بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 يوليو 2015

خطر البدع

خطر البدع
البدعة تستدرج صاحبها للكفر
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين، فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون في ظلمة العمى قال الله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}".
 كتاب مدارج السالكين: ج: (١). ص: (٢٢٤)

جواب الشيخ الألباني رحمه الله لما قد يُنكره البعض: من متابعة الرد على الجهلة والمتعالمين!!

جواب الشيخ الألباني رحمه الله لما قد يُنكره البعض: من متابعة الرد على الجهلة والمتعالمين!!


قال الإمام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه ["النصيحة" بالتحذير من تخريب ابن عبدالمنان لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة ص5-7 كتبها بتاريخ 18 محرَّم 1420هـ]:
((وأصلُ هذه البحوث ردودٌ على غمر من أغمار الشباب [علَّق في الهامش بقوله: وهو المدعو حسان عبدالمنان!]؛ تصدَّى لما لا يُحسن، وفَسْلٍ من جهلة المتعالمين؛ تطاول برأسه بين الكبراء وعليهم، فحقَّق كتباً!، وخرَّج أحاديث!، وسوَّد تعليقاتٍ!، وتكلَّم بجرأة بالغة فيما لا قِبَلَ له به من دقائق علم المصطلح وأصول الجرح والتعديل!!!.
فجاء منه فسادٌ كبير عريض، وصدر عنه قول كثير مريض، لا يعلم حقيقة منتهاه إلا ربه ومولاه جلَّ في علاه.
ولقد كنتُ رددتُ عليه قَبْلُ في "مواضع متعددة" من كتبي وبخاصة في سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمناسبات تَعرِضُ؛ كشفتُ فيها جهله وأبنتُ بها عن حقيقته، حيث ظهر لي بكل وضوح أنه للسنة "هدَّام"، ومتعدٍّ على الحقِّ هجَّام.
فهو يتعدَّى على الأحاديث الصحيحة بالظنِّ والجهل والفساد والتخريب بما يوافق هواه ويلتقي ما يراه بدعوى التحقيق والتخريج!.
ولقد رأيتُ له منذ مدة تحقيقاً لكتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" للإمام ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، ظهر فيه بجلاء بيِّن جهله الواضح وتعالمه الفاضح.
فرأيتُ أداءً لواجب النصيحة وحِرصاً على مكانة العلم ومحافظة على السنة النبوية: أن أُفرِدَ به هذا الكتاب، رداً على جهالاته وكشفاً لسوء حالاته، "وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ".
وإني أعلم أنَّ بعضاً من إخواننا دعاة السنة أو الحريصين عليها قد يقولون في أنفسهم: أليس في هذا الردِّ إشهارٌ لهذا الجاهل وتعريف بهذا الهدَّام؟!
فأقول:
فكان ماذا؟!
أليس واجباً كشفُ جهل الجاهل للتحذير منه؟!
أليس هذا نفسه طريق علماء الإسلام منذ قديم الزمان لنقض كل منحرف هجَّام ونقد كل متطاول هدَّام؟.
ثم أليس السكوتُ عن مثله سبيلاً يُغرِّرُ به العامة والهماء والهمج والرَّعَاع؟!
فليكن إذاً ما كان.
فالنصيحةُ أسُّ الدين، وكشفُ المبطل صيانة للحق المبين؛ "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ"، ولو بعد حين.
وما حالُ سلف هذا "الهدَّام" ذاك "السَّقاف" وما آل إليه - والحمد لله - عن عارفي الحق ودعاته ببعيد)) انتهى كلامه رحمه الله.

أقول:
وفي هذا الكلام القليل دررٌ قيمةٌ وفوائدٌ فريدةٌ لمن بصَّره الله تعالى بالسنة وعرَّفه بالحق، وإليكم جملة من هذه الفوائد:
1- التحذير من أهل الجهل المتعالمين المتعدين على السنة وأهلها بأسمائهم الصريحة دون الاكتفاء بـ "التحذير من الأخطاء وعدم التعرض للأشخاص" كما يزعم مَنْ يتمسَّح بالشيخ الألباني في هذا الزمان!.
2- وصف أمثال هؤلاء بعدة أوصاف منفِّرة؛ لتكون أدعى في تحذير الناس منهم، لا كما يزعم المتمسِّحون به اليوم أنَّ وصف المخالفين بمثل هذه الأوصاف من قبيل الغلو والشدة والغلظة!.
3- جواز "متابعة" المردود عليه في عدة مواضع ومناسبات من باب كشف جهله وإظهار حقيقته.
4- مشروعية إفراد "كتاب مستقل" في الرد على المخالف، يجمع فيه الرادُّ مخالفات هذا المردود عليه ويردها بالحجة والبرهان، وهذا ما يُنكره دكتور العقيدة اليوم (إبراهيم الرحيلي) كما في رده على العلامة الشيخ عبيد الجابري حفظه الله تعالى!.
5- وجوب النصيحة والبيان في الرد على المخالفين والمخطئين وعدم مشروعية السكوت على ذلك لما فيه من كتمان الحق وتغرير العامة؛ وهذا ما كان عليه سلفنا الصالح.
6- الرد على المخالف وإنْ كان فيه إشهار له وتعريف؛ لكن إشهاره هذا بالجهل الفاضح وتعريفه للناس بما يستحق من أوصاف للحذر منه والتحذير، والله الموفِّق.

جواب الشيخ الألباني رحمه الله على مَنْ وصف بعض ردوده بــ (الشدة)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فهذه ثلاثة نقول من كلام الإمام الشيخ الألباني رحمه الله في جوابه على مَنْ وصف بعض ردوده بـ"الشدة"، أو استنكر ما فيها من قسوة وغلظة على بعض المردود عليهم، وهي أجوبة علمية نهديها إلى المتمسِّحين بهذا الإمام في هذا الزمان؛ ممن يُنكر على السلفيين ما في ردودهم من شدة، أو ممن يستدل بكلام الشيخ الألباني رحمه الله لما أثنى على الشيخ ربيع حفظه الله ثناء كبيراً قطع به قلوب الحاسدين وجمَّد الدم في عروق الحاقدين وأفرح به السلفيين في جميع بلاد العالمين، ثم ثنَّى رحمه الله بنصيحة إلى أخيه وتلميذه الشيخ ربيع حفظه الله بالتلطف والترفق لأنَّه رأى في أسلوبه شيئاً من الشدة، ثم قطع كل الظنون بتأييد الشيخ ربيع في جميع ردوده ومخالفة مَنْ يرد عليه، لكنه من باب التلطف والترفق بجمهور المردود عليهم لا بالمردود عليه نفسه، طلبه منه رحمه الله مراعاة هؤلاء في ردوده، ففرح بهذه الكلمة التي جاءت في سياق ثناء كبير لم يسمع السلفيون أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله يثني على أحد به من قبل ولا من بعد!، تنفَّس بهذه الكلمة التي صدرت من الشيخ رحمه الله قديماً وحديثاً أصنافٌ من الناس ممن يكنُّ حقداً على السلفيين وعلمائهم ويخفي حسداً في قلبه على الشيخ ربيع حفظه الله، فأظهر الله حقدهم وحسدهم بهذا الفرح الموهوم.
وكلمة الشيخ الألباني رحمه الله المشار إليها وردت في شريط [الموازنات بدعة العصر]، حيث قال رحمه الله: ((وباختصار أقول: إنَّ حامل راية الجرح والتعديل اليوم في العصر الحاضر وبحق هو: أخونا الدكتور ربيع، والذين يردون عليه لا يردون عليه بعلم أبدًا، والعلم معه. وإنْ كنتُ أقول دائمًا وقلتُ هذا الكلام له هاتفيًا أكثر من مرة: أنه لو يتلطَّف في أسلوبه يكون أنفع للجمهور من الناس سواء كانوا معه أو عليه. أما من حيث العلم فليس هناك مجال لنقد الرجل إطلاقًا، إلا ما أشرتُ إليه آنفًا من شيء من الشدة في الأسلوب. أما أنه لا يُوازِن؛ فهذا كلام هزيل جدًا لا يقوله إلا أحد رجلين: إما رجل جاهل فينبغي أن يتعلم، وإلا رجل مغرض، وهذا لا سبيل لنا عليه إلا أن ندعو الله له أن يهديه سواء الصراط)).
فهذه النقول أهديها من خالص قلبي إلى أولئك المخدوعين بدعوى إنكار الشدة في الردود، لعلَّها تجد قلوباً صادقة فتعرف أنَّ الشدة في الرد لها دواعي مشروعة وأسباب مذكورة في كلام أهل العلم.
وإليكم هذه النقول بما فيها من فوائد ودرر:

1- قال الإمام الشيخ الالباني رحمه الله تعالى في مقدمة سلسلة الأحاديث الضعيفة الجزء الأول: ((وفي ختام هذه المقدمة؛ لا بد لي من كلمة أوجهها إلى كلِّ مخلص من قرائنا؛ حبيباً كانَ أم بغيضاً، فأقول: كَثيراً ما يسألني بعضهم عن سبب "الشدة" التي تبدو أحياناً في بعض كتاباتي في الرد على بعض الكاتبين ضدي؟
وجواباً عليه أقول:
فليعلم هؤلاء القراء أنني بحمد الله لا أبتدئ أحداً يرد عليَّ ردّاً علميَّاً لا تَهَجُّمَ فيه، بل أنا له من الشاكرين، وإذا وُجِدَ شيءٌ من تلك الشدة في مكان ما من كتبي، فذلك يعود إلى حالة من حالتين:
الأولى: أن تكون ردّاً على مَنْ رد عليَّ ابتداء، واشتط فيه وأساء إليَّ بهتاً وافتراءً؛ كمثل أبي غدة، والأعظمي الذي تستر باسم أرشد السلفي!، والغماري، والبوطي، وغيرهم؛ كالشيخ إسماعيل الأنصاري غير ما مرة، وما العهد عنه ببعيد!.
ومثل هؤلاء الظلمة لا يفيد فيهم في اعتقادي الصفح واللين، بل إنه قد يضرهم ويشجعهم على الاستمرار في بغيهم وعدوانهم، كما قال الشاعر:
إِذا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ  ***  وإنْ أَنْتْ أَكْرَمْت اللَّئيمَ تَمَرَّدَا
وَوَضْعُ النَّدَى في مَوْضِع السَّيْفِ بالعُلَى *** مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
بل إنَّ تحمُّلَ ظلم مثل هؤلاء المتصدرين لِإرشاد الناس وتعليمهم قد يكون أحياناً فوق الطاقة البشرية، ولذلك جاءت الشريعة الِإسلامية مراعية لهذه الطاقة، فلم تقل- والحمد للّه- كما في الِإنجيل المزعوم اليوم: "مَنْ ضربك على خدك الأيمن، فأدِرْ له الخد الأيسر، ومَنْ طلب منك رداءك فأعطه كساءك"!، بل قال تعالى: "فمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عليهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى علَيْكُمْ"، وقال: "وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها".
وأنا ذاكر بفضل الله تعالى أنَّ تمام هذه الآية الثانية: "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور" ، ولكني أعتقد أنَّ الصفح المشكور والصبر المأجور إنما هو فيمن غلب على الظنِّ أنَّ ذلك ينفع الظالم ولا يضره ويعزُّ الصابر ولا يذله، كما يدل على ذلك سيرته صلى الله عليه وسلم العمليَّة مع أعدائه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً أو قتله نبي"، انظر "الصحيحة" (281).
وأقل ما يؤخَذُ من هذه الآيات ونحوها؛ أنها تسمح للمظلوم بالانتصار لنفسه بالحق دون تعدِّ وظلم، كقوله تعالى: "لَا يُحِبُّ اللّهُ الجَهْرَ بالسُّوء مِنَ القَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ"، والسنة تؤكد ذلك وتوضحه، كمثل قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين اعتدت إحدى ضرَّاتِها عليها: "دونَكِ فانْتَصري"، قالت: فأقبلتُ عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها، ما ترد عليَّ شيئاً، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه، رواه البخاري في "الأدب المفرد" وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في المجلد الرابع من "الصحيحة" (1862).
فأرجو من أولئك القراء؛ أن لا يبادروا بالِإنكار، فإني مظلوم من كثير ممَّن يدَّعون العلم، وقد يكون بعضهم ممَّن يُظَنُّ أنه معنا على منهج السلف، ولكنه - إن كان كذلك - فهو ممن أكل البغضُ والحسدُ كبدَه؛ كما جاء في الحديث: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلَكم: الحسد، والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين، لا حالقة الشعر"، وهو حديث حسن بمجموع طريقيه عن ابن الزبير وأبي هريرة.
فأرجو من أولئك المتسائلين أن يكونوا واقعيين لا خياليين، وأن يرضوا مني أن أقف في ردِّي على الظالمين مع قول رب العالمين: "وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ"، غير متجاوب مع ذلك الجاهلي القديم:
ألا لَا يَجْهَلَنْ أحدٌ عَلَيْنا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْل الجَاهِلِيْنا
عياذاً بالله أن أكون من الجاهلين.
والحالة الأخرى:
أن يكون هناك "خطأ فاحش" في حديث ما، صدر من بعض من عُرِف بقلة التحقيق، فقد أقسو على مثله في الكلام عليه غيرةً مني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقولي الآتي تحت الحديث (142): "لم يخجل السيوطي عفا الله عنا وعنه أن يستشهد بهذا الِإسناد الباطل، فإنَّ (أبو الدنيا) هذا أفَّاك كذَّاب، لا يخفى حاله على السيوطي... "، فإنَّ الباعث على هذه "الشدة" إنما هو الغيرة على حديثه صلى الله عليه وسلم أن يُنْسَبَ إِليه ما لم يقله، وسلفنا في ذلك بعض الحفاظ المعروفين بالدين والتقوى، فانظر مثلاً إِلى قول الذهبي رحمه اللّه في الحاكم، وقد صحح الحديث الآتي في فضل علي رضي اللّه عنه برقم (757): "قلتُ: بل والله موضوع، وأحمد الحراني كذاب، فما أجهلك على سعة معرفتك؟!"، فليتأمل القارئ الفرق بين الحاكم والسيوطي من جهة، وبين عبارة الذهبي في الحاكم، وعبارتي في السيوطي من جهة أخرى.
ثم وقفتُ على رسالة جديدة للشيخ الأنصاري - وهذه المقدِّمة تحت الطَّبع - تؤكِّدُ لكل مَنْ يقرؤها أنَّه ماضٍ في بغضهِ وحسده وافتراءاتِه!، وهي بعنوان: "نقد تعليقات الألباني على شرح الطَّحاويَّة"!.
وهو فيه - كعادته في ردوده عليَّ- لا يحسِنُ إلا التهجُّمَ!، والتَّحامل عليَّ بشتَّى الأساليب!، والغمز!، واللمز!؛ كقوله في أول حديث انتقدني فيه بغير حق: "فباعتبار الألباني نفسه محدِّثاً لا فقيهاً (!) ..."، ونحو هذا من الِإفك الذي لا يصدُرُ من كاتب مخلصٍ يبتغي وجه الحق!، وينفع فيه اللِّين والأسلوب الهيِّن في الردِّ عليه، لأنه مكابرٌ شديدُ المكابَرة والتمحُّل لتسليك أخطاءِ غير الألباني مع ظهورها، بقدرِ ما يتكلَّف في توهيمِه وتجهيلهِ - ولو ببتر كلام العلماء، وتضليل القرَّاء- ليستقيمَ ردُّهُ عليهِ!!.
وهو في بعض ما أخذهُ عليَّ ظلماً في "نقده" هذا قد سبقهُ إليه الكوثري الصغير أبو غدَّة الحلبي، الذي كنتُ رددتُ عليه في مقدِّمة تخريج "شرح الطحاوية"، فالتقاؤهُ معه في ذلك ممَّا يدلُّ على أنَّه لا يتحرَّجُ في أن يتعاوَنَ مع بعضِ أهلِ الأهواء في الردِّ على أهل السنَّة!، فلا أدري والله كيف يكون مثلُه باحثاً في دارِ الِإفتاء؛ وفيها كبارُ العلماء الذين لا يمكن أن يخفى عليهِم حال هذا الباحث في انحرافِهِ في الرَّدِّ عن الأسلوب العلميِّ النَّزيه إلى طريقتِه المبتَدَعة في اتِّهامه لمَن خالفه من أهل السنَّة بالبهت، والافتراء، والتدليس، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتتبُّع العَثرات؟!
ومَن أراد أن يتحقَّق من هذا الذي أجملتُه مِن أخلاقِ الرجل بقلمٍ غير قلمي!، وأسلوب ناعمٍ غير أسلوبي!، فليقرأ ردَّ الأخ الفاضل سمير بن أمين الزُّهيري المنصوري: "فتح الباري في الذَبِّ عن الألباني والرَّد على إسماعيل الأنصاريّ"، أرسلهُ إليَّ جزاه اللّه خيراً وأنا زائر في (جُدة) أواخر شعبان هذه السنة (1410 هـ)، وهو في المطبعة لمَّا يُنْشَرْ بعد، وما يصل هذا المجلَّد إلى أيدي النَّاس، إلا ويكون قد تداولته الأيدي.
وهو ردٌ علميٌّ هادئٌ جدّاً، نزيهٌ، لا يقولُ إلا ما وصَلَ إليهِ علمُه، لا يُداري ولا يُماري، منطلقاً وراء الحجة والبرهان، وهو مع سعة صدره في الردِّ على الأنصاري، فإنَّه لم يتمالك أن يصرِّح ببعضِ ما سبق وَصْفُه به:
فهو يصرِّح (ص 66 و77): أنَّه غير منصفٍ في النَّقد!، ولا أمين في النقل!، وهو يتعجَّب (ص 82 و86) من مكابرة الأنصاريِّ، وادِّعائهِ على الألبانيِّ خلافَ الواقع!، ولقد ضاقَ صدرُه من كثرةِ مكابرته وتدليسه على القرَّاء، فقال (ص 87): "أكَرِّر هنا أنَني أسأم من توجيهِ النَّصيحة للشيخ الأنصاري حفظه اللّه: بأنَّه إذا فاته الِإنصاف في النقد، فليحرص على أن لا تَفوتَه الأمانة في النقل"، ثم كشف عن تدليسه المشار إليه، ثم قال (ص 88): "ألا فَلْيَتَّقِ اللّه الشيخُ الأنصاري، فمهما حاول فلنْ ينالَ من منزلة الشيخ الألباني حفظه اللّه: كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَها *** فَلَمْ يُضِرْها وأوْهَى قَرْنَهُ الوَعلُ"، وفي آخر بحث له طويل معه (ص 38- 40) صرَّح في آخره: أنَّ الأنصاريَّ "دلَّس وأخفى كلام الشيخ ناصر" !، ثم قال (ص 41): "بل هو يتخيَّل أشياء هي أصلاً غير موجودة، ثم هو يبني عليها نقده!"، ثمَّ ردَّ عليه بعض مزاعمه الباطلة في "نقده" هذا، وختم ذلك بقوله فيه بارك الله عليه (ص 43): "بل كان يجبُ عليه ألَّا يُخْرِجَ "نقده" هذا أبداً، لا لأنَّنا ضد نقد الألباني، وإنَّما لأنَّنا ضد أي نقد غير علميٍّ"، ثم إنَّ الأخ الفاضل وصف الشيخ الأنصاري (ص 50) بأنَّه ينقد من أجل النقد فقط، وهذا شيءٌ ظاهرٌ جدّاً في ردودِهِ، وبخاصَّةٍ ردُّه هذا، ثم ضربَ على ذلك مثلاً: حديثاً أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهِما"، ومع ذلك ذكر شارح "الطحاويَّة" أنَّ له علة! فلمَّا ردَّ ذلك الألبانيُّ وأثبتَ صحَّته، ثارَ الأنصاريُّ حمِيَّةً للشارح!، واعترض على الألباني دون أيِّ حجَّة علميَّة إلا الشغب كعادته، فقال الأخ الفاضل: "عجباً للشيخ الأنصاري!، إنْ انتقد الشيخ الألباني حديثاً في "الصحيحين" أو أحدهما وقدم الأدلَّة العلميَّة المقنعة بذلك ونقل كلام أهل العلم السابقين في ذلك الحديث لم يُعْجِب الشيخَ الأنصاريَّ هذا الصنيعُ وتباكى على "الصحيحين"، وندَّد بجرأة الشيخ عليهما، والآن لأنَّ الشيخ يدافع عن "الصحيحين" فهذا لا يعجب الأنصاري، ومن أجل النقد!، والنقد فقط، يقف إلى جانب الشارح؛ دون أدلَّة علميَّة... المهم مخالفة الألباني!، وما دام الشيخُ الأنصاريُّ يبحث عن مخالفة الألبانيِّ بأيِّ شكلٍ، حتى لو كانَ هذا بتضعيف حديثٍ في "الصحيحين" ومن غيرِ بيِّنة؛ فلماذا يستنكِر على الألبانيِّ نقدَه لأحاديث "الصحيحين" وبأدلَّة علميَّة؟! أسأل اللّه عز وجل أن لا يكون في هذا حظُّ نفس"، ثم قالَ بارك الله عليه (ص 52 و66): "وأما عن اتِّهامه للشيخ الألباني، وتقويله له ما لم يقله، فلا أحبُّ أن أتعرَّض له!".
أقول: هذا بعض ما وصف به الأخُ الفاضل سمير الزُّهيري الشيخ الأنصاري من تعدِّيه وتقوُّله عليَّ.
ومعذرةً إلى القراء الكرام؛ إذا أنا أطلتُ في هذه المقدِّمة؛ لأنَّ الغرض أن نُبَصِّرَهُم بحال بعض الطاعنين فيَّ بغير حقٍّ بقلم غيري من الكُتَّاب المنصِفينَ الحيادِيِّينَ، ولكي لا يُبادِروا إلى استنكار ما قد يَجِدون منِّي من "الشدة" أحياناً في الردِّ على بعض النَّاقدين بأهوائِهِم وبغير علمٍ، فقديماً قالوا: "قال الحائطُ للوتد: لم تشقُّني؟! قال: سَلْ مْنْ يدقُّني"، راجياً ألا يحمِلوني أن أتمثَّل بقول الشاعر: غَيْرِي جَنَى وأَنَا المُعَذَّبُ فيكُمُ *** فكَأنني سَبَّابَةُ المتندم)).

2- قال الإمام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في [مقدمة الطبعة الرابعة من تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد]:
((ولما كان لتأليف الرسالة المذكورة يؤمئذ ظروف خاصة وملابسات معينة اقتضت الحكمة أن يكون أسلوبها على خلاف البحث الهادئ والاستدلال الرصين؛ ذلك أنها كانت رداً على أناس لم تعجبهم دعوتنا إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح وخطة الأئمة الأربعة وغيرهم ممن اتبعوهم بإحسان فبادؤونا بالتأليف والرد، وليته كان رداً علمياً هادئاً إذن لقابلتهم بأحسن منه، ولكنه لم يكن كذلك مع الأسف، بل كان مجرداً عن أي بحث علمي مملئاً بالسباب والشتائم وابتكار التهم التي لم تسمع من قبل، لذلك لم نر يؤمئذ أنَّ من الحكمة السكوت عنهم وتركهم ينشرون رسائلهم بين الناس دون أن يكون لدى هؤلاء مؤلَّف يكشف القناع عما فيها من الجهل والتهم: " لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ"، لذلك كان لا بد من الرد عليهم بأسمائهم.
 وعلى الرغم من أنني لم أقابل اعتداءهم وافتراءهم بالمثل؛ فقد كانت الرسالة على طابعها العلمي رداً مباشراً عليهم.
وقد يكون فيها شيء من القسوة أو "الشدة" في الأسلوب، في رأي بعض الناس الذين يتظاهرون بامتعاظهم من الرد على المخالفين المفترين، ويودون لو أنهم تُركوا دون أن يحاسبوا على جهلهم وتهمتهم للأبرياء، متوهمين أنَّ السكوت عنهم هو من التسامح الذي قد يدخل في مثل قوله تعالى: " وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً"، وينسون أو يتناسون أنَّ ذلك مما يعينهم على الاستمرار على ضلالهم وإضلالهم للأخرين؛ والله عزوجل يقول: " وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، وأيُّ أثم وعدوان أشد من اتهام المسلم بما ليس فيه؛ بل بخلاف ما هو عليه؟!، ولو أنَّ بعض هؤلاء المتظاهرين بما ذكرنا أصابه من الاعتداء دون ما أصابنا لسارع إلى الرد ولسان حاله ينشد: ألا لا يجلهنَّ أحد علينا ..... فنجهل فوق جهل الجاهلين)).

3- وقال الإمام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه [دفاع عن الحديث النبوي والسيرة] في رده على كتاب "فقه السيرة" لمحمد سعيد البوطي:
((هذا وقد نمي إليَّ أنَّ بعض الأساتذة رأى في ردي هذا على الدكتور شيئاً من "الشدة" والقسوة في بعض الأحيان، مما لا يعهدون مثله في سائر كتاباتي وردودي العلمية، وتمنوا أنه لو كان رداً علمياً محضاً، فأقول: إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنني لم أفعل إلا ما يجوز لي شرعاً، وأنه لا سبيل لمنصف إلى انتقادنا!، كيف والله عز وجل يقول في كتابه الكريم في وصف عباده المؤمنين: " وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"؟.
فإنَّ كلَّ مَنْ يتتبع ما يكتبه الدكتور البوطي في كتبه ورسائله ويتحدَّث به في خطبه ومجالسه يجده لا يفتأ يتهجَّم فيها على السلفيين عامة وعليَّ من دونهم خاصة، ويشهِّر بهم بين العامة والغوغاء، ويرميهم بالجهل والضلال وبالتبله والجنون، ويلقبهم بــالسفليين والسخفيين، وليس هذا فقط، بل هو يحاول أن يثير الحكام ضدهم برميه إياهم بأنهم عملاء للاستعمار!، إلى غير ذلك من الأكاذيب والترهات...، إلى أن قال رحمه الله:
ذلك قليل من كثير من افتراءات الدكتور البوطي وترهاته الذي أشفق عليه ذلك البعض أن قسونا عليه أحيانا في الرد، ولعله قد تبين لهم أننا كنا معذورين في ذلك، وأننا لم نستوف حقنا منه بعد " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا"،  ولكن لن نستطيع الاستيفاء لأنَّ الافتراء لا يجوز مقابلته بمثله، وكل الذي صنعته أنني بينتُ جهله في هذا العلم، وتطفله عليه، ومخالفته للعلماء، وافتراءه عليهم وعلى الأبرياء بصورة رهيبة لا تكاد تصدق، فمن شاء أن يأخذ فكرة سريعة عن ذلك فليرجع إلى فهرس الرسالة هذه ير العجب العجاب.
هذا وهناك سبب أقوى استوجب القسوة المذكورة في الرد ينبغي على ذلك البعض المشفق على الدكتور أن يدركه ألا وهو: جلالة الموضوع وخطورته الذي خاض فيه الدكتور بغير علم مع التبجح والادعاء الفارغ الذي لم يسبق إليه؛ فصحَّح أحاديث وأخباراً كثيرة لم يقل بصحتها أحد!، وضعَّف أحاديث أخرى تعصباً للمذهب وهي ثابتة عند أهل العلم بهذا الفن والمشرب!، مع جهله التام بمصطلح الحديث وتراجم رواته!، وإعراضه عن الاستفادة من أهل العلم العارفين به!، ففتح بذلك باباً خطيراً أمام الجهال وأهل الأهواء أن يصححوا من الأحاديث ما شاءوا، ويضعِّفوا ما أرادوا، "ومَنْ سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وسبحان الله العظيم؛ إنَّ الدكتور ما يفتأ يتهم السلفيين في جملة ما يتهمهم به بأنهم يجتهدون في الفقه وإنْ لم يكونوا أهلاً لذلك، فإذا به يقع فيما هو شر مما اتهمهم به تحقيقاً منه للأثر السائر: "من حفر بئراً لأخيه وقع فيه"، أم أنَّ الدكتور يرى أنَّ الاجتهاد في علم الحديث من غير المجتهد بل من جاهل يجوز وإن كان هذا العلم يقوم عليه الفقه كله أو جله؟!.
 من أجل ذلك؛ فإني أرى من الواجب على أولئك المشفقين على الدكتور أن ينصحوه "والدين النصيحة"، بأن يتراجع عن كل جهالاته وافتراءاته، وأن يمسك قلمه ولسانه عن الخوض في مثلها مرة أخرى؛ عملاً بقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: "تحجزه عن الظلم؛ فإنَّ ذلك نصره" أخرجه البخاري من حديث أنس ومسلم من حديث جابر وهو مخرج في الإرواء ( 2515 )، فإن استجاب الدكتور فذلك ما نرجو، و "عفا الله عما سلف"، وإن كانت الأخرى فلا يلومنَّ إلا نفسه، والعاقبة للمتقين، وصدق الله العظيم إذ يقول: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ")).

أقول:
فهل وصف البعض لردود الشيخ الألباني رحمه الله بــ "الشدة" تسيغ للسلفيين أن يصفوه بالتشدد والغلو كما يفعل المتمسِّحون به اليوم في طعوناتهم بالشيخ ربيع حفظه الله؟!
وهل استسلم الشيخ الألباني رحمه الله لهذه الاعتراضات أم ذكر لهم أنَّ لها أسباباً مشروعة ومضى في طريقته؟!
فمَنْ أولى بالألباني اليوم آلسلفييون أم المميعون؟!
والله الموفِّق.

كتبه: أبو معاذ رائد آل طاهر

تبصير العباد بالآثار التي نتجت من الخوض في مسألة الجنس والآحاد

تبصير العباد بالآثار التي نتجت من الخوض في مسألة الجنس والآحاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ وبعد:
فقد كثر الخلاف في مسألة تقسيم أعمال الجوارح إلى جنس وآحاد من حيث كفر التارك لها، وخاض فيه مَنْ لم ترسخ قدمه في العلم بل ومَنْ لم يُتقن أصول الإيمان فضلاً عن دقائقه، ولستُ بصدد الكلام في هذه المسألة بياناً أو ترجيحاً وإنما أُريد أن أُبيِّن ما لها من آثار في الساحة الإسلامية بصورة عامة وعلى الدعوة السلفية بصورة خاصة؛ وكنتُ على استعداد من الخوض فيها ولا زلتُ ولكني سأمسك عن ذلك لأني رأيتُ أنه ينبغي لنا ونحن ندعو الناس للارتباط بالعلماء أن نأخذ بتوجيه العالِمين الفاضلين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى والشيخ ربيع المدخلي حفظه الله تعالى حينما حذَّرا من الخوض في هذه المسألة لِما لها من آثار على الدعوة السلفية لا يستفيد منها إلا المخالفون لها.
  
1- تحذير العلامة الأصولي وفقيه العصر محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:
قال رحمه الله تعالى: ((مَنْ قال هذه القاعدة؟! مَنْ قائلها؟! هل قالها محمد رسول الله؟! كلام لا معنى له!!، نقول: مَنْ كفَّره الله ورسوله فهو كافر، ومَنْ لم يكفِّره الله ورسوله فليس بكافر؛ هذا الصواب. أما جنس العمل أو نوع العمل أو آحاد العمل فهذا كله طنطنة!!؛ لا فائدة منها!!)) [شريط الأسئلة القطرية].
2- تحذير العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى:
قال حفظه الله تعالى في [الرد على فالح/2]: ((كان ينبغي أن تنصحهم بعدم الخوض في جنس العمل؛ لأنَّه أمرٌ لم يخض فيه السَّلف فيما أعلم، والأولى التزام ما قرَّره وآمن به السَّلف من: أنَّ الإيمان قول وعمل؛ قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وأنَّه يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثمَّ الإيمان بأحاديث الشَّفاعة التي تدلُّ على أنَّه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرَّةٍ من إيمان أو أدنى أدنى مثقال ذرَّةٍ من إيمان)).
قلتُ: ولو أنَّ السلفيين تركوا الخوض في تكفير تارك جنس العمل، والتزموا بنصيحة هذين العالِمين الجليلين اللذين شهدت الأمة وعلماؤها مِنْ قبل لهما بالفضل والعلم والمكانة العالية والمنزلة الرفيعة لانهار مخطط القطبيين من أساسه، ولكان ذلك سدَّاً منيعاً ضد تعدي التكفيريين على ثوابت الشريعة؛ ولكن ومع الأسف الشديد أعرض الكثير منا عن هذه النصيحة وركبنا عقولنا وخضنا فيما نُهينا عنه فكانت الفتنة والفرقة.
وإليكم إخواني الكرام بعض ما نتج من الخوض في هذه المسألة من آثار تدل على خطورة الأمر واتساع الخلاف؛ لعلَّ قارئاً لها يتنبَّه أو خاضاً في الفتنة يتوقَّف؛ فيعود السلفيون كما كانوا في زمن العلماء الثلاثة (مفتي العصر ابن باز ومجدد العصر الألباني وفقيه العصر ابن عثيمين رحمهم الله تعالى) يداً ضد حملات القطبيين واعتداءات التكفيريين ومخططات الحزبيين، ولا ينشغل بعضهم ببعض في مسألة يصعب تصورها ويندر وقوعها - مثل حكم تارك جنس العمل -  كما هو حالهم بعد وفاة أولئك العلماء وإلى يومنا هذا.

الآثار التي نتجت من الخوض في مسألة تكفير تارك جنس العمل:
1) الإقرار بتقسيم العمل إلى جنس وآحاد.
قلتُ: وأوَّل مَنْ نطق بهذا التقسيم في هذا العصر سفر الحوالي في كتابه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي" حيث قال فيه: ((أنَّ ترك جنس العمل شيء، وترك بعض آحاده شيء آخر)) وقد بوَّب باباً في كتابه فقال: ((الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة، وترك جنس العمل كفـر))، وكتابه هذا كان في عام 1405 هـ - 1406 هـ،  وهو رسالة دكتوراه بإشراف أستاذه محمد قطب الذي قال فيه في مقدمة رسالته: ((هذا؛ ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب؛ الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها)) قلتُ: وإذا كان الأمر كذلك فلا عجب بعد هذا، ولكن الغريب أن يقتدي السلفيون بسفر الحوالي في هذا التقسيم الذي استفاده من أستاذه لا محال.
فأين النصوص التي تدل على صحة تقسيم أعمال الجوارح إلى جنس وآحاد من حيث كفر التارك لها؟!
أم أين النقول عن أئمة السلف التي تثبت أصالة هذا التقسيم؟!
لا يُعرف عن أحد من السلف تكلَّم في هذا التقسيم أو خاض فيه إنما هو من بدع القطبيين الذين فرَّقوا به بين السلفيين؛ وإنما كان السلف يتكلَّمون عن كفر تارك أحد المباني الأربعة وهو خلاف مشهور، ثم استقرَّ الخلاف واشتهر في تارك الصلاة حصراً، فكـيف توسَّع الخلاف اليوم حتى أصبح في تارك جنس العمل؟! وما الغاية من ذلك؟!
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 12/114]: ((إنَّ كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة, ومعان مشتبهة؛ حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها, ولو سُئل كل منهما عن معنى ما قاله؟ لم يتصوره, فضلاً عن أن يعرف دليله، ولو عرف  دليله  لم يلزم  أنَّ من  خالفه يكون مخطئاً، بل  يكون في  قوله  نوع  من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه, وهذا مصيباً من وجه,  وقد يكون الصواب في قول ثالث)).

2) تقرير أنَّ الكفر لا يكون إلا عن جحود أو استحلال أو تكذيب.
قلتُ: فقد زعم البعض أنَّ أصل الكفر هو تكذيب القلب أو جحوده أو استحلاله، وكلُّ كفر – سواء كان بالقول أو بالعمل – فإنما مرجعه إلى ذلك، وهذا عين مذهب الإرجاء. وإنما أصل الكفر إما لانتفاء قول القلب أو لانتفاء عمل القلب أو لكليهما، ويكون بالقول أو بالعمل أو بالاعتقاد، وهذه هي عقيدة السلف.

3) ادِّعاء أن الكفر يكون بالعمل أو القول مع إيمان القلب.
قلتُ: وهذا غلط، بل ما كان من الأقوال والأعمال التي يكفر الرجل بها فإنَّها تستلزم عدم إيمان القلب بالكلية، أما أنها تستلزم جحود القلب أو تكذيبه أو استحلاله (وهي قول القلب) فلا، بل يكفر الرجل بالقول أو بالعمل المكفِّر وإنْ لم يستحل أو يجحد أو يكذِّب. وأما المكره الذي أُكره على كلمة الكفر وقلبه منشرح بالإيمان فهذا لا يكفر حتى يُقال فيه: أنَّه كفر مع أنَّ قلبه مطمئن بالإيمان.

4) ادِّعاء الإجماع على كفر تارك جنس أعمال الجوارح، وأنَّ المخالِفَ في ذلك خرج عن عقيدة السلف في الإيمان ووافق المرجئة أو تأثر بمذهبهم.
قلتُ: ودعوى الإجماع باطلة لأنها مبنية على قول محدث وهو تكفير تارك جنس العمل؛ والسلف لم يخوضوا في ذلك فكيف أجمعوا عليه؟!! بل النقول عن جمع من السلف مستفيضة في عدم تكفير مَنْ ثبت توحيده ولو فعل ما فعل من الذنوب التي لا تصل إلى حد الكفر، وأنَّه لا يُخلَّد في النار إنما هو من أهل الوعيد، بل النصوص تؤكِّد ذلك؛ كحديث صاحب البطاقة والمفلِس وحديث الشفاعة وغيرها.
أما أنَّ من خالف في تكفير تارك جنس العمل قد تأثر بالإرجاء أو وافق مذهب المرجئة وخرج عن عقيدة السلف في الإيمان فهذا مبني على الإجماع المدَّعى الذي هو مبني على ما ذكرنا، وما بُني على فاسد فهو فاسد.
وما أعدل ما قاله العلامة الشيخ الكبير ربيع المدخلي حفظه الله تعالى في رده على فالح: ((وأنا لم أتعرَّض في نصيحتي لتارك جنس العمل من حيث إنَّه كافرٌ أو ليس بكافرٍ، وإنَّما استنكرتُ قولكم بأنَّ من لم يُكفِّره يكون موافقاً للمرجئة في القول بنقص الإيمان الذي لم يقل به المرجئة!!، فإذا كان هذا الذي لم يُكفِّره ممَّن يدخل العمل في الإيمان ويقول إنَّه يزيد وينقص؛ فكيف يصحُّ قياسه على المرجئة وإلحاقه بهم وهم لا يُدخلون العمل في الإيمان ولا يقولون بزيادته ونقصه؟!!، وإذن فمناط الإلحاق وعلَّته: وهو القول بنقص الإيمان لا يُوجد في الأصل وهو قول المرجئة المعروف)).
قلتُ: والذي جرَّ البعض إلى اتهام أكابر العلماء والمشايخ قديماً وحديثاً بالإرجاء إنما هي دعوى الإجماع على تكفير تارك جنس العمل؛ لأنه من المعلوم أنَّ مَنْ خالف إجماع السلف في مسائل الإيمان إما أن يكون قد وافق مذهب المرجئة أو الخوارج ولو قال ذلك زلة أو جهلاً، فمن أراد سدَّ الباب بوجه المخالفين فعليه أن يترك دعوى الإجماع.

5) الدندنة حول التكفير ببعض الأعمال؛ لكون العمل شرطاً لصحة الإيمان لا لكون الأدلة الواردة فيها.
قلتًُ: الذي يرجع إلى خلاف السلف في تكفير أحد المباني الأربعة يجد أنَّه خلاف في الأدلة التي وردت فيها؛ هل هي صريحة في التكفير أم لا؟ وهل هي مقيِّدة لعموم النصوص التي تدل على نجاة أهل التوحيد من الخلود في النار أم لا؟
واليوم يتكلَّم البعض في تكفير تارك أحد المباني الأربعة من حيث ارتباط العمل بالإيمان، وأنَّ العمل شرط في صحته، فلا بدَّ من عمل الجوارح حتى يصح الإيمان، فجعلوا الخلاف في ذلك، وهذا خروج عن منهج السلف في الخلاف، ولو استطردنا هذا النهج الذي استحدثه البعض لقلنا بكفر فاعل بعض الكبائر، وانظر إلى سفر الحوالي لمَّا التزم هذا المنهج في كتابه؛ كيف تناقض واضطرب في كبيرة الزنا حين قال في [الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن]: ((فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإنَّ عمل قلبه مفقود بلا شك – خاصة حين الفعل -!!، لأنَّ الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كلِّه خلافاً للخوارج!!، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجاً من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله)).
قلتُ: فعند سفر الحوالي أنَّ عمل القلب يزول يقيناً بفعل الكبيرة، ولكن لا يُحكم عليه بالكفر حتى يزول قول القلب؛ ويلزم من هذا أنَّ الذي يعلم أنَّ الزنا حرام ويُصدِّق ذلك ولكنَّه يستكبر عن الانقياد لترك هذا المحرم أو يستهزأ به فلا يُحكم بكفره، أو يُحكم به لانتفاء قول القلب لا عمله؛ ويلزم منه أنَّ إيمان القلب يثبت بقول القلب وحده، ويلزم منه أنَّ فاعل الكبيرة لا يوجد في قلبه شيء من العمل، وهذا خلاف عقيدة السلف، وإنما هو موافق في ذلك لعقيدة المرجئة من جهة وعقيدة الخوارج من جهة أخرى.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [الصلاة وحكم تاركها ص71]: ((وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب؛ وهو محبته وانقياده)).
فالواجب أن يكون الخلاف في تارك الصلاة أو أحد المباني الأربعة محله فهم النصوص وما تدل عليه؛ فإنْ ترجَّح عندك شيء من الأدلة فخذ به، ولا تُنكر على مَنْ أخذ بغيره، فإنما الخلاف في ذلك سائغ، ولا توسِّع الخلاف ليكون في مسألة الإيمان فتفتح باباً لخوارج العصر لا يُمكن إغلاقه أبداً.
وقد سُئل مفتي العصر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن أعمال الجوارح كما في مجلة البصائر فأجاب بقوله: ((أهل السنة والجماعة يرون أنَّ الأعمال مكمِّلات للإيمان ومن تمام الإيمان؛ لكن الصلاة فيها الخلاف المشهور بين العلماء، والأرجح: أنَّ تركها كفر أكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة" أخرجه مسلم في الصحيح، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه، ولقوله عليه السلام في الإسلام: "وعموده الصلاة")). ولمَّا قيل له في نفس اللقاء: لكن هل الذي يقول إنَّ تارك الصلاة ليس بكافر يعتبر من المرجئة؟ قال الشيخ: ((لا؛ ولكن هذا على حسب فهمه للنصوص...)).

6) ادِّعاء أنَّ جنس العمل من أصل الإيمان وشرط في صحة الإسلام.
قلتُ: والبعض يُطلق العبارة من غير لفظة "جنس" فيقول: أعمال الجوارح من أصل الإيمان لا من كماله، أو يقول: أعمال الجوارح شرط في صحة الإسلام؛ فلا أدري هل أصبح الخلاف بين قائل ذلك وبين الخوارج – القائلين: بكفر من ترك عملاً من أعمال الجوارح - خلافاً لفظياً؟! أم أنَّ إطلاقهم من غير تأمُّل ويحتاج منهم إلى تقييد؟ فلِمَ هذا الإطلاق المُوهِم؟! ولم لا يقيِّدون حتى لا يتسع الخلاف فيستغله البعض؟! وأما أنَّ جنس أعمال الجوارح من أصل الإيمان فهذا قول محدث؛ بل أصل الإيمان في القلب كما صرَّح بذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة في المجموع لا تخفى على أحد، ويثبت باللسان ويظهر أثره على الجوارح كما صرح بذلك في مواضع أخرى.

7) التكفير بانتفاء اللازم مطلقاً.
قلتُ: يتكلَّم البعض حول التلازم بين إيمان القلب وعمل الجوارح؛ وأنَّ عمل الجوارح من لوازم إيمان القلب، وأنَّ انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، ويصل إلى نتيجة تقول: أنَّ مَنْ لم يأت بشيء من أعمال الجوارح فليس في قلبه شيء من الإيمان وإلا ظهر على جوارحه، وهذا يعني: كفر تارك عمل الجوارح بالكلية.
ولو رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة التلازم بين الباطن والظاهر؛ لعلمنا أنَّ الظاهر دليل الباطن، والباطن أصل الظاهر، والتلازم يكون في الوجود، ويكون في العدم، ويكون في الضعف، وقد يكون التلازم عند القوة ولا يكون عند الضعف، والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، وإذا عُدم اللازم عُدم الملزوم أو ضعف؛ لعدم الإرادة أو ضعفها (غير جازمة)؛ وقد قال رحمه الله تعالى: ((والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريداً للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلَّى؛ فإذا لم يصلِّ مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة، وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام)) [المجموع 7/525 - 526]، وقال: ((أصل الإيمان في القلب؛ وهو قول القلب وعمله؛ وهو إقرار بالتصديق، والحب والانقياد. وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه)).
وقلتُ: فإذا عُلِمَ هذا؛ وجب التمسك بالأصل المعروف: "مَنْ ثبت إسلامه بيقين فلا يزول عنه إلا بيقين، ولا يزول عنه بالشك" فلا يمكن تكفير المعين بعدم اللازم أو بعدم الارتباط بين الباطن والظاهر؛ لأنَّ عدمه يحتمل أن يكون لعدم الملزوم ويحتمل أن يكون لضعفه، وهذا هو معنى الشك كما لا يخفى؛ قال شيخ الإسلام: ((لفظ "الشك" يراد به تارة ما ليس بيقين وإنْ كان هناك دلائل وشواهد عليه)) [المجموع 23/11]. فكيف نُكفِّر أحداً بقولٍ يحتمل التكفير؟! وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: ((فإنَّ التكفير لا يكون بأمر محتمل)) [الصارم المسلول 1/516]، ويقول: ((فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك)) [المجموع 34/136]، ويقول: ((ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك)) [المجموع 12 /466].

8) المساواة في النظر والاستدلال بين تارك عمل الجوارح وبين تارك العمل بالتوحيد.
قلتُ: يستدل البعضُ في إثبات كفر تارك أعمال الجوارح ببعض النقول عن أئمة التوحيد ومشايخ الدعوة المعاصرين؛ وعند النظر فيها نجد أنَّها نقول في إثبات كفر تارك العمل بالتوحيد!!، فيا تُرى هل أصبح عند من يستدل بهذه الطريقة: العمل بالمأمور كالعمل بالتوحيد؛ حتى أصبح عندهم تارك العمل بالجوارح كتارك العمل بالتوحيد؟! وقد اتفق السلف على عدم التكفير بترك عمل الجوارح إلا في المباني الأربعة فقد اختلفوا فيها اختلافاً سائغاً، وأما كفر تارك العمل بالتوحيد فلا خلاف فيه بين السلف بل بين الأمَّة الإسلامية. ثم أنَّ ترك العمل بالتوحيد في فرد من أفراده كفر أكبر؛ وليس كذلك ترك آحاد عمل الجوارح بلا خلاف.
فكيف يصح القياس؟! أم كيف يصح الاستدلال؟!
وأُحبُّ أن أُنبِّه هنا: إلى أنَّ أكثر الخلاف بين العلماء والمشايخ في هذا العصر يعود سببه إما إلى إيهام في سؤال السائلين لهم أو إلى قصور في تحديد موضع الخلاف وحقيقته؛ فمثلاً يُسأل العالم عن مؤلِّف كتاب أو عن كلام لأحد المشايخ المعروفين يذهب فيه إلى عدم تكفير تارك العمل بالكلية وإلى أنَّ الكفر يستلزم انتفاء ما في القلب وأنَّ أعمال الجوارح من كمال الإيمان، ثم يُوهم هذا السائل ذلك العالم أو المفتي بأنَّ مراد ذلك المؤلِّف أو الشيخ المتكلِّم: عدم التكفير بترك العمل ولو كان تركاً للعمل بالتوحيد، وأنَّ الإيمان والتوحيد عنده اعتقاد القلب وقول اللسان فقط، وأنَّ الكفر لا يكون إلا بجحود القلب أو استحلاله، وأنَّ أعمال الجوارح من الكمال الذي لا يضر الإيمان ولو زالت بالكلية. فتأتي الفتوى لا محال بأنَّ هذا المؤلِّف أو الشيخ متأثر بالإرجاء وينصر مذهبه ويجب عليه أن يتوب ويجب التحذير منه ومن كتبه. والخطأ ليس في الفتوى وإنما من إيهام السائل أو قصوره.

9) تكفير تارك كمال الإيمان؛ ونفي الإسلام الظاهر عن المنافق.
قلتُ: وهذه طآمَّة كبيرة وزلَّة خطيرة تفوَّه بها البعض من غير أن يتأمَّل فيها، ثم تبعه على ذلك البعض على حسن ظنٍّ به، وذلك حين نصَّ بعضهم بقوله: ((ومشكلة هؤلاء ظنهم: أنَّ الكمال في كلام الشيخ - يقصد شيخ الإسلام - هنا ما لا يكفر بتركه، وآخر عبارة الشيخ تنقض هذا الفهم عند قوله عن الإسلام: "فإنَّ أصله الظاهر وكماله القلب" إذ لازم ذلك أن يحكم بالإسلام لمجرد العمل الظاهر؛ ولو تخلَّف عمل القلب الذي هو كمال، وهذا هو النفاق بعينه)) انظر حاشية [أقوال ذوي العرفان...]
قلتُ: بل مشكلتك حقاً أنَّك تقول: بكفر تارك الكمال!!!؛ وهذا غريب، وتنفي الإسلام الظاهر عن أهل النفاق!!!؛ وهذا عجيب، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في المجموع [7/305]: ((والإسلام الظاهر يدخل فيه: المنافقون))، والمنافق كافر في الباطن كما قال شيخ الإسلام [7/471]: ((والمقصود: أنَّ الناس ينقسمون في الحقيقة إلى: مؤمن، ومنافق كافر في الباطن مع كونه مسلماً في الظاهر، وإلى كافر باطناً وظاهراً))، ويقول رحمه الله تعالى: ((وبهذا تبين: أنَّ الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص لانتفاء كماله الواجب وإنْ كان معه بعض أجزائه كما قال: "لا يزني الزاني حين يزنى وهو مؤمن ...")) [المجموع 7/524].
أفنأخذ بتفسيرك لكلام شيخ الإسلام؟ أم بنَصِّه الصريح؟!

10) عدم الإقرار ولو مرَّة بأنَّ عمل الجوارح من كمال الإيمان:
قلتُ: ذكرنا أنَّ البعض أدخل جنس عمل الجوارح في أصل الإيمان، والبعض الآخر جعل عمل الجوارح شرطاً في صحة الإيمان، بل وآخر جعلها شرطاً في صحة الإسلام، وهناك صنف رابع لم يتجرأ بعدُ على النطق بتلك العبارات التي يفوح منه نهج الخوارج بطريقة عصرية، ولكنَّه في الوقت نفسه لا يقرّ بلسانه ولا يدوِّن بقلمه: أنَّ عمل الجوارح من كمال الإيمان؛ لأنَّه يفرُّ من لفظ "الكمال" فراره من المجذوم، يظنُّ أنَّه إن نطق بذلك تأثر بالإرجاء وسلك جيباً من جيوبهم، ولهذا يختار لفظ مجمل كأن يقول: أعمال الجوارح داخلة في حقيقة الإيمان.
قلتُ: وأعمال الجوارح داخلة في حقيقة الأعمال حقاً ويقيناً وهي من مسمَّى الإيمان بلا شك ولا ريب؛ ولكن هل الخلاف في ذلك؟! وهل الذي يقول أنَّ أعمال الجوارح من كمال الإيمان بحسبه - إنْ كانت الأعمال واجبة كانت من كمال الإيمان الواجب ينقص الإيمان بزواله، وإن كانت مستحبة كانت من كمال الإيمان المستحب الذي بفواته يفوت صاحبه علو الدرجة– لا يقر بأنَّ أعمال الجوارح من حقيقة الإيمان أو من مسمَّاه؟! وهل كانت المرجئة بفرقهم كلها تقول بمثل هذا التأصيل الذي دوَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان وغيره بأوضح عبارة؟
أين الحوار العلمي؟
أم أين الموضوعية في النقد؟
أم أين الإنصاف؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((والدين القائم بالقلب من الإيمان علماً وحالاً هو الأصل؛ والأعمال الظاهرة: هي الفروع وهي كمال الإيمان)) [المجموع 10/355-356]. وقال وهو يتكلَّم عن مراتب الإيمان: ((ثم هو – يقصد: لفظ الإيمان - في الكتاب بمعنيين: أصل، وفرع واجب، فالأصل: الذي في القلب، وراءه العمل؛ فلهذا يفرق بينهما بقوله: "آمنوا وعملوا الصالحات"، والذي يجمعهما كما فى قوله: "إنما المؤمنون" "ولا يستأذنك الذين لا يؤمنون" وحديث الحيا ووفد عبد القيس. وهو مركب من أصل: لا يتم بدونه، ومن واجب: ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب: يفوت بفواته علو الدرجة. فالناس فيه: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق؛ كالحجِّ وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان والأعمال والصفات.
فمن سواء أجزائه: ما إذا ذهب نقص عن الأكمل. ومنه ما نقص عن الكمال؛ وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات. ومنه ما نقص ركنه: وهو ترك الاعتقاد والقول؛ الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمَّى فقط. وبهذا تزول شبهات الفرق؛ وأصله: القلب، وكماله: العمل الظاهر. بخلاف الإسلام؛ فإنَّ أصله: الظاهر، وكماله: القلب)) [المجموع 7/637].
وقال: ((وبهذا تبين: أنَّ الرجل قد يكون مسلماً لا مؤمناً ولا منافقاً خالصاً؛ بل يكون معه أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة)) [المجموع 7/525].
وقال: ((وحقيقته: أنَّ من لم يكن من المؤمنين حقاً يقال: فيه أنه مسلم ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار؛ وهذا متفق عليه بين أهل السنة)) [المجموع 7/242].

11) تصوير البعض أنَّ الخلاف بين عقيدة السلف وبين المرجئة في الإيمان محله تارك عمل الجوارح.
قلتُ: وبهذا يتوسَّع الخلاف ويظهر خطره وينتشر أثره، ويبقى الشباب والدعاة وطلبة العلم بين راد ومردود، ثم تطول الألسن وتمتد الأيدي إلى جهابذة العلم ومشايخ الدعوة؛ كما يسعى لذلك البعض بذريعة الدفاع عن عقيدة السلف والرد على ظاهرة الإرجاء المعاصر، وتبعهم البعض على تقريره: أنَّ موضع النزاع بين السلف والمرجئة عمل الجوارح، بل صرَّح البعض أكثر فقال: كان الخلاف بينهم في تارك جنس عمل الجوارح!!.
أقول: وأصل المعركة بين أهل السنة والمرجئة من حيث العموم هو العمل (عمل القلب والجوارح) وليس مجرد عمل الجوارح!!؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [الصلاة وحكم تاركها ص71]: ((وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة)).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قبله: ((وهذا أيضاً مما ينبغي الاعتناء به؛ فإنَّ كثيراً ممن تكلَّم في مسألة الإيمان، هل تدخل فيه الأعمال؟ وهل هو قول وعمل؟ يظنُّ أنَّ النزاع إنما هو في أعمال الجوارح!!، وأنَّ المراد بالقول قول اللسان!! وهذا غلط)) [المجموع 7/550].
بل ولو كان بعض المرجئة قد يُدخلون عمل القلب في مسمَّى الإيمان كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مواضع متعددة فإنَّ ذلك يلزم منه أن يدخلوا أعمال الجوارح فيه، وأن يكون الإيمان ينقص ويزيد، وأن يتفاضل الناس فيه؛ وهؤلاء لا يقرُّون بذلك مطلقاً، فيكون إدخالهم لشيء من عمل القلب في مسمَّى الإيمان مجرد لفظ لا حقيقة له ولا يلزم منه شيء.
وأما مَنْ لا يُكفِّر تارك عمل الجوارح ممن هو على عقيدة السلف من المتقدمين والمتأخرين فإنَّه يقول: الإيمان قول وعمل، وأنَّ أعمال القلوب والجوارح داخلة في مسمَّى الإيمان؛ ولهذا يزداد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، ويتفاضل الناس فيه، ويستثنى فيه من جهة الأعمال أو كمال الإيمان لا من جهة النطق بالشهادتين ولا أصل الإيمان، فمنْ لم يأت بأعمال الجوارح الواجبة فهو ناقص الإيمان ولكن لا يزول عنه أصله بذلك. فهل هذا القول لبعض السلف هو عينه أو لازمه قول المرجئة السابق؟ ما لكم كيف تحكمون؟!  

12) ادِّعاء أنَّ مَنْ لم يكفِّر بترك شيء من المباني الأربعة يُكفِّر بترك جنس العمل.
قلتُ: وهذه من الغرائب كذلك؛ لأنَّ الإسلام هو الشهادتان والمباني الأربعة والخصال الباقية، فأما الشهادتان فلا خلاف في كفر التارك لهما، وأما المباني الأربعة فخلاف فيها بين السلف مشهور، وأما باقي خصال الإسلام فلا يكفر تاركها عند السلف وخالف في ذلك أهل البدع من خوارج ومعتزلة. قال العلامة ابن رجب رحمه الله تعالى وهو يبين مذهب السلف على عدم تكفير من ترك باقي خصال الإسلام بعد أن نقل الخلاف في المباني الأربعة فقال: ((...فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة؛ وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع...، فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان، ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص)) [فتح الباري لابن رجب 1/11].
فالعلماء الذين لا يُكفِّرون بترك شيء من المباني الأربعة؛ إما أنهم لا يكفِّرون بترك عمل الجوارح مطلقاً؟، وإما أنَّهم يُكفِّرون بترك باقي خصال الإسلام إذا اجتمعت مع المباني الأربعة والتي لا يُكفِّرون بتركها لوحدها؟ والأول هو المتعين لا محال.

13) الخلط في مصطلحات الكفر والإيمان وما يرتبط بهما.
قلتُ: في مسألة الإيمان والكفر مصطلحات لا بدَّ أن تفهم من خلال النصوص وعن طريق فهم الأئمة وبيان العلماء لها، وإلا أصبحت فوضى، ووقع اللبس والتلبيس، واختلط الحق في ثنايا الباطل أو العكس، فلا بد من بيان معاني هذا المصطلحات في موضعها التي قُصدت به، وإلا حرفنا الكلم عن مواضعه وألبسنا الحق بالباطل.
من تلك المصطلحات: التصديق، الاعتقاد، الجحود، الاستحلال، الانقياد، الإيمان الواجب، الكمال، تبديل الأحكام، الامتناع، ترك الفرائض، الركن، الشرط، إلى غير ذلك من مصطلحات تحتاج إلى تحرير معانيها قبل الولوج في الخلاف.

14) التهوين من عمل القلب وأثره في الكفر والإيمان أو قصر النظر إلى عمل الجوارح والعكس.
قلتُ: في الوقت الذي يهوِّن البعض من عمل القلب وأثره في كفر صاحبه وإيمانه بذريعة أنَّ العبرة بالظاهر والله يتولَّى السرائر، يهوِّن البعض الآخر من عمل الجوارح في الكفر والإيمان بذريعة أنَّ الأحكام مبنية على النيَّات والمقاصد.
والواجب التوسِّط في ذلك: فمن أعمال الجوارح ما قد يدلُّ على كفر صاحبها يقيناً كدوس المصحف أو التكلُّم بكلمة الكفر من غير إكراه عالماً بما يتكلَّم قاصداً لِما يقول، فمن تكلَّم بكلمة الكفر أو ارتكب مكفِّراً بتلك الشروط كفر وإنْ لم يقصد الكفر والردة عن الإسلام؛ لأنه لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله.
فقصد القلب الذي يُعتبر في التكفير هو إرادة القول أو الفعل وليس المراد به إرادة الكفر؛ فإنَّ هذا ليس بمانع من التكفير، بدليل كفر المستهزىء الذي يتمازح بالكفر على سبيل اللعب والضحك لا على سبيل الكفر والردة، بينما لا يكفر الغاضب الذي بلغ به الغضب ما بلغ بنبي الله موسى عليه السلام حين ألقى الألواح، فالممازح قاصد لما يقول أو يفعل مع أنَّه قد يكون غير قاصد للردة، بينما الغاضب غير قاصد لما يقول أو يفعل أصلاً، فتنبَّه لهذا الفرق.

15) التشكيك في الخلاف الواقع بين السلف في تارك الصلاة، وإحياء الخلاف بينهم في باقي المباني الأربعة.
قلتُ: الكثير ممن خاض في مسألة كفر تارك الصلاة أو في مسألة جنس العمل أصبح يُشكِّك في خلاف السلف في تارك الصلاة ولعلَّ ذلك مبني على النقول عن بعض أئمة السلف وعلماء الدعوة في إثبات الإجماع عن الصحابة في كفر تارك الصلاة؛ ولو كان هذا الإجماع ثابتاً حقاً لوجب أن يُفهم محله وهو الامتناع لا الترك المجرد، وإلا لزم منه تضليل من خالف الإجماع ممن لم يُكفِّر تارك الصلاة وهم جمع من أئمة السلف معروفين، فنقل الإجماع دون بيان موضعه إيهام يُورث التشكيك في الخلاف الواقع بين السلف في تارك الصلاة، بينما هو خلاف مشهور ثابت، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى يسعى البعض جاهداً لإحياء الخلاف في باقي المباني الأربعة لا من أجل ما تبيَّن له من أدلة وإنما لمجرد كونها من أعمال الجوارح وأنَّ عمل الجوارح شرط في صحة الإيمان، بل هي من أعظم الأعمال فكيف لا يكفر تاركها؟!؛ هكذا أصبح محل الخلاف عندهم!!، وهكذا أصبحت طريقة الاستدلال في نظرهم!!.  

16) ربط مسألة كفر مَنْ يحكم بالقوانين الوضعية بمسألة كفر تارك جنس العمل.
العجيب أنَّه في الوقت الذي أُثير الخلاف في مسألة جنس العمل أُثير معه الخلاف في كفر من يحكم بالقوانين الوضعية وهذا أمر معلوم؛ وهو يؤكِّد ويوضح المقصد الأصلي من إثارة الكلام في جنس العمل؛ وهو: كفر مَنْ لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى، لأنَّ ذلك فرع من مسألة: كفر مَنْ لم يعمل شيئاً بجوارحه، وكما أنَّ الكلام في أعمال الجوارح انقسم إلى جنس وآحاد، فكذلك الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله انقسم إلى ترك وتبديل، ولا ندري لعلَّ الخلاف في فاعل الكبيرة ينقسم كذلك إلى الفعل والإصرار!!، بل لقد فاح شيء من ذلك في كلام البعض، وبهذا فلا يحتاج الأمر إلى تعليق؛ فكلَّما أراد أحد أن يُخالِف عقيدة السلف في شيء أحدث تقسيماً، فإن أنكر البعض عليه قولَه وأنَّ ذلك خلاف عقيدة السلف؛ قال: السلف تكلَّموا في صورة ونحن نتكلَّم في صورة أُخرى فلا بدَّ من التقسيم خشية الالتباس أو للتفريق بين عقيدة السلف من جهة وعقيدة الخوارج والمرجئة من جهة أخرى!!.
كأنْ يأتي أحد فيقول: فاعل الكبائر كافر؛ فإنْ قيل له: لكنَّ السلف لم يُكفِّروا فاعل الكبيرة وإنما هذه عقيدة الخوارج، قال: السلف تكلَّموا عن فاعل الكبيرة أو فاعل بعض الكبائر أما أن يفعل كلَّ الكبائر فلا خلاف بين السلف في كفره!!؛ ثم يُواصل فيقول: ففعل الكبائر كلها يدل على انتفاء إيمان القلب؛ وذلك للتلازم بين إيمان القلب وأعمال الجوارح وإلا وقعنا في مذهب الإرجاء الذين يؤخِّرون العمل عن الإيمان ويقولون لا يضر مع الإيمان معصية!!، هكذا يستدل وبمثل هذا الكلام يقول، ثم يلج في الخلاف من لا يعرف حقيقته ولم ترسخ قدمه في مسائل الإيمان والكفر، فيتنقل الخلاف الذي كان بين السلف والخوارج في فاعل الكبيرة إلى الخلاف بين المنتسبين للسلف في فاعل الكبائر!! فليُفطن لذلك.

17) تضعيف أثر ابن عباس رضي الله عنهما "كفر دون كفر" وتعميم القول في قوله تعالى: ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)).
فبعد أن كان أثر ابن عباس رضي الله عنهما "كفر دون كفر" في تفسير آية: ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) سدَّاً منيعاً في وجه شبهات التكفيريين ونوايا الخوارج؛ انخرق هذا السدُّ بعد الخوض في مسألة الجنس والآحاد، وتُكلِّم في سند الأثر وضعَّفه البعض تشهياً لنوايا في نفسه وليس تحقيقاً للحديث ولا تقليداً لأحد أئمة الحديث، فرجع الخلافُ الذي كان بين السلف والخوارج قديماً في تعميم الآية أو تخصيصها؛ ولكن هذه المرَّة بين المنتسبين إلى السلف، ولما تيقَّن البعض من صحة إسناده نحى منحاً آخر في إيقاف دلالته أو العمل به فقال: هذا الأثر كان في عهد الخليفة الراشد علي رضي الله عنه عندما خرج عليه الخوارج وحكموا بكفره فكان ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يُناقش بعضهم وكان من ضمن جوابه على استدلالهم بالآية هذا الأثر؛ قالوا: فالأثر محله في حاكم يحكم بما أنزل الله في الجملة ولكنَّه في واقعة معيَّنة حكم لهوى أو بظلم فحكمه "كفر دون كفر"، أما حاكم لا يحكم بما أنزل الله في الجملة أو يُبدِّل شريعة الرحمن بالقوانين الوضعية سواءً كان في الجملة أو في واقعة معيَّنة فهذا "كفر أكبر" ولا يُستدل بالأثر في هذا الصورة.  
وهذا تحريف لمدلول الأثر واضح؛ بل هو تحريف للآية، فالآية نزلت في اليهود الذين جحدوا شريعة الله؛ فكيف تُنزَّل على مَنْ لم يجحد؟! ولكن العجب ممن ينتسب إلى السلف الصالح؛ كيف يوافق القطبيين على هذا التحريف للآية والأثر؟!!.

18) التكلُّف في تأويل النصوص الموافقة أو المخالفة بما يدل على الابتعاد عن التجرد للحق.
الواجب على مَنْ يبحث في مسألة اختلف فيها الناس أن يتجرَّد في فهم النصوص؛ فيكون فهم التنزيل سابقاً للتأصيل وليس العكس، ولكن الملاحظ في كثير ممن خاض في مسألة الجنس والآحاد عدم التجرد في فهم النصوص، بل فهم النصوص تبع لِما تأصَّل في نفوسهم من أفهام.
مثال ذلك:  كمَنْ قال بكفر من بدَّل شريعة الرحمن بالقوانين الوضعية ولو كان في واقعة واحدة واستدلَّ بحادثة اليهود الذين غيَّروا حكم رجم الزاني بالتحميم وأنَّهم كفروا لذلك؛ بينما كان ذلك منهم جحوداً لما أنزل الله ونسبة للباطل إلى شريعة الله تعالى؛ فهم أنكروا الرجم ونسبوا التحميم إلى الشرع، فهل بلغ الحكَّام المعاصرين الذين غيَّروا شيئاً من شريعة الرحمن بالقوانين الوضعية إلى هذا المستوى؟! فكيف يصح القياس إذن؟!!
ومثال آخر: كمن يقول بكفر تارك جنس عمل الجوارح؛ ويرد ما استدل به مخالفُه بحديث: ((لم يعملوا خيراً قط)) بأنَّ هذا خاص بالأمم الماضية ولا تدخل فيه أمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!، وهذا يعني أنَّ الأمم الماضية سوف تنال رحمة الله ما لا تناله هذه الأمة المحمَّدية؛ والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((إنَّ هذه الأمة أمة مرحومة؛ عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النار)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
  
19) تقويل الأئمة والعلماء ما لم يُصرِّحوا به من أقوال وتحميل كلامهم ما لا يحتمل.
وسبب ذلك هو نفسه ما سبق وهو التأصيل قبل الاستدلال؛ فمثلاً أصَّل البعض: أنَّ السلف يُكفِّرون تارك عمل الجوارح بالكلية ولا خلاف بينهم في ذلك، ثم نظر في نصوص العلماء الذين يُكفِّرون تارك الصلاة تهاوناً أو امتناعاً أو في كلامهم لإثبات التلازم بين الباطن والظاهر أو عند ردِّهم على المرجئة القائلين بأنَّ الإيمان قول بلا عمل فينسب لهم تكفير تارك جنس العمل.
فيأتي الأخر فيقول: بل إنَّ السلف لا يُكفِّرون تارك عمل الجوارح بالكلية ثم ينظر إلى كلامهم في مراتب الإيمان وأنَّ له أصل وكمال والأصل في القلب والأعمال الظاهرة من كمال الإيمان وأنَّ الكفر بالاعتقادات وأنَّ من ثبت له أصل التوحيد فلا يُخلَّد في جهنَّم ولو لم يعمل بجوارحه خيراً قط وينظر في ردِّهم على الخوارج الذين يُكفِّرون بالعمل فينسب للسلف عدم تكفير تارك جنس العمل.
ثم يبدأ كلٌّ منهم بالاستدلال بكلام الأئمة والعلماء ويُحمِّل كلامهم  - سواء ما وافقه أو ما خالفه - ما لا يحتمل؛ بل كثيراً ما يستدل المختلفان بنفس الإمام أو العالم حتى يظنّ البعض أنَّ هذا الإمام له قولان أو قد تناقض، بل وقد يستدلان بنفس المقطع أو الجملة بعد قطعها من السياق ومن غير النظر في منهج أو مذهب هذا الإمام أو العالم من حيث العموم بعد استقراء في مواطن كثيرة من كلامه في المسألة المتنازع فيها.
فيبقى القارىء لهم في ريبة من أمره وفي تردد ولا يدري ما هو مذهب الإمام أو العالم الفلاني في تلك المسألة؟! وأما التحريف أو بتر النصوص فقد أصبحا عادة في الردود عند كثير من المؤلفين في المسائل المتنازع فيها، وفي الوقت نفسه أصبحا تهمة سهلة على الألسن يُتَّهم بها المخالِف ولو كان القولُ صريحاً يدل على معنى واحد لا غير أو كان المحذوف الساقط بعد عدة صفحات وليس له ارتباط بما سبق!!.

20) الردود والمناظرات بين السلفيين في المسألة، والانشغال عن العلم والدعوة والرد على المخالفين لهم.
إنَّ الناظر في الكتب والمقالات والفتاوى والرسائل والردود بين المتنازعين في مسألة تارك جنس العمل ممن هم على عقيدة السلف الصالح يجد العجب العجاب من كثرتها ومن كثرة المنشغلين بها، ثم لو نظر هذا الناظر إلى بيان عقيدة ومنهج السلف الصالح في غيرها من المسائل وإلى الردود في بيان المخالفين وكشف شبهات المنحرفين لو وجدها قليلة لقلة المهتمِّين بذلك، وبالأخص عند المقارنة مع المؤلفات العلمية والدعوية في بيان عقيدة السلف والرد على المخالفين قبل ظهور الخلاف في مسألة جنس العمل؛ وكفى بهذه مفسدة نتجت من الخوض في تلك المسألة، ولهذا ضعف أثر الدعوة السلفية في واقع الناس وظهرت الدعوات المخالفة على الساحة بقوة، والله المستعان.  

21) زعزعة الثقة ببعض العلماء وببعض المشايخ الذين لهم الأثر الكبير في نشر الدعوة السلفية في أنحاء العالم لكونهم مخالفين في هذه المسألة، وترك التعرض إلى رؤوس الفتن ومنبع الضلال من الدعاة الموافقين في هذه المسألة.
وهذه تبع لِما سبق، فقد نتج من الخوض في مسألة الجنس والآحاد زعزعة في مكانة العلماء الأكابر والمشايخ الأفاضل في قلوب الناس؛ وهذا بدوره يؤدي إلى قطع الطريق أمام الناس من الانتفاع بكتب وأشرطة أولئك العلماء والمشايخ اللذين لهم الأثر الكبير في نشر الدعوة السلفية في أرجاء المعمورة، ومعلوم أنَّ النفس تنفر من المخالِف في مسائل الاعتقاد ولو تكلَّم في غير المسائل المتنازع فيها. بينما نجد دعاة الفتنة وأئمة الضلال لا يتعرَّض إليهم الكثير من دعاة المنهج السلفي حتى ولا بكلمة فضلاً عن رد أو فتوى بل قد يُثنى عليه بشيء من الكلام، ولو فتشنا عن سبب ذلك لوجدناه لا لشيء إلا أنَّه يوافقه في المسائل المتنازع فيها أو قد تكون في مسألة واحدة أو مسألتين.
ولهذا نجد بعد ظهور الخلاف في جنس العمل أُسقِط بعض العلماء والمشايخ السلفيين بينما رُفِع في الساحة الدعوية رؤوس البدعة والضلال، والمقياس في ذلك الموافقة والمخالفة في حكم تارك جنس العمل وما أُثير معها من مسائل في الغالب!!!.

وأخيراً:
فهذه جملة من الآثار التي نتجت بعد أن خاض الناس في مسألة تارك جنس العمل؛ فجزى الله خيراً كلَّ مَنْ سكت عن الكلام في هذه المسألة، وليعلم الجميع أنَّ سكوت مَنْ سكت عن الخوض فيها لا عن عجز أو جهل وإنما عن حكمة وفطنة، وإذا استمر السلفيون في الخوض في مسألة جنس العمل فستظهر بعد فترة من الزمان آثار أخرى، ويزداد بينهم الخلاف ويتسع، ويسقط العالم تلو العالم والشيخ تلو الشيخ، والرابح في الأخير هم القطبيون؛ فتنبَّهوا يرحمكم الله لذلك.
وأختم أخيراً بما قاله العلامة الكبير الشيخ ربيع حفظه الله تعالى في مقاله [كلمة حق حول جنس العمل] المؤرَّخ 21/5/1425هـ، ففيه الكفاية لِمن رام النجاة: 
((بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد: فمما نكب به الإسلام والمسلمون في هذا العصر وخاصة أهل المنهج السلفي فكر سيد قطب وعقائده الفاسدة وما أكثرها وأخطرها. ومنها قضية تكفير المجتمعات الإسلامية التي جدد وطور بها مذهب الخوارج في التكفير والخروج على الحكام والعلماء.
وقد تلقف هذه الفتنة عنه أناس تلبسوا بالسلفية فزادوها قوة وانتشاراً، إذ كان سيد قطب يكفر الحكام والمجتمعات الإسلامية بالحاكمية فقط. أما هؤلاء فقد مكروا وتحايلوا لترويجها وإلباسها لباس المنهج السلفي فوجدوا فكرة تكفير تارك جنس العمل وتكفير تارك الصلاة أعظم وسيلة لترويج فكرتهم وأعظم مصيدة للشباب السلفي، ومن أعظم الوسائل لتفريقهم وضرب بعضهم ببعض، ووجدوا منهما جسراً لرمي أهل السنة بالإرجاء, فالذي لا يركض من أهل السنة معهم في ميدان الخوارج فيكفر الحكام بالطريقة الخارجية الجاهلة فهو مرجيء وعميل وخائن ..الخ، والذي لا يكفر تارك الصلاة منهم مرجئ.
وأدركت دندنة هؤلاء حول إنكار أحاديث الشفاعة؛ ولا سيما حديث أبي سعيد الخدري فكنت أكره الحديث عنه – أي جنس العمل – والخوض فيه، لا سيما وكثير ممن يردده لا يفهم معناه وكثير ممن يعرض عليهم من أذكياء حملة العلم يشتبه عليهم؛ حتى قال لي بعض المدرسين الجامعيين الأذكياء قبل أيام: أنا لا أدري ما المراد بجنس العمل إلى الآن؟!!
وفي نادر من الأحيان يسألني عنه بعض الناس فأنهاه عن الخوض فيه؛ فإذا ألَحّ ولـجّ اعترضت ببعض أحاديث الشفاعة كحديث أنس رضي الله عنه يخرج من النار: "من عنده أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان"، فلا يحير جواباً.
وفي هذه الأيام كتب أخونا حمد بن عبد العزيز العتيق مقالاً تحت عنوان " تنبيه الغافلين إلى إجماع المسلمين على أنَّ ترك جنس العمل كفر في الدين" فشرعت في قراءته إلى أن وصلت إلى الصحيفة الخامسة فإذا فيها: "الفصل الثالث: ترك جنس العمل كفر أكبر: المبحث الأول: صورة المسألة: هي في رجل نطق بالشهادتين ثم بقي دهراً لم يعمل خيراً مطلقاً لا بلسانه ولا بجوارحه ولم يعد إلى النطق بالشهادتين مطلقاً مع زوال المانع" فقلت: إنْ كان المراد بجنس العمل  هذه الصورة فإني لا أتردد ولا يتردد مسلم في تكفير من هذا حاله وأنه منافق زنديق إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى حد للإيمان.
لكني لا أحب للسلفيين التعلق بلفظ "جنس العمل" لأمور:
أولها: أنه لفظ مجمل يحتمل هذه الصورة ويحتمل غيرها؛ وهو ما يريده التكفيريون.
ثانيها: كما قال أخونا حمد العتيق: " إنها مسألة غير عملية بمعنى أنه لا يمكن أن يقال: إنَّ هناك زيداً - من الناس – قد شهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، ولم يعمل بعدها خيراً قط، فإنَّ هذا النفي المطلق لا يمكن لأحد إلا الله أن يحيط به" ، والأمر كما ذكر الأخ حمد.
ثالثها: دندنة التكفيريين حوله لمقاصد سيئة منها رمي أئمة السنة بالإرجاء؛ فمن لا يكفر تارك الصلاة عندهم مرجيء أو أتي من شبهة الإرجاء!!، ومن لا يكفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله تكفيراً مخرجاً من الملة فهو مرجيء وإنْ فصَّل على طريقة السلف وإنْ قال بكفر تارك الصلاة!!.
رابعها: من أجل ما في هذا اللفظ من الإجمال  المشار إليه سلفاً يقع من إطلاقه من اللبس على كثير من الناس، و لما يوقع من الخلاف بين أهل السنة والشحناء والفتن بينهم، ترجح لي: أنه يجب الابتعاد عنه؛ لأنَّ الجنس قد يراد به الواحد وقد يراد به الكل وقد يراد به الغالب، ومن هنا إذا دندن حوله السلفيون حصل بينهم الخلاف الذي يريده التكفيريون، وتكثَّروا بمن يقول به منهم، فيقولون: هذا فلان السلفي يقول بتكفير تارك جنس العمل فيجرون الناشيء إلى مذهبهم في تكفير الحكام على منهجهم وإلى رمي علماء السنة بالإرجاء ... الخ.
وأنصح السلفيين: أن يلتزموا بقول السلف الشائع المتواتر من أول عهد السلف إلى يومنا هذا ألا وهو قولهم: إن الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلب واللسان وعمل بالقلب والجوارح، أو إنَّ الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، أو كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" أو كما قال البخاري: "كتبت عن ألف شيخ وزيادة ولم أكتب إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل"، ونحو هذه العبارات الموروثة عن  السلف التي لا تخرج عن هذا المعنى.
فالتزام عبارات السلف فيه رد لضلال المرجئة؛ وهو رد كاف شاف، وفيه أمان وضمان للسلفيين من الاختلاف والقيل والقال، وحماية من استغلال التكفيريين لإطلاق بعض السلفيين لجنس العمل.
ومن أصول أهل السنة: وجوب سد الذرائع ووجوب درء المفاسد، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، فإطلاق جنس العمل فيه مفاسد لما فيه من الإجمال الموقع في اللبس، ولما يثيره من الاختلاف والفرقة فيجب اجتنابه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله زاجراً عن إطلاق الألفاظ المجملة:
فعليك بالتفصيل والتبيين  فالـ            إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ           أذهان والآراء كل زمـان
وهنا ملاحظة مهمة: ينبغي لفت النظر إليها؛ وهي أنَّ الصورة التي ذكرها الأخ حمد وفقه الله لا يجوز لمسلم أن  يتردد في تكفير صاحبها إنْ وجد؛ ولكنها في الوقت نفسه هي نظرية غير واقعية ولا عملية!!،  إذ لا يتصور وقوعها من مسلم، والشرائع لم تبن على الصور النادرة كما قال الإمام  ابن القيم رحمه الله.
فكيف نزج بدعوتنا وشبابنا في الصور المستبعدة أو المستحيلة!!، وتشحن النفوس وتضيع الأوقات في القيل والقال، بل توقع الشباب في الشبكة التي نصبها لهم التكفيريون!!.
فإذا كان لابد من الكلام فيها: فيكون من العالم الفطن عند الحاجة؛ كأن يسأله تكفيري عن كفر تارك جنس العمل:  فيقول له هذه كلمة مجملة فماذا تريد بها فبين لي ما تقصده؟ فإنْ ذكر له صوراً باطلة ردها عليه بالحجة والبرهان، وإنْ ذكر الصورة السابقة قال له هذا حق وأنا معك ولكني أحذرك من التلبيس على الناس بذكر غير هذه الصورة.
فهذا ما أقوله وأنصح به السلفيين في هذه المسالة، وأنصحهم بشدة عن تعاطي أسباب الخلاف ومثيراته، والحرص على ما يؤلف القلوب ويجمعها على الحق بالحكمة والرفق، أسأل الله الكريم تبارك وتعالى أن يجمع كلمة أهل السنة والمسلمين عموماً على الحق والهدى  وأن يجنبهم أسباب الخلاف والفتن)).

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

أخوكم ومحبكم: أبو معاذ رائد آل طاهر

سيـلُ الغـوادي في ردِّ دعـوى سلمان العودة: أنَّ الألباني لم يُتقنْ مسألةَ الكفرِ العملي والكفرِ الاعتقادي

سيـلُ الغـوادي في ردِّ دعـوى سلمان العودة: أنَّ الألباني لم يُتقنْ مسألةَ الكفرِ العملي والكفرِ الاعتقادي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فهذا سؤال ورد في موقع د. سلمان العودة؛ هو عبارة عن مجموعة أسئلة وردت من شباب تعلَّموا أقسام الكفر من كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ولكن أُشكِل عليهم تنزيل هذه المسألة على الحكَّام المعاصرين، فتوجَّهوا في حلِّ الإشكال إلى د. سلمان العودة وتركوا سؤال أكابر أهل العلم فزادهم ظلمة إلى حيرتهم، أسأل الله تعالى أن يهديهم إلى القول السديد وأن يوفِّق لهم مَنْ يرشدهم إلى سبيل السلف الصالح.

وإليـكم السؤال والجواب:
س/ فضيلة الشيخ: قد أُشكِلت علينا في نقاشات مع بعض الإخوة مسألة الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وقد تلقينا أصلَ المعرفة بالمسألة من خلال كتابات وأشرطة الشيخ العلامة الألباني؛ لكن المشكل بالنسبة لنا هو:
مدى انطباق القاعدة على الحكم بغير ما أنزل الله، وعلى حكام المسلمين في بلادنا وغيرها؟
وهل كفرهم كفر أكبر أم أصغر؟
وإذا كان كفرهم كفراً أكبر؛ فمتى انتقل إليهم هذا الحكم بعد أن كانوا على الأصل؟
ثم هل يسوغ تعيين أسمائهم كما يفعل بعض الإخوة؟
نرجو الإفادة ورفع الإشكال في هذا الموضوع؟

فأجاب سلمان العودة؛ ونقف مع جوابه كلمة كلمة:
1. قال سلمان: ((أما مسألة الكفر العملي والكفر الاعتقادي؛ فأظنُّ - والله أعلم - أنَّ الشيخ المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني لم يتقن هذه المسألة جيداً، فحصل له فيها بعض الارتباك))

قلتُ: هذه دعوى لا برهان عليها، بل الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى كلامه في تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي لم يخرج به عن كلام السلف من المتقدمين والمتأخرين، بل هو أكثر الأئمة المعاصرين كلاماً في بيان هذا التقسيم وتفصيله، وكتبه ومجالسه وفتاواه شاهدة على ذلك دون أدنى ريب، وكلامه في تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي يدلُّ على رسوخه في العقيدة، وإليك النقل من كلامه ما يدلُّ على ذلك:
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((فائدة هامة: إذا علمت أنَّ الآيات الثلاث: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون"، "فأولئك هم الفاسقون" نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم: "إنْْ أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإنْ لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه" و قد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: "يقولون: إنْ أوتيتم هذا فخذوه، وإنْ لم تؤتوه فاحذروا".
إذا عرفت هذا؛ فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين و قضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله وإنْ كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله؛ لا يجوز ذلك لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى؛ ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار  فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: "... و إنْ لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً.
وسرُّ هذا؛ أنَّ الكفر قسمان: اعتقادي وعملي؛ فالاعتقادي مقرّه القلب، والعملي محلّه الجوارح؛ فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر به: فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبداً.
وأما إذا كان – أي: العمل - مخالفاً لما وقَرَ في قلبه؛ فهو مؤمن بحكم ربه ولكنه يخالف بعمله: فكفره كفرٌ عملي فقط وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه، وإنْ شاء غفرَ له، وعلى هذا النوع من الكفر تُحمَلُ الأحاديثُ التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب، والنياحةُ على الميت" رواه مسلم، "الجدال في القرآن كفر"، "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، "كفر بالله تبرؤ من نسب وإنْ دقْ"، "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر"، "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض" متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها.
فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي: فكفرُه كفر عملي؛ أي إنه يعمل عمل الكفار؛ إلا أن يستحلَّها ولا يرى كونَها معصية: فهو حينئذ كافرٌ حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضاً.
والحكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر"، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم تلقّاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولا بُدَّ من ذِكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضلّ اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون المسلمين بارتكابهم المعاصي وإنْ كانوا يصلون ويصومون.
1 - روى ابن جرير الطبري ( 10 / 355 / 12053 ) بإسناد صحيح عن ابن عباس: (ومن لم يحكم بما 
أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: "هي به كفر وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله".
 2 - وفي رواية عنه في هذه الآية: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر" أخرجه الحاكم ( 2 / 313) وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط 
الشيخين؛ فإنَّ إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6/ 163) عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين" فالظاهر أنَّ في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطاً، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضاً ببعض اختصار. 
3 - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق" أخرجه ابن جرير (12063). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس  لكنه جيد في الشواهد.
4- ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم" وإسناده صحيح.
5- ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية) قال: "ليس بكفر ينقل عن الملة" وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع .
6- وروى (12025 و 12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفرٌ من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟! قال: هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون - [ يعني الأمراء ] - فإنْ هم تركوا شيئاً 
منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله ولكنك تفرق [أي: تخاف منهم]!!. قال: أنتم أولى بهذا مني، لا أرى، وإنَّكم أنتم ترون هذا ولا تخرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا.  وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال؛ ساقها ابن جرير (10 /346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/358)‏:
"وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب؛ لأنَّ ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم فكونها خبراً عنهم أولى.
فإنْ قال قائل: فإنَّ الله - تعالى ذكره - قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله فكيف جعلته خاصاً؟ قيل: إنَّ الله تعالى عمَّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم - على سبيل ما تركوه - كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي".
وجملة القول: أنَّ الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله فمن شاركهم في الجحد فهو كافر كفراً اعتقادياً ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم؛ ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقد شرح هذه وزاده بياناً الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم ابن سلام في "كتاب الإيمان/ باب الخروج من الإيمان بالمعاصي" (ص84-87 -بتحقيقي) فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ما سبق؛ رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في (مجموع الفتاوى 
3 / 268): "أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" ثم ذكر (7 /254) أنَّ الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: "كفر لا ينقل عن الإيمان؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه"، وقال ( 7 / 312 ): "وإذا كان من قول السلف أنَّ الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر؛ وليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا: كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة"))انتهى كلام الألباني رحمه الله تعالى نقلاً من  سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/110  دار المعارف/الرياض.
ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الصلاة وحكم تاركها أنَّ الكفر ينقسم إلى اعتقادي وعملي؛ وأنَّ العملي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده ثم قال: ((فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً)).
علَّق الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فقال [حكم تارك الصلاة ص38]: ((قلت: هذا الإطلاق فيه نظر؛ إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحياناً، وذلك: إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته كاستهزائه بالصلاة والمصلين وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها كما سيأتي، فتذكر هذا فإنَّه مهم)).
ولما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في رسالة التحذير من فتنة التكفير ص70: ((إذاً الكفر الاعتقادي ليس له علاقة أساسية بمجرد العمل، إنما علاقته الكبرى بالقلب))، علَّق في هامش الصفحة فقال: ((إنَّ من الأعمال أعمالاً قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينية، بحيث يقوم فعله هذا مقام إعرابه بلسانه عن كفره؛ كمثل من يدوس المصحف مع علمه وقصده له)).
وقال كذلك في التحذير: ((فكل المعاصي - وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنى وشرب الخمر وغيرها - هي من الكفر العملي؛ فلا يجوز أن نكفِّر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عملياً إلا إذا ظهر - يقيناً - لنا منهم - يقيناً - ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله اعتقاداً، فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة، أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم لأننا نخشى أن نقع تحت وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما")).
وفي المحاورة العلمية النافعة التي جرت بين الشيخ الألباني وبين الدكتور خالد العنبري ما يدفع أدنى شك أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى لم يُتقن مسألة الكفر الاعتقادي والعملي:
فبعد أن قرأ عليه الدكتور خالد العنبري مباحث الإيمان فأقرَّه الشيخ رحمه الله تعالى، ثم ثنَّى بمباحث الكفر وذكر أقسام الكفر، وأنه أكبر وأصغر، وأنَّ الكفر الأكبر ستة أنواع: تكذيب، وجحود ، وعناد، ونفاق، وإعراض، وشك، وفصَّل ذلك، والشيخ يقرَّه على ذلك كلِّه، ثم قال الدكتور خالد العنبري: ((وبناءً على ذلك؛ أتوجه بسؤالي أليكم: هل يكون الكفر بالقلب فقط أم يكون بالقلب واللسان والعمل؟ وبعبارة أخرى: هل يكون الكفر بالاعتقاد فقط؟ أم يكون بالاعتقاد والقول والعمل؟ نبّئوني بعلم بارك الله فيكم.
فقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((الذي أفهمه في هذه المسألة: أنَّ الأصل الكفر القلبي؛ لكن هناك أقوال وأعمال قد تصدر من الإنسان تنبئ عما وقر في قلبه من الكفر، لكننا لا نرى ضرورة الجمع بين أن يكفر بقلبه وبشيء من عمله؛ فقد يجتمعان وقد يفترقان.
بمعنى: المنافق لا يصلح فيه أنه كفر بقلبه وعمله؛ فأنه بعمله مسلم، ولهذا جاء صريح القرآن بهذا الصدد بالنسبة للأعراب، ما يبدو لي أنه هناك ضرورة للتوفيق بل والتسائل: هل يكون الكفر بالقلب والعمل؟! قد يكون، لكن لا يشترط أن يكون العمل مع الكفر القلبي؛ لأنَّ الأصل هو الكفر القلبي، فما أدري إذا كان هناك شيء ما وضح لي حتى استحسن مثل هذا السؤال))
وقال في نفس الجلسة: ((نحن لا نختلف في هذا - بارك الله فيك - هناك أعمالٌ تنبئ عما في القلب، هناك أعمال تصدر من الإنسان تنبئ عما في القلب من الكفر والطغيان؛ من ذلك: الاستهزاء))
وقال فيها كــذلك: ((فإذا رجعنا إلى كفر إبليس، إبليس كفر  - وهنا نقطة - لم يكفر إبليس لمجرد أنه خالف أمر الله وإنما لأنه استكبر بنص القرآن الكريم وكان من الكافرين، فمجرد المخالفة والمعصية - عند أهل السنة  جميعاً - لا تكون سبباً للتكفير؛ لكن إذا اقترن مع هذه المعصية شيء ينبئ عن كفر القلب ولو بعد أن كان عامراً بالإيمان فهذا الإيمان يضيع ويزول بسبب هذا الكفر الذي يعتبر كفرا اعتقادياً أو يعتبر كفراً عملياً ينبئ عن الكفر الاعتقادي))
وختم المجلس الأول الدكتور خالد العنبري فقال: (( إذن أنا فهمت منكم أنَّ الكفر يكون بالاعتقاد ويكون أيضاً بالقول ويكون أيضاً)) فعاجله الشيخ الألباني قائلاً: ((بالعمل، بلى؛ لكن أقول من باب الإيضاح: أنَّ هذا العمل يكون دالاً على ما في القلب من الكفر، لماذا هذا العمل كان كفراً؟ لأنه دلَّ على ما في القلب من الكفر)) فقال العنبري: ((لا التكذيب؟!)) فقال الألباني: ((قد يكون شيءٌ ثانٍ)).
وفي شريط "الكفر كفران" وهو جلسة مناظرة مفيدة بين الشيخ الألباني رحمه الله تعالى وبين رجل يُدعى (سامي) يظهر أنَّه متأثر بشبه أهل التكفير ولم يفقه الفرق بين الكفر الاعتقادي والعملي؛ فبعد كلام طويل قال له الشيخ رحمه الله تعالى:
{((الكفر العملي له ارتباط بالكفر الاعتقادي الذي تقول عنه إنه ردة أم ليس له ارتباط؟!))
فقال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((إذاً رجع إلى الكفر الاعتقادي؛ بارك الله فيك. الكفر العملي فيما يبدو – ولا تؤاخذاني مهما وإنْ كنت أحاول أن ألطف العبارة - لم يتبين لك بعد الفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي ليتبين لك ثمرة هذا الاختلاف بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي.
الكفر العملي: عمل يصدر من المسلم هو عمل الكفار، لكن هذا العمل الذي يصدر من المسلم هو مشابه لذاك العمل الذي يصدر من الكافر من جهة؛ أي من حيث العمل، لكنه يختلف من جهة أخرى عن ذلك العمل الذي يصدر من الكافر مقرون بالكفر الاعتقادي.
أما هذا المسلم – هنا يظهر الفرق والثمرة بين الكفرين - هذا المسلم إنْ صدر منه كفر عملي وأيضاً مقترن معه كفر اعتقادي ككفر الكافر: هو كفر ردة لا إشكال فيه، أما إذا لم يخرج منه ما يدل على أنه قد اقترن بكفر العملي كفر اعتقادي: حينئذ لا يكون كفراً اعتقادياً؛ لأنَّ الكفر الاعتقادي يختلف عن الكفر العملي من حيث أنه كفر قلبي، أما الكفر العملي ليس كفراً قلبياً وإنما هو كفر عملي.
خذ مثلاً: الحديث الصحيح المتفق عليه ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، قتال المسلم لأخيه المسلم كفر. الآن أسألك: مسلم يقاتل مسلماً هل كفر بهذه المقاتلة؟))
فقال سامي: لا يكفر، لأنه كفر أصغر.
فقال الشيخ: ((يا أخي – بارك الله فيك - خير الكلام ما قلَّ ودل، طيب هذا كفر، أنت الآن تسميه كفراً أصغر، أنا أسميه كفراً عملي، فما الفرق بيني وبينك؟!
الآن نحن نقول: هذا كفر عملي؛ لماذا لأنه عمل عمل الكفار، الكفار من طبيعتهم كما هو مشاهد دائماً وأبداً أنَّ بعضهم يقاتل بعضاً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة التي تساعدنا نحن عليك وعلى تأويلك بأنَّ هذا الكفر كفر أصغر، يساعدنا أنه كفر كفراً عملياً، قوله عليه السلام في حجة الوداع، كما جاء في صحيح البخاري من حديث جرير بن عبد الله البجلي، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استنهض لي الناس، فخطبهم عليه الصلاة والسلام، فقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، كلمة "يضرب بعضكم رقاب بعض" هذا لا شك عمل، وهو تفسير لقوله عليه السلام من قبل "لا ترجعوا بعدي كفاراً" كيف؟ يضرب بعضكم رقاب بعض.
إذاً هذا كفر عملي؛ سباب السلم فسوق وقتاله كفر، فهو لا يخرج عن الملة، ولكن إذا اقترن مع قتال المسلم لأخيه المسلم استحلال دمه قلباً وهو يعتقد أنه مسلم حينئذ يتحول الكفر العملي إلى الكفر الاعتقادي.
أنت تحتج بالإجماع الذي نقلته عن المتقدمين أو المعاصرين!!، لا بد أنك قرأت في تفسير الأئمة لمثل قوله تبارك وتعالى: "ومنْ لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" أعني: أنَّ الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يدفعون بعضهم إلى أن يسألوا الرسول لأنهم كانوا حزبين ومتخاصمين، فيدفعون أحدهم ليسأل محمداً فإنْ أجابهم بما يوافقهم قبلوه وإلا رفضوه.
ومن أئمة المفسرين المعروفين والمشهورين ابن جرير الطبري، يقول في تفسيره هذه الآية: "أولئك هم الكافرون" لأنهم لا يؤمنون بحكم رسوله الله صلى الله عليه وسلم قلباً، لأنهم هم في الأصل كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا حكم لهم ولصالحهم فحينئذ يتبنون هذا الحكم لأنه لصالحهم، لكن إذا لم يكن كذلك فهم يرفضونه قلباً وقالباً.
ولذلك فهو – أي ابن جرير- يقرر، وكذلك ابن كثير أنه لا يجوز سحب هذه الآية على المسلم الفاجر الفاسق الذين يدين ويؤمن بما أنزل الله عز وجل، ولكنه قد يحكم إما في نفسه أو في غيره بخلاف ما حكم الله عز وجل في كتابه أو نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، لا يجوز سحب هذه الآية على أولئك المسلمين لأنهم يختلفون عن المشركين بأنهم آمنوا بما أنزل الله لكن إيمانهم بما أنزل الله لم يقترن به العمل، بينما أولئك الكفار جحدوا ما أنزل الله قلباً وقالباً.
لذلك فعلماء المسلمين في تفسير هذه الآية التي يحتج بها كثيرٌ من الذين يتمسكون بالتكفير إطلاقاً، ومنه قولك أنَّ الكفر العملي قد يكون كفر خروج عن الملة، ولم تلاحظ أنَّ هذا يستحيل أن يكون الكفر العملي خروج عن الملة إلا إذا كان الكفر قد انعقد في قلب الكافر عملاً.
يجب التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي؛ لا يوجد عندنا في الشريعة أبداً نصٌّ يصرح ويدل دلالة واضحة على أنَّ من آمن بما أنزل الله لكنه لم يفعل بشيء مما أنزل الله فهذا هو كافر.
الذي  –مثلاً- يأكل الربا ما حكمه؟ هل هو كافر مرتد عن دينه؟ فستقول: لا، أليس كذلك؟))
فقال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((أنا لا أقول بقولك هكذا، أنا أقول: قد وقد؛ أي إذا استحل الربا بقلبه كما استحله بعمله فهو كفر ردة وإلى جهنم وبئس المصير، أما إذا قال: الله يتوب علينا، وبدنا نعيش، ومن هذه الكلمات الفارغة هذه...إلخ، مما يشعرنا بأنه هو يؤمن بأنه يعصي الله ورسوله، واتبع هواه، ولا فرق يا حضرة الأخ المسلم بين من يعصي الله في أكله الربا مثلاً وبين من يعصي الله في أن يحكم بغير ما أنزل الله.
والآن أنهي الكلمة بمثال بسيط جداً:
أقول: قاضي شرعي يحكم لا أقول يحكم بالشرع؛ بل أقول كما نقول نحن دائماً: يحكم بالكتاب والسنة، ولكن في حكومة وفي قضية معينة تقاضى عنده اثنان فحكم للظالم بحق المظلوم، هل هذا حكم بما أنزل الله؟))
فقال سامي: أنا أجيب، ولكن باستفسار، قبل ما أجيبك بتجاوب.
فقال الشيخ: ((طيب، يقولون عندنا بالشام: "يلي ما بيجي معاك تعال معه" تفضل))
قال سامي: هل هذا القاضي جعل هذا الحكم شريعة؟ نضرب مثال: إنسان سرق وجاء إلى هذا القاضي الذي لا يحكم بما أنزل الله عز وجل، ولكن في هذه القضية لهوى أو لقرابة قال: ما بدي أقطع يده، بدي أقيم عليه حد ثاني رغم أنَّ شروط السرقة متوفرة فيه، رغم أنه في الحالات الأخرى يقطع اليد، فهذا لا نقول: كفر؛ ينزل عليه قول ابن عباس: كفر دون كفر، أما إنْ جعل حد السرقة السجن أو ...، فهذا قد كفر لمجرد حكمه أن جعلها شرعاً يتبع، لأنه جعل نفسه نداً لله.
فقال الشيخ: ((أنت بارك الله فيك ما تؤاخذني، أنت تؤيد عبارات قرأتها، وطلبك أن تقطع كلامي لتبين هذا لا يفيدك شيئاً.
أنا سأقول: هذا الإنسان الذي حكم للظالم على المظلوم، هل حكم بشرع الله؟ المفروض أن تقول: لا، ونتابع الموضوع لنهايته، بعد ذلك إنْ وجدت مناسبة لتقول ما قلت، تقول ذلك.
هذا المسلم والقاضي الذي يحكم بما أنزل الله عادة حكم في قضية ما بغير ما أنزل الله، ما أظنُّ أنَّ مسلماً يحكم بمجرد أنْ صدر منه هذا الحكم المخالف الشرع، أنه يحكم عليه أنه كفر، ما أظن أحداً يفعل هذا.
فأريد أن أقول في قضية أخرى لسبب أو آخر تكرر ذلك السبب أو تجدد، مش مهم، وإنما حكم أيضاً بغير ما أنزل الله. كذلك أنا أقول: لا أستطيع أن أقول أنه كفر كفر اعتقاد، وكفر ردة، إلى متى سنكرر … خمس مرات، عشر مرات، مائة مرة .. إلخ.
متى أستطيع أن أقول بأنَّ حكمه هذا يدينه بأنه كفر ردة وليس كفر عمل فقط؟ إذا بدا منه ما يُنبئ عما وقر في قلبه، إذا بدا منه شيء عما وقر في قلبه، وهو أنَّ هذا الحكم لا يصلح الحكم به بالرغم أنه مما أنزل الله، هنا يقال بأنَّ كفره كفر ردة.
فلا نعود  –لعلنا نلتقي- أنَّ هذا الذي اتخذ نظاماً قد يكون سبب قول القائلين: أنَّ هذا كفر ردة، هو أنهم اتخذوا نظامه دليلاً على ما وقر في نفسه بأنَّ الحكم في الإسلام لا يصلح.
أنا أقول: إنْ صح حكمهم أو استنباطهم، فيكون هذا حكماً صحيحاً مطابقاً للكفر الاعتقادي.
إذاً مناط الحكم والبحث، والتفريق بين كفر وكفر وهو: أن ننظر إلى القلب؛ فإنْ كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم لمستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل، أما إذا كان ما في القلب مطابق للعمل، أي: هو لا يقر هذا الحكم الذي جاء به الشرع؛ إما إعراباً وإفصاحاً بلسانه، أو تعبيراً بلسان حاله، يعني: التعبير قد يكون بلسان القال أو بلسان الحال؛ إذا كان تعبيره عن كفره القلبي بلسان القال انتهى الموضوع، أما إذا كان بلسان الحال، هنا لسان الحال قد يقبل الجدال، فماذا تقول الآن بمثل هذا التفصيل؟
وألخص ما سبق: الكفر العملي الذي قد يكون كفراً اعتقادياً كما قلت في جوابك، هذا لا بد أن يكون مربوطاً بالكفر الاعتقادي، أما كفر عملي وهو حكمه كالكفر الاعتقادي أي مرتد عن الملة وهو مؤمن بقلبه هذا لا وجود له في الإسلام؟ الآن تفضل ما عندك))
قال سامي: نحن ما نعتقده أنَّ هناك كفراً عملياً يخرج من الملة بغض النظر عن الاعتقاد؛ كان مؤمناً أو كان غير مؤمناً!!، لنا في ذلك سلف: منهم ابن تيمية شيخ الإسلام في الفتاوى.
فقال الشيخ: ((بدنا أدلة؟))
قال سامي: "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر".
فقال الشيخ: ((اسمح لي يا أخي رجعت إلى قولي، قلت لك آنفاً: الكفر الاعتقادي الذي مركزه القلب، إما أن يدل عليه لسان القال أو لسان الحال، فأنت تحتج بالآية: "ولقد قالوا كلمة الكفر" سبحان الله هذا لي))
قال سامي: الله عز وجل ما بيَّن أنهم استحلوا أو لم يستحلوا، الله عز وجل أطلق.
فقال الشيخ: ((يا أخي الله يهديك، أقول لك بلسان عربي مبين: المؤمن بما تحكم على إيمانه؛ أليس بقوله؟))
قال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((طيب، والكافر بما تحكم عليه؟ بقوله، وأنا معك، وأنا سبقتك، فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال، تفرق معي بين الأمرين، فأنت الآن تحتج بالآية، فالآية حجة لي)).
قال سامي: هذا بِغَضِّ النظر لو كان مؤمن أو غير مؤمن، لمجرد شتمه لله فقد كفر....} إلى آخر المناظرة وهي طويلة، وهي توضح معتقد الشيخ بجلاء.
أقول: بعد هذا النقل الموثَّق من كلام الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى في مسألة الكفر الاعتقادي والعملي وعلاقتها بالحكم بغير ما أنزل الله يتبـيَّن لكلِّ ذي عينين أنَّ الشيخ الإمام رحمه الله تعالى لم يخرج في هذه المسألة – بل ولا في غيرها – عن معتقد السلف الصالح.
وخلاصة قول الشيخ في هذه المسألة: أنَّ الكفر كفران؛ كفر اعتقادي يخرج صاحبه من الإسلام ويُخلَّد في جهنَّم إن لم يتب منه، ومحلَّه القلب، ويُنبئ عنه إما بلسان المقال وهو موضع يقين وإما بلسان الحال وهو موضع نقاش واحتمال، والآخر كفر عملي وهو من كبائر الذنوب ولا يخرج صاحبه من الإسلام ولا يُخلَّد في جهنَّم إنْ دخلها، ومحلَّه الجوارح، ولكن قد يقترن به ما يدلَُّ على فساد العقيدة فيكفر به صاحبه، ولكن إنْ كان كذلك فهو معدود في الكفر الاعتقادي وإن كان ظاهره بالعمل، ولا يُمكن أن يكفر الرجل مع علمه وقصده واختياره بقول ظاهر أو بعمل ظاهر مع إيمان القلب أو اعتقاد صحيح، هذا من جانب.
من جانب آخر: أنَّ ضابط الكفر الاعتقادي هو أن يُشابه المسلم الكافر في اعتقاده، والكفر العملي ضابطه هو أن يُشابه المسلم الكافر في عمله، فهذا التعبير أدق وأضبط من تقسيم الكفر إلى أكبر وأصغر؛ لأنَّ هذا الثاني لا يُشعر بضابط محدد، ولهذا نرى أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى يُدندن حول التقسيم الأول، مع أنَّ كلا التقسيمين مأثور مقبول.
وتسمية الكفر الذي يُخرج من الملة بالكفر الاعتقادي أضبط من تسميته بالكفر الأكبر؛ لأنَّ  المكفِّرات إنما سُمِّيَت نواقض لأنَّها تنقض عقدة الإيمان التي في القلب.
والاعتقاد في لسان العرب مأخوذ من العقد وهو الإبرام والربط بشدة وإحكام وإيثاق وقوة وحزم، وضده الحَلِّ والنقض والإبطال والإفساد، والحبلُ إما أن يكون مربوطاً أو محلولاً، والمربوطُ إما أن يكون بشدة وإما أن يكون برخاوة؛ فالأول يسميه العرب عقدة والثاني رِخواً، وبهذا يكون حالات الحبل ثلاثاً: محلولٌ، ومربوطٌ بشدة، ومربوط برخاوة.
وعقيدة الإسلام هي حبل الله المتين، وعلى امتداد هذا الحبل معاقدٌ هي عُرى الإسلام، وأوثق هذه العُرى كلمة التوحيد، والناس في ذلك ثلاث أقسام (من حيث أحكام الآخرة): كافرٌ، ومؤمنٌ، ومؤمنٌ ناقص الإيمان.
ومحلُّ العقد هو القلب؛ قال تعالى: ((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ))، وقال في آية أخرى: ((لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)).
فكذلك مرجع النقض هو القلب؛ لأنَّ العقدة في القلب، فلا يكون النقض إلا فيه، وهذا يعني أنَّ نواقض الإسلام أو مبطلات الإيمان مرجعها إلى انحلال العقدة التي في القلب، ومحال أن تكون العقدة قائمة مع إتيان النواقض.
وأصل الكفر في القلب كما أنَّ أصل الإيمان في القلب، والكفر كفران كما أنَّ الإيمان مرتبتان، لأنَّ الكفر ضد الإيمان؛ فمراتب الإيمان أصل وكمال، والكفر: كفر ضد الأصل وكفر ضد الكمال، قال الإمام المروزي رحمه الله تعالى وهو يُناقش مذهبي أهل الحديث في تسمية الإسلام والإيمان [تعظيم قدر الصلاة 2/120]: ((ولكنا نقول: للإيمان أصل وفرع، وضد الإيمان الكفر في كل معنى، فأصل الإيمان الإقرار والتصديق وفرعه إكمال العمل بالقلب والبدن، فضد الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان: الكفر بالله وبما قال وترك التصديق به وله، وضد الإيمان الذي هو عمل وليس هو إقرار: كفر ليس بكفر بالله ينقل عن الملة ولكن كفر يضيع العمل؛ كما كان العمل إيماناً وليس هو الإيمان الذي هو إقرار بالله))، وهذا يعني: أنَّ كفر العمل لا ينقل عن الملة لأنَّه ضد الإيمان الذي هو كمال.
ومع هذا؛ فالكفر الأصغر والكفر العملي اسمان لمعنى واحد وكلاهما لا يخرج صاحبه من الملة؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى في كتابه [التوحيد ص18]:((النوع الثاني: كفر أصغر لا يخرج من الملة؛ وهو الكفر العملي: وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة كفراً وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر)).
أما مَنْ ذكر من أهل العلم كالإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وتبعه بعض المعاصرين: بأنَّ الكفر العملي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده؛ فليس ثمة فرق بينهم وبين مَنْ أطلق فقال: الكفر العملي لا يُضاد الإيمان، ويقصد المجرَّد عن الاعتقاد، أما إن اقترن معه فساد الاعتقاد أو كفر القلب أو دلَّ على ذلك دلالة قطعية يقينية فيكفر لأنَّه أصبح من الكفر الاعتقادي عندهم وإنْ كان ظاهره بالعمل، ويبقى الأمر خلافاً في الاصطلاح ولا مشاحة فيه.
فإنْ أصرَّ المقابل أو المخالف على إلزام خصمه بالتفصيل في الكفر العملي؛ لزمه ذلك التفصيل في الكفر الاعتقادي كذلك؛ لأنَّ من الاعتقاد ما لا يكفر به المسلم كفراً أكبراً كيسير الرياء والحلف بغير الله والتميمة والطيرة وكل صور الشرك الأصغر التي لا تصل بصاحبها إلى الشرك الأكبر ولا يخرج بها المسلم من دائرة الإسلام إلى الكفر، فيلزمه أن يقول: الكفر الاعتقادي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده!!، وهم لا يقولون به.
وفرقٌ بين كفر العمل والكفر بالعمل، فالأول نوعٌ من أنواع الكفر وهو ضد كمال الإيمان، والثاني سببٌ من أسباب الكفر، والقول الظاهر أو العمل الظاهر إذا كان في الشرع من صور الكفر الناقل عن الملة فلأنه يستلزم انتفاء إيمان القلب؛ إما بزوال قول القلب - المعرفة والتصديق - أو بزوال عمل القلب - المحبة والانقياد والتعظيم - أو بهما.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 14/120]: ((وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان وسبِّ الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن؛ وإلا فلو قُدِّرَ أنه سجد قدَّام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله)).
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى [أعلام السنة المنشورة]: ((الكفر كفران؛ كفر أكبر يخرج من الإيمان بالكلية وهو الكفر الاعتقادي المنافي لقول القلب وعمله أو لأحدهما، وكفر أصغر ينافي كمال الإيمان ولا ينافي مطلقه وهو الكفر العملي؛ الذي لا يناقض قول القلب ولا عمله ولا يستلزم ذلك))
ثم أرد دفع توهم قد يتطرق إلى الذهن فقال: ((س/ إذا قيل لنا: هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين ونحو ذلك هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر؛ فلم كان مخرجاً من الدين وقد عرفتم الكفر الأصغر بالعملي؟!
ج/ اعلم أنَّ هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس، ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده؛ لا يبقى معها شيء من ذلك.
فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولا بد، ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد، وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أنْ "قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا" إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا: "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، قال الله تعالى: "قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
ونحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقاً، بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب ولا عمله)).
ولكـن أُكرر فأقول: لا يفهم أحدٌ من عبارة "أنَّ مرجع الكفر في القلب" أنْ لا يكون الكفر بالقول الظاهر أو العمل الظاهر؛ كلا، بل الكفر يكون بالاعتقاد ويكون بالقول ويكون بالعمل كما صرَّح بذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ولا يُمكن أن يجتمع الكفر بالقول أو بالعمل مع صحة الاعتقاد أو الإيمان القلبي.
ولهذا من أغرب ما يُدندن به المخالِف في هذا العصر: أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل دون الاعتقاد!!، فإنْ أراد أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل مع تصديق القلب المجرَّد عن العمل فكلامه حق؛ وهو قول أهل السنة، فمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أو داس المصحف فهو كافر وإنْ لم يُكذِّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يُكذِّب القرآن الكريم، وهو كافر وإن لم يستحل السب والدَّوس، وهو كافر وإن لم يجحد الرسالة والتنزيل، لكن إنْ قصد يكفر ولو كان صحيح الاعتقاد أو ولو كان مؤمناً في قلبه فكلامه باطل؛ وهو قول المرجئة.
لا بدَّ أن نتنبَّه إلى أنَّ "كلمة الاعتقاد" عند السلف قد ترد في كلامهم بمعنى التصديق المجرد عن العمل؛ وهو قول القلب فقط كما في قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الصلاة وحكم تاركها ص69-70]: ((حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل؛ والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإنَّ تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة)).
وقد ترد بمعنى التصديق المقترن بالعمل؛ وهو قول القلب وعمله كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [7/506]: ((وكذلك قول من قال: "اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح" جعل القول والعمل اسماً لما يظهر؛ فاحتاج أن يضمَّ إلى ذلك: اعتقاد القلب؛ ولابدَّ أن يدخل في قوله "اعتقاد القلب": أعمال القلب المقارنة لتصديقه؛ مثل حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك، فإنَّ دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها))
فَمَنْ قال من أهل السنة أنَّ الكفر لا يكون إلا إذا زال الاعتقاد؛ فمراده من كلمة الاعتقاد المعنى الثاني قطعاً؛ ولهذا نقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى في شرح العمدة [4/72] مؤصِّلاً حين قال: ((من أصول أهل السنة: أنَّهم لا يُكفِّرون أحداً من أهل السنة بذنب، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفر بالاعتقادات))، وقال العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى – وهو من تلامذة شيخ الإسلام البارزين - في [العقود الدرية ص114]: ((قال أهل السنة: إنَّ مَنْ ترك فروع الإيمان لا يكون كافراً حتى يترك أصل الإيمان؛ وهو الاعتقاد)).
ففرقٌ شاسع بين مَنْ يقول: أنَّ الكفر لا يكون إلا إذا زال اعتقاد القلب وهو قوله أو عمله أو كلاهما، ولكنه قد يكفر بالعمل أو بالقول أو بالاعتقاد، وبين قول مَنْ يقول: الكفر لا يقع إلا بالاعتقاد، ومراده: لا يقع بالقول ولا بالعمل، فالأول حق والثاني باطل.
فلا يُخلط بين الأمرين؛ كما نلاحظ ذلك في تخليط سامي عندما أفصح عن معتقده فقال: ((نحن ما نعتقده أنَّ هناك كفراً عملياً يخرج من الملة بغض النظر عن الاعتقاد؛ كان مؤمناً أو كان غير مؤمناً))!!، وهذا باطل بيقين، كيف يكفر بعمله مع إيمان قلبه وصحة اعتقاده؟! هذه لوثة إرجائية، وهو قول مبتدع لم يقل به أحدٌ من الأئمة، والعجيب أنَّ سامياً نسب ذلك إلى شيخ الإسلام رحمه الله تعالى جهلاً منه فقال: ((لنا في ذلك سلف: منهم ابن تيمية شيخ الإسلام في الفتاوى)).
وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 7/557-558] يقول: ((فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي؛ قد صرَّحوا بأنَّ سبَّ الله ورسوله والتكلم بالتثليب وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أنَّ هذا كافر باطناً وظاهراً، قالوا هذا يقتضي أنَّ ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأنَّ الإيمان يستلزم عدم ذلك فيقال لهم معنا أمران معلومان:
أحدهما معلوم بالاضطرار من الدين، والثاني معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
أما الأول: فإنا نعلم أنَّ من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً وأنَّ منْ قال إنَّ مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين .....
وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محباً لرسول الله معظِّماً له امتنع مع هذا أنْ يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته؛ فعلم بذلك أنَّ مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب))
وقال [المجموع 7/609]: ((فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين؛ وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقاً بقلبه كان كافراً في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدَّم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة)).
ومن جانب ثالث: أنَّ الشيخ الألباني يرى أنَّ الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله تعالى لا يكفر إلا إذا جحد ما أنزل الله أو استحل ما لم ينـزِّله الله عزَّ وجل، كما هو الحال في تارك الواجبات وفاعل المحرمات، ونقل بما يؤيِّد كلامه عن ترجمان القرآن ابن عبَّاس رضي الله عنهما وعن شيخ المفسِّرين ابن جرير الطبري وعن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل وعن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم رحمهم الله تعالى جميعاً في تفسير قوله تعالى: ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) وكفى بأولئك سلف.
وأما تحكيم القوانين أو التشريع الوضعي الذي ذكره سامي ونقل أنَّ البعض ادَّعى أنَّ إجماع المعاصرين على كفر الحاكم الذي يُقنِّن أو يُشرِّع، وأنَّ ثمة فرق بين تبديل الحكم وترك الحكم؛ فهذا تفريق لا برهان عليه، ودعوى الإجماع منقوضة بقول الشيخين الألباني وابن باز رحمهما الله تعالى ومَنْ تبعهم من المعاصرين.
والحكم المبدَّل هو نفسه الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الروح ص267]: ((والحكم المنزَّل لا يحل لمسلم أنْ يخالفه ولا يخرج عنه، وأما الحكم المبدَّل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم)).
والشيخ الألباني رحمه الله تعالى لم يدَّعي الإجماع على عدم تكفير المبدِّلين بل ولم يُطلق القول بذلك وإنَّما جعله محل بحث وجدال واستنباط، فقال: ((أنَّ هذا الذي اتخذ نظاماً قد يكون سبب قول القائلين: أنَّ هذا كفر ردة، هو أنهم اتخذوا نظامه دليلاً على ما وقر في نفسه بأنَّ الحكم في الإسلام لا يصلح.
أنا أقول: إنْ صحَّ حكمهم أو استنباطهم، فيكون هذا حكماً صحيحاً مطابقاً للكفر الاعتقادي.
إذاً مناط الحكم والبحث؛ والتفريق بين كفر وكفر وهو: أن ننظر إلى القلب؛ فإنْ كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم لمستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل، أما إذا كان ما في القلب مطابق للعمل، أي: هو لا يقر هذا الحكم الذي جاء به الشرع؛ إما إعراباً وإفصاحاً بلسانه، أو تعبيراً بلسان حاله، يعني: التعبير قد يكون بلسان القال أو بلسان الحال؛ إذا كان تعبيره عن كفره القلبي بلسان القال انتهى الموضوع، أما إذا كان بلسان الحال، هنا لسان الحال قد يقبل الجدال)).
وشيخُ الإسلام رحمه الله تعالى توقف في الحكم على صورة مَنْ يبدِّل الشرع المبين بالقانون اللعين تبديلاً عامَّاً فقال [المجموع 35/388]:
((إنَّ الحاكم إذا كان ديِّناً لكنه حكم بغير علم: كان من أهل النار، وإنْ كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه: كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم: كان أولى أن يكون من أهل النار؛ وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص.
وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الحقَّ باطلاً والباطلَ حقاً والسنةَ بدعةً والبدعةَ سنةً والمعروفَ منكراً والمنكرَ معروفاً، ونهى عما أمر اللهُ به ورسولُه وأمر بما نهى اللهُ عنه ورسولُه: فهذا لون آخر؛ يَحكمُ فيه ربُّ العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي له الحمد في الأولى وفي الآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم))، فيا تُرى هل سيحكم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيما هو دونها؟! بالطبع لا.
فيا سلمان العودة – بل ويا كل من تكلَّم في الشيخ الألباني جهلاً أو ظلماً – هل خرج الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فيما سبق من نقول عنه عن قول السلف، أم أنـَّه وافق معتقدهم ونصره بالحجة والبرهان؟!
وبعد ذلك النقل والبيان؛ هل يظهر لـكم أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى غير متقن لمسألة الكفر الاعتقادي والعملي وحصل له فيها ارتباك، أم أنَّه يتكلَّم برسوخ ويقين نابعين من أدلة الكتاب والسنة ومن فهم أقوال السلف الصالح؟!
نترك الجواب لأهل الإنصاف؛ وقليلٌ ما هم.

2. أما قول سلمان العودة: ((وهذا منغمر في بحر علمه وفضله، وما من عالم إلا وله زلة، فالناس في هذه الزلة أصناف: صنف يَقبل زلته، ولا يعي خطأها؛ لأنها صدرت من عالم يجلُّه، فيتهيب مخالفته، ونسي أنه يخالفه ليوافق غيره من العلماء، وأنه إنْ وافقه ربما خالف جماً غفيراً من أهل العلم السابقين واللاحقين. وصنف يشنّع عليه بهذه الزلة، ويغشيها، ويعظِّمها، ينسى الحسنات والفضائل، فيختصر الشيخ بهذه المسألة التي انفرد فيها.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
 ولو أن كل من أخطأ في مسألة ردت أقواله وأسقط لما بقي أحد قط، فإنه لا عصمة لأحدٍ بعد الأنبياء)).

نعم الشيخ الألباني رحمه الله تعالى هو عالم من علماء الأمة له مكانته وعلمه وفضله، وهو يُخطئ ويصيب وليس بمعصوم وكذلك حال باقي العلماء، وقد زلَّ مَنْ هو أعظم من الشيخ الألباني من علماء المسلمين قديماً فلا يُستغرب أن يزلَّ الألباني أو غيره، ولا نتعصَّب لقوله ولا نتحزب حوله.
ولكن لا تكن هذه الكلمات غطاءً للطعن في أهل العلم من غير تثبّت ولا برهان ولا تكن تسويغاً للتهم المتعجِّلة من غير تمحيص ولا تحرير، وإلا كان الباب مفتوحاً على مصراعيه للطاعنين، فكلُّ مَنْ أراد أن ينال من عالم من علماء الأمة قدَّم تلك الكلمات تمهيداً للطعن والتجريح.
بل الواجب ألا نتسارع إلى الطعن والتجريح ولا نتعجَّل في التخطئة والتغليط إلا بعد أن نتثبت من كلام المشار إليه ونحرر قوله ونحقق المسألة علمياً؛ فإنْ ظهر لنا أنَّ المشار إليه قد زلَّ مع كونه من أهل العلم المشهورين، فنردَّ غلطه بعلم وعدل مع التذكير بعلمه ومكانته، فنعظِّم مَنْ يستحق التعظيم وننصر الحق ونرحم الخلق.
وما تقدَّم من نقول عن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى يظهر به لكلِّ ذي عينين أنَّ الشيخ لم يزل في مسألة الكفر الاعتقادي والعملي ولم ينفرد بها، ولو أنَّ سلمان حقَّق المسألة جيداً لما تكلَّف مثل هذا الكلام.

3. أما قوله: ((الصنف الثاني، وهم أهل العدل والإنصاف الذين يجتنبون هذه الزلة ويحذرونها، ويبينونها بأمثل أسلوب، وأضفى عبارة، وأقوم سبيل، ويحفظون للعالم قدره ومنـزلته، ويثنون عليه، ويوالونه في الخير، ويُصْفونه الود ظاهراً وباطناً. وهذا وإن كان منهجاً واضحاً وسهلاً وصحيحاً، إلا أن كثيراً من الناس يصدِفون عنه، ويميلون صوب إحدى الطائفتين. ولزوم الاعتدال من الاعتدال هو مطلب آخر، "وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم"[فصلت : 35]، جعلنا الله وإياك منهم)).

يا سلمان؛ أين أهل العدل والإنصاف الذين أشرتَ إليهم من زلات سيد قطب، بل من طوامِّه التي تدل على ضلاله وفساد عقيدته؟!!
لم نسمع منـكم أحداً إلى الآن مَنْ حذَّر من انحرافه بل من انحرافاته، والعكس هو الواقع، فنسمع منكم الدفاع عن تلك الضلالات والتسويغ لها ومناصرتها، بل وجعلها أصولاً سلفية لا تقبل النقاش!!.
ولو تكلَّم أحدٌ في بيان تلك الضلالات وحذَّر من سيد قطب وكتبه التي حوتها، رفع صوتهم أهلُ العدل والإنصاف الذين أشرتَ لهم تعصّباً وتحزباً لسيد وكأنَّه إمام من أئمة السلف أو مجدد من مجددي هذه الأمة؛ مستنكرين الرد ورافضين النقد!!.
هذا مع أنَّ مقارنة الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى بسيد قطب من الظلم بمكان، فكـيف وأنتم تتجرَّؤون على الشيخ الألباني بالطعن والتغليط من غير تثبت ولا تحقيق وليس لـكم جرأة في الكلام عن سيد وضلالاته مع ظهورها ووضوحها؟
وإنْ تجرَّأ فيكم أحدٌ تكلَّم مجملاً في تخطئة سيد قطب مع ما يُصاحب ذلك النقد من منهج الموازنة بين الحسنات والسيئات ومن هالات من التقديس لسيد؛ وكأنَّ سيداً له مكانته العلمية وجهوده الدعوية التي لا يُمكن تجاهلها!!.  
فيا سلمان؛ أهـذا هو العدل الذي تدَّعونه؟! أم هـذا هو الإنصاف الذي تنشدونه؟!

4. وقال سلمان: ((والصواب: أنَّ الكفر الأكبر كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل؛ فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر، والسجود للصنم طائعاً مختاراً عالماً عامداً: لا تفسير له إلا الكفر، والتلفظ بأقوال الكفر التي لا تحتمل تأويلاً كسبّ الله ورسوله وكتابه، أو تكذيب الله ورسله، ونحو هذا من عالم عامد بغير إكراه، ولا غلبة سكر ولا حالة نفسية مرضية تتلبس صاحبها، وتجعله يتصرف بلا وعي ولا ضبط لنفسه، مما لا يحتمل تأويلاً غير الكفر)).

يا سلمان ما الفرق بين قولك ((والصواب: أنَّ الكفر الأكبر كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل))، وبين قول الشيخ الألباني: ((الذي أفهمه في هذه المسألة: أنَّ الأصل الكفر القلبي؛ لكن هناك أقوال وأعمال قد تصدر من الإنسان تنبئ عما وقر في قلبه من الكفر))؟!
يا سلمان ما الفرق بين قولك: ((فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر))، وبين قول الشيخ الألباني: ((إنَّ من الأعمال أعمالاً قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينية، بحيث يقوم فعله هذا مقام إعرابه بلسانه عن كفره؛ كمثل من يدوس المصحف مع علمه وقصده له))؟!
يا سلمان ما الفرق بين باقي تفريعك: ((والسجود للصنم طائعاً مختاراً عالماً عامداً: لا تفسير له إلا الكفر، والتلفظ بأقوال الكفر التي لا تحتمل تأويلاً كسبّ الله ورسوله وكتابه، أو تكذيب الله ورسله، ونحو هذا من عالم عامد بغير إكراه، ولا غلبة سكر ولا حالة نفسية مرضية تتلبس صاحبها، وتجعله يتصرف بلا وعي ولا ضبط لنفسه، مما لا يحتمل تأويلاً غير الكفر)) وبين تأصيل الشيخ الألباني: ((فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال))؟!
وأما الخلاف الحقيقي بين الشيخ الألباني رحمه الله تعالى وبين سلمان ومَنْ وافقه: أنَّ الشيخ الألباني يربط هذه المكفِّرات القولية والعملية الظاهرة بكفر القلب لأنَّها تدل عليه؛ حتى لا يبقى للخوارج الذين يُكفِّرون بمجرد العمل حجة على أهل السنة، وحتى لا يتعجَّل الشباب المتحمّس في تكفير الناس سواء كانوا حاكمين أو محكومين بمجرد العمل دون النظر إلى عقائدهم، بينما لا يتطرق سلمان ولا مَنْ وافقه إلى بيان ذلك الارتباط، فأوهموا الناس أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل دون أن ننظر إلى القلب حتى ظهر التكفير على ألسنة الشباب المتحمِّس وعمَّت فتنته وعظُمَ بلاؤه واتسعت آثاره في البلاد والعباد، بل ويُصرِّح بعضهم فيقول: يكفر ولو كان مؤمناً في الباطن، والبعضُ يتردد فيقول: يكفر بالقول أو بالعمل سواء كان مؤمناً في الباطن أو غير مؤمن؛ وألبسوا  على الناس الحقَّ بالباطل فقالوا: أنَّ المرجئة تقول يكفر بالأقوال أو الأعمال الظاهرة لأنها علامة على كفر القلب، فليس القول بذاته كفراً وليس الفعل بذاته كفراً وإنما الكفر بالقلب وتلك الأقوال والأعمال علامات عليه، فمَنْ قال أنَّ المكفِّرات الظاهرة تستلزم انتفاء الإيمان الذي في القلب أو أنَّ الكفر بالقول أو بالعمل يستلزم كفر القلب وفساد الاعتقاد فقد وافق مذهب المرجئة.
وقد تقدَّم أنَّ مقولة أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل ولو كان القلب مؤمناً باطلة وهي من أقوال جهمية المرجئة؛ وكثيرٌ من أمثال سلمان يعلم ذلك ولكـنَّهم يكتمون الحق ولا يُظهرونه.
وأما قولهم الأخير ففيه تلبيس بين الحق والباطل وفيه كتم للحق وتشويه لأهله؛ فما قالوه عن مذهب المرجئة حق لا مرية فيه، وأما تسويتهم بين قول المرجئة وقول مَنْ قال أنَّ المكفِّرات الظاهرة هي مكفِّرات بذاتها دلَّ عليها الشرع بالأدلة الثابتة، وهي تستلزم انتفاء الإيمان الذي في القلب، أو أنَّ الكفر بالقول أو بالعمل يستلزم كفر القلب وفساد الاعتقاد، فهذه التسوية باطلة تدلُّ على تخبطهم كما أنَّ تسوية المشركين بين البيع والربا باطلة نابعة من تخبطهم: ((قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)).
وبهذا يكونون قد جمعوا بين خطيئتين: تلبيس الحق بالباطل وكـتم الحق؛ والله تعالى يقول: ((وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ))، والله المستعان.
وقد نقلنا قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 14/120]: ((وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن؛ وإلا فلو قُدِّرَ أنه سجد قدَّام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله)).
ففرِّق يا مَنْ رزقـك الله عقلاً؟! وميـِّز يا مَنْ وهبـك الله قلباً؟! ولا تكن من المتخبطين ولا من الملبِّسين.

5. وقال سلمان: ((ولا يوجد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد؛ لأنَّ الاعتقاد مما لا سبيل له، ولا يعلم حقيقته إلا الله، وإنما العبرة والمؤاخذة بظاهر حال الناس من أقوالهم وأفعالهم.
وقد جاء في الصحيح ما يرسّم هذه القاعدة، من مثل: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قام رجل فقال: يا رسول الله أتق الله، قال: "ويلك، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال:"لا لعله أن يكون يصلِّي " فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه البخاري (4351)، ومسلم (1046).وفي الحديث الآخر قال: - صلى الله عليه وسلم -:"إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض.." الحديث. أخرجه البخاري (2680) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة – رضي الله عنها -. فالعبرة والحكم هو لما يظهر من الناس ويبدو من أفعالهم وأقوالهم)).

نعم العبرة بالظاهر والله يتولَّى السرائر كما يقول أهل العلم؛ ولكنَّهم كذلك يقولون: العبرة بالمقاصد والنيِّات!!، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها: أنَّ المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وطاعة أو معصية؛ كما أنَّ القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة، أو صحيحة أو فاسدة، ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر)) وانظر [إعلام الموقعين  3/95-96].
ثم قال: ((فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم؛ هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته. فإنَّ خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على  الأُمة، ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك. والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرهاً وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه؛ فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به)) ثم ذكر أدلة هذه الأسباب العشرة، انظر [إعلام الموقعين 3/123-125].
وقول سلمان: ((لأنَّ الاعتقاد مما لا سبيل له، ولا يعلم حقيقته إلا الله)) يلزم منه تكفير فاعل الكبيرة لأننا لا سبيل إلى معرفة اعتقاده؛ هل يعتقد حلّها أم لا؟! بل ويلزم منه تكفير مَنْ فعل الكفر أو قاله من غير قصد؛ لأننا لا سبيل لنا إلى معرفة قصده!!، وهذا معارض بما قرَّره سلمان نفسه حين قال: ((فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر))؛ فلعلَّ قائلاً يقول لك: ومن أين لك سبيل على أنَّه قصد الإهانة أو لم يقصد؟!!
ثم ما الفرق بين معرفة قصد القلب وبين معرفة اعتقاده؟ حتى تطالبنا يا سلمان بأدلة على أنَّ الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد.
ثم إذا كانت المؤاخذة في حنث اليمين لا تكون إلا عن عقد القلب كما قال تعالى: ((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ))، أفتكون المؤاخذة في الكفر دون اعتبار اعتقاد القلب؟!
ثم أين أنت يا سلمان من الأصل الذي نقله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الإمام ابن بطة في شرح العمدة حين قال: ((من أصول أهل السنة: أنَّهم لا يُكفِّرون أحداً من أهل السنة بذنب، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفر بالاعتقادات))؟!
نعم الإطلاع على ما في القلب لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ ولكن هناك أقوال وأعمال تنبئ عمَّا في القلب من اعتقاد، وتدلُّ على سلامته أو فساده، وهذا ما قرَّره الشيخ الألباني كما تقدَّم، فلماذا تصوِّر يا سلمان – ويا غير سلمان – أنَّ الشيخ الألباني يريدنا أن ننقب أو نشق عن قلوب الناس لنعرف اعتقادهم؟ وقد قال رحمه الله تعالى: ((فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال)).
ثم ألم يقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((والمقصود هنا: أنَّ القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده، وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب)) انظر [المجموع 14/113-120].
فقول شيخ الإسلام: ((فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده)) هل لـكم أن تقولوا فيه: "معرفة القلب وقصده" لا سبيل له ولا يعلم حقيقته إلا الله، وإنما العبرة والمؤاخذة بظاهر حال الناس من أقوالهم وأفعالهم؟!
وخلاصة ذلك: أنَّ الكفر بالقول الظاهر أو بالعمل الظاهر لا يكون إلا عن فساد الاعتقاد؛ وهذا هو مقصود مَنْ قال: ((إنما الكفر بالاعتقادات)) وليس مراده قطعاً أنَّ الكفر لا يكون بالقول الظاهر ولا العمل الظاهر، بل يقع بهما ولكنَّه لا محال يستلزم زوال أصل الإيمان الذي في القلب وهو الاعتقاد: قول القلب وعمله.
وقول مَنْ قال: يكفر الرجل بالقول الظاهر أو بالعمل الظاهر، إنما مقصوده يكفر مع زوال الاعتقاد، لكن قد يُعبِّر البعض بتعبير يوهم فيقول: قد يكفر الرجل بالقول أو العمل دون الاعتقاد، ومراده بـكلمة (الاعتقاد) هنا التصديق المجرَّد وهو قول القلب، وهذا حق لا ريب فيه، فساب الرسول يكفر ولو لم يعتقد حل السب أو يكفر ولو اعتقد حرمة السب؛ واعتقاد الحرمة والحل متعلِّق بتصديق القلب لا بعمله كما لا يخفى.
فجاء مَنْ لم يفهم مراد أهل العلم أو مَنْ أراد التلبيس والفتنة بينهم فقال: هنـاك خلاف بين الألباني وبين غيره من أئمة السلف المتقدمين والمتأخرين، فالألباني لا يُكفِّر إلا بالاعتقاد لا يُكفِّر بالقول ولا بالعمل، وأما أئمة السلف فلا يحصرون الكفر بالاعتقاد وإنما الكفر عندهم قد يكون بالقول وقد يكون بالعمل وقد يكون بالاعتقاد!!، وحقيقة الأمر كما ذكرناه، والله الموفِّق.

6. قال سلمان: ((وقد ذكر الله الكفار والمشركين في كتابه من الوثنيين وأهل الكتاب، ووصفهم بالكفر، وبين أسبابه، وهي أقوال وأفعال واعتقادات، وهذا الذي مضى عليه عمل السلف - رضي الله عنهم -، وإن كانوا لا يجرون هذه القاعدة على الأعيان إلا بعد التحقق والتوثق؛ لأن الحكم على الفعل بكونه كفراً أسهل من الحكم على الشخص المعين، لما يعتري حال الناس من اللبس والاحتمال)).

نعم مضى عمل السلف على أنَّ أسباب الكفر قد تكون اعتقادات وقد تكون أفعال وقد تكون أقوال، وتبعهم على ذلك الشيخ الألباني كما تقدَّم فلا نعيد.
وأما قول سلمان: ((الحكم على الفعل بكونه كفراً أسهل من الحكم على الشخص المعين))؛ بل هو مقدِّمته وبابه، فمن أحكم هذا الباب وأوثقه ولم يتقدَّم إليه إلا بالنصوص الثابتة مع الفهم السديد فقد سَلِمَ ومَنْ ولجه وأقدم إليه بلا علم ولا فهم فقد هلك.
والحكم على القول أو الفعل بأنه كفر ليس سهلاً؛ لأنـَّه أصل وتأصيل، والحكم على الشخص المعين فرع وتنزيل، والأصل أشدُّ من الفرع، والفرع مبنيٌّ على الأصل، فلا تُهوِّن الأمر يا سلمان ولا تفتح الباب ثم تحرِّم الدخول منه.
ثم كـيف يكون الحكم على الفعل بكونه كفراً سهلاً؛ والتشريع من خصائص الله جلَّ في علاه؟ فأين يا سلمان تعظيم الحكم بغير ما أنزل الله؟!
ثم لا يكفي التحقيق والتوثق في تكفير الأعيان وتنزيل الأحكام عليهم؛ بل تكفير الأعيان من خصائص الراسخين في العلم وليس من شأن الأفراد؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى: ((ليس من حق كلِّ أحد أن يطلق التكفير أو أن يتكلم بالتكفير على الجماعات أو على الأفراد!!، التكفير له ضوابط فمن يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإنَّه يحكم بكفره ...، [إلى أن قال:]
فالتكفيرُ خطيرٌ ولا يجوز لكل أحد أن يتفوه به في حق غيره!!، إنَّما هذا من صلاحيات الحاكم الشرعي، ومن صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم: الذين يعرفون الإسلام، ويعرفون نواقض الإسلام، ويعرفون الأحوال، ويدرسون واقع الناس والمجتمعات؛ فهم أهل الحكم بالتكفير وغيره، أما الجهال وأما أفراد الناس وأنصاف المتعلمين فهؤلاء ليس من حقهم إطلاق التكفير على الأشخاص أو على الجماعات أو على الدول؛ لأنهم غير مؤهلين لهذا الحكم!!)) انظر كتاب [مراجعات في الفقه السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة ص 50- 51] .
وقال في ص58: ((الحكم بالردة والخروج من الدين: من صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم؛ وهم القضاة في المحاكم الشرعية والمفتون المعتبرون، وهي كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد أو من حق أنصاف المتعلمين أو المنتسبين إلى العلم الذين ينقصهم الفقه في الدين؛ ليس من صلاحياتهم أن يحكموا بالردة!!؛ لأنَّ هذا يلزم منه الفساد!!، وقد يحكمون على المسلم بالردة وهو ليس كذلك، وتكفير المسلم الذي لم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومَنْ قال لأخيه يا كافر أو فاسق وهو ليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله، فالذين يحكمون بالردة: هم القضاة الشرعيون والمفتون المعتبرون، والذين ينفذون هذا الحكم: هم ولاة أمر المسلمين، وما عدا هذا فهو فوضى)).

7. وختم سلمان جوابه بقوله منبِّهاً: ((وهذا بمعزل عن تكفير أصحاب المعاصي من الكبائر وغيرها، فإنهم لا يكفرون بمجرد المعصية ولو كانت كبيرة، إلا أنْ يستحلوا محرماً معلوماً تحريمه علماً قطعياً، فيكون كفرهم حينئذ كفر اعتقاد، ولو لم يعلموا))

كان أولى بهذا التنبيه صاحبه وبخاصة وهو القائل في شريط "جلسة على الرصيف" في مُغَنٍّ يجاهر بفسقه: ((من المجاهرة: أنَّ الإنسان يفخر بالمعصية أمام زملائه؛ يبدأ يجاهر بأنَّه فعل كذا وفعل كذا، ويبدأ يسرد قائمة من المعاصي: هذا لا يَغفر الله له إلا أن يتوب!!؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بأنه لا يُعافَى "كلّ أمتي معافى [إلا المجاهرون]".
وأخبث وأعظم من ذلك أنَّ بعضهم ... يقول: أنا لي علاقات محرَّمة وأنا لي صداقات وأنا لي أسفار؛ فهذا يتشبع بالمعصية، وبعضهم يسجل المعصية على أشرطة: ولا كرامة لهم؛ لأنَّهم مرتَدُّون بفعلهم هذا!!، يسجل كيف غرر بفتاة وارتكب معها الفاحشة وهذه رِدَّة عن الإسلام!!، هذا مخَلَّد ـ والعياذ بالله ـ في نار جهنم إلا أن يتوب!!؛ لماذا؟ لأنَّه لا يؤمن بقول الله عزَّ وجل:{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}؛ بالله عليكم الذي يَعرف أنّ الزنى حرام وفاحشة ويُسخط الله، هل يفتخر أمام الناس؟! أمام الملايين أو فئات الألوف من الناس؟! ... لا يَفعل هذا مؤمن أبدا!! ...)).
ثم دَوَّنَ سلمان العودة كلامَه هذا في كتاب له بعنوان الشريط نفسه، بل وأصرَّ عليه في شريط آخر بعد هذا عنوانه: "الشباب: أسئلة ومشكلات" وهو يتكلم عن المغنين الذين يتداول أشرطتهم بعضُ الشباب والتي تدعو للرذيلة وتغرير الشباب والفتيات فقال: ((أنا مطمئنٌّ أنَّ صاحب هذا العمل أقل ما يقال عنه: أنَّه مستخفٌّ بالذنب؛ ولا شك أنَّ الاستخفاف بالذنب – خاصة إذا كان ذنباً كبيراً ومتفق على تحريمه - : أنَّه كفر بالله!!؛ فمثل هؤلاء لا شك أنَّ عملهم هذا ردة عن الإسلام!!، أقول هذا وأنا مرتاح مطمئن القلب إلى ذلك!!)).
أقول: فسلمان العودة يعد المجاهرة بالمعاصي والمفاخرة بها وتسجيل الغناء ونشره بين الشباب ردةٌ عن الإسلام دون أدنى تردد؛ فيا تُرى كم عاصٍ يشمله هذا التكفير؟! فليهنأ أتباع سلمان به شيخاً لهم؛ فها هو يُنبِّههم أنَّ أصحابَ الكبائر لا يكفرون إلا إذا استحلوا تلك المعاصي، فإنْ استحلوها كان كفرهم كفر اعتقاد، ثم هو أوَّل المخالفين لهذا التنبيه؛ والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ.كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ))، ويقول: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)).
ومن هذا يتبيِّن لنا – بقين – أنَّ سلمان لم يُتقن مسألة الكفر الاعتقادي والعملي، وأنَّ أحكامه ومواقفه – وبخاصة في أوقاتنا المعاصرة - تُخالف ما يؤصِّله ويعتقده وفي هذا ارتباك كبير وتلون ظاهر لا يخفى إلا على متعصِّب.
وأما الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فعالم راسخ في العقيدة، ومواقفه ثابتة لا تتلون وأحكامه مستقيمة لا تضطرب، ولا يضرُّه ما قال فيه سلمان وغيره ولا ينقص ذلك من مكانته.
ومَنْ أراد أن يعرف أقوال الشيخ الألباني في مسائل الإيمان والكفر فعليه أن يرجع إلى كلامه في كتبه ومجالسه قبل أن يتفوَّه فيه بكلمة ولا يبني على ما يُنسب إليه؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى في جوابه على إثبات نسبة الأسئلة العراقية إليه: ((وَأَما الشَّيخُ الألبانيُّ - رحمهُ الله ُ- فَمَنْ أَرَادَ معرِفةَ قوْله ِ فَليَرْجِعْ إِلى ُكتُبه ِ وأشرِطَتِهِ، ولا يعتمدُ على مُجرَدِ النِّسبَة ِ إِليْهِ دُوْنَ مَا يُثبتُ ذلِكَ)).
أسأل الله تعالى أن يرحم الألباني برحمة واسعة، وأن يهدي ضال المسلمين إلى صراطه المستقيم، وأن يغفر لنا الزلات وأن يُبارك لنا الجهود والأوقات وأن يُضاعف لنا الحسنات، وأن يرزقنا الأجر والثواب، والإخلاص والسداد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

وكتبه العبد الضعيف: أبو معاذ رائد آل طاهر