بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 25 يناير 2014

بدعة الحزبية للشيخ العلامة المحدث أحمد بن يحيي النجمي رحمه الله



عـلاّمـة ومـحـدث مـنـطـقـة جـيـزان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزيرة العربية تموج بالقوميات العصبيات فكل قبيلة تقدم ولاءها وتحصر انتماءها وتخص بنصرتها أفراد تلك القبيلة حتى قال قائلهم :

وهل أنا إلا مِنْ غَزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإِنْ تُرْشَدْ غَزَيةُ أُرْشَدِ
يؤيد بعضهم بعضاً على ما يريد سواء كان حقاً أو باطلاً وينصر بعضهم بعضاً فيما يهوى سواء كان محقاً أو مبطلاً فلما جاء الإسلام أمر بالوحدة والالتئام ومنع التفرق والانقسام لأن التفرق والانقسام يؤدي إلى التصدع والانفصام لذلك فهو يرفض التحزب والانشطار في قلب الأمة المحمدية الواحدة التي تدين لربها بالوحدانية ولنبيها بالمتابعة شأنها شأن الأمم الماضية في الرسالات السابقة فقد اتفقت الرسالات السابقة جميعاً على توحيد الله الذي خلق هذا الكون وهو المالك له والمتصرف فيه وعلى الدعوة إلى وحدة الأمة في عقيدتها وعبادتها ومنهجها ووحدة المصدر الذي تتلق عنه وهو الرسول الذي تتبعه والدليل على هذا قول الله جل وعلى: (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم)) سورة الشورى آية 13-15 أي إلى توحيد الله ووحدة الأمة فادع فهو الدين الحق الذي شرعه الله عز وجل لصفوة الصفوة وهم أولو العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وما أوحينا إليك يا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات من سورة الشورى يقول الله تعالى لهذه الأمة ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك)) الشورى13 فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر بين ذلك من بقي من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت عليهم في آية الأحزاب في قوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} الأحزاب7 والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسولإلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } الأنبياء25 وفي الحديث : (( نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد)). أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: { ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاًً} المائدة48 ولهذا قال هاهنا: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الشورى13 ( أي وصى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ) تفسير ابن كثير4/110 وقال السعدي في تفسيره لهذه الآية : {أنأقيموا الدين } (أي آمركم أن تقيموا شرائع الدين أصوله وفروعه تقيمونه بأنفسكم وتجتهدون في إقامته على غيركم وتتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولا تتفرقوا فيه أي ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزاباً وشيعاً يعادي بعضكم بعضاً مع اتفاقكم في أصل دينكم) تفسير عبد الرحمن السعدي ج6/599 ومن هذا تعلم أن هذين الأصلين اتفقت عليهما الشرائع وأمر بهما جميع الرسل من لدن أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهذان الأصلان هما :
أولاً: توحيد الله عز وجل وهو إفراده بالعبادة دون سواه.
ثانيا: ً الحرص على وحدة الأمة وعدم التفرق في الدين بإقامة أسباب الائتلاف وترك أسباب الاختلاف.
ولهذا فقد ذم الله عز وجل الفرقة في غير ما آية من كتابه جل وعلا كقوله تعالى: { وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } البينة4 وقوله تعالى: { وما تفرقوا إلا بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} الشورى14 وقوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} الأنعام آية159 وقوله تعالى: { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} المؤمنون53 وقد أخبر الله عز وجل في الآية الأولى من هاتين الآيتين أن وحدة الأمة من العمل الصالح الذي أمرت به الرسل في الآية التي قبلها حيث قال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم } المؤمنون51 فيستفاد من الثلاث الآيات معاً أن العمل الصالح الذي أمرت به الرسل جميعاً ينبني على أمرين اثنين:
أولاً: توحيد الإله.
وثانياً: وحدة الأمة.
فأما توحيد الإله فحقيقته أن تصرف العبادة إلى الواحد الأحد خالق هذا الكون والمتصرف فيه.
