية فهي منظور فيها بالحكمة.

فالله سبحانه يريد بما يوافق الحكمة، والعبد يريد ما لا يوافق الحكمة وقد يريد ما يوافق الحكمة.

وإذا كان كذلك فإرادة الله U بالعبد موافقة للحكمة سواء تَعَلَّقَتْ بالمعين أو تَعَلَّقَتْ بالمجموع.

وهذا يعني أنّ إرادة العبد فيما يريده خارجة عن مقتضى حكمة الله U؛ إذا أراد شيئا في نفسه له - يعني له بخصوصه -.

والله U يريد من العبد ما يوافق حكمته، فقد تجتمع الإرادتان فيما فيه حِكمَةٌ لله U، وقد تختلف الإرادتان فيما كان يريده العبد ولا يوافق حكمة الله U.

وهذا يعني أنَّ العبد قد يتجه بإرادته إلى شيء فيُصرَفُ عنه لعدم موافقته لحكمة الله U في نفسه؛ يعني فيما يتعلق بالعبد أو فيما يتعلق بالمجموع.

والله U قد يريد الشيء كوناً، ولا يكون إلا ما يريد لموافقته للحكمة في خصوص العبد في نفسه، أو ظهور الحكمة في نفسه أو لظهور الحكمة في المجموع- يعني في غيره -.

ولهذا نقول ما من شيء يريده الله سبحانه وتعالى في ملكوته إلا وهو موافق للحكمة، والشر ليس إلى الله U؛ بل الله سبحانه لا يوصف أو لا يضاف إليه إلا الخير.

وأما العبد فقد يريد الشيء ويكون بالنسبة له شراً فيخرج من هذه الجهة عن كونه موافقا للحكمة -يعني حكمة العبد ومصلحته-، ولكنه بالنسبة لفعل الله U وإرادته يوافق الحكمة التي هي منظور فيها إلى المجموع.

وهذا يعني أنَّ إرادة الله U في ملكه إنما تكون على وفق الحكمة، وحكمة الله هي القاضية لهذه الأشياء جميعا في الإرادات.

وهذا فيه رد على طوائف كثيرة من المبتدعة في مسائل القدر يأتي بيانها مفصلاً إن شاء الله في موضعها في تعريف الظلم والعدل، وفي التحسين والتقبيح، وفي أيضا الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وفي وقوع المعصية ووقوع الكفر، وفي فعل العبد بنفسه.

وهذه مسائل كبيرة تحتاج إلى بيان وتفصيل في موضعها.

المقصود من ذلك أنّ قوله (لا يكونُ إلا ما يُريدُ) هذا موافق لما -أو تضيف عليها عبارة- أنّ ما يريده موافق لمقتضى الحكمة المطلقة سواء وافقت العبد المعين أو وافقت المجموع.

فالله سبحانه الشر ليس إليه كما وصفه به النبي r بقوله في الدعاء (وَالشّرّ لَيْسَ إِلَيْكَ)[2]ففعله سبحانه خير محض، وقد يأذن بالشر المضاف إلى العبد، ولا يكون شرا بالنسبة لإرادته سبحانه، فالله لا يريد ظلما للعباد، ولا يريد شرا بالعباد، وإنما العباد أرادوا ذلك بأنفسهم، وإذا وقع ذلك فإنما يقع بالإضافة إلى فعل العباد، وليس مضافا إلى الله سبحانه لأنّ فعله سبحانه خير محض.

قال في الجملة بعدها (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ)

هذا يَرُدُّ به على المجسمة والمعطلة جميعا.

(لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني أنّ تفكير المُفَكِّرْ ونظرَه بخياله لا يمكن أن يبلغ بخياله وفِكْرِهِ وصف الله U ولا كُنْهَ ذاته I، فليست الأفهام مَوضُوعَةٌ لإدراكه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾[الأنعام:103] سبحانه.

و(لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني مهما فكَّر العبد فلن يبلغ كُنْهَ ذاته سبحانه ولا كُنْهَ اتصافه بصفاته U، ولا يمكن للأفهام مهما عَلَت أن تدرك ذلك.

ففيه رد على المجسمة الذين جعلوا الله U جسما كالأجسام.

وفيه رد على المعطلة الذين جعلوا الله U مُعُطَّلاً عمَّا وَصَف به نفسه، لأنه شبَّهُوا أولاً، ثُمَّ عطلوا ثانياً، فقام بقلوبهم في صفات الله أنها على صفة شيء معين، فمنعوا ذلك، فدخلوا بأوهامهم وأفهامهم في تحديد كُنْه الاتصاف بالصفة، ثم عطلوا ونفوا ثانياً.

وفيه رد على المتصوفة؛ غلاة المتصوفة أيضا، وهي الطائفة الثالثة الذين زعموا أنَّ العبد بالرياضة قد يبلغ إلى مرتبة يرى فيها الرب U، وأنه يمكن إذا فَنِيَ عن المحسوسات أن يدرك بوهمه غير المحسوسات - يعني الغيبيات -، وهذا هو الذي يسمونه الفناء بالدرجة العليا عندهم، وهو أنه يفنى عن المخلوق ويبقى في رؤية الخالق U.

إذا تبين ذلك، ففي قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) مسائل:

$ المسألة الأولى:

 أنَّ القاعدة العقلية المتفق عليها بين العقلاء والحكماء أنَّ معرفة الإنسان تنشأ شيئاً فشيئاً، وهذا قد جاء في القرآن في قوله تعالى ([3])

˜˜¹™™





[1] أبو داود (5075)/ سنن النسائي الكبرى (9840)

[2] مسلم (1848)/ أبو ادود (760)/ الترمذي (3422)/ النسائي (897)


[3] انتهى الشريط الثاني.