بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 فبراير 2014

إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل للعلامة صالح بن عبدالعزيز آلشيخ6



المسألة الرابعة:
أَنَّ إثبات الصفات لله U قاعدته مأخوذةٌ من هذه الجملة (وَلا شيءَ مثْلُهُ).
فإثبات الصفات مأخوذ من قوله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، فنفى I وأَثْبَتْ.
وعند أهل السنة والجماعة أنَّ النفي يكون مُجْمَلَاً (لا شيءَ مثْلُهُ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وأنَّ الإثبات يكون مُفَصَّلَاً ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
وهذا بخلاف طريقة أهل البدع فإنهم يجعلون الإثبات مُجْمَلَاً، والنفي مُفَصَّلَاً، فيقولون في صفة الله U: إن الله ليس بجسمٍ ولا بشبحٍ ولا بصورةٍ ولا بذي أعضاء ولا بذي جوارح ولا فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن شمال ولا قُدّام ولا خلف وليس بذي دم ولا هو خارج ولا داخل. إلى آخر تصنيفهم للمنفيات، وإذا أتى الإثبات، إنما أثبتوا مُجْمَلَاً.
فصار نفيهم وإثباتهم على خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
فطريقة أهل السنة أنَّ النفي يكون مُجْمَلَاً وأن الإثبات يكون مُفَصَّلَاً على قوله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
والنفي المُجْمَلْ فيه مدح، والإثبات المُفَصَّلْ فيه مدح.
والنفي المُجْمَلْ والإثبات المُفَصَّلْ من فروع معنى استحقاق الله U للحمد.
والله سبحانه أثْبَتَ أنه مَحْمُودٌ ومُسَبَّحٌ في سماواته وفي أرضه U، كما قال سبحانه ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء:44]، وكقوله ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الروم:18]، وكقوله ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾[الروم:17]، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ[1]، ونحو ذلك.

والجمع بين التسبيح والحمد هو جَمْعٌ بين النفي والإثبات؛ لأنَّ التسبيح نفي النقائص عن الله فجاء مُجْمَلَاً، والحمد إثبات الكمالات لله فجاء مفصلاً.

فإثبات الكمالات من فروع حمده ـ، ولهذا صار محموداً U على كل أسمائه وصفاته، وعلى جميع ما يستحقه سبحانه، وعلى أفعاله .
وتنزيهه سبحانه بالنفي - يعني بالتسبيح - أنْ يكون ثَمَّ مُمَاثِلْ له I.
فمعنى (سبحان الله) تنزيهاً لله U عن أن يماثله شيء أو عن النقائص جميعاً.
والحمد إثبات الكمالات بالتفصيل.
فإذاً من نَفَى مُجْمَلَاً وأثْبَتَ مُفَصَّلَاً، فإنه وافق مقتضى التسبيح والحمد الذي قامت عليه السموات والأرض.
ومن نفى مُفَصَّلَاً وأثبت مُجْمَلَاً، فقد نافى طريقة الحمد والتسبيح الذي قامت عليه السماوات والأرض.
لهذا صارت طريقة القرآن أن يكون النفي مُجْمَلَاً والإثبات مُفَصَّلَاً، وطريقة أهل البدع بعكس ذلك.
$ المسألة الخامسة:
أنَّ قوله تعالى﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى:11]، الذي هو دليل (وَلا شيءَ مثْلُهُ)، قد اختلَفَ فيه المفسرون في معنى الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
والكاف هنا، على أي شيء تدل ؟ على أقوال:

القول الأول: أنَّ الكاف هذه بمعنى مِثْل، فيكون معنى قوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ليس مِثْلَ مِثْلِه شيء، مبالغة في النفي عن وجودِ مِثْلِ المِثْل، فكيف يوجد المِثْلْ، فنَفْيُه من باب أولى.
ومجيء الكاف بمعنى الاسم هذا موجود في القرآن وكذلك في لغة العرب:
  فأما مجيئه في القرآن –مجيء الكاف بمعنى الاسم، وهي حرف- كما في قوله U ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[البقرة:74]، فقوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) عَطَفَ الاسم على الكاف التي هي في قوله (كَالْحِجَارَةِ)؛ (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ)، ومعلوم أنَّ الاسم إنما يُعْطَفُ على الاسم فقوله (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) يعني فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
    ومجيئه في اللغة أيضاً ظاهر ومحفوظ، كقول الشاعر:
لو كان في قلبي كقدر قُلَامَةٍ
حبا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي
فقوله(لو كان في قلبي كقدر قلامة) هذا جَعَلَ شبه الجملة الجارّ والمجرور (في قلبي) مُقَدَّمْ، وجَعَلَ الاسم (كقدر) لكون الكاف بمعنى (مِثْل)؛ يعني لو كان في قلبي مِثْلُ قَدْرِ قُلَامة.
وهذا التوجيه الأول لطائفة من المفسرين في أنَّ الكاف هنا بمعنى (مِثْل) على ما ذكرنا.
وهذا التوجيه لهم وجيهٌ وظاهرٌ في اللغة ومستقيمُ المعنى أيضاً في الآية.

القول الثاني: أنَّ الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذه صلة، وهي التي تُسَمَّى عند النحويين زائدة؛ وزيادتها ليس زيادَةً للفظ، وإنما هو زيادَةٌ لها لكون المعنى زائداً.
فليست زائدة بمعنى أن وجودها وعدم وجودها واحد، حاشا وكلا أنْ يكون في القرآن شيء من ذلك، وإنما تُزادْ ليكون مبالغةً في الدلالة على المعنى.
فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تكون الكاف صلة ومجيء الصلة في مقام تَكْرَارِ الجملة تأكيداً.
كما حَرَّرَهُ ابن جِنِّي النحوي المعروف في كتابه (الخصائص) حيث قال:
إنَّ الصلة والزيادة تكون في الجمل لتأكيدها وتكون مقام تكريرها مرتين أو أكثر. أو كما قال.
فيكون معنى قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): ليس مِثْلَه شيء، ليس مثله شيء، ليس مثله شيء، وهو السميع البصير. وهذا تفهمه العرب في كلامها.
وجاءت الزيادة بالصلة في مواضع كثيرة من القرآن كقول الله U ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران:159].

فقوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ يعني: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم. يعني ليس من جهتك وإنما هو رحمة من الله .

وكقوله ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾[المائدة:13] يعني: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، وكقوله ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[القيامة:1] في أحد وجهي التفسير.
 إذا تقرر لك ذلك فإنَّ الوجه الأَوْلى من هذين التفسيرين هو الثاني من كون الكاف صلة زائدة في مقام تكرير الجملة؛ يعني أنَّ النفي أُكِّد فتكون أبلغ من أنْ يُنْفَى مِثْلْ المِثْل؛ لأنه قد يُشْكِلْ في نفي مثل المثل أن يكون[2]
˜˜¹


[1] الجمعة:1، التغابن:1.
[2] انتهى الشريط الأول