وأما وحدة الأمة فحقيقتها أن يعبد الله بما شرعت الرسل عقيدة وعبادة وسلوكاً وأن تكون الأمة كلها كذلك ربها واحد ودينها وعقيدتها واحدة ونبيها واحد وهو الإمام الذي يسيرون على شريعته وهدفها واحد وهو إعلاء كلمة الله في أنفسهم وفي غيرهم وغايتها واحدة وهي الحصول على رضا الله والجنة والنجاة من سخطه والنار ولكن الأمم فعلوا غير ما أمروا به فتفرقوا قطعاً وتشتتوا شيعاً وكانوا أحزاباً متعادين وفرقاً متباغضين كل حزب يظن أنه على الحق وكل من سواه على الباطل وكل حزب بما لديهم فرحون، والاختلاف مذموماً لأنه مؤثر أثراً سلبياً في وحدة الأمة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيرا

في الأدلة من السنة على منع الاختلاف وذمه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: (مانهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتعم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)([1]).
قال الحافظ ابن رجب : ([2]) ((هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)([3]).
والشاهد منه النهي عن الاختلاف وهنا يعتبر نهياً شرعياً يعارضه ما أخبر الله عزوجل عنه من وقوع الاختلاف قدراً كقوله تعالى {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}([4]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هم يارسول الله؟ قال: هم الذين على مثل ما أنا عليه وأصحابي)([5]) ففي هذه الآية والحديث إخبار عن الاختلاف الكوني القدري.
ومن التحذير من الاختلاف حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي... الخ([6]).
وفي الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتتبعن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يارسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن )([7]).
وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبدالله البجلي قال: (إقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذ اختلفتم فيه فقوموا)([8]).
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: (إنما هلك من قبلكم باختلافهم في الكتاب)([9]).
وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً، قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)([10]) اهـ
وأورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } قال أمرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة.
وروى أحمد والترمذي عن الحارث الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بخمس: بالجماعة، والسمع والطاعة، والجهاد في سبيل الله، وأنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن دعى بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)([11]).
وروى الترمذي وأبوا داود والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة)([12]).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، ولا تسلموا حتى تحابوا، أفشوا السلام، تحابوا وإياكم والبغضة، فإنها هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)([13]).
وعن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (الا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)([14]).
وروى أبو داود مثل حديث معاوية حديث أبي هريرة في الافتراق افترقت اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة... الخ.
ورواه الحاكم([15]) وقال : ((صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي))، قال الألباني في الصحيحة([16]) ((قلت: وفيه نظر فإن محمد بن عمرولم يحتج به مسلم وإنما روى له متابعة وهو حسن الحديث، أما قول الكوثري عن محمد بن عمرو: إنه لا يحتج به إذا لم يتابع فهو من مغالطاته)).
قال في عون المعبود: ((قال شيخنا ألَّفَ الإمام أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث كتاباً قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد وفي تقرير الخير والشر وفي شروط النبوة والرسالة وفي موالاة الصحابة وما جرى مجرى هذه الأبواب)).

فصل
ومما سبق نعلم أن الحزبية بدعة لأن الله عزوجل ساقها مساق الذم في مواضع كثيرة من كتابه، ونهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها في أحاديث كثيرة، منها ماكتب هنا ومنها مالم يكتب وما توارد عليه كتاب ربنا وسنة نبينا من ذم التفرق والحزبية هو ماجرى عليه سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين، وإلى القارئ نبذة عنهم فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيقه، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني. وهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وهذا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة.
وقال عبدالله بن مسعود ايضاً للقوم الذين أتى عليهم في المسجد وقد تحلقوا ومعهم حصى يعدون به التسبيح والتكبير والتهليل، قال لهم: عدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيئاً، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا والله يا أبا عبدالرحمن: ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لم يصبه.
وكتب عمر بن عبدالعزيز لعدي بن أرطأة حين كتب إليه يستشيره في بعض القدرية فقال: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنته، وكُفُوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى فلئن قلتم أمر حدث بعدهم ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ورغب بنفسه عنهم إنهم لهم الاسبقون فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي. وعن مجاهد في قوله {ولا تتبعوا السبل} قالوا: البدع والمشتبهات. وعن عبدالرحمن بن مهدي قال: سئل مالك بن أنس عن السنة قال: هي مالا اسم له غير السنة وتلا {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}([17]). قال بكر بن العلاء يريد إن شاء الله حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خط له خطاً وذكر الحديث فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تختص ببدعة دون أخرى.
وعن الحسن قال خرج علينا عثمان رضي الله عنه يوماً يخطب فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أبصر أديم السماء، قال: وسمعنا صوتاً من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هذا صوت أمهات المؤمنين قال فسمعتها وهي تقول: قد برئ رسول اللهصلى الله عليه وسلم ممن فرق دينه واحتزب وتلت {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ}([18]). قال القاضي إسماعيل أحسبه يعني بقوله أم المؤمنين أم سلمة وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث وقد كانت عائشة حاجة في ذلك الوقت.
قال القاضي: ((ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية لأنهم إذا ابتدعوا تجابوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً، وخرَّج ابن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "عليكم بالعلم فإن أحدكم لايدري متى يفتقر إلى ما عنده وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق)).
والمراد بالعتيق([19]) العلم الأول الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وعنه أيضاً: القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا معشر القراء استقيموا لإن استقمتم فقد سبقتم سبقاً بعيداً ولئن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً.
وعنه أيضاً: أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أو يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون، قال سفيان: صاحب البدعة.
وخرَّج ابن وهب عن ابي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
وعن الفضيل بن عياض: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة لسالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثر الهالكين.
وعن أيوب السختياني: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً([20]).
وعن ابن المبارك قال: اعلم أي أخي أن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون فإلى الله نشكوا وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان وظهور البدع وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع([21]).
وكان إبراهيم التيمي يقول: اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ومن اتباع الهوى ومن سبل الضلالة ومن شبهات الأمور ومن الزيغ في الخصومات([22]).
ومن كلام عمر بن عبدالعزيز الذي عني به وبحفظه العلماء وكان يعجب مالكاً جداً قوله: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شئ خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وبئس المصير([23]).
وخرَّج ابن وهب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من رأى رأياً ليس في كتاب الله، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عزوجل([24]).
وعن أبي العالية ـ رحمه الله ـ قال : ((تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام ولا تحرفوا يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه... وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء))، فحدث الحسن بذلك فقال : ((رحمه الله صدق ونصح. خرجه ابن وضاح وغيره([25]) وكان مالك كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع))
في بيان مساوئ الحزبية
لقد استعرضنا بعض الآيات والأحاديث التي نهى الله فيها ورسوله عن الاختلاف والتفرق والتحزب وذم أهل هذه الصفات كقوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ}([26]) وقوله تعالى: {ولا تكونو من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً}([27]) وكقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}([28]).
وكقول النبيصلى الله عليه وسلم: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)([29]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)([30])
فهل ترى أن نهى الله عزوجل عن التفرق والتحزب والتشيع وذم أهل هذه الصفات والتحذير من طريقتهم كان عبثاً أو أنزله الله عزوجل وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ضرباً من ضروب التسلي أو ليكون حديثاً عابراً من أحاديث السمر؟ كلا. ثم كلا.. إن القرآن كله عظات وعبر وأوامر ونواهي وأخبار عن العصاة وعواقب العصيان السيئة في الدنيا والآخرة بالإخبار عما يصيبهم في الدنيا من قوارع واستئصال وما ينتظرهم في الآخرة من عذاب أليم وأنواع انتقام ونكال.
وإخبار عن المؤمنين أهل التصديق والأعمال الصالحة وما يحوزونه ويحرزونه بإيمانهم وأعمالهم ومتابعتهم للرسل من عز ونصر وفتوح وغلب وإدالة لهم على غيرهم وما سيلقونه في الآخرة من أمن واطمئنان وفرح واستبشار وعيشة راضية في جنان عالية قطوفها دانية ونعمها متوالية يبقون فيها بقاء الأبد ويخلدون فيها بلا انقطاع ولا زوال، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ما هي إلا ريحانه تهتز ونهر مطرد وثمرة ناضحة وقصر مشيد وأزواج حسان لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
وقد تبين مما ذكر أن نهي الله عزوجل عن الحزبية والتحزب والفرقة والتفرق لم يكن إلا ليعلم الله عباده بما فيها من الشر المؤكد والفشل المرتقب والعداوة المنتظرة بين من أمرهم الله عزوجل أن يكونوا أمة واحدة وحزباً واحداً يعبدون رباً واحداً ويتبعون رسولاً واحداً، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويدينون بدين واحد، وتربطهم رابطة واحدة، هي رابطة الدين ومما يؤكد هذا المعنى ويدل على أن التفرق مازال ممقوتاً ومحذوراً في كل زمان ومكان وعلى لسان كل نبي وحكيم، إخبار الله عزوجل عن هارون عليه السلام أنه قال لأخيه موسى حين عاتبه عند رجوعه من الطور فوجد قومه قد عبدوا العجل، فقال كما حكى الله عنه في سورة طه {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري، قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}([31]).
فقد حذر هارون من التفرقة وخافها على قومه وخاف أن أخاه يلومه عليها.
وروى عبدالله بن أحمد بن حنبل عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، قال ابن عباس، فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا في القرآن يومهم هذه المسارعة، قال فزجرني عمر رضي الله عنه ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئباً حزيناً، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي فخلا بي فقال: مالذي كرهت مما قال الرجل آنفاً، فقلت يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا، ومتى يحتقوا يختصموا ومتى يختصموا يختلفوا، ومتى يختلفوا يقتتلوا، قال لله أبوك إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها([32]).
قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة إن الاختلاف الذي خافه عبدالله بن عباس ووافقه عليه عمر رضي الله عنهماعلى أمة محمد قد وقع ثم وقع ثم وقع وما تفرقت أمة محمد شيعاً وأحزاباً كمن سبقهم إلا بسبب الاختلاف، وكان أول خلاف وقع في هذه الأمة هو خلاف الخوارج ثم خلاف الروافض بقيادة زعيمهم عبدالله بن السوداء الذي زعم لهم أن علياً لم يمت وأنه في السحاب ثم خلاف القدرية ثم المعتزلة ثم المرجئة ثم الجهمية.
والشاهد من هذا الأثر أن المحاقة موجبة للاختلاف، ومعنى المحاقة: أن كل واحد من المتخاصمين يقول الحق معي، وهي معنىقوله يحتقوا، ومتى يحتقوا يختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا، إما بالألسن والأقلام وإما بالأيدي والسيوف، وما كتابتك هذه إلا من حصاد الاختلاف وشؤم الحزبية التي نهى الشرع([33]) عنها وما زال المحققون من أهل العلم ينهون عنها في كل زمان ومكان ينهون عنها لما يعلمون فيها من نتائج سيئة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: "وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِ والتَّقوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلى الإثم والعدوَان} وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً واليا، ومن خالفهم عدوَّا باغيا، بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ويفعلوا ما أمر الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله، فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره، وإن كان ظالماً لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه كما ثبت في الصحيح أنه قال:
(
انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: يا رسول الله: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟. قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه).
وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر، فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوىأن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً}([34]).
يقال لوى لسانه إذا أخبر بالكذب والاعراض أن يكتم الحق فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ومن مال مع صاحبه ـ سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله؛ بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء، فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه.
فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده، وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم، فإن الله تعالى يقول:
{
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}
وقال تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءتهم البينات}.
وإذا كان الرجل قد علمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره،ـ ثم ساق كلاماً في هذا المعنى ـ ثم قال: وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى لم يكن أحد مع أحد في كل شئ بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله ؛ بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم، وكل ما يحبه الله ورسوله، ولا يتعاونون على ظلم ولا عصبية جاهلية ولا اتباع هوى بدون هدى من الله ولا تفرق ولا اختلاف"([35])
فدونك هذا المقطع من كلام هذا الحبر العظيم والمربي الماهر والعالم المحقق العارف بالسنة وما ينافيها والبدعة ما يدانيها ويدخل فيها.
تأمل كلامه ترى فيه التحذير من الانتماءات والحزبيات لما فيها من التنافر والافتراق والتشتت والانقسام المؤدي إلى التباغض والشقاق.
وبارك الله في الشيخ بكر بن عبدالله أبي زيد فلقد كتب عن مضار الحزبية وعيوبها وسلبياتها ما يزيد على أربعين مضرة.
وسأسجل في هذه العجالة ما يسره الله لي وعليه التكلان.
أولاً: أن الحزبية بدعة منكرة لما سبرناه من النهي عنها في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكلام السلف رضوان الله عليهم.
ثانياً: ذم الله عزوجل الحزبية والتحزب وذمها رسوله صلى الله عليه وسلم وذمها سلف الأمة الذين عرفوا الإسلام معرفة حقيقية لأنها خروج على وحدة الأمة الإٍسلامية التي أمرها الله عزوجل أن تكون أمة واحدة فقال: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}([36]) وانقسام منها وتجزأة لها ومساهمة في إضعافها.
ثالثاً: أن المنتمين إلى الحزبيات والأحزاب يجعلون حزبهم هو محور الولاء والبراء والحب والعداء وذلك مشاقة لله ولرسوله ومحادة لله ولرسوله حيث جعل الله عزوجل محور الولاء والبراء هو الإيمان بالله ورسوله قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}([37]).
ثم يأتي قائد جماعة في فكر معاصر فيقعد قاعدة تتنافى مع هذه الآية وما في معناها من آيات الولاء والبراء فيقول: (نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في حكم الانتماء: ((وهذا تقعيد حادث فاسد إذ لا عذر لمن خالف في قواطع الأحكام فإنه بإجماع المسلمين لا يسوغ العذر ولا التنازل عن مسلمات الاعتقاد، وكم من فرقة تنبذ أصلاً شرعياً وتجادل دونه بالباطل)) اهـ
قلت: هذا هو الفهم للإسلام لا ما سلكه بعض الزعماء في العمل الإسلامي من سياسة التجميع والتكثير لقوم عقائدهم مختلفة واتجاهاتهم متباية وقناعاتهم متضادة فماذا كان إنهم مازالوا منذ ما يقارب تسعين سنة يدورون في حلقة مفرغة.
رابعاً: يلزم من الحزبية اتخاذ المبتدعين أئمة يحتذى قولهم ويقتدى بأفعالهم ويتخذون قدوة وأسوة، ويكون قولهم وتقعيدهم وتنظيرهم مسلماً، وإن خالف الحق، وتلك هي قاصمة الظهر والله.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}([38]) وسبب نزول هذه الآية وما بعدها: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما تماريا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم وفد تميم فيمن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأشار أبو بكر بالأقرع بن حابس وأشار عمر بالقعقاع بن معبد بن زرارة فقال أبو بكر لعمر ما اردت إلا خلافي، وقال عمر ما أردت خلافك، فتماريا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله عزوجل: {يا أيها الذين آمنوالا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
فأدب الله عزوجل عباده المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله.
روى البخاري في صحيحه عن مجاهد تعليقاً: "لا تقدموا: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه. قال الحافظ وصله عبد بن حميد من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد"اهـ.
وقد أدب الله عباده المؤمنين أن يقدموا آرائهم على حكمه وأقوالهم على قوله أو يقدموا أحداً سوى أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدموا حكمه على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله على قوله أو هديه على هديه وقد توعد الله عزوجل من فعل ذلك بإحباط العمل لهذا فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة أنه قال كاد الخيران أن يهلكا.
قلت: ليت من يتخذون فلاناً وعلاناً قدوة لهم يأخذون أقوالهم بلا دليل ويجعلونها أصولاً يبنى عليها يراجعون أمرهم قبل فوات الأوان وقبل أن يأتي تأويل قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً}([39]) وهاتين الآيتين وإن كانت قد نزلت فيمن رفض شرعه رفضاً كلياً إلا أن من رفض بعض شرعه رفضاً جزئياً سيناله نصيب منها ولا سيما إذا كان المرفوض هو من أصول الدين وقواعده أو قل: هي الأسس والقواعد التي يكون منها المبدأ وعليها المدار ومن خلالها المنطلق. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبإلقاء نظرة على الفئات المبتدعة نراهم جميعاً قد اتفقوا كلهم على شئ واحد وإن اختلفت مشاربهم وتباينت عقائدهم اتفقوا كلهم على نبذهم الكتاب والسنة التي أمر الله باتباعها وجعل النجاة في اقتفائها، فقال جل من قائل: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنواعنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين}([40]).
فأصحاب الحزبيات والعقائد المبتدعة قد اتفقوا على نبذ السنن وجعلوا تأصيلات شيوخهم هي الأصل فمثلاً المعتزلة قد عطلوا القدر وأنكروا رؤية الله في الآخرة وزعموا أن القرآن مخلوق مستندين في ذلك إلى ما أصله شيوخهم.
والجهمية عطلوا الصفات الثابتة في الكتاب والسنة فراراً من لزوم المشابهة بين الخالق والمخلوق كما زعموا، وقل في لأشاعرة وفي سائر الطوائف المبتدعة مثل ذلك، وإذا نظرت إلى السبب الذي من أجله ردوا النصوص تجد أنها هي الشبهة التي أخذوها عن شيوخهم وزعمهم أن شيوخهم أعلم بالحق منهم وهكذا الأحزاب المعاصرة إذا سبرنا حالهم نجد أن السبب عندهم هو السبب الذي حمل المعتزلة والخوارج والجهمية والأشعرية على أخذهم تقعيد شيوخهم على أنه هو الأصل وما عداه فمشكوك فيه يتبين ذلك من الاتي:
خامساً: أن الحزبية تقوم على التسليم بآراء الجماعة وتوزيعها ونشرها وجعلها قطعية الثبوت غير قابلة للنقد ولا للنقاش، فالمؤسسون لها أجل من أن ينتقدوا، وأكبر من أن يخطئوا في نظر أتباعهم فيتخذونهم بذلك أرباباً ومشرعين وينطبق عليهم قول الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}([41]).
وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ـ وذلك حين قدم عليه أول قدمة ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله...} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. قال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فتلك عبادتهم إياهم)([42])
ولقد خبرنا أصحاب الحزبيات خبرة تجربة ومعرفة لواقعهم بسبب احتكاكنا بهم فوجدناهم يأخذون ما جاء من قادة حزبهم ومؤسسيه والمنظرين فيه بمنظار الحصانة عن النقد ولو انتقد أحد من خارج حزبهم عادوه وجعلوا نقده ظلماً وتجنياً حتى ولو كان نقداً في الصميم، وأذكر بهذه المناسبة أنه لما انتشر كتاب (وقفات مع كتاب للدعاة فقط) لمحمد بن سيف العجمي أخذت نسخة منه وأعطيتها لواحد من المنتمين إلى جماعة الإخوان رجاء أن يتأثر به ويرى ما فيه من نقد للاتجاه الإخواني مدعماً بأرقام من كتبهم، ولما ناولته علقت عليه تعليقة بسيطة مثنياً على صاحب الكتاب أنه بذل جهداً في تتبع أخطاء الإخوان من كتبهم وبالأخص الأخطاء في العقيدة مبيناً اسم الكتاب الذي وردت فيه ورقم الصفحة، لكن الرجل عبس وبسر، وقلب في النظر، مستغرباً للأمر الذي بدر، وأخذ يحاورني في المنهج الإخواني قليلاً ثم ذهب.. وبعد بضع سنوات ظهر كتاب (جلسات) لجاسم مهلهل فوصلت إليَّ نسخة منه فقرأتها متأملاً ومستغرباً هل سيرد على العجمي شيئاً من ذلك الكلام، وتلك الأرقام ويكذبه فيه، ولكني بعد أن قرأت كتاب جلسات من فاتحته إلى خاتمته لم أره رد شيئاً من الحقائق التي ساقها محمد بن سيف العجمي جزاه الله خيراً.
وبعد ذلك لقيت صاحبي الذي شمخر من كتاب وقفات لكونه نقد رؤسائهم فيما كتبوا وبيده بضع نسخ من كتاب جلسات يوزعها فناولني نسخة منها وهو يضحك فرحاً وسروراً يكاد يطير فرحاً، وظن أنها لم تصلني، وحسب أنهم انتصروا على العجمي، فقلت في نفسي: قاتل الله الجهل.
أقول: هذا وأنا لا أعرف العجمي ولا المهلهل، ولكني عرفت الحق والحمد لله.
وقد أخبرني رئيسه فيما بعد ولم يسمه، فقال أعطيت أحد الإخوان نسخة من كتاب (وقفات) فجاء بها إلي وقال: هذا الكتاب أعطاني فلان ولم أقرأه وأُأَكد أن الرئيس والمرؤوس كلاهما من طلابي فبدل ما يأخذون كتاب العجمي والمهلهل ويأتون بهما إلي ويستشيروني فيهما بدلاً من هذا وقفوا من كتاب العجمي موقف العداء، لأول مرة وأخذوا كتاب المهلهل على أنه الحق الذي لا شك فيه، وإذا نظرنا في السبب الحامل لهم على ذلك لا نجد شيئاً سوى أن هذا يتخاطب معهم من داخل دائرة الحزب، وذلك يتخاطب معهم من خارجها، وما جاء من داخل الحزب فهو الحق عندهم الذي لا شك فيه يجب أن نغمض أعيننا ونأخذه كما نأخذ الدواء معتقدين فيه النفع وإن كان مراً، فالحزبية تجعل المر حلواً، والباطل حقاً، وهذا أكبر دليل على أن الحزبية شر وأي شر.
وليعلم الذين يقولون: إن الإخوانيين في المملكة غير الإخوانيين في مصر والشام وغيرهما لأن هؤلاء درسوا التوحيد في المدارس والمعاهد والكليات منذ نعومة أظفارهم وإلى أن تخرجوا، وقد كنا نصدق هذا الكلام إلى حد كبير، ونقول إن الذين غذوا بالتوحيد من الصغر لا يمكن أن يفرطوا فيه مهما كان الأمر، ولكن لما رأينا موقف الإخوانيين من كتاب الوقفات الذي جمعه صاحبه من بطون كتب الإخوان غيرة على التوحيد وغيرة على الدعوة أن يتبناها من هو غارق في الشركيات والبدعيات ويغتر الناس به نظن ظناً يشبه اليقين أن هذه هي الدوافع إلى ما كتب وبدلاً من أن يشكره هؤلاء الموحدون ويثنوا عليه بعمله العظيم وجهده المضني من أجل بيان الحق بدلاً من ذلك تنكروا له وأبغضوا حتى من وزع كتابه وإن كان له عليهم حق الأستاذية والمربي فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومع أن أخطاء هؤلاء في العقيدة ؛ بل بعضها يهدم الإسلام بالكلية كمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن يزعم أن دعوة أصحاب الأضرحة والاستغاثة بهم تذوق ومن يثني على الطريقة الرفاعية ويقول: إن المنتمين إليها يضرب أحدهم بالشيش من ظهره حتى يخرج من صدره فلا يضره، سبحان الله. النبي الكريم وخاتم الرسل وأفضل الخلق عند الله وأقربهم إليه وسيلة وأعلاهم عنده مقاماً يضرب يوم أحد على رأسه فتغوص حلقتا المغفر في وجنتيه فسال الدم وقال كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم فأنزل الله عزوجل: {ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}([43]).
أما أصحاب الطريقة الرفاعية فيضرب بالشيش في ظهره حتى ينفذ من صدره فلا يضره أهذا منطق داعية ومؤلف ومنظر أو منطق شيطان مضل يريد أن يضل الناس يفضل أصحاب الطرق المنحرفة على رسول اللهصلى الله عليه وسلم فأقول أين الغيرة على التوحيد من هؤلاء الذين درسوه منذ نعومة أظفارهم وأين الولاء والبراء الذي هو من أسس الإيمان وقواعده حتى نفي الله عزوجل الإيمان عمن يوالي أعداءه ويوادهم، وأتوقع أن الذين يعتنقون المنهج الإخواني سيقولون أن الذين نتولاهم من خيرة المسلمين، فقد بذلوا جهداً مضنياً في الدعوة إلى الله فوقفوا في وجه المد الشيوعي الناصري رغم ما لاقوه من تعذيب وقتل وتشريد، وأقول إن أي دعوة لا تكون مبنية على الأسس والقواعد التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي غير مرضية عند الله عزوجل حسب ما علمنا من شرعه المطهر الذي جاءت به المصادر الشرعية من كتاب وسنة، وقد قال عزوجل منوهاً بذلك في كتابه {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}([44]).
فالضمير في {قل} يعود على النبي صلى الله عليه وسلم قل يا محمد هذه سبيلي هذه طريقي فالإشارة إلى ما كان يسير عليه في دعوته وهي طريقته التي مشى عليها في دعوته حيث دعا إلى نبذ جميع الآلهة التي تعبد مع الله عزوجل.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية من تفسيره: ((يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل } يا محمد {هذه} الدعوة التي أدعوا إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته {سبيلي} وطريقتي ودعوتي {أدعوا إلى الله } وحده لا شريك له {على بصيرة} بذلك ويقين علم مني {أنا و} يدعوا إليه على بصيرة أيضاً {من اتبعني} وصدقني وآمن بي))([45]) اهـ.
فتبين من هذا أن الإشارة إلى الطريقة التي سار عليها في دعوته صلى الله عليه وسلم من نبذ جميع الآلهة التي تعبد مع الله عزوجل فمن اتخذ لنفسه طريقاً غير طريقة النبي صلى الله عليه وسلم فتغاضى عن الوثنية القائمة وظن أن من يتطوفون بالأضرحة ويذبحون لها ويدعون أصحابها معتقدين فيهم القدرة على مالا يقدر عليه إلا الله عزوجل فاعتقد أنهم مسلمون فإن دعوته هذه باطلة من أساسها ومردودة عليه، دليلنا على ذلك قول الله {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً }([46]).
وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}([47]) إن أول شئ يجب أن يطاع فيه هي طريقة الدعوة إلى الله وكم في القرآن من آيات عالجت الشرك وفندت مزاعم المشركين وبينت بطلانها.
وإن ثناء المؤسس للمنهج الإخواني على المرغني وهو أحد أقطاب الصوفية القائلين بوحدة الوجود وتغاضيه عن الأضرحة القائمة في مصر، بل ومحاضرته في بعضها وتبنيه لدعوة التقريب بين أهل السنة والشيعة لأعظم دليل على أن دعوته بعيدة كل البعد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل يجب أن نقول إنها مناقضة لها وسأنقل في المآخذ على الإخوان ما يبين ذلك.
وأخيراً فإن إقرار الوثنية أمر يهدم كل عمل ويجعل كل جهد ولو كان محاربة للشيوعية غير مقبول عند الله لأن الله لا يقبل من أعمال العباد إلا ما كان خالصاً له صواباً على طريقة نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}([48]).
فهل فهم هؤلاء أنهم قد أعطوا قيادهم لمن لا يجوز أن يعطوه له وبالله التوفيق.
سادساً: وإذا كانت الحزبية سبباً للفرقة والفرقة أول معول يضرب في وحدة الأمة وتماسكها فإن تعدد الأحزاب سبب في تعدد مناهجها الفكرية وتعدد المناهج الفكرية سبب في اضطراب الأحزاب، والاضطراب سبب في الهزائم التي تحل بالمسلمين، وهل يمكن لأمة منقسمة على نفسها أن تصمد أمام العدو؟.
سابعاً: ومن مضار الحزبية أن أداء الشعائر التعبدية المأمور بها شرعاً يتحول الأداء فيها من واجب تعبدي إلى واجب حزبي فيخدش الإخلاص إن لم يهدمه ويكون الملاحظ في الأداء هو إرضاء الحزب لا إرضاء الله.
ثامناً: أنه إذا أمر قائد الحزب بالحرص على أي عمل مستحب وأكد عليه بالغ التابعون حتى يحولوه إلى واجب فيصير المستحب واجباً عند المتحزبين فيه وبذلك يكونون قد جعلوا له حكماً غير الحكم الشرعي الذي وضعه الله ورسوله.
تاسعاً: ومن مساوئ الحزبية الإنقسام، فربما انقسم الحزب إلى حزبين أو أحزاباً كما يقال عن الجرثومة أنها تنشطر، ثم الشطر ينشطر وهكذا، أما الجماعة السلفية أتباع السنة المحمدية فهم مازالوا منذ بزوغ فجر الإسلام على عقيدة واحدة إلى يومنا هذا، أما الاختلاف في الفروع فهو أمر مسلم به وقد حصل بين الصحابة والتابعين ولم يؤد إلى خلاف ولا تباغض ولا تناحر ولا تقاتل، فافهم رعاك الله وحماك من شر الحزبية ووفقك للأخذ بالطريقة السلفية فهي النجاة، نسأل الله أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن إمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجه واقتفى أثره من أئمة الهدى وحملة الحديث رضي الله عنهم أجمعين.


ليست هناك تعليقات: