بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 22 يونيو 2015

نصيحة إلى أئمة المساجد والمؤذِّنين


عون الخالِق في تحقيق مسألة وقت الفجر الصادِق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثر سنته وعمل بهداه إلى يوم الدين يوم نلقاه؛ أما بعد:
فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ)).
ومعنى (الإمام ضامن) أي يحفظ ويرعى صلاة المأمومين على أحسن وجه، ويتكفل عنهم ما يحصل في الصلاة من إساءة؛ يوضح ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإمام ضامن؛ فإنْ أحسن فله ولهم، وإنْ أساء فعليه ولا عليهم)).
ومعنى (والمؤذِّن مؤتمَن) أي أمين على مواقيت الصلاة والصيام؛ لأنَّ الناس يعتمدون عليه في ذلك ويطمئنون ويثقون به.
ولما كانت الإمامة في الصلاة تحتاج إلى علم بكيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لذا دعا لهم بالرشد الذي هو إصابة الحق، بينما لما كان حال المؤذن لا ينجو من قصور غير متعمَّد إما في تقديم الوقت أو في تأخيره لذا دعا لهم بالمغفرة؛ فالواجب على الإمام أن يتعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ويحرص على العمل به على قدر ما يستطيع، كما أنَّ الواجب على المؤذن أن يعرف العلامات التي يدخل فيها وقت الصلوات الخمس بالإضافة إلى تعلم صيغة الأذان الشرعي.  
واليوم كما أنَّ كثيراً من الناس قد تقدَّموا إلى الإمامة في الصلاة وهم لا يعرفون صفتها الشرعية وإنما يصلونها على ما اعتادوا عليه مع الأخطاء التي قد تبطل بها الصلاة أو قد تنقص، فكذلك كثير من المؤذنين قد تقدَّموا إلى الأذان وهم لا يعرفون علامات دخول الوقت بل يعتمدون على ورقةٍ خُصِّصت لمواقيت الصلاة لكل شهر!، بل ولكلِّ سنة!!، بل لعدة سنوات!!!؛ وهذه المواقيت تصدر من هيئة أو لجنة رسمية موكَّلة بذلك.
فهؤلاء المؤذِّنون لا يعتمدون لمعرفة مواقيت الصلاة على النظر إلى الأوصاف التي ذُكرت في الأحاديث الصحيحة مع أنَّهم مؤتمنون؛ ولهذا نراهم في بعض الصلوات يؤذِّنون إما قبل الوقت وإما بعد الوقت، ولعلَّ أثر ذلك على الذين يصلُّون في المساجد لا يظهر، ولكنَّه ظاهر على مَنْ يُصلي في بيته من أهل الأعذار.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى [الشرح الممتع 1/ 339 -340]: ((والعِلْمُ بالوقت يكون بالعلامات التي جعلها الشَّارع علامة، فالظُّهر بزوال الشَّمس، والعصر بصيرورة ظلِّ كُلِّ شيءٍ مثله بعد فيء الزَّوال، والمغرب بغروب الشَّمس، والعِشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، والفجر بطلوع الفجر الثَّاني. وهذه العلامات أصبحت في وقتنا علامات خفيَّة؛ لعدم الاعتناء بها عند كثير من النَّاس، وأصبح النَّاس يعتمدون على التقاويم والسَّاعات!!.
ولكن هذه التقاويم تختلف؛ فأحياناً يكون بين الواحد والآخر إلى ست دقائق، وهذه ليست هيِّنة ولا سيَّما في أذان الفجر وأذان المغرب؛ لأنَّهما يتعلَّق بهما الصِّيام، مع أنَّ كلَّ الأوقات يجب فيها التَّحري.
فإذا اختلف تقويمان وكلٌّ منهما صادرٌ عن أهلٍ وعالمٍ بالوقت؛ فإننا نُقدِّم المتأخِّر في كلِّ الأوقات، لأنَّ الأصل عدم دخول الوقت، مع أنَّ كُلاً من التَّقويمين صادر عن أهلٍ، وقد نصَّ الفقهاء رحمهم الله على مثل هذا فقالوا: لو قال لرَجُلين ارْقُبَا لي الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجرُ، وقال الثاني: لم يطلع؛ فنأخذ بالقول الثَّاني، فله أن يأكلَ ويشرب حتى يتَّفقا بأن يقول الثَّاني: طلع الفجر؛ وأنا شخصياً آخذ بالمتأخِّر من التقويمين، أما إذا كان أحد التقويمين صادراً عن أعلم أو أوثق فإنَّه يُقدَّم)).
ولهذا كان لا بدَّ من معرفة علامات دخول وخروج وقت الصلاة كما كان سلفنا يعرفها، ولا ينبغي أن يعتمد المؤذن على هذه التقاويم التي أُحدِثت في عصرنا هذا؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 9/ 215]: ((قد بيَّنا أنَّ شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء  يتعلم من غير المسلمين أصلاً وإنْ كان طريقاً صحيحاً، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق.
وهكذا كل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال؛ فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر، وإنْ كان كثير من الناس قد أحدثوا طُرقاً أُخر، وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها؛ وهذا من جهلهم)).
ومن هذه الطرق التي أحدثها الناس لمعرفة مواقيت الصلاة: النظر بالمجهر الفلكي بالاعتماد على الخبراء الفلكيين والجغرافيين، فيُحددون موقع البلد ثم يرصدون درجة قرب الشمس من الأفق ثم يسجلون حسابات يومية لتحديد مواقيت الصلوات الخمس، ثم توضع هذه الحسابات في رزنامة شهرية أو سنوية وتوزع على المساجد ويعتمد عليها المؤذنون؛ وهي طريقة غير إسلامية.
والمجهر الفلكي – كما لا يخفى على أحد – يُقرِّب الأشياء، فتُرى فيه الأشياء البعيدة بالعين المجردة قريبة بالمجهر، ونحن مأمورون أن نرى بالعين المجردة ولا نعتمد على الحسابات، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، والشهر هكذا وهكذا، وهكذا)) قال الراوي: يعني تسعاً وعشرين أو ثلاثين، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين؛ فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإنْ غمَّ عليكم فأكملوا العدة)) فعلَّق معرفة بدأ الشهر برؤية الهلال بالعين المجردة.
وهذه هي أصل المشكلة في اختلاف الأذان بين المساجد، فنجد – مثلاً - مسجداً يعتمد أهله فيه على التقويم الفلكي فيؤذنون قبل دخول الوقت!!، ونجد مسجداً لا يعتمدون على ذلك التقويم؛ بل يعتمدون على التقويم الشرعي المستند على الرؤية بالعين المجردة لعلامات دخول الوقت فيتأخرون عن المساجد التي تعتمد على التقويم الفلكي؛ وخير الهدي هدي نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، والله تعالى يقول: ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ))؟.
ومشكلة اختلاف أذان الفجر بين المساجد راجعة إلى ذلك الأمر نفسه، ويُضاف إلى ذلك أنَّ الفلكيين لا يُميزون بين الفجر الأول (الكاذب) وبين الفجر الثاني (الصادق)، ويظنون أنَّ الفجر واحد، ولهذا لا يضعون حسابات للفجر الأول في التقويم!!، وعندهم أنَّ وقت الفجر يدخل برؤية أول ومضة من بياض النهار في الأفق، وهذا غلط، وهو مصادم لما جاءت به النصوص.
فالله عزَّ وجل يقول في محكم التنزيل: ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) فهناك خيطان: أسود، وأبيض، الأسود هو آخر الليل وهو الفجر الأول، والأبيض هو أول النهار وهو الفجر الثاني، ولا يثبت وقت الفجر الثاني حتى يتبين البياض في الأفق، فيظهر للناس بوضوح، فإذا كان بمجرد رؤية أول ومضة فلا يُمكن أن يتبين لنا، بل لا يتبين حتى ينتشر البياض على طول الأفق من جهة الشرق، روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أربعة روايات عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   - ((لا يغرنَّ أحدكم نداءُ بلال من السحور، ولا هذا البياض؛ حتى يستطير)).
- ((لا يغرنَّكم أذان بلال، ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير هكذا)).
- ((لا يغرنَّكم من سحوركم أذانُ بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا؛ حتى يستطير هكذا)) وحكاه راوي الحديث بيديه قال: يعني معترضاً. - ((لا يغرنكم نداءُ بلال، ولا هذا البياض؛ حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر)).
وعند الإمامين أحمد والترمذي رحمهما الله تعالى بلفظ: ((لا يمنعنَّكم من سحوركم أذانُ بلال، ولا الفجر المستطيل؛ ولكن الفجر المستطير في الأفق)).
فالبياض الذي يظهر من جهة الشرق بعد انتهاء ظلمة الليل نوعان:
-       بياض مستطيل؛ كالعمود طولاً، يبدأ من نقطة في الشرق ويتجه نحو الغرب، وهو قصير ولا يدوم.   
-       وبياض مستطير؛ ينتشر في الأفق عرضاً كالطير الذي يمد جناحيه، يبدأ من الجنوب ويتجه نحو الشمال أو بالعكس لا يختلف، وهو طويل على طول الأفق، ويزداد تدريجياً حتى يتضح النهار وينفجر ضوءه.
والفلكيون يُحددون الفجر عند ظهور البياض الأول كما سيأتي بيانه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حدده بالبياض الثاني؛ فبأيهما نأخذ يا أهل الإيمان؟!!
بل إنَّ الأمة الإسلامية أجمعت على أنَّ وقت الفجر يبدأ بطلوع البياض وانتشاره في الأفق؛ وممن نقل الإجماع الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه التمهيد [3/ 275] حيث قال: ((أجمع العلماء على أنَّ أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تبين طلوعه؛ وهو البياض المنتشر من أفق المشرق، والذي لا ظلمة بعده))، وقال: ((وأجمعوا أنَّ أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وانصداعه؛ وهو البياض المعترض في أفق السماء، وهو الفجر الثاني الذي ينتشر ويطير)) [التمهيد 8/ 94]
والبعض يجهل أنَّ للفجر أذانين، وقد أخرج الإمام ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفجر فجران؛ فأما الأول: فإنه لا يحرم الطعام ولا يحل الصلاة، و أما الثاني فإنه يحرم الطعام ويحل الصلاة)) وفي حديث آخر: ((الفجر فجران؛ فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام)).
فالفجر الأول لا يُحرَّم الطعام للصائم ولا يُحل له صلاة الفجر، والثاني يبدأ به وقت الإمساك ويدخل فيه صلاة الفجر.
وقد ادَّعى البعض أنَّ الفجر الأول لا يشرع إلا في رمضان، يعني في رمضان: يكون للفجر أذانان، أما باقي شهور السنة فيكون فيه أذان واحد، وهذا لم يقل به إلا ابن القطان رحمه الله تعالى، وقد خالف به الناس؛ كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح.
والبعض يستدل لذلك بأنَّ النصوص قد وردت مقيدة بالأكل والشرب أو بالسحور أو بالصيام والقيام؛ وهذا مردود.
لأنَّ الأذان الأول للفجر شُرِّع من أجل حكمة؛ وهي: لإيقاظ النائم الذي عزم على الصوم ليدرك السحور، ولإرجاع القائم حتى يعود إلى الراحة قبل الانشغال بصلاة الفجر، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنعنَّ أحدَكم أو أحداً منكم أذانُ بلال من سحوره فإنه يؤذِّن أو ينادي بليل: ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر أو الصبح)) وقال بأصابعه: ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل، ((حتى يقول هكذا)) وقال زهير راوي الحديث: بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدها عن يمينه وشماله.
ومن المعلوم أنَّ الصيام والقيام لا يختصان في رمضان!!، بل القيام في كل أيام السنة، والصيام هناك صيام النوافل وهي كثيرة، كصيام يوم وإفطار يوم، وصوم يومي الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الأيام البيض، وصيام ستة شوال، والتسعة الأولى من ذي الحجة، وأكثر شعبان وشهر الله المحرَّم، وعاشوراء، وعرفة، فكذلك يحتاج الصائم والقائم في غير رمضان إلى أذان الفجر الأول، وهذا واضح.
ثم أنَّ أهل التفاسير جميعاً نصَّوا على أنَّ دليل وقت صلاة الفجر هو قوله تعالى: ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ))، وهي مقيدة بالأكل والشرب كذلك!، بل هي واردة في آيات صيام رمضان!!، فهل يُقال: أنَّ صلاة الفجر لا تشرع إلا في رمضان كما قلتم أنَّ أذان الفجر لا يشرع إلا في رمضان؟!!!
ثم أنه قد أخرج الحاكم والبيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفجر فجران؛ فجر يقال له ذنب السرحان وهو الكاذب يذهب طولاً ولا يذهب عرضاً، والفجر الآخر يذهب عرضاً ولا يذهب طولاً))، وليس فيه تقييد بالأكل والشرب أو بالصيام والقيام.
والبعض يقول نحتاط فنجعل الأذان الثاني قبل أن يدخل الوقت لئلا يبقى الناس يتسحرون بعد دخول الوقت فيبطل صيامهم؛ وابتدعوا ما يُسمَّى بـ((وقت الإمساك)) في تقويم رمضان!!.
والجواب: أنَّ صلاة الفجر تدخل بأذان الفجر الثاني، فلو أذَّن المؤذن قبل الوقت فأمسك الناس عن الطعام وشرعوا بالصلاة لبطلت صلاتهم، والصلاة عمود الإسلام، وأعظم من الصيام بالنص والإجماع، فلماذا لا يقال العكس: نحتاط لصلاة الفجر فنتأخر حتى يدخل وقتها بيقين؟!
ثم أنَّ الله عزَّ وجل رخص لعباده أن يأكلوا إلى أن يسمعوا الأذان الثاني، بل ولو سمع أحدُهم المؤذنَ يؤذن الأذان الثاني وفي يده إناء يأكل منه فلا يتركه حتى يقضي منه حاجته؛ أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع النداءَ أحدُكم والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)).
وقد علَّق الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في تمام المِنَّة [ص417-418] على هذا الحديث بقوله: ((وفيه دليل على أنَّ مَنْ طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده أنه يجوز له أن لا يضعه حتى يأخذ حاجته منه؛ فهذه الصورة مستثناة من الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، فلا تعارض بينها وما في معناها من الأحاديث وبين هذا الحديث، ولا إجماع يعارضه؛ بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى أكثر مما أفاده الحديث وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر وينتشر البياض في الطرق راجع الفتح [4/  109-110]،لأنَّ من فوائد هذا الحديث: إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة!!، لأنهم إنما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحَّرون، ولو علِموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة، فتأمَّل)).
بل إنَّ كثيراً من سلف الأمة كانوا يتأخرون في سحورهم حتى يتضح لهم الفجر وينتشر؛ ويستدلون بحديثين:
1- عن قيس بن طلق حدثني أبي طلق بن علي رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلوا واشربوا ولا يهيدنَّكم الساطع المصعَّد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر)) رواه الترمذي وقال بعده: ((والعمل على هذا عند أهل العلم أنه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض؛ وبه يقول عامة أهل العلم))، وعند أحمد بلفظ: ((ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر))، وعند ابن خزيمة: ((كلوا واشربوا ولا يغرنَّكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر))، ومعنى: (ولا يهيدنكم) أي: لا يزعجنَّكم فتمتنعوا عن السحور، و(الساطع المصعَّد) أي: الصبح الذي أول ما ينشق يسطع مرتفعاً طولاً قبل أن يعترض ممتداً بالأفق.
ومن المعلوم أنَّ الحمرة إنما تظهر من جهة الأفق بعد تتـام البياض وانتشار الضوء، حيث تخف ظلمة الليل من جهة الشرق أولاً، ثم يسطع شيء رقيق من البياض من بقايا تلك الظلمة مرتفعاً طولاً، ثم يختفي، ثم ينتشر الضوء في الأفق، ثم يزداد بياضه حتى تشوبه حمرة؛ وهذا هو الفجر الثاني.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلَّى [3/ 192]: ((والفجر الأول: هو المستطيل المستدق صاعداً في الفلك كذنب السرحان، وتحدث بعده ظلمة في الأفق؛ لا يحرم الأكل ولا الشرب على الصائم ولا يدخل به وقت صلاة الصبح؛ هذا لا خلاف فيه من أحد من الأمة كلها. والآخر: هو البياض الذي يأخذ في عرض السماء في أفق المشرق في موضع طلوع الشمس في كل زمان ينتقل بانتقالها، وهو مقدمة ضوئها، ويزداد بياضه، وربما كان فيه توريد بحمرة بديعة؛ وبتبينه يدخل وقت الصوم ووقت الأذان لصلاة الصبح ووقت صلاتها)).
وقال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: ((سطوعه ارتفاعه مصعَّداً قبل أن يعترض؛ قال: ومعنى الأحمر هاهنا أن يستبطن البياضَ المعترض أوائلُ حمرة؛ وذلك أنَّ البياض إذا تتام طلوعه ظهرت أوائل الحمرة، والعرب تشبِّه الصبح بالبلق من الخيل؛ لما فيه من بياض وحمرة)) نقلاً عن عون المعبود [6/ 339].
وقال العلامة الفقيه ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني [1/ 429]: ((وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إجماعاً، وقد دلَّت عليه أخبار المواقيت؛ وهو البياض المستطير المنتشر في الأفق، ويسمى الفجر الصادق: لأنه صدقك عن الصبح وبيَّنه لك، والصبح ما جمع بياضاً وحمرة، ومنه سُمي الرجل الذي في لونه بياض وحمرة: أصبح. فأما الفجر الأول فهو البياض المُستَدِقُّ صعداً من غير اعتراض، فلا يتعلق به حكم؛ ويسمى الفجر الكاذب)). ويقصد بـ(المستدق): الذي صار دقيقاً رقيقاً أي ناعماً.
وقال العلامة المفسِّر الآلوسي رحمه الله تعالى في روح المعاني [30/ 59]: ((الفجر الثاني الصادق: وهو المنتشر ضوءه معترضاً بالأفق، بخلاف الأول الكاذب: وهو ما يبدو مستطيلاً وأعلاه أضوأ من باقيه، ثم يُعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني؛ على زعم بعض أهل الهيئة، أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل)).
وقال العلامة المحدِّث الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة [5/ 50]: ((واعلم أنه لا منافاة بين وصفه صلى الله عليه وسلم لضوء الفجر الصادق بـ "الأحمر" ووصفه تعالى إياه بقوله: "الخيط الأبيض"؛ لأنَّ المراد  - والله أعلم -  بياض مشوب بحمرة، أو تارة يكون أبيض وتارة يكون أحمر؛ يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع)).

أما الحديث الثاني الذي يستدل به مَنْ كان يتأخر من سلف الأمة في سحوره إلى أن يتضح الفجر فهو:
2- عن عاصم بن أبي النَّجود عن زر بن حبيش قال: قلنا لحذيفة أيُّ ساعة تسحرتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((هو النهار إلا أنَّ الشمس لم تطلع)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وعند أحمد بلفظ آخر: قلت يعني لحذيفة: يا أبا عبد الله تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أكان الرجل يُبصر مواقع نَبْله؟ قال: ((نعم؛ هو النهار إلا إنَّ الشمس لم تطلع)).
وهذا الحديث صريح جداً في جواز تأخير السحور حتى يتضح الفجر.
وقد أعلَّ بعض أهل العلم هذا الحديث بأنَّ الراجح أنه موقوف على حذيفة رضي الله عنه، وقد تفرد عاصم بن أبي النَّجود في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعاصم كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في التقريب [1/ 285]: ((عاصم بن بهدلة؛ وهو بن أبي النَّجود بنون وجيم، الأسدي، مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون)).
وقد لخص الشيخ شعيب الأرناؤوط الكلام حول أسباب عدم العمل بهذا الحديث عند بعض أهل العلم بقوله:
((رجاله ثقات غير عاصم بن بهدلة؛ فهو صدوق حسن الحديث، لكنه قد خولف في رفع الحديث، فقد رواه من هو أوثق منه فوقفه، وقال النسائي كما في تحفة الأشراف 3 /  23: "لا نعلم أحداً رفعه غير عاصم".
وخولف في رفعه فأخرجه النسائي 3 /  142: أخبرنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن عدي قال: سمعت زر بن حبيش قال: تسحرت مع حذيفة ثم خرجنا إلى الصلاة فلما أتينا المسجد صلينا ركعتين وأقيمت الصلاة وليس بينهما إلا هنيهة. فذكره موقوفاً؛ وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
قال النسائي: لا نعلم أحداً رفعه غير عاصم؛ فإنْ كان رفعه صحيحاً فمعناه: أنه قرب النهار كقوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن"، معناه: إذا قاربن البلوغ، وكقول القائل: بلغنا المنـزل إذا قاربه.
وأخرجه موقوفاً أيضاً 4 / 142 - 143: أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا أبو يعفور قال حدثنا إبراهيم عن صلة بن زفر قال: تسحرت مع حذيفة ثم خرجنا إلى المسجد فصلينا ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة فصلينا. وإسناده صحيح على شرط الشيخين أيضاً.
وأخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا الوليد بن جميع قال ثنا أبو الطفيل أنه تسحر في أهله في الجبانة ثم جاء إلى حذيفة وهو في دار الحارث بن أبي ربيعة فوجده فحلب له ناقة فناوله فقال: إني أُريد الصوم، فقال: وأنا أُريد الصوم، فشرب حذيفة وأخذ بيده فدفع إلى المسجد حين أقيمت الصلاة. وإسناده قوي.
قلنا: وانظر لزاماً كلام الإمام أبي بكر الرازي على هذا الحديث في أحكام القرآن، والإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 54، وقال الإمام النووي في شرح المهذب 6 /  305: "وهذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، قال ابن المنذر: وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول)) انتهى كلام الأرناؤوط.
وإليك أيها القارئ الكريم تفصيل الجواب عن هذه الاعتراضات:
- أما الجواب عن تعليل الحديث بالوقف؛ فيُمكن أن يُجاب عنه بأنَّ ما رواه صلة وأبو الطفيل وزر من طريق عدي عن حذيفة رضي الله عنه هو فعله معهم، بينما ما رواه زر من طريق عاصم عن حذيفة هو السؤال عن وقت السحور مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالقصة تختلف.
ثم لو كانت القصة واحدة، وزاد فيها عاصم السؤال عن وقت السحور، فلا مانع أن يكون زر بن حبيش حَدَث له مع حذيفة الأمران؛ ثم هو تارة ينقل ما حدَث له، وتارة ما حدَّثه به، وهذا واضح فيما أخرجه الإمام أحمد من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: تسحرت، ثم انطلقت إلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة بن اليمان فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت وبقدر فسخنت، ثم قال: "أُدنُ فكُل"، فقلت: إني أريد الصوم. فقال: "وأنا أريد الصوم" فأكلنا وشربنا، ثم أتينا المسجد فأقيمت الصلاة. ثم قال حذيفة: "هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: أبعد الصبح؟ قال: "نعم؛ هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس".
ثم لو كان هذا التأخير في السحور من فعل حذيفة رضي الله عنه، فليس هو من باب الاجتهاد، إنما فعله حذيفة متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فحذيفة رضي الله عنه كان عليماً بسحور النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنَّفه [2/ 277]: حدثنا بن فضيل عن بن أبي خالد عن الشعبي قال: كان حذيفة يُعجِّل بعضَ سحورِه ليُدرك الصلاةَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكان يرسل إليه فيأكل معه، حتى يخرجا إلى الصلاة جميعاً.
ومما يدلَّ كذلك على أنَّ ذلك التأخير كان من فعله صلى الله عليه وسلم وسنته ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [4/ 231]: عن بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتسحر، فقال: الصلاة يا رسول الله، قال: فثبت كما هو يأكل، ثم أتاه فقال: الصلاة، وهو حاله، ثم أتاه الثالثة فقال: الصلاة يا رسول الله قد والله أصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله بلالاً لولا بلال لرجونا أن يرخَّص لنا حتى تطلع الشمس))، قال الحافظ في [الفتح 4/ 135]: ((رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات))، وقال كذلك في الفتح [4/ 136]: ((وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة)).
- وأما الجواب عن تأويل حديث حذيفة بقرب النهار أو بقرب طلوع الفجر؛ فهو بعيد جداً، وبخاصة في رواية: ((أبعد الصبح؟ قال: "نعم؛ هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس"، فلا يُمكن أن تُفسَّر بقرب طلوع الفجر، لأنَّ لفظ (الصبح) لا يُطلق إلا بعد طلوع الفجر، عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر)) وفي رواية: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحت أصبحت. وفي أخرى: ولم يكن يؤذِّن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذِّن.
 قال ابن الأثير [النهاية 1/ 319]: ((البُزُوغ: الطلوع؛ يقال: بزغت الشمس وبَزَغ القمر وغيرهما إذا طَلَعت)).
قال الحافظ في الفتح [2/ 100]: ((قوله: "أصبحت أصبحت" أي: دخلتَ في الصباح هذا ظاهره، واستُشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل؛ فلو لم يؤذِّن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا مَنْ شذَّ كالأعمش!!، وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلى وجماعة من الشرَّاح بأنَّ المراد: قاربت الصباح!!. ويعكِّر على هذا الجواب أنَّ في رواية الربيع التي قدمناها: "ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذِّن"، وأبلغ من ذلك: أنَّ لفظ رواية المصنف التي في الصيام "حتى يؤذن بن أم مكتوم فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر"، وإنما قلت: إنه أبلغ؛ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقوله: "إنَّ بلالاً يؤذن بليل" يشعر أنَّ ابن أم مكتوم بخلافه؛ ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق، لصدق أنَّ كلاً منهما أذَّن قبل الوقت، وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال)) انتهى كلام الحافظ.
ولا شكَّ أنه في غاية الإشكال لو فُسِّر (الصبح) بقرب طلوع الفجر!!؛ لأنه لو كان قبل طلوع الفجر لم يكن بين أذان بلال وأذان ابن أم مكتوم فرق، بل يَصحُّ أنَّ يُطلق على كلاً منهما أنه أذَّن بليل أو قبل وقت الفجر.
وهذا يدل دلالة واضحة على بعد تأويل قول حذيفة ((هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس)) على قرب طلوع الفجر؛ وأنَّ معناه حتى يتضح الفجر.
 - وأما تشبيه قول حذيفة (هو النهار إلا إنَّ الشمس لم تطلع) بقوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن" أي: إذا قاربن البلوغ، فيكون قول حذيفة معناه أنه قارب طلوع الفجر؟
فيُمكن أن يجاب عنه بأنَّ معنى قوله تعالى: ((فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)) قد يُراد به انقضاء العدة لا المقاربة بيقين؛ كما في قوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ))، وقوله: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ))، وإلى ذلك ذهب أهل التفسير في هاتين الآيتين.
ولكن قد يضطر معنى ((فبلغن أجلهن)) إلى التأويل بمعنى قرب انقضاء العدة لقرينة من داخل السياق أو من خارجه، وهذا ما كان في تأويل آية: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" بقرب انقضاء العدَّة؛ قال القرطبي رحمه الله تعالى الجامع لأحكام القرآن [3/ 147]: ((معنى "بلغن": قاربن؛ بإجماعٍ من العلماء، ولأنَّ المعنى يضطر إلى ذلك؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك)).
فهذا التأويل يسوِّغه أمران: الأول: إجماع العلماء، الثاني: أنَّ المعنى يضطر إلى ذلك. أما في حديث حذيفة وغيره فالعلماء قد اختلفوا في تأويل ذلك؛ هذا أولاً، وثانياً أنَّ المعنى يضطر إلى أنَّ المراد به بعد طلوع الفجر كما لاحظنا من استشكال الحافظ ابن حجر للتأويل المُدَّعى.
وإنْ كان هذا الإجماع المشار إليه في كلام القرطبي يخالفه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى [6/ 231] فيقول مع شدته المعتادة: ((وقد ادَّعى قوم أنَّ قوله تعالى: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود"، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حتى يطلع الفجر" و"حتى يقال له: أصبحت أصبحت " أنَّ ذلك على المقاربة!، مثل قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف" إنما معناه: فإذا قاربن بلوغ أجلهن؟ وقائل هذا مستسهل للكذب على القرآن وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أول ذلك أنه دعوى بلا برهان، وإحالة لكلام الله تعالى عن مواضعه ولكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقول عليه بما لم يقل؛ ولو كان ما قالوا لكان بلال وابن أم مكتوم معاً لا يؤذِّنان إلا قبل الفجر، وهذا باطل لا يقوله أحد، لا هم ولا غيرهم.
 وأما قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن" فإقحامهم فيه أنه تعالى أراد: فإذا قاربن بلوغ أجلهن؛ باطل وكذب ودعوى بلا برهان، ولو كان ما قالوه لكان لا يجوز له الرجعة إلا عند مقاربة انتهاء العدة ولا يقول هذا أحدٌ لا هم ولا غيرهم؛ وهو تحريف للكلم عن مواضعه، بل الآية على ظاهرها وبلوغ أجلهن: هو بلوغهن أجل العدة؛ ليس هو انقضاؤها، وهذا هو الحق، لأنهن إذا كنَّ في أجل العدة كله فللزوج الرجعة وله الطلاق، فبطل ما قالوه بيقين لا إشكال فيه)) والله تعالى أعلم.
- وأما كلام أبي بكر الرازي على حديث حذيفة فقد قال في أحكام القرآن [1/ 285]: ((فإنْ قيل: قد روي عن حذيفة قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نهاراً إلا أنَّ الشمس لم تطلع"؟ قيل له: لا يثبت ذلك عن حذيفة، وهو مع ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز الاعتراض به على القرآن؛ قال الله تعالى: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الذي هو بياض الفجر، وحديث حذيفة إنْ حمل على حقيقته كان مبيحاً لِما حظرته الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم: "هو بياض النهار وسواد الليل" فكيف يجوز الأكل نهاراً في الصوم مع تحريم الله تعالى إياه بالقرآن والسنة؟! ولو ثبت حديث حذيفة من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك الوقت لأنه لم يعز الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبر عن نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الأكل لا دلالة فيه على علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك منه وإقراره عليه، ولو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره عليه احتمل أن يكون ذلك كان في آخر الليل قرب طلوع الفجر فسماه نهاراً لقربه منه))
وجوابه أنه قد ثبت عن حذيفة، بل وثبت مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعارض آيةً ولا حديثاً، وإنما يبين مجملاً ويقيِّد مطلقاً كما سيأتي، وأما دعوى أنَّه حديث آحاد فلا يُقاوم القرآن؛ فالحديث سواء كان آحاداً أو متواتراً إنْ صحَّ فلا يُنظر عند العمل به إلى أنه آحاد أو متواتر، ولو لم يُعمل إلا بالمتواتر لتعطَّلت أغلب الأحكام الشرعية!!، ثم ليس بين الحديث والآية تعارض ولا تناقض فبطلت الدعوى من أصلها، وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به أو لم يقره فقد ثبت بما تقدَّم أنَّ ذلك كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو الذي دعا حذيفة إلى التسحر في ذلك الوقت، وأما احتمال أن يكون ذلك في آخر الليل؛ فما الفرق بينه وبين أذان بلال؟!، وتأويله بقرب النهار مردود بما تقدَّم.
- وأما كلام الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى فقد ادَّعى نسخ حديث حذيفة فقال في شرح معاني الآثار [2/ 52]: ((وقد يحتمل حديث حذيفة عندنا - والله أعلم -  أن يكون كان قبل نزول قوله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل")).
ويُجاب عنه أنه لا تثبت دعوى النسخ إلا بشرطين: تعذر الجمع، ومعرفة التاريخ؛ وهنا الجمع ممكن والتاريخ مجهول فلا تثبت الدعوى. وهذه الشروط مدوَّنة في كتب أهل العلم فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم [6/ 124] في غير مسألتنا هذه: ((وأما مَنْ زعم النسخ: فهو مجازف; لأنَّ النسخَ لا يُصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ، وليس هنا شيء من ذلك))، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح [1/ 714]: ((النسخ لا يُصار إليه إلا إذا عُلِمَ التاريخ وتعذَّر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذَّر))
أيها القارئ المنصف؛ لا بد أن تعلم أنَّ حديث حذيفة ((هو النهار إلا إنَّ الشمس لم تطلع)) قد أعيا العلماء في الجواب عنه؛ قال الحافظ ابن رجب في كتابه فتح الباري [4/ 103]: ((قال الجوزجاني: هو حديث أعيا أهل العلم معرفته. وقد حمل طائفة من الكوفيين منهم النخعي وغيره هذا الحديث على: جواز السحور بعد طلوع الفجر في السماء حتى ينتشر الضوء على وجه الأرض، وروي عن ابن عباس وغيره: حتى ينتشر الضوء على رؤوس الجبال، ومَنْ حكى عنهم أنهم استباحوا الأكل حتى تطلع الشمس فقد أخطأ، وأدَّعى طائفة: أنَّ حديث حذيفة كان في أول الإسلام ونسخ، ومن المتأخرين مَنْ حمل حديث حذيفة على أنه يجوز الأكل في نهار الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر ولا يكتفي بغلبة الظن بطلوعه؛ وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره، فإنَّ تحريم الأكل معلَّق بتبين الفجر، وقد قال علي بعد صلاته للفجر: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وأنه يجوز الدخول في صلاة الفجر بغلبة ظن طلوع الفجر كما هو قول أكثر العلماء على ما سبق ذكره؛ وعلى هذا فيجوز السحور في وقت تجوز فيه صلاة الفجر إذا غلب على الظن طلوع الفجر ولم يتيقن ذلك.
وإذا حملنا حديث حذيفة على هذا؛ وأنهم أكلوا مع عدم تيقن طلوع الفجر، فيكون دخولهم في الصلاة عند تيقن طلوعه، والله أعلم.
ونقل حنبل عن أحمد قال: إذا نوّر الفجر وتبين طلوعه حلَّت الصلاة وحرم الطعام والشراب على الصائم؛ وهذا يدل على تلازمهما، ولعله يرجع إلى أنه لا يجوز الدخول في الصلاة إلا بعد تيقن دخول الوقت، وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف تلازم وقت صلاة الفجر وتحريم الطعام على الصائم)) انتهى كلام ابن رجب.
ومما يجدر التنبّه له؛ أنه قد ادَّعت طائفةٌ أنَّ وقت الإمساك ينتهي بطلوع الشمس كما أنَّ وقت الإفطار يبدأ بغروب الشمس!!!، وهؤلاء غير أولئك السلف الذين كانوا يؤخِّرون السحور حتى يتضح الفجر، ومما استدلوا به هؤلاء حديث حذيفة كذلك!، ولذا التبس على جماعة من أهل العلم الأمر، وظنوا أنَّ هؤلاء هم أولئك، وأنه مذهب واحد، والأمر ليس كذلك؛ كما في عبارة الحافظ ابن رجب: ((ومَنْ حكى عنهم أنهم استباحوا الأكل حتى تطلع الشمس فقد أخطأ))، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره [1/ 298]: ((وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. قلتُ: وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه، لمخالفته نصّ القرآن في قوله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل")).
وخلاصة القول في حديث حذيفة:
أنَّ معنى قوله: (هو النهار إلا إنَّ الشمس لم تطلع) على ظاهره؛ وهو إباحة التسحر بعد طلوع الفجر حتى يتضح الضوء في أفق السماء من جهة مشرق الشمس، وهذا إنما يكون إذا ازداد البياض وخالطه شيء من الحمرة التي تدل على قرب طلوع الشمس، لأنَّ ما بعد الحمرة الإصفرار، والإصفرار أثر على بدأ طلوع الشمس، فعبَّر حذيفة رضي الله عنه عن ذلك بتلك الكلمة الجامعة المختصرة.
ولا تعارض بين ذلك وبين الآية الكريمة: ((حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر))؛ لأنَّ الآية علَّقت الإمساك بتبين بياض الفجر، والتبين هو التحقق، ولا يتحقق البياض إلا باتضاح الفجر، وحينها لا يشك أحدٌ أنه قد طلع الفجر.  
ولعلَّ – والله تعالى أعلم – كانت الحكمة من كون مؤذِّن النبي صلى الله عليه وسلم للفجر الثاني أعمى وهو ابن أم مكتوم، حتى تتحقق الرؤية بجماعة من الناس، لأنَّ الواحد قد يُخطأ وقد يُصيب، وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذِّن إلا بعد أن يقول له أصحابه أذِّن أو أصبحت أصبحت كما تقدَّم، وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن خبيب بن عبد الرحمن قال: حدثتني عمتى أنيسة قالت: كان بلال وابن أم مكتوم يؤذِّنان للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بن أم مكتوم)) فكنا نحبس بن أم مكتوم عن الأذان فنقول: كما أنت حتى نتسحَّر، ولم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا.
وعلى هذا كان عمل الصحابة ومَنْ بعدهم من كبار التابعين؛ أنهم يؤخِّرون السحور حتى يتضح الفجر، ثم صار الناس بعدهم يُمسكون قبل الفجر!!، روى ابن المنذر عن سالم بن عبيد الأشجعي وله صحبة: أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال له: أُخرج فأنظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم أتيته فقلت: قد ابيضَّ وسطع، ثم قال: أُخرج فأنظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض، فقال: الآن أبلغني شرابي. وإسناده صحيح كما قال ابن حجر والبدر العيني.
وروى ابن المنذر بإسناد صحيح كذلك كما قال الحافظ ابن حجر عن علي رضي الله عنه أنه: صلَّى الصبح؛ ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((الفجر فجران: فجر يطلع بليل؛ يحل فيه الطعام والشراب ولا يحل فيه الصلاة، وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام والشراب؛ وهو الذي ينتشر على رؤوس الجبال))، قال ابن رجب في الفتح: ((ورواه أبو أحمد الزبيري عن سفيان عن ابن جريج فرفعه، خرجه من طريقه ابن خزيمة وغيره، والموقوف أصح  قاله البيهقي وغيره)) وصحح إسناده الشيخ تقي الدين الهلالي في رسالته [الفجر الصادق وامتيازه عن الفجر الكاذب].
وقال مسروق رحمه الله تعالى وهو من كبار التابعين وأبرز أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه وقد التقى بجمع من الصحابة: ((لم يكن يعدُّون الفجر فجركم إنما كانوا يعدُّون الفجر الذي يملأ البيوت)).
بل نقل الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى أنَّ هذا قول الصحابة ولا يُعلم فيهم مخالف فقال في المحلَّى [6/ 234]: ((فهؤلاء أبو بكر وعمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وابن مسعود وحذيفة وعمة خبيب وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص فهم أحد عشر من الصحابة لا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم؛ إلا رواية كمال من طريق مكحول عن أبي سعيد الخدري ولم يدركه، ومن طريق يحيى الجزار عن ابن مسعود ولم يدركه. ومن التابعين: محمد بن علي وأبو مجلز وإبراهيم ومسلم وأصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحكم بن عتيبة ومجاهد وعروة بن الزبير وجابر بن زيد. ومن الفقهاء: معمر والأعمش)).
وقد ذكر أقوالهم في المحلَّى بأسانيدها بعد أن قال: (("وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" وهذا نص ما قلنا؛ لانَّ الله تعالى أباح الوطئ والأكل والشرب إلى أن يتبين لنا الفجر، ولم يقل تعالى: حتى يطلع الفجر!!، ولا قال: حتى تشكوا في الفجر. فلا يحل لأحد أن يقوله، ولا أن يوجب صوماً بطلوعه ما لم يتبين للمرء، ثم أوجب الله تعالى التزام الصوم إلى الليل)).
وهؤلاء المذكورون منهم مَنْ صرَّح بأنَّ الإمساك يكون بانتشار الضوء في البيوت والطرق وعلى رؤوس الجبال أو قريباً من ذلك، ومنهم مَنْ لم يُصرِّح ولكنَّه أجاز التسحر ولو بعد طلوع الفجر حتى يتبيِّن ويزول عنه الشك؛ وتفصيل ذلك في المصدر المشار إليه.
أما مَنْ ادَّعى كابن عبد البر في التمهيد وابن قدامة في المغني ووافقهما الحافظ في موضع من شرحه للبخاري: أنَّ هذا القول لم يقل به إلا الأعمش وأنه شذَّ لمخالفته إجماع الأمة؛ فهي دعوى خلاف الواقع، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح [4/ 136-137] في موضع آخر: ((وذهب جماعة من الصحابة وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر – ثم ذكر أقوالهم، ثم قال - قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل، قال إسحاق: وبالقول الأول أقول؛ لكن لا أطعن على مَنْ تأوَّل الرخصة كالقول الثاني، ولا أرى عليه قضاء ولا كفارة، قلتُ: وفي هذا تعقُّب على الموفَّق وغيره حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش!!)).
وقد يتوهم البعض أنَّ القول بمذهب أنَّ الفجر الثاني يثبت حين يتضح الفجر ولا يكتفى بطلوعه يتعارض مع كون صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للفجر بغلس؛ فعن عروة بن الزبير أنَّ عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: ((كنا نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة؛ لا يعرفهن أحد من الغلس)) متفق عليه، والغلس آخر ظلمة الليل، فإذا كان الخروج من الصلاة في آخر الظلمة كان الأذان في ظلمة وسواد حتماً؛ بعد حساب الإقامة والصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُطيل في قراءة الفجر؟!
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أنَّ بيان معنى التغليس بدقة يُمكن أن يرفع دعوى التعارض من أصله، فقد قال ابن منظور في لسان العرب [6/ 156]: ((قال أَبو منصور [الأزهري]: "الغَلَس أَول الصُّبح حتى يَنْتَشِر في الآفاق، وكذلك الغَبَس، وهما سواد مختلط ببياض وحُمْرَة؛ مثل الصبح سواء"، وفي الحديث: "كان يُصَلِّي الصبحً بغَلَسٍ" الغَلس: ظلمة آخر الليل إِذا اختلطت بِضَوءِ الصَّباح))، وانظر كذلك [تاج العروس 1/ 4045].
وأما الإسفار فمعناه الانكشاف؛ وأسفر الصبح أي أضاء وأشرق. فكما أنَّ الغلس هو آخر ظلمة الليل فكذلك هو أول الصبح، والغلس سواد مختلط ببياض وحمرة؛ وظهور الحمرة في البياض لا تكون إلا بعد حين؛  يدل على ذلك ما رواه سالم بن عبيد قال: كنت في حجر أبي بكر الصديق فصلَّى ذات ليلة ما شاء الله، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فخرجت ثم رجعت فقلت قد ارتفع في السماء أبيض، فصلى ما شاء الله، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ فخرجت ثم رجعت فقلت لقد اعترض في السماء أحمر، فقال: هيت الآن فابلغني سحوري. وفي رواية: فقلت قد اعترض في السماء واحمر، فقال: ائتِ الآن بشرابي. رواه الدارقطني في السنن من طريقين عن منصور عن هلال بن يساف وكلاهما ثقة عن سالم وهو صحابي، وقال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح.
 الثاني: أنَّ لفظة "كان" في حديث التغليس المتقدِّم قد لا تستلزم المواظبة أو المداومة على ذلك الفعل، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم [6/ 21]: ((المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين: أنَّ لفظة "كان" لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرة، فإنْ دلَّ دليل على التكرار عمل به، وإلا فلا تقتضيه بوضعها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف"، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، فاستعملت "كان" في مرة واحدة، ولا يقال: لعلها طيبته في إحرامه بعمرة لأنَّ المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالإجماع، فثبت أنها استعملت "كان" في مرة واحدة كما قاله الأصوليون)).
فكيف وقد دلَّ الدليل على خلاف ذلك؟! وهو ما رواه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: ((وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجلُ جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: ((وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض))، وفي أخرى: ((فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه)).
قال الحافظ [الفتح 2/ 27] في شرح الحديث: ((قوله: "وكان ينفتل" أي: ينصرف من الصلاة أو يلتفت إلى المأمومين، قوله: "من صلاة الغداة" أي: الصبح))، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أسفروا بالفجرِ فإنَّه أعظمُ للأجرِ)) رواه أحمد والدارمي وأصحاب السنن الأربعة وصححه الألباني، وعن أبي صدقة مولى أنس قال: سألتُ أنساً عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر بين صلاتيكم هاتين، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق، والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر)) رواه أحمد وصححه الألباني.
الثالث: أنَّ التغليس والإسفار في صلاة الفجر يتعلَّق بالإقامة، يعني تقديم وتأخير الإقامة، بينما وضوح الفجر يتعلَّق بالأذان الثاني للفجر، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً؛ إذا رآهم اجتمعوا عجَّل وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"، وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن وقت الصلوات؟ فقال: ((صلِّ معنا)) فلما زالت الشمس صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، وصلى العصر والشمس مرتفعة نقية، وصلى المغرب حين غربت الشمس، وصلى العشاء حين غاب الشفق، وصلى الفجر بغلس. فلما كان من الغد: أمر بلالاً فأذن الظهر فأبرد بها فأنعم أن يبرد بها، وأمره فأقام العصر والشمس حية أخر فوق الذي كان، وأمره فأقام المغرب قبل أن يغيب الشفق، وأمره فأقام العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وأمره فأقام الفجر فأسفر بها. ثم قال: ((أين السائل عن وقت الصلاة؟)) قال: أنا يا رسول الله، قال: ((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)) رواه مسلم وغيره؛ وهذه رواية ابن خزيمة. فالتغليس والإسفار من باب التبكير أو التعجيل والتأخير في إقامة الصلاة.
فإذا كان كذلك؛ فهناك أحاديث تثبت الإسفار في الفجر وهناك أحاديث تثبت التغليس كما تقدَّم، فمن احتجَّ بأحاديث التغليس يُمكن أن يُدفع قوله بأحاديث الإسفار.
هذا مع أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اختار التغليس في صلاة الفجر بعد ذلك وترك الإسفار؛ فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: ((وصلَّى الصبح مرة بغلس، ثم صلَّى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر)) رواه أبو داود.
والمختار في الجمع بين أحاديث التغليس والإسفار: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل صلاة الفجر بغلس ويطيل بالقراءة فيخرج منها بإسفار وهذا الغالب أو كان في أول الأمر، لكن قد يقصر من القراءة أحياناً فيخرج من الصلاة بغلس، أو أنه اختار صلى الله عليه وسلم التخفيف في آخر عمره؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ"ق والقرآن المجيد" وكان صلاته بعد تخفيفاً.
قال الإمام الشوكاني معلِّقاً في نيل الأوطار [2/ 255]: ((قوله: [كان يقرأ في الفجر بـ"ق"] قد تقرر في الأصول أنَّ "كان" تفيد الاستمرار وعموم الأزمان؛ فينبغي أن يحمل قوله: [كان يقرأ في الفجر بـ"ق"] على الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم، أو تحمل على أنها لمجرد وقوع الفعل؛ لأنها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد، لأنه قد ثبت أنه قرأ في الفجر "إذا الشمس كورت" عند الترمذي والنسائي من حديث عمرو بن حريث، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين عند مسلم من حديث عبد الله بن السائب، وأنه قرأ بالطور ذكره البخاري تعليقاً من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي برزة، وأنه قرأ الروم أخرجه النسائي عن رجل من الصحابة، وأنه قرأ المعوذتين أخرجه النسائي أيضاً من حديث عقبة بن عامر، . وأنه قرأ "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة، وأنه قرأ الواقعة أخرجه عبد الرزاق أيضاً عن جابر بن سمرة، وأنه قرأ بيونس وهود أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة، وأنه قرأ إذا زلزلت الأرض كما تقدم عند أبي داود، وأنه قرأ ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود)).
الرابع: وهو يوضح ما تقدَّم؛ أنَّ محل النظر في أذان الفجر هو الأفق من جهة المشرق، بينما محل النظر بعد الصلاة هو الموضع الذي فيه المسجد، ولا ريب أنَّ البياض يظهر من جهة المشرق في الأفق، ثم يتقدَّم تدريجياً نحو جهة المغرب، فلا غرابة أن تكون سماء المسجد في آخر الظلمة في الوقت الذي يظهر فيه الضوء ويتضح في جهة الأفق؛ لاختلاف المحل، ومعلوم أنه كلما اقتربنا من الأفق كلما أسفر الصبح، بينما كلما ابتعدنا عنه كنا في غلس، وما بعدنا أشد غلساً منا، ومن بعدهم أشد غلساً منهم، وهكذا.
وقد سُئل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: كيف نوفِّق بين الصلاة بعد طلوع الفجر، وصلَّى في غلس؟
فكان جوابه: ((يعني أنت تظن أنَّ الغلس ينافي الصلاة بعد أن يظهر النور في الشرق، لا منافاة، لأنَّ النور حينما يظهر في الشرق يبقى هنا في غلس، ثم الغلس نسبي؛ غلس الغلس يكون قبل الغلس، والغلس يكون بعد غلس الغلس، وهكذا، ثم هناك شيء خطر في بالي حين تباحثنا في الموضوع؛ يقول العلماء: ما جاور الشيء أخذ حكمه، هذا الغلس بعد أذان الفجر الصادق باعتبار أنه جاور الغلس الذي سميته أنا من باب التقريب بغلس الغلس سُمِّيَ غلساً باعتبار المجاورة، ولذلك المسلم الذي يريد أن يتفقه في دين الله عزَّ وجل يُحاول أن يُوفِّق بين النصوص ولا يضرب نصَّاً بنص آخر)).
وخاتمة هذا المبحث:
أنه قد تبيَّن بعد هذا البسط أنَّ وقت أذان الفجر الصادق وهو الثاني يكون حين يتضح الفجر في الأفق وينتشر البياض فيه على طوله وتظهر فيه أوائل حمرة من جهة المشرق وليس وقته بظهور أول البياض في الأفق كما يزعم الفلكيون ولا بمجرد طلوع الفجر كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم.
وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنما يدل على غلط تقويم أذان الفجر الموجود في تقويم الصلوات اليوم؛ لأنه مبنيٌّ على قول الفلكيين لا على معرفة أوصاف الفجر الصادق بدقة ولا على العمل بها بالنظر المجرد لا بالمجهر الفلكي.
وكذلك أُجيب في ثنايا هذا المبحث عن كل الشبهات التي قد ترد في ذهن القارئ في هذه المسألة التي كثُر فيها الجدل حتى احتار الناس في معرفة وقت الفجر الصادق بسبب ذلك.
وحتى لا يظنّ ظـآنٌّ أنَّ تغليط التقويم الفلكي في وقت أذان الفجر لم يقل به أحد من علماء ومشايخ العصر اليوم؛ لهذا أحببتُ أن أجمع كلام أهل العلم ممن ظهرت في عصره هذه العادة المنكرة فأنكرها؛ لتطمئنَّ نفس القارئ ويزداد فيها اليقين مع ما تقدَّم:



أقوال أهل العلم الذين صرَّحوا أنَّ توقيت الفجر اليوم متقدِّم عن وقته

1- الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى؛ وهو شافعي المذهب:
قال [فتح الباري 6/ 220]: ((تنبيه: من البدع المنكرة ما أُحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على مَنْ يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة!!، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، فاخروا الفطر وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان)).

2- العلامة أبو العباس أحمد بن إدريس الصِّنهاجيِّ المشهور بالقِرَافيِّ رحمه الله تعالى؛ وهو مالكي المذهب:
قال في كتابه الفروق: ((الإشكال الأول في أوقات الصلوات: جرت عادة المؤذنين وأرباب المواقيت بتسيير دَرَجَ الفَلك إذا شاهدوا المتوسِّط من درج الفلك - أو غيره من درج الفلك- الذي يقتضي أنَّ درجة الشمس قربت من الأفق قرباً يقتضي أنَّ الفجر طلع؛ أمروا الناس بالصلاة والصوم مع أنَّ الأفق يكون صاحياً لا يخفى فيه طلوع الفجر لو طلع!!، ومع ذلك لا يجد الإنسان للفجر أثراً البتة!!، وهذا لا يجوز، فإنَّ الله تعالى إنما نصب سبب وجوب الصلاة ظهور الفجر فوق الأفق ولم يظهر!، فلا تجوز الصلاة حينئذ، فإنه إيقاع للصلاة قبل وقتها وبدون سببها!، وكذلك القول في بقية إثبات أوقات الصلوات)) وانظر [تهذيبه وترتيبه في كتاب إدرار الشروق 4/ 140].

3- الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى؛ مفتي بلاد الحرمين سابقاً:  
قال الشيخ عبد الرحمن الفريان في خطابه للدكتور صالح العدل يطلب فيه إعادة النظر في التقويم: ((وكان شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لا يقيم الصلاة في مسجده إلا بعد وضوح الفجر الصحيح، وبعض الأئمة لا يقيمون صلاة إلا بعد وقت التقويم الحاضر بأربعين دقيقة أو نحوها، ويخرجون من المسجد بغلس، أما البعض الآخر فإنهم يقيمون بعد الأذان بعشرين دقيقة، وبعضهم يقيمون الصلاة بعد الأذان على مقتضى التقويم بخمس عشرة دقيقة..، ثم هؤلاء المبكِّرون يخرجون من صلاتهم قبل أن يتضح الصبح فهذا خطر عظيم...)) [تاريخ الخطاب5/ 9/ 1414هـ].
4- الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى؛ وهو من علماء الشام:
قال في [السلسلة الصحيحة (5/ 52) حديث رقم (2031)]: ((واعلم أنه لا منافاة بين وصفه صلى الله عليه وسلم لضوء الفجر الصادق بـ (الأحمر) ووصفه تعالى إياه بقوله: (الخيط الأبيض)؛ لأنَّ المراد - والله أعلم - بياض مشوب بحمرة، أو تارة يكون أبيض وتارة يكون أحمر، يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع.
وقد رأيتُ ذلك بنفسي مراراً من داري في جبل هملان جنوب شرق عمان، ومكنني ذلك من التأكد من صحة ما ذكره بعض الغيورين على تصحيح عبادة المسلمين، أنَّ أذان الفجر في بعض البلاد العربية يرفع قبل الفجر الصادق بزمن يتراوح بين العشرين والثلاثين دقيقة، أي قبل الفجر الكاذب أيضاً!، وكثيراً ما سمعتُ إقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصادق، وهم يؤذنون قبلها بنحو نصف ساعة، وعلى ذلك فقد صلوا سنة الفجر قبل وقتها، وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضاً قبل وقتها في شهر رمضان، كما سمعته من إذاعة دمشق وأنا أتسحر رمضان الماضي (1406)؛ وفي ذلك تضييق على الناس بالتعجيل بالإمساك عن الطعام وتعريض لصلاة الفجر للبطلان، وما ذلك إلا بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي وإعراضهم عن التوقيت الشرعي: "و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، "فكلوا و اشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" و هذه ذكرى  "والذكرى تنفع المؤمنين"))
ونقل رحمه الله تعالى قول صاحب عون المعبود: "وإنما الاعتماد في معرفة الأوقات على الإمام، فإن تيقَّن الإمام بمجيء الوقت، فلا يعتبر بشك بعض الأتباع" فعلَّق عليه [السلسلة الصحيحة 6 / 652 حديث (2780)]: ((وأقول: أو على مَنْ أنابه الإمام من المؤذنين المؤتمنين الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وهم الذين يؤذنون لكل صلاة في وقتها، وقد أصبح هؤلاء في هذا الزمن أندر من الكبريت الأحمر، فقلَّ منهم مَنْ يؤذن على التوقيت الشرعي، بل جمهورهم يؤذنون على التوقيت الفلكي المسطر على التقاويم و الروزنامات؛ وهو غير صحيح لمخالفته للواقع!!.
وفي هذا اليوم مثلاُ (السبت 20 محرم سنة 1406ﻫ) طلعت الشمس من على قمة الجبل في الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، وفي تقويم وزارة الأوقاف أنها تطلع في الساعة الخامسة والدقيقة الثالثة والثلاثين!، هذا وأنا على جبل هملان، فما بالك بالنسبة للذين هم في وسط عمان?! لا شك أنه يتأخر طلوعها عنهم أكثر من طلوعها على هملان.
ومع الأسف فإنهم يؤذنون للفجر هنا قبل الوقت بفرق يتراوح ما بين عشرين دقيقة إلى ثلاثين!!، وبناء عليه ففي بعض المساجد يصلون الفجر ثم يخرجون من المسجد ولما يطلع الفجر بعد!!.
ولقد عمَّت هذه المصيبة كثيراً من البلاد الإسلامية كالكويت والمغرب والطائف وغيرها، ويؤذنون هنا للمغرب بعد غروب الشمس بفرق 5-10 دقائق. ولما اعتمرت في رمضان السنة الماضية صعدت في المدينة إلى الطابق الأعلى من البناية التي كنت زرتُ فيها أحد إخواننا لمراقبة غروب الشمس وأنا صائم، فما أذَّن إلا بعد غروبها بـ (13 دقيقة)!، و أما في جدَّة فقد صعدت بناية هناك يسكن في شقة منها صهر لي، فما كادت الشمس أن تغرب إلا وسمعتُ الأذان. فحمدتُ الله على ذلك))
وقال رحمه الله تعالى [السلسلة الصحيحة 5/ 300]: ((وهذه من السنن المتروكة في بلاد الشام، ومنها عَمَّان، فإنَّ داري في جبل هملان من جبالها، أرى بعيني طلوع الشمس وغروبها، وأسمعهم يؤذِّنون للمغرب بعد غروب الشمس بنحو عشر دقائق!، علما بأنَّ الشمس تغرب عمن كان في وسط عَمَّان ووديانها قبل أن تغرب عنا!!، وعلى العكس من ذلك فإنهم يؤذنون لصلاة الفجر قبل دخول وقتها بنحو نصف ساعة!!، فإنا لله وإنا إليه راجعون)).
وسُئل الشيخ في شريط صوتي [سلسلة الهدى والنُّور الشريط (43)] من قِبل أبي إسحاق الحويني؛ وهذا نصُّ السؤال والجواب بحروفه:
((السائل: لنا أخوة من السلفيين في الإسكندرية يؤذِّنون الفجر أذانين؛ والأذان الذي هو المعتبر بعد ثلث ساعة من الأذان العادي، ويقولون: الفجر الصادق والكاذب، فهذا له نوع خطورة من ناحية الصيام؛ فماذا ترَون في هذه المسألة؟ وما هو موقف بقية الجمهورية كلها من أنه إذا ثبت أنَّ الفجر يؤخَّر ثلث ساعة؛ فهم يُصلون قبل الوقت بثلث ساعة؟
فكان جواب الشيخ: هذه مصيبة ألمَّت بكثير من الأقاليم الإسلامية مع الأسف؛ حيث أنهم يُحرِّمون الطعام قبل مجيء وقت التحريم، ويُصلون صلاة الفجر قبل دخول وقت الصلاة، وهذا نحن لمسناه في هذه البلاد لمس اليد وبخاصة أنَّ داري – وهذا من فضل الله عليَّ – مشرِفَة؛ أنا أرى في كلِّ صباحٍ ومساءٍ طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر الصادق فأجد أنَّهم فعلاً يُصلون  قبل الوقت؛ أي: صلاة الفجر، وهذا من الأسباب التي تحملُني أن آتي إلى هذا المسجد فأُصلي الفجر؛ لأني لا أجد في المساجد التي حولي إلا أنهم يُبكِّرون بالصلاة، على الأقل لا يُصلُّون السُّـنَّة إلا قبل الفجر الصادق؛ هذه السٌّـنَّة على الأقل، ولم يصر الأمر في هذه البلاد؛ فقد علمتُ أنَّ أحدَ إخواننا السلفيين ألَّفَ رسالةً وهو يَذكر فيها تماماً كما أذكره أنا هنا، كذلك لعلَّك تَسمع به إن كنتَ تعرفه شخصياً الدكتور تقي الدِّين الهلالي له رسالة يقول نفس الكلام في المغرب؛ وهو: أنَّهم يؤذِّنون لصلاة الفجر قبل الوقت بنحو ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة، كذلك علمتُ مثله بواسطة الهاتف عن الطائف فقد ورد لي سؤال أحدهم يقول: أنَّ الشيخ سعد فلان - سمَّاه سعد بن كذا ما أدري – يقول: هم يُصلون هنا على التوقيت الفلكي وأنَّ ذلك يُخالِف الوقت الشرعي تماماً كما نتحدَّث عنه هنا وهناك.
فأعود للإجابة عن سؤال إخواننا في الإسكندرية؛ فهم من حيث أنهم يؤذِّنون أذانين فقد أصابوا السٌّـنَّة، لكن ما أدري إذا كانوا دقيقين في أذانهم الثاني؛ هل هم يؤذِّنون حينما يَبرق الفجر ويَسطع ويَنفجر النور؟ فإنْ كانوا يفعلون ذلك فقد أحيَوا سُّـنَّةً أماتها جماهير من المسلمين، أما أنهم إذا كانوا يؤذِّنون على الرزنامات أو التقاويم فهذه لا تُعطي الوقتَ الشرعي أبداً، فيكونوا قد خلَطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ أي: جمعوا بين الأذانين وهذه سُّـنَّة لكن ما حددوا الوقت الشرعي في الأذان الثاني، نعم.
السائل: بالنسبة لنا نحن بالقاهرة؛ هل الصورة تنطبق عليَّ أنا في صلاة الفجر جماعة، لأنَّ جميع المساجد تُغلِق أبوابها ويكون منتهاهم من الصلاة فعلاً قبل دخول الوقت الشرعي.
قال الشيخ: الله أكبر.
ثم أكمل السائل كلامه: فأنا ماذا أفعل؟
أجاب الشيخ: أنت في هذه الحالة تُصلي ورآءهم تطوعاً ثم تعود إلى دارك فتُصلي بأهلك فرضاً.
السائل: طيب إذن ما قيمة أن أنزل؟
قال الشيخ: هو أن لا يترك الجماعة، وتعلمون أنَّ الخروج على الجماعة معصية.
السائل: لأنكم ترون أنَّ الجماعة واجب؟
الشيخ: كيف لا؛ هو كذلك.
أحد الجالسين: صحيح يا شيخ فيما صححتموه أنتم: يأتي زمان يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن نصلي معهم تطوعاً ثم نرجع إلى بيوتنا ونصلي الفريضة.
قال الشيخ: هذا حديث في صحيح مسلم!!؛ حديث أبي ذر.
السائل: هو قال ((يؤخِّرون أو يُميتون الصلاة)) أي: يُصلون بعد الوقت؟!
قال الشيخ: لكن من الناحية الفقهية سواء إذا كان هذا أو ذاك؛ لماذا أمرهم عليه الصلاة والسلام إذا أدركوا ذلك الوقت أن يُصلوا معهم؟ ثم قال: صلوها أنتم في وقتها، ثم صلوها معهم فإنها تكون لكم نافلة؛ واضح من الحديث: أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرهم بأن يُصلوا الصلاة لوقتها، لكن في الوقت نفسه أمرهم بأن يُصلوا الصلاة التي يُصلونها في غير وقتها للمحافظة على جماعة المسلمين، فلا فرق - والحالة هذه -  بين إمام يُقدِّم الصلاة أو يؤخِّر الصلاة.
السائل: طيب بالنسبة للحكم على صلاة الناس؛ يعني سؤال: بعض الناس يُصلون قبل الوقت، فما الحكم على صلاتهم؟
أجاب الشيخ: طبعاً هؤلاء المسؤولية تقع على أهل العلم؛ فعلى مَنْ كان عنده علم أن يُبلِّغ الناس، فمَنْ بلغه الحكم ثم أعرض عنه فصلاته باطلة، ومَنْ لم يبلغه الحكم فتعرف أنه لا مسؤولية عليه والحالة هذه)).
5- الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى؛ وهو من علماء بلاد الحرمين:
قال في [شرح رياض الصالحين 3/ 216]: ((بالنسبة لصلاة الفجر؛ المعروف أنَّ التوقيت الذي يعرفه الناس ليس بصحيح!!، فالتوقيت مقدَّم على الوقت بخمس دقائق على أقل تقدير، وبعض الإخوان خرجوا إلى البر فوجدوا أنَّ الفرق بين التوقيت الذي بأيدي الناس وبين طلوع الفجر نحو ثلث ساعة، فالمسألة خطيرة جداً، ولهذا لا ينبغي للإنسان في صلاة الفجر أن يبادر في إقامة الصلاة، وليتأخر نحو ثلث ساعة أو (25) دقيقة حتى يتيقن أنَّ الفجر قد حضر وقته)).
وفي سؤال [سلسلة لقاء الباب المفتوح شريط رقم (126) الوجه (ب)] في بيان الفجر الصادق؟ قال الشيخ رحمه الله تعالى: ((إذا لم يكن غيم ولا قتر ولا أنوار يُمكن أن تعرف الفجر بنفسك، إنَّ الله حدَّد هذا حدَّاً بيناً فقال: "فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"، فإذا خرجت إلى البر وليس أمامك قتر ولا أنوار ولا غيم انظر إلى الأفق متى وجدت هذا الخيط المعترض من الشمال إلى الجنوب، هذا البياض، هذا هو الفجر فصلِّ وامتنع عن الأكل والشرب إنْ أردت الصوم، وما لم تره فأنت في ليل، أما إذا كنت لا يُمكن أن ترى الفجر إما للغيم أو للقتر أو للأنوار أو كنت أنت بين البيوت: فالتوقيت الموجود الآن فيه تقديم خمس دقائق في الفجر خاصة على مدار السنة، بمعنى أنك إذا أردتَ أن تصيب الفجر بإذن الله فأخِّر خمس دقائق، بعض الأخوان يقول: لا، يؤخِّر أكثر، ويقول: أنا خرجت عدة مرات في ليال ليس فيه قمر وليس فيها قتر وليس فيها سحاب فوجدتُ أنه يتأخر إلى ربع ساعة، فالظاهر أنَّ هذا طويل، كثير، بمعنى أن يجعل الفرق بين التوقيت الحاضر المكتوب وبين طلوع الفجر عشر دقائق أو ربع ساعة؛ لكن هذا أظنه مبالغة، إنما خمس دقائق حسب تقدير الفلكيين يقولون: أنه لا بد أن يؤخِّر الإنسان في أذان الفجر خمس دقائق)).
وقال في شرحه لبلوغ المرام/  باب المواقيت: ((وعلى هذا فالمؤذن ينتظر خمس دقائق بعد التوقيت الذي بأيدي الناس اليوم، لأنه بحسب الحساب المحرر تبين أنَّ التقويم مقدم خمس دقائق على مدار السنة كلها في صلاة الفجر خاصة، والاحتياط واجب لأنه لو تقدم الإنسان قبل الوقت بقدر تكبيرة الإحرام فقط ما صحت الصلاة، فالاحتياط أمر واجب، والحمد لله لا يضر إذا أخَّرت خمس دقائق وأذَّنت)).
 وقال في شرح رياض الصالحين [1/ 290-291]: ((الفجر من طلوع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق إلى أن تطلع الشمس.
وهنا أُنبه فأقول: أنَّ تقويم أم القرى فيه تقديم خمس دقائق في آذان الفجر على مدار السنة، فالذي يصلي أول ما يؤذن يعتبر أنه صلى قبل الوقت، وهذا شيء اختبرناه في الحساب الفلكي، واختبرناه إضافي الرؤية. فلذلك لا يعتمد هذا بالنسبة لآذان الفجر، لأنه مقدم، وهذه مسألة خطيرة جداً، لو تكبر للإحرام فقط قبل أن يدخل الوقت ما صحت صلاتك وما صارت فريضة. وقد حدثني أُناس كثيرون ممن يعيشون في البر وليس حولهم أنوار، أنهم لا يشاهدون الفجر إلا بعد هذا التقويم بثلث ساعة، أي: عشرين دقيقة أو ربع ساعة أحياناً، لكن التقاويم الأخرى الفلكية التي بالحساب بينها وبين هذا التقويم خمس دقائق. على كل حال: وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني وهو البياض المعترض إلى طلوع الشمس)).
ويظهر من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى أنه متردد في تحديد مقدار الوقت الفارق بين التوقيت الشرعي والتوقيت الفلكي مع جزمه رحمه الله تعالى بأنَّ الغلط في التقويم واقع، وأنَّ زيادة الخمس دقائق احتياطاً بحسب الحساب الفلكي، وزيادة الربع ساعة أو أكثر بحسب مشاهدات الناس  الذين يعيشون في البر وليس حولهم أنوار؛ ولا شكَّ أنَّ التوقيت الشرعي يثبت بالثاني لا بالأول، ومَنْ أسند وأحالك على شيء فقد برأ وسلم، فرحم الله تعالى الشيخ رحمة واسعة.

6- الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله تعالى؛ وهو من علماء المغرب:
قال في رسالته "بيان الفجر الصادق وامتيازه عن الفجر الكذاب ص2": ((اكتشفت بما لا مزيد عليه من البحث والتحقيق، والمشاهد المتكررة من صحيح البصر: أنَّ التوقيت لأذان الصبح لا يتفق مع التوقيت الشرعي، وذلك أنَّ المؤذن يؤذن قبل تبين الفجر تبيناً شرعياً)).
وقال في آخر الرسالة: ((وأوسط الأقوال الذي نَفْتِي به ونَعْمَل به أخذاً من هذه الأحاديث كلها: أنَّ الفجر الصادق الذي يُحَرِّم الطَّعام على الصائم ويُحِلُّ الصَّلاة هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الفجر الأحمر؛ أي: الذي يَشُوبُ بياضه حُمرة المُعْتَرِض في الأفُق؛ الذي يملأ البيوت والطرقات، ولا يختلف فيه أحدٌ من الناس، يشترك في معرفته جميع الناس. وأما غير ذلك كالفجر الذي يَعْنِيهِ المُوَقِّت المغربي فإنَّه باطِل لا يُحَرِّم طعاماً على الصَّائم ولا يُحِلُّ صلاة الصبح، ونحن نتأخر بعده أكثر من نصف ساعة حتى يتبين الفجر الصادق، فهذا الذي نَدِِينُ الله به، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)).

7- الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله تعالى؛ وهو من علماء بلاد الحرمين:
قال رحمه الله تعالى في تعليقه على سبل السلام [وهو مخطوط]: ((فإنْ قيل: إنَّ التوقيت المعلن في التقويم هو دليل على الفجر وإنْ لم نره؟ فأقول: أولاً: إنَّ الله لم يكلفنا بشيء لم نره، وثانياً: بالمتابعة وُجِدَ أنَّ في التوقيت الذي في التقويم وبين ظهور الفجر الفعلي مقدار عشرين دقيقة؛ وقد تابعت ذلك أنا بنفسي قبل مجيء الكهرباء، وكنت أنام على سطح بيتي الذي في صامطة، وأراقب الفجر فلا يتضح إلا بعد حوالي عشرين دقيقة كما قلت، ولم أجرؤ على الإعلان بذلك حتى وجدت صاحب تفسير المنار يقول في تفسير آية البقرة التي في آيات الصوم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة/  187) إنَّ الفجر في الديار المصرية لا يظهر إلا بعد عشرين دقيقة من التوقيت. ومن أجل ذلك؛ فأنا أقول: إنَّ الذي ينبغي أن نرتبه على هذا الحديث من النهي هو ظهور الفجر ظهوراً يرى بالعين وإنْ كان قد خالفني في ذلك إمام العصر الشيخ عبد العزيز بن باز لما سألته وذكرتُ له هذه المسألة؛ حيث كنت أراه يأتي بعد الأذان بخمس دقائق أو عشر فيركع ثم يجلس إلى الإقامة ولا يعيد الركوع قبل الإقامة، فسألته وأخبرته بما عندي، فقال: إنَّ الذين وضعوا التقويم هم أعلم منا بالتوقيت، وأقول: رحم الله الشيخ هذا اجتهاده؛ ولكني قد تتبعت ذلك بنفسي عدة سنوات وتبين لي الفرق، ولازلت أعمل عليه. وينبني على هذا أنَّ من ركع قبل اتضاح الفجر ينبغي له أن يركع بعد اتضاحه، فإنَّ سنة الفجر هي متعلقة بالفجر تصح في موضع صحته وتبطل في مواطن بطلانه، ولو صلى أحد الفجر بعد الأذان بعشر دقائق لقلنا ببطلان صلاته، وما قلته هنا قد وافقني عليه بعض العلماء المعاصرين، وقد توفي بعضهم والبعض حي)) منقول من رسالة "أوصاف الفجرين في الكتاب و السنة" للدارودي؛ وهي بتقديم الشيخ أحمد النجمي رحمه الله تعالى.
وللشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى مفتي بلاد الحرمين سابقاً فتوى في بيان صحة تقويم أم القرى بعنوان ((بيان حول مواقيت الصلاة في تقويم أم القرى)) صدر بتاريخ 22/ 7/ 1417هـ قال فيها: ((الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: فإنه لما كثر الكلام من بعض الناس في الآونة الأخيرة حول تقويم أم القرى، وأنَّ فيه غلطاً في توقيت صلاة الفجر من ناحية التقديم قبل الوقت بخمس دقائق أو أكثر، كلفتُ لجنة من أهل العلم بالذهاب إلى خارج مدينة الرياض بعيداً عن الأنوار لمراقبة طلوع الفجر، ومعرفة مدى مطابقة التقويم المذكور للواقع، وقد قررت اللجنة بالإجماع مطابقة توقيت التقويم لطلوع الفجر، وأنه لا صحة لما يدعيه بعض الناس من تقدمه عليه. ولأجل إزالة الشكوك التي شوشت على بعض الناس صلاتهم جرى بيانه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل)).
والشيخ رحمه الله تعالى أحال في هذا البيان الأمر إلى اللجنة، وسيأتي بيان حالها.

8- الشيخ عبد المحسن العبيكان وفقه الله تعالى؛ المستشار القضائي في وزارة العدل السعودية:
في مقال في جريدة الشرق الأوسط بعنوان [21 دقيقة في تقويم «أم القرى» تفجِّر جدلاً بين علماء دين سعوديين] الرياض: لتركي الصهيل.
قال صاحب المقال: وجَّه الشيخ عبد المحسن العبيكان عضو مجلس الشورى السعودي والمستشار القضائي في وزارة العدل، رجاءاً لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، بتشكيل لجنة على مستوى عال من المتخصصين في علم الشريعة والفلك ليراجعوا أوقات الصلوات المعتمدة في تقويم أم القرى.
وأوضح الشيخ العبيكان في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط» أنَّ المسؤولين في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والمسؤولين عن تقويم أم القرى، أقروا بوجود خطأ في التقويم، معتبراً إعادة النظر في التقويم، مسألة ليست بالصعبة.
وأشار إلى أنَّ الخطأ الموجود في التقويم لا يقتصر على وقت دخول الفجر فحسب، بل يتعدى ذلك لوجود خطأ بعدة أوقات، منها خروج وقت المغرب قبل أذان العشاء بوقت طويل، ووضع وقت صلاة الظهر في نفس وقت النهي، فضلاً عن أنَّ صلاة المغرب، لا يؤذن لها إلا بعد غياب الشمس بحوالي سبع دقائق.
وكانت تداعيات كشف الشيخ العبيكان عن وجود خطأ في تقويم أم القرى، مما قد يوقع صلاة المسلمين في حيز البطلان بحسب تعبيره، قد تعالت حدتها، بعد تصريحات لسماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى، انتقد فيها الآراء التي تشكك في صحة تقويم أم القرى، وتشير إلى عدم انضباطه في توقيت الإمساك والإفطار في شهر رمضان المبارك، مؤكِّداً أنَّ «جميع الآراء التي طرحت بهذا الصدد خاطئة ومجانبة للصواب ويجب ألا يٌلتفت إليها؛ لما تسببه من إثارة التشكيك عند المسلمين».
وأوضح المفتي في بيان صادر عنه: أنَّ تقويم أم القرى رسمي وشرعي ولا غبار عليه؛ حيث أشرف عليه نخبة من أهل العلم الموثوق في علمهم وأمانتهم، وسار عليه العمل منذ أكثر من 80 عاماً وحتى وقتنا الحاضر.
من جانبه قال الشيخ العبيكان: أنَّ اللجنة التي شُكِّلت في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لدراسة مشروع الشفق «الفجر الصادق»، أكَّدت أنها لم تجد أساساً مكتوباً لتقويم أم القرى بعد البحث والاستقصاء.
وذكر العبيكان في سياق رده: أنَّ اللجنة تمكنت من لقاء مُعد التقويم سابقاً الدكتور "فضل نور"، الذي أفاد بأنه أعدَّ التقويم بناءاً على ما ظهر له، وليس لديه أي أساس مكتوب.
مضيفاً أنه من خلال الحديث مع الدكتور نور ومحاورته تبين أنه لا يميز بين الفجر الكاذب والصادق على وجه دقيق، حيث أعدَّ التقويم على أول إضاءة تجاه الشرق في الغالب؛ أي: على درجة 18، وبعد عشر سنوات قدمه إلى درجة 19 احتياطاً.
وكان آل الشيخ أوضح في بيانه: أنَّ سماحة المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، وجَّه آنذاك بتشكيل لجنة من العلماء والاختصاص للنظر في صحة تقويم أم القرى، وأكَّدت اللجنة في تقرير رسمي لها صحة تطابق التوقيت مع طلوع الفجر.
في الحين الذي أوضح فيه العبيكان: أنَّ اللجنة التي يعوِّل عليها الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، ليس بينها فلكي، حيث كان القرار فيها يعود لمن أسماه بـ«كبيرهم» الذي خرج مرة واحدة، ووضع في باله القناعة بالتقويم، فلم يتحقق، وعندما نُوقش مَنْ كان معه، قال أحدهم: إنه لا يعرف الفجر الصادق من الكاذب على الطبيعة، وأحدهم رجع عن رأي اللجنة بعد أن وقف مع أهل الخبرة لمراقبة الفجر فاتضح له الخطأ.
ويتابع العبيكان بقوله: «وضحت بعد ذلك لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الأمر، وطلبت منه أن يكلف اللجنة المذكورة بالخروج معنا للتحقق من توقيت التقويم، فوافق، غير أنَّ كبير اللجنة رفض، حتى أنني طلبت منه ذلك شخصياً، فرفض، ما يدل على عدم الحرص على تصحيح الخطأ». من جانبه شدد الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على ضرورة العمل بتقويم أم القرى وعدم تأخير وقت الإمساك أو الإفطار، معتبراً أنَّ هذا الأمر ليس له ما يبرره.
ومن خلال بيان أصدره الشيخ العبيكان أول من أمس، أوضح أنَّ مخالفيه لا يعرفون كيف تم إعداد تقويم أم القرى؟ ولا مَنْ قام بإعداده؟
حيث اكتشف أنَّ مَنْ قام بإعداد التقويم هو شخص يدعى الدكتور "فضل نور"، بعكس ما يدعي مخالفوه من أنَّ التقويم قام بإعداده نخبة من العلماء!!.
موضحاً أنَّ الدكتور نور أفاد اللجنة المشكلة من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لدراسة مشروع الشفق (الفجر الصادق)، أنه أعد التقويم بناء على ما ظهر له وليس لديه أي أساس مكتوب، مفنداً بذلك ما ذهب إليه مخالفوه، الذين قال عنهم: «ثم إنَّ هؤلاء الذين يقدِّسون التقويم في صلاة الفجر، نجدهم يحاربونه في مكان آخر، ولا يعتبرون دقة الحساب في ولادة الهلال، ولا كونه غاب قبل الشمس أو بعدها».
ودلل العبيكان على أنَّ التقويم لم يعد من قبل متخصصين في الشريعة، ولم تشرف عليه مؤسسة دينية، بقوله: إنَّ «الاعتماد على دخول الشهر فيه كان على توقيت غرينتش، وعلى ولادة الهلال منتصف الليل، وهذا لا يقوله عالم بالشريعة، ثم بعد ذلك عُدِّل هذا النهج بعد صدور توصية من مجلس الشورى، فأصبح يعتمد في دخول الشهر على ولادة الهلال، وكونه يغيب بعد الشمس في مكة المكرمة».
وذهب العبيكان في تبيان الفرق بين الفجر الكاذب والآخر الصادق، إلى أنَّ الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية من الإمساك عن الطعام للصائم وابتداء وقت الصلاة هو الفجر الصادق، والمعروف بأنه ضوء الصباح؛ وهو حمرة الشمس في سواد الليل، ويطلق على أول بياض النهار.
وأبرز العبيكان آراء العلماء في توقيت التقاويم والأذان الثاني قبل صلاة الفجر، ومنها قول شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له على سؤال من أكل بعد أذان الصبح في رمضان بقوله: «أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير»، وكما قال ابن حجر: «من البدع المنكرة ما أحدث هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس».
مشيراً إلى أنَّ نظير ذلك ما يحصل الآن في الوقت الحاضر، فإنَّ معظم التقاويم تدخل وقت صلاة الفجر قبل الوقت الشرعي، ومنها تقويم أم القرى. وأورد العبيكان ما قاله الشيخ محمد بن عثيمين: «بالنسبة لصلاة الفجر فالمعروف أنَّ التوقيت الذي يعرفه الناس ليس بصحيح، فالتوقيت مقدم على الوقت بخمس دقائق على أقل تقدير، وبعض الإخوان خرجوا إلى البر فوجدوا أنَّ الفرق بين التوقيت الذي بأيدي الناس وبين طلوع الفجر نحو ثلث ساعة، فالمسألة خطيرة جداً، ولهذا لا ينبغي للإنسان في صلاة الفجر أن يبادر في إقامة الصلاة، وليتأخر نحو ثلث ساعة أو 25 دقيقة حتى يتيقن أن الفجر قد حضر وقته».
وذكر العبيكان في بيانه المفاسد المترتبة على تقديم وقت أذان الفجر، ومنها قيام بعض المساجد وخاصة التي على الطرقات بالصلاة قبل دخول الوقت، وكذلك المساجد في رمضان، حيث يصلي كثير منهم بعد عشر دقائق من الأذان، وصلاة المرضى وكبار السن في البيوت، وممن يسهر إلى الفجر بعد الأذان مباشرة، وصلاة النساء في البيوت حيث يصلي أكثرهن بعد الأذان مباشرة، ومبادرة أكثر المصلين بأداء سنة الفجر فور دخوله المسجد، وبذلك يكون قد صلى سنة الفجر قبل وقتها، والتبكير في السحور، وهذا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفضلاً عن الناس في المطارات وعلى الطائرات والذين قد يؤدون الصلاة عند دخول أول الوقت حسب التقويم، وطهارة الحائض والنفساء بعد وقت التقويم بوقت قصير، وعدم تمكينها من الصيام في ذلك اليوم، وغيرها من المفاسد التي لو وجدت واحدة منها لكانت كافية لتعديل التقويم، فكيف إذا اجتمعت؟! ولفت العبيكان إلى أنَّ الخلاصة التي خرجت بها اللجنة المشكلة من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والتي جاء فيها: «من خلال الرصد الميداني لمدة عام كامل لتحديد بداية الفجر الصادق «الشفق الشرعي» في منطقة الرصد، تبين أنه ينضبط باستخدام المعيار الفلكي عندما تكون الشمس تحت الأفق بمقدار 14،6 درجة قوسية وانحراف معياري بمقدار 0،3 درجة قوسية، ما يعني قرابة 21 دقيقة عن تقويم أم القرى، تزيد قليلا أو تنقص. كما ظهر للجنة بعد البحث والاستقصاء أنَّ سبب الإشكالية في التقويم هو اشتباه الفجر الكاذب بالصادق عند مَنْ قام بإعداده».
 9- وممن ذكر هذه المسألة وأنكرها؛ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار 2/ 184" عند قوله تعالى: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" فقال: ((ومن مبالغة الخلف في تحديد الظواهر مع التفريط في إصلاح الباطن من البـر والتقوى، أنهم حددوا أول الفجر وضبطوه بالدقائق، وزادوا عليه في الصيام إمساك عشرين دقيقة تقريباً!!، وأما وقت المغرب فيزيدون فيه على وقت الغروب التام خمس دقائق على الأقل، ويشترط بعض الشيعة فيه ظهور بعض النجوم؛ وهذا نوع من اعتداء على حدود الله تعالى... بيد أنه يجب إعلام المسلميـن... بأنَّ وقت الإمساك الذي يرونه في التقاويم والصحف، إنما وضع لتنبيه الناس إلى قرب طلوع الفجر الذي يجب فيه بدء الصيام... وأنَّ من أكل وشرب حتى طلوع الفجر الذي تصح فيه صلاته، ولو بدقيقة واحدة، فإنَّ صيامه صحيح)).

دراسة من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في المملكة العربية السعودية:
وهي دراسة علمية فلكية دقيقة أشار إليها العبيكان كما تقدَّم، وقد قام بها معهد بحوث الفلك في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بناءاً  على توجيه من الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية حالياً حفظه الله تعالى، والشيخ صالح آل الشيخ وزير الشؤون الدينية فيها حفظه الله تعالى، وقد شارك في هذا البحث أفاضل من علماء الشريعة والفلك، وتميزت الدراسة بالتجرد والميدانية والشرعية والفلكية والتجارب المتكررة، وقد أسفرت الدراسة عن الأمور التالية:
-أنَّ واضع تقويم أم القرى السابق ليس لديه علم شرعي، فهو لا يفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق، ولهذا وضع وقت الفجر في التقويم على الفجر الكاذب حسب إفادته!!، وهذا خطأ شرعي واضح، فإنَّ وقت الفجر الذي يحرم به الصيام، ويبيح الصلاة هو الفجر الصادق كما هو معلوم من الشرع وقد سبق بيانه.
- أنَّ واضع التقويم قدَّم وقت الفجر بهواه مقدار درجة وهي تعادل 4- 4.45 دقيقة، وذلك حيطة منه للصيام، فوقع فيما هو أخطر منه ، وهو تقديم صلاة الفجر.
- أنَّ الفجر الكاذب الذي وضع عليه التقويم متقدِّم على الصادق بنحو عشرين دقيقة، يزيد وينقص نحو خمس دقائق، وذلك حسب طول الليل، والنهار، وقصرهما.
وبعد مقابلة اللجنة المشرفة على الدراسة للمسئول عن أم القرى وتسجيل هذه المقابلة قالت: "وقد أمكن اللقاء بمعدِّ التقويم سابقًا الدكتور فضل نور، الذي أفاد بأنه أعدَّ التقويم بناءً على ما ظهر له، وليس لديه أي أساس مكتوب، ومن خلال الحديث معه ومحاورته تبين أنه لا يميز بين الفجر الكاذب والصادق على وجه دقيق، حيث أعدَّ التقويم على أول إضاءة تجاه الشرق في الغالب!!، أي: على درجة 18، وبعد عشر سنوات قدَّمه إلى 19 درجة احتياطًا!!.
وكذلك قال د. سعد بن تركي الخثلان؛ وهو عضو في اللجنة المشكلة لدراسة الشفق الفلكي في بيان له بتاريخ (3/ 8/ 1428ﻫ): (معظم التقاويم في العالم الإسلامي ومنها تقويم أم القرى يوجد لديها إشكالية في تحديد دخول وقت صلاة الفجر؛ إذ أنها تعتبر الشفق الفلكي بداية لوقت الفجر، والشفق الفلكي هو الفجر الكاذب الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار به كما جاء عند مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر، أو قال: حتى ينفجر الفجر"، وفي حديث قيس بن طلق عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يهيدنكم -أي لا يمنعنكم- الساطع المصعَّد حتى يعترض لكم الأحمر" أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وهو حديث حسن، وهذا الساطع هو الفجر الكاذب عند الفلكيين المعاصرين، ويكون له سطوع في بعض أيام السنة خاصة مع صفاء الجو بحيث يغرّ مَنْ لا يعرفه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "لا يغرنكم الساطع"، وهذا الشفق الفلكي يكون على درجة 18، وقد وضع عليه تقويم رابطة العالم الإسلامي وتقويم العجيري، أما تقويم أم القرى فقد وضع على درجة 19، أي مع تقديم أربع إلى خمس دقائق.
وقد وجدت دراسات فلكية حديثة لتحديد الدرجة الصحيحة لبداية الفجر الصادق، والذي استقرت عليه الدراسات أنه ما بين 14.5 إلى 15، أي أنَّ الفارق بينها وبين تقويم أم القرى مابين 15 إلى 23 دقيقة بحسب فصول السنة))، وقد قال في بيان سابق: ((فينبغي التواصي في هذه المسألة العظيمة المهمة المتعلقة بعبادة، ولا يقال: إنَّ في هذا تشويش، بل في هذا تصحيح للخطأ الواقع، فهل يترك الناس على الخطأ؟! هذا ليس بصحيح)).

وأخيراً:
فهذه مجموعة من أقوال أهل العلم والمتخصصين في هذا المجال وقد أنكروا المواقيت الفلكية؛ استفدتُ بعضها من مقالات أفاضل ممن كتب نصائح في بيان هذا الأمر الخطير في مواقع الإنترنت، ولا شك أنَّ هناك أقوال أخرى لعلماء ومشايخ آخرين في كآفة بلاد أهل الإسلام، ولو لم يكن إلا مَنْ تقدَّم ذكرهم لاكتفى المرء بهم واستغنى، فكيف وقائمة أهل العلم الذين أنكروا التوقيت الفلكي في بلدانهم كثيرة.
 وأما مَنْ صحح هذا التوقيت وغلَّط مَنْ يطعن بصحته فإنما مستنده لذلك الفلكيون واللجنة التي خرجت لملاحظة ذلك، وقد علمتَ أيها القارئ الكريم حالها!، ولو لم يكن إلا أنَّ نتائج هذه اللجنة المعتمدة عندهم مخالفة لما صرَّح به أولئك العلماء والمشايخ لكان كافياً في الطعن بتلك النتائج، فكيف وقد أثبتت لجنة أخرى بعدهم خلاف ما يزعمون؟! بل وكيف واللجنة السابقة لا يميز أصحابها الفروق بين الفجر الصادق والكاذب؟!!
وأما مَنْ يقول: إنَّ في إثارة هذا الموضوع تشويش للناس وفتنة لهم!؛ فلا عبرة لقوله وبخاصة وقد حذَّر من ذلك علماء أكابر ولم يتوقفوا في بيان ذلك خشية الفتنة والتشويش، ولو أنَّ كلَّ ما فيه تشويش لبعض الناس تُرك خشية أن يُفتنوا لتركت واجبات كثيرة وفُعلت محرمات كثيرة، وإنما الفتنة في مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، فكيف ومسألة وقت الصلاة مسألة مهمة تعتمد عليها الصلاة التي هي أعظم العبادات العملية؟
والغريب ممَنْ يحرص على إيقاع فريضة الصيام إمساكاً وإفطاراً في وقتها، ويحتاط لذلك دقائق قد تكثر وقد تقل، ثم لا نجده يحرص على إيقاع فريضة الصلاة وهي أعظم من الصيام في وقتها!، علماً أنَّ الشرع رخَّص في وقت الإمساك، وحثَّ على تأخير السحور وتعجيل الفطور!!؛ فعن أم حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((عجِّلوا الإفطار وأخِّروا السحور)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة)) كذلك رواه الطبراني وصححه الألباني، وعن عمرو بن ميمون قال: ((كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً)) رواه البيهقي، وعن أبي عطية قال قلت لعائشة: فينا رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أحدهما: يعجِّل الإفطار ويؤخِّر السحور، والآخر يؤخِّر الإفطار ويعجِّل السحور؟ قالت: أيُّهما الذي يعجِّل الإفطار ويؤخِّر السحور؟ قلت: عبد الله بن مسعود؛ قالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. أخرجه النسائي، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع النداءَ – والمقصود به أذان الفجر الثاني كما جاء مصرحاً في إحدى الروايات- أحدُكم والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه))، وهذا في النداء المستند على التوقيت الشرعي فضلاً عن الفلكي.
أما الصلاة فقد أجمع علماء الإسلام قديماً وحديثاً أنَّ مَنْ صلَّى قبل الوقت بمقدار تكبيرة الإحرام فقط بطلت صلاته، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع 1/ 408: ((والدَّليل على اشتراط الوقت قوله تعالى: "إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً"، أي: مؤقَّتاً بوقته، وقوله تعالى: "أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً"، والأدلَّة من السُّنَّة كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وقت الظُّهر إذا زالت الشمس، وكان ظلُّ الرَّجُلِ كطوله ما لم يحضرِ العصر، ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشَّمسُ...» الحديث. والصَّلاة لا تصحُّ قبل الوقت بإجماع المسلمين، فإنْ صلَّى قبل الوقت: فإنْ كان متعمِّداً فصلاته باطلة ولا يسلم من الإثم، وإنْ كان غير متعمِّد لظنِّه أنَّ الوقت قد دخل فليس بآثم وصلاته نَفْل؛ ولكن عليه الإعادة؛ لأنَّ من شروط الصَّلاة دخول الوقت))، وقد تقدَّم قوله رحمه الله تعالى: ((لو تقدم الإنسان قبل الوقت بقدر تكبيرة الإحرام فقط ما صحت الصلاة)). وقال رحمه الله تعالى في المصدر السابق 1/ 428: ((مسألة: هل يُصلِّي مع الشَّكِّ في دخول الوقت؟ الجواب: لا يصلِّي مع الشَّكِّ، وذلك لأنَّ الأصل العدم، فلا يُعدل عن الأصل إلا بمسوِّغ شرعي. وهل يُصلِّي مع غلبة الظنِّ بعدم دخول الوقت؟ الجواب: لا يُصلِّي من باب أَولى. وهل يُصلِّي مع اليقين بعدم دخول الوقت؟ الجواب: لا يجوز. إذاً؛ لا يُصلي في ثلاث صُور، ويصلِّي في صورتين، فالصُّور خمس: تيقُّنُ دخول الوقت، وغلبة الظنِّ بدخوله؛ فله الصَّلاة في هاتين الصُّورتين، لكن لو تيقَّن في الصّورة الثانية أنه صلَّى قبل الوقت لزمته الإعادة، وتكون الأُولى نَفْلاً. الصورة الثالثة والرابعة والخامسة: الشكُّ في دخوله، وغلبة الظنِّ بعدم دخوله، واليقين بعدم دخوله: فلا يُصلِّي)).
فيا أئمة المساجد ومؤذنيها عليكم أن تبينوا هذا الأمر للناس بحكمة ورفق، وأن تحذِّروا من عاقبة مخالفته، لأنَّ المساجد أمانة في أعناقكم، وأنتم مسؤولون أمام الله عزَّ وجل عن صلاة الناس الذين يُصلُّون الفجر قبل وقتها، ولا تغتروا بمواقيت وُضِعت من قبل لجنة أو هيئة يحكمها الفلكيون الذين يجهلون أوصاف الفجر الصادق، ودليل ذلك أنهم لا يُدوِّنون في هذه المواقيت إلا الفجر الأول ولا يعرفون غيره، وهو عندهم الفجر الصادق!!.
وعليكم أن تخرجوا بأنفسكم مراراً وتكراراً قبل وقت الفجر بمدة وتراقبوا أوصاف الفجر من جهة شروق الشمس كما تقدَّم في أول هذه النصيحة، ولا تقلِّدوا أحداً ولا تتعصبوا لقول، فإن تبيَّن لكم أنَّ التوقيت الشرعي لصلاة الفجر يتأخر عن التوقيت الفلكي الموجود في مواقيت الصلاة، وأنَّ آذان مسجدكم يقع في ظلمة من الليل ليس فيها بياض منتشر على طول الأفق تستبطنه حمرة من جهة مشرق الشمس، فاعلموا أنَّ آذانكم خطأ؛ لأنه يقع خارج الوقت.
وهكذا؛ بكثرة النظر ستعرفون الفرق بين التوقيت الشرعي الصحيح وبين التوقيت الفلكي الخطأ، وقد صرَّح كثيرٌ من طلبة العلم في العراق الذين خرجوا في أرض مكشوفة بعيدة عن الأنوار ويُرى فيها الأفق بوضوح: أنَّ الفارق بين التوقيت الخطأ المدوَّن في مواقيت الصلاة وبين التوقيت الصحيح هو ما يُقارب 15 دقيقة، وهذا يعني أنَّ وقت الفجر الموجود في القوائم هو الفجر الأول، ثم يُزاد عليه ما يُقارب 15 دقيقة فيكون الفجر الثاني، والبعض الآخر يرى أنَّ الفارق أكثر من ذلك، والله تعالى أعلم.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يُحب ويرضى، وأن يرزقنا الإخلاص والسداد في الأقوال والأعمال في الظاهر والباطن، إنه وليٌّ المؤمنين.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين. 

وكتبـــه
أبو معاذ رائد آل طاهر
في صبيحة يوم الجمعة  الثالث والعشرين من شهر رجب 1430ﮬ
الموافق 17/ 7/ 2009م

هل تشترط النصيحة قبل نشر الرد على المخطئ في المسائل العلمية؟

هل تشترط النصيحة قبل نشر الرد على المخطئ في المسائل العلمية؟


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإنَّ بعض الناس إذا كتبَ مقالاً أو رسالة أو سجَّلَ درساً أو محاضرة، وتم نشر ذلك المكتوب أو المسجَّل في أوساط الناس أو في المواقع والشبكات، وقد وقع فيه بمخالفة منهجية، أو أخطأ فيه في مسألة علمية أو بعض المسائل، فإذا قام أحدٌ من المشايخ أو طلبة العلم بالرد عليه وبيان خطئه في ذلك بعلم وعدل وأدب؛ قاصداً بذلك تحذير الناس من قبول تلك المخالفة أو الاغترار بذلك الخطأ، ونصيحة المردود عليه أن يرجع عن خطئه، استنكر ذلك الكاتب أو المتكلِّم على هذا الراد أو الناقد قائلاً:
هلا نصحتني قبل الرد؟!
وتراه يجمع بعض الآثار ويحشد بعض النقول التي تدعوا إلى السر في النصيحة!، مثل: ((المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر أو يفضح))، ((مَنْ أمَرَ أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره))، ((مَنْ وعظ أخاه بالعلانية فقد شانه، ومَنْ وعظه سراً فقد زانه))، ((كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر ونهاه في ستر، فيؤجر في ستره ويؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد ما يكره استغضب أخاه وهتك ستره))، ((من علامات النصح والتعيير: وهو أنَّ النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان))، ((المؤمنون نصحة والمنافقون غششة))، ((المؤمنون عذَّارون والمنافقون عثَّارون))، إلى أمثال ذلك من الآثار!.
بل قد يجعل الرد قبل النصيحة ليس فقط من باب التوبيخ والغش والتشهير والتعيير والفضيحة، وإنما يعده من قبيل إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ومن تتبع عورات المسلم وإظهار العيوب وكشفها أمام الناس!.
ثم يحاول أن يقتنص كلمة هنا أو هناك لأهل العلم في سياق معين ليتوصل من خلالها إلى إيجاب النصيحة قبل الرد!، واشتراطها ولزومها قبل النشر والإعلان!.
ثم ليُهوِّل مسألة الرد قبل النصيحة أكثر فأكثر ويصرف أنظار القراء من النظر إلى الأخطاء المنهجية أو المسائل العلمية التي أخطأ فيها إلى هذه المسألة فيبدأ يذكر مفاسد نشر الرد وإعلان النقد قبل النصيحة والاتصال بالمنصوح!.
وبعض المتعصبين من أتباع هذا المنصوح يجتهدون مع شيخهم ومتبوعهم لمحاولة صرف أنظار القراء من أخطاء شيخهم الظاهرة ووجوب إصلاحها إلى مسألة النصيحة قبل الرد والنشر!، ولو كانوا فعلاً قاصدين الحقَّ يبتغون وجه الله عزَّ وجل لتجردوا من التعصب وناقشوا الانتقادات التي وجِّهت إلى شيخهم بعلم وعدل وأدب بدلاً من الخوض في مسائل بعيدة عن صلب الموضوع.
ولهذا أحببتُ في هذا المقال أن أذكر بعض النقول عن العلماء والمشايخ المعاصرين في بيان عدم شرطية النصح قبل الرد، وفي بيان عدم إيجاب إيصال نسخة من الرد للمنصوح أو الاتصال به ونصيحته في السر قبل نشر الرد في العلن؛ وبخاصة إذا كان الخطأ معلناً منشوراً بين الناس.

لكن قبل ذلك؛ لا بد أن نعرف أنَّ الاثار والنقول التي تقدَّم ذكرها والتي فيها الدعوة إلى السر والستر في النصيحة؛ إنما تحمل على أحد هذه المعاني:
الأول: السر والنصيحة مع العصاة الذين لا يجاهرون بذنوبهم؛ فلا ريب أنَّ كشف ستر هؤلاء وإظهار عيوبهم للناس من التشهير والتعيير والفضيحة، وهو محرَّم.
الثاني: نصيحة المخطئ في بعض الأمور الخاصة أو الأحوال الشخصية أو الأفعال السلوكية أمام الناس.
الثالث: إعلان الأخطاء العلمية على وجه التعيير والانتقاص.
الرابع: إعلان الخطأ المستور من آحاد الناس والذي لا سبيل للآخرين في الوصول إليه، والكلام فيه أمام الناس.
 الخامس: السر في النصيحة مع ولاة الأمور وذوي الهيئات والسلطة والجاه.
 السادس: الدعوة إلى السر في النصيحة من باب الترغيب والفضيلة لا من باب الشرط والفريضة.
فبعض هذه الصور أو كلها هو مراد أهل العلم في مسألة الستر في النصيحة، فليَعلم هذا مَنْ لا يُفرِّق بين (هذه الصور المذكورة) وبين الرد على (الأخطاء في المسائل العلمية المعلنة)؛ فهذه لا يجب فيها الستر في النصيحة قبل الرد، ولا يُشترط فيها السر قبل النقد كما سيأتي بيانه. 

وأما أقوال العلماء المعاصرين التي تدل على عدم إيجاب النصيحة قبل نشر الرد فهي:

الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
سُئِـل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى السؤال الآتي [شريط الموازنة في النقد/ الوجه الأول من سلسلة الهدى والنور رقم 638]: قول بعضهم أو اشتراط بعضهم بمعنى أصح؛ أنه في حالة الردود لا بد قبل أن يُطبع الرد إيصال نسخة إلى المردود عليه حتى ينظر فيها؛ ويقول إنَّ هذا من منهج السلف؟
فكان جوابه: ((هذا ليس شرطاً؛ لكن إن تيسَّر وكان يُرجى من هذا الأسلوب التقارب بدون تشهير القضية بين الناس فهذا لا شك أنه أمر جيد، أما أولاً أن نجعله شرطاً، وثانياً أن نجعله شرطـاً عامـاً فهذا ليس من الحكمة في شيء إطلاقاً!، والناس كما تعلمون جميعـاً معادن كمعادن الذهب والفضَّة، فمن عرفتَ منه أنه معنا على الخط وعلى المنهج وأنه يتقبَّل النصيحة فكتبتَ إليه دون أن تُشهِّر بخطئه على الأقل في وجهة نظرك أنت فهذا جيد، لكن هذا ليس شرطاً، وحتى ولو كان شرطاً ليس أمراً مستطاعاً، من أين تحصل على عنوانه؟! وعلى مراسلته؟!، ثم هل يأتيك الجواب منه أو لا يأتيك؟! ، هذه كلها أمور ظنية تماماً))

الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:
وسُئِلَ الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى السؤال الآتي [مجلة الإصلاح/ العدد (241-17) بتاريخ 23/6/1993]: متى حفظكم الله تكون النصيحة سراً ومتى تكون علنـاً؟
فكان جوابه: ((يعمل الناصح بما هو الأصلح، إذا رأى أنها سراً أنفع نَصَحَ سـراً، إذا رأى أنها في العلن أنفع فعل؛ لكن إذا كان الذنب سـراً لا تكون النصيحة إلا سراً؛ إذا كان يعلم من أخيه ذنبـاً سـراً ينصحه سـراً لا يفضحه، ينصحه بينه وبينه، أما إذا كان الذنب معلنـاً يراه الناس مثلاً في المجلس قام واحد بشرب الخمر ينكر عليه أو قام واحد يدعو إلى شرب الخمر وهو حاضر أو إلى الربا يقول: يا أخي لا يجوز هذا، أما ذنب تعلمه من أخيك تعلم أنَّ أخاك يشرب الخمر أو تعلم أنه يتعاطى الربا تنصحه بينك وبينه سـراً تقول: يا أخي بلغني كذا .. تنصحه، أما إذا فعل المنكر علانية في المجلس وأنت تشاهد المنكر أو شاهده الناس تنكر عليه، إذا سَكتَّ معناه أنك أقرَّيت الباطل، فإذا كُنَّا في مجلس ظهر فيه شرب الخمر تنكره إن استطعت، وكذلك ظهر فيه منكر آخر من الغيبة تقول: يا إخواني ترى ما تجوز الغيبة أو ما أشبهه من المعاصي الظاهرة ، إذا كان عندك علم تنكرها لأنَّ هذا منكر ظاهر لا تسكت عليه من باب إظهار الحق والدعوة إليه)).
وسُئل رحمه الله أيضاً [مجموع فتاوى العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله 6/ 272]: التعاون بالجهر أفضل أم بالسر؟
فأجاب: ((التعاون يكون بالسر ويكون بالجهر، والأصل أنه بالجهر حتى يعلم السامع ما يقال ويستفيد، فالتعاون والإرشاد نصيحة جهرية للمجتمع هذا هو الأصل؛ إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم الجهر خوفاً من الشر من بعض الناس؛ لأنه لو نصح أو وجِّه جهراً قد لا يقبل وقد يتكبَّر، فالنصيحة سراً مطلوبة حينئذ.
والناصح والموجِّه والمرشد يتحرى ما هو الأصلح، فإذا كانت النصيحة والدعوة والإعانة على الخير جهراً تنفع الحاضرين وتعم بها المصلحة فعل ذلك، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون التناصح في حالة السر فعل ذلك؛ لأنَّ المقصود حصول الخير والنفع للمنصوح وللمجتمع، فالوسيلة المؤدية إلى ذلك هي المطلوبة سواء كانت سرية أو جهرية، والناصح والداعي إلى الله كالطبيب يتحرى الوقت المناسب والكمية والكيفية المناسبة، فهكذا يكون الداعي إلى الله والناصح لعباده يتحرى ما هو الأنسب، وما هو الأصلح، وما هو الأقرب للنفع)). 

الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله تعالى:
سُئل الشيخ ربيع حفظه الله [شريط "لقاء مع الشيخ ربيع 1422هـ" السؤال (5)]: شيخنا من الأمور التي صارت تروج وصارت عطفاً على السلفيين؛ هي أقوام يدعون وجوب النصيحة قبل التحذير، فهل من قول منكم شيخنا في هذا الباب؟
فكان جوابه: ((أجبتُ على هذا السؤال سلفاً بارك الله فيك، وهذه الأصناف ابتلينا بها، فتجد يشيع الأباطيل والأكاذيب والافتراءات على الآخرين بالأعيان وبالعموم، وإذا وجِّهت له نصيحة أو نقد أو شيء قال: لماذا ما حذروني؟ ولماذا ما نصحوني؟ ولماذا ما بينوا لي؟ علل فاسدة.
نحن نطلب من هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إلى الحق بكل أدب وتواضع، وأن يتركوا مثل هذه التعاليل.
هب أنَّ هذا أخطأ وما تكلَّم، وما نصحك، ارجع إلى الحق وبعدها عاتبه، أما تشيع في الناس وتتمادى في باطلك وفي أخطائك وتقول: لم يفعلوا، وفعلوا، هذا كلام فارغ، على المؤمن أن يرجع إلى الله تبارك وتعالى، ويقبل النصيحة الخفية والواضحة. أنت تنشر أخطاءك في الكتب وفي الأشرطة و... و... إلى آخره، لو كنتَ تخفي أخطاءك وتعملها في الظلام بينك وبين الله، واكتشف هذا الإنسان ينصحك بينك وبينه، وأما وأنت تنشر أقوالك وأفعالك في العالم، ثم يأتي مسلم وينشر يعني يرد عليك، هذا ليس فيه شيء، اتركوا هذه التعليلات من كثير من أهل الباطل الذين مردوا على الباطل و العناد)).

الشيخ عبيد الجابري حفظه الله تعالى:
سُئل الشيخ عبيد الجابري حفظه الله [ محاضرة "من أسباب محبة الله للعبد" ضمن اللقاءات السلفية القطرية بتاريخ 14/12/2011]: هذا سؤال عن كيفيه النصيحة للمخطئ؛ هل يشترط فيها الملازمة له والمداومة على لقائه والجلوس معه؟
فكان جوابه: ((النصيحة لها حالتان: الأولى: أن يكون الأمر في نفس المنصوح؛ فهذا ينُصح سراً؛ فيما بينك وبينه، واجتهد في نصحه وبيِّن له، وتابع مادمت ترى منه ليناً وميلاً وحسن إصغاء، فألِن له الخطاب، واجتهد له، وبيِّن له أنك تريد نصحه. الثانيه: أن تكون المعصية علنية؛ فهذه المعصية العلنية هي التي يجب التوبة، أو سارق وأنه يضر بالناس، عاصي يضر الناس بدينهم أو دنياهم؛ فهذا يحذَّر منه حتى يكون الناس على بينة منه؛ إلا ولي الأمر فإنه ينُصح سراً، وهذه المسأله قد بسطناها في كثير من المواطن.
أحياناً يكون الخطأ بدعة، المخالفة بدعية، وقد طار بها الناسُ وشاعت وانتشرت؛ فهذه لا بد من الرد عليها بالدليل الذي يكشف حالها ويبين أنها بدعة مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عليه الأئمة من الصحابه ومن بعدهم إلى اليوم، أئمة الإسلام على هذا، حتى يقلعها من الرد العلني، حتى يقلعها من أذهان الناس، ويبين الحق لطالب الحق. أما إنْ كانت البدعة في نفس الإنسان لا يدعو إليها ولا يقررها ولا ينشرها فينُصح في نفسه؛ نعم، فالمسأله فيها تفصيل)).

الشيخ محمد بن هادي حفظه الله تعالى:
قال حفظه الله في [مجلسه مع الشيخ عبدالمحسن العبيكان المسمى بـ (تناقضات المخالفين)]: ((فالحديث معشر الإخوان كما سمعتم، وسمعتم أيضاً من كلماتٍ لأخينا صاحب الفضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا في قضية السنة والتمسك بها والدعوة إليها.
وذلك أنَّ الناس أحد رجلين:
الرجل الأول: ظاهره مخالَفته للسنة وواضح أمره في هـذا الباب، ولا يزعُم لنفسه أنه على طريق السلف الصالح رضي الله عنهم؛ فهذا أمره واضح، والجواب عليه لا يُحتاج فيه إلى كثير جهد وإتعاب في إعداد الرد.
وإنما الشأن في الثاني: وهو الذي ذكره أخونا الشيخ عبدالمحسن جزاه الله خيراً في تعليقه النافع، ذلكم الرجل هو الذي يدَّعي أنه على السنة ويدعو - كما يدَّعي - إلى مذهب أهل السنة، فهذا ينبغي أن يُنظر إليه، وهو الذي غُزِيَ أبناؤنا وفلذات أكبادنا من طريقه أو على يديه.
كيف ذلك؟
لأنَّ صاحب الهوى الواضح والاعتقاد الفاضح المخالف لما عليه أهل السنة كما قلنا هـذا لا يحتاج إلى كثير عناء؛ بل أمره واضح لكل مَنْ يعرف طريقة أهل السنة والجماعة التي كان عليها أئمة السلف رضي الله عنهم.
لكن الشأن في الثاني؛ فهذا كما قال أخونا الشيخ عبدالمحسن ننظر إلى واقعه العملي، هل يوافق قوله ودعواه القولية أو لا يوافق؟
فإنْ وافق عمله قوله فذلكم هو الصادق، والصادق ولله الحمد له علامات جلية واضحة تبرهن على صدقه لما يقول.
وإما أن يخالف عمله قوله وهذا الذي ابتلينا به في هـذه الفترات الأخيرة؛ فتنظر إلى كثرة المدَّعين لهذا الذي تقدم ذكره، وإذا ما نظرت إلى أفعالهم وجدتها على خلاف أقوالهم.
فمثلاً: منذ أن جاءت حرب الخليج الثانية قبل سبعة عشر عاماً، وتكلَّم مَنْ لا يحق له أن يتكلَّم، وادَّعى وزعم ما ادَّعاه وما زعمه، نظرنا إلى أقواله التي يدعي فيها أموراً يزعم أنه عليها، ونظرنا إلى أفعاله، وإذا الأفعال تخالف الأقوال.
فمثلاً يزعم أنه على طريقة أهل السنة والجماعة ويأنف من أن يقول هو على الطريقة السلفية!، وما هي طريقة أهل السنة والجماعة؟ هي الطريقة السلفية، ولم يزل ولا يزال علماء الإسلام إلى يوم الناس هـذا يرددون هـذه الكلمة، لا يرون فيا نكارة ولا غضاضة ولا عيباً.
هؤلاء لو قالوا بهذا الذي قلتُ لكُشفوا كشفاً واضحاً بيّناً كما كُشف المبتدع الواضح الأصلي البيِّن الذي لم يزعم أنه على طريقة أهل السنة.
كيف ذلك؟
الجواب أنه لو قال: إنه على ما عليه السلف الصالح فتأخذ مواقفه موقفاً موقفاً، فمنها هـذا الذي ذكرنا، السلف لا ينكرون النسبة إليهم؛ بل وفي حينه قبل سبعة عشر عاماً، قبل أن يتكلم كثير من المتكلمين وليس ذلك مما نفخر به؛ ولكن مما نقول هـذا من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون؛ فنسأل الله جلَّ وعلا أن يرزقنا شكر نعمته، نقول في حينه، وقلنا: ما رأيكم في شيخ الإسلام؟ ما يستطيعون أن يتكلمون فيه.
طيب أنتم تقولون مَنْ أوجب على الناس أو على شخص معين أنه يكون سلفياً فإنه يُستتاب؛ فإنْ تاب وإلا ضُربت عنقه، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه أو اعتزى إليه؛ بل يجب (شوف لفظة الفقهاء الذين يعرفون العبارات التكليفية، خطاب الشارع) بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلا حقاً".
فما رأيك يا مَنْ تقول: أنك على مذهب أهل السنة؟
لا يستطيع، يُلقم حجراً، ومَنْ أراد أن يدافع عنه يُلقم حجراً.
طيب حينما تأتي إلى مسألة ثانية، منهج أهل السنة والجماعة، طيب الرد على المخالف، ماذا تقولون فيه؟
المخالف؛ يقولون بيِّن الخطأ ولا تبين قائله، فبهذا "ما بال أقوام؟"، فبهذا يُقبل منك وتكون متبعاً للسنة النبوية!.
نقول: إنَّ مثل هـذا كمثل الجمل الأعور الذي مرَّ بأرض ذات ربيع وجانب منها قد أُكل ورُعي؛ ولكن العين السليمة في الجانب الذي قد أُكل ورُعي فلا يرى إلا هـذا، ويترك الخير الكثير لأنه لا يراه.
وهويناً ورويداً، فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله ربيع، أرضٌ مُخضَرَّة؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً؛ فكان منها طائفة نقية قبلت الغيث، فأنبتت العشب والكلأ الكثير"، فكلامه عليه الصلاة والسلام كله ربيع؛ ولكن الأرض النقية هي قلوب من يَرِد عليها هـذا الكلام فتنتفع في نفسها وتنفع غيرها.
وهٰذا الذي مثَّلناه بالجمل الأعور لا يرى إلا كلام مُعَظِّميه الذين يعظِّمهم، وشبههم التي قد أطلقوها، فذهب يتمسَّك بها وهو لا يعرف؛ فنقول له نعم، النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام" عليه الصلاة والسلام؛ ولكنه قال أيضاً عليه الصلاة والسلام "مَنْ بالباب؟" قالوا فلان، وفي رواية "من هـٰذا؟" قالوا: فلان، قال: "بئس أخ العشيرة"، وجاءت فاطمة إليه تستشيره فقالت: إنَّ معاوية وأبا جهم قد خطباني؛ فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أما معاوية فصعلوك لا مال له - يعني فقير رضي الله عنه في ذلك الحين -، وأما أبو جهم فضرَّاب للنساء"، فنصحها وبيَّنَ في كل واحد منهما عيباً يمنعها من إجابة كل واحد منهما، هـذا أو هـذا، فإذا تنازلت هذا عائد إليها، ثم أشار إليها بالأصلح، قال: "انكحِ أسامة، صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ آل فلان وآل فلان ليسوا لي بأولياء"، إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وقصة بريرة أيضاً حينما جاءت رضي الله عنها إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تستعينها بفكاك رقبتها فاشترط مواليها أنَّ الولاء لهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر خطيباً مُغضَباً؛ فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله"، فهذا الحديث جمع ما بين أمرين: جمع ما بين قوله "ما بال أقوام"، وبين رده على هؤلاء وهم معروفون أيضاً؛ وهم موالي بريرة، ليسوا مجهولين، ثم قال لعائشة: "اعتقيها، وليشترطوا ما اشترطوا، كتاب الله أحق، وقضاؤه أمضى، إنَّ الولاء لمن أعتق"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من النصوص.
فورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال هـذا، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال هـذا؛ فنحن نقول:
الجمع بين هـٰذه النصوص؛ حيث يجب الستر على صاحب الغلط بأن لا يكون معروفاً بالبدعة ولا بمخالفة السنة ولا بكثرة الشذوذات ولم يشتهر عنه هـذا القول ولم يذع، وإنما صار بينه وبين بعض إخوانه أو مَنْ تناقش معه، أو كان من ذوي المروءات، أو كان ممن يُرجى أن يُناقش على حدة وانفراد؛ نعم نقول هـذا: "ما بال أقوام"، لأنَّا إنْ فعلنا الأول لم يكن صواباً، ولم يكن صاحبه موفَّقاً؛ فمثل هـذا ينبغي أن يقال فيه: "ما بال أقوام"؛ فحصلت النصيحة، وحصل التوجيه والإرشاد والتصحيح وبيان الغلط، وحُفظ لصاحبه ما تعرفون.
أما الثاني: حينما يشتهر بمخالفته، ويذيعها بين الناس، وينتصر لها، وزيادة على ذلك يدعو إليها، هـذا كيف يَحذره الناس؟
لابد أن يقال في مثل هـذا: "فلان احذروه"، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يفعلون ذلك؛ بل بعضهم كان يطوف حول البَنِيَّة المعظَّمة (الكعبة) وهو يقول: فلان كذَّاب احذروه، فلان وضَّاع احذروه، حتى يشهر هـذا في أهل الجمع فينتشر؛ فالقصد من ذلك حماية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو فرضنا وتنزَّلنا وسلَّمنا جدلاً أنَّ في هـذا تشهيراً؛ لكانت المفسدة التي فيه أقل من أختها، وهي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسبة شيء إلى الدين ليس منه، فأيهم أعظم منكراً؟ لا شك أنَّ هـذا أعظم.
فلو فرضنا أنَّ هـذه مفسدة؛ لقلنا: إنَّ هـذا من باب ارتكاب أدنى المفسدتين درءاً للعظمى، لو قلنا وسلمنا وتنزلنا، فحينما يقال بهذا القول، نجد من هم أسعد الناس بـ "مابال أقوام"؛ أسعد الناس هم الذين جمعوا بين النصوص والأدلة.
فمثلاً: إذا كتب الكاتب في مقابلتِك أنت أيها الزاعم لهذا الزعم، وتكلَّم على ما أنت عليه، لماذا لا نجد عندك: "ما بال أقوام"؟! ليش؟ بل هو يكتب ويرد ويرقى المنبر ويخطب، ويستكتب آخرين في اللقاء القادم في العدد إذا كان أسبوعياً أو شهرياً أو حولياً، يطلب آخرين أن يكتبوا ويردوا، ويتصل بخطباء لأنْ يخطبوا ويُسجَّل ليُنشَر هـذا؛ فأين ذهبت "فما بال أقوام"؟! راحت!، أين هي؟ فحينئذ تعرف أنَّ مثل هؤلاء يكيلون بمكيالين ويزنون بميزانين، إذا كالوا لأنفسهم قالوا بالأول!، وإذا اكتالوا لأنفسهم ضد مَنْ يُخالفهم قالوا بالثاني!.
هـٰذا مثال، والدليل على ذلك ذكرناه في تلك الحقبة، ولعل بعضكم - ولا أقول جميعكم- لعل البعض منكم ما أدرك ذلك الوقت قبل سبعة عشر عاماً، شخص واحد يقول مقالة في مقابل بعض هؤلاء الرموز، فتأتي في خلال شهر أربعة كتب مطبوعة على الورق الصقيل والإخراج الجميل من أربعة من هؤلاء الرموز، مع أنَّ الكلام كان على واحد!، ثم بعد ذلك الخطب شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً!، وبعد أيام تدول وتدور الدائرة فإذا به يُسأل: الخلاف الذي بينك وبين فلان؟ قال: عفا الله عما مضى!، ويُطوى ولا يُروى، وتعاونٌ على البر والتقوى، وهو بالأمس يقول: فلان علماني!، طيب علماني كيف أنت الآن تقول: نتعاون على البر والتقوى؟! هل يُرجى من العلماني أنه يعاونك على البر والتقوى؟! أسألكم، هل يُرجى من العلماني؟، يعني لا تقول أنك أنت علماني؛ لكن على دعوى هـذا المدعي، هل يُرجى من العلماني أن يتعاون معك على البر والتقوى؟! ما يُرجى لأنه ما يعرف البر والتقوى، فانتقل بين عشية وضحاها إلى هـذا.
بينما أهل السنة يقولون لا، لو كانت هـذه الحادثة أو غيرها حدثت عندنا، المقياس واحد: "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجُبُّ ما كان قبله - وفي لفظ: يهدم ما كان قبله - والتوبة تهدم ما كان قبلها"، فهل سمعت أنت الآن أيها القائل تعاونٌ على البر والتقوى وعفا الله عما مضى ويُطوى ولا يُروى وود وإخاء وصفاء ونقاء؟! هل سمعت أنه تاب؟ هـذا الذي تتهمه أنت بغض النظر (أنا أوافقك على تهمتك له أم لا، هـذا باب آخر) لكن هل ثبت عندك الآن أنه تاب؟! وأنتم تقولون لا بد من التوبة، طيب فين هـذا؟!
تعرفون في هذا أنَّ هؤلاء يتلاعبون بعقول الناس!، ولكن للأسف مع هـذا كله تجد عند هؤلاء قدرة على السيطرة على زمام الإعلام!، ولكن ليس يصح إلا الحق، والباطل مهما قام فإنَّ نهايته إلى اضمحلال، فهٰذه أيضاً صورة من الصور.
من الصور أيضاً: الكلام على أهل الأهواء والبدع، فإذا ما ذكرتَ صاحبَ هوى وصاحبَ بدعة قد أشهر بدعته إما في كتاب وإما في أشرطة أو في الخطب أو في الصحف فتأتي للرد عليه، يقول:
تعهَّدني بنصحك في انفراد ...... وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة
فإنَّ النصحَ في الأقوام نوع ...... من التوبيخ لا أرض استماعه
طيب هـذا نوع، نظرنا إلى هؤلاء المزمجرين بهذه الأبيات للشافعي، وإذا بك حينما ترى الكِّفة تدول عليهم لا يعرفون تعهَّدني بنصحك في انفراد. "هؤلاء الجامية!، هؤلاء المدخلية التابعة لوزارة الداخلية!، هؤلاء..."، نحن نفخر بأن نكون سامعين مطيعين لولي الأمر سواء وزارة الداخلية أو وزارة الخارجية، نحن داخلنا وظاهرنا إن شاء الله سواء، لكن أنت أيها الكذوب!، تقول هـذا الكلام وإذا بك أنت أول واحد ممن يأتي إذا لزَّت الأمور أول مَنْ يأتي يتمسَّح عند وزير الداخلية وفقه الله، وإذا بك تقول قولاً لو قلتُ أنا عُشره لما وسعتني أرض ولا أظلتني سماء، عندك أين هـذا الكلام؟ ذهب؟ لا، فالعدل هنا ضاع والوزن هنا طاش والمكيال انكسر الذي يطالبون بالكيل به فما فيه: تعهَّدني بنصحك في انفراد....... وجنِّبني النصيحة في الجماعة، لا، "هؤلاء يجب أن يُكشفوا!، هؤلاء المندسون يجب أن تُهتك أستارهم!، هؤلاء الذين هم أذناب للسلطان يجب أن يُبين حالهم حتى يحذرهم..."، وهكذا من هـذا القبيل، فهذا من العجب!.
ومن أعجب العجب؛ أن يُكثروا من الترداد له حتى يوجد مَنْ يصدِّقه للأسف!، فكانوا كما قيل: كالكذَّاب يكذب الكذبة، ثم يذهب يجري ينظر إلى أين انتهت، انتشرت في الآفاق أو لا؟، ثم بعد ذلك يأتي ويغالط نفسه حتى إنه هل قال؟ ولا ما قال؟ وهو يعلم أنه ما قال!، فمثل هـذا موجود، أين ذهبت هـذه النصائح؟! لا وجود لها)).

الشيخ عبدالله البخاري حفظه الله تعالى:
سُئل الشيخ عبدالله البخاري حفظه الله السؤال الآتي: هل النُصح أو النصيحة شرط قبل التحذير من الشخص إذا ما وقع منه خطأ؟
فكان جوابه: ((نقول بارك الله فيكم: القاعدة الشرعية إنَّ الخطأ مردود على قائله؛ لأنَّ ما مَنْ أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نعظِّم الحق.
يبقى النصح له؛ هذا الخطأ له حالتان:
الحالة الأولى: خطأ مستور غير ظاهر وغير منتشر؛ لا شك أنَّ النصح له أولى، لكن لا يعني ذلك: أنَّ العبارة الخاطئة لا تُورد لتُرد؛ هكذا مطلقاً، لأنها قد تنتشر، فهنا النصح له أولى.
والحالة الثانية: أنَّ الخطأ قد ظهر وانتشر وتوسَّع وذهب؛ هنا يجب وجوباً على مَنْ علم حاله أن يردَّ الباطل، وأن يردَّ على قائله، إنَّ الله أمرنا أن نقول الحق، وأمرنا أن لا نكتم الحق، واضح.
فإذا ما كان الأمر كذلك؛ بقي مسألة النصح بينك وبينه، هذه مسألة فضلى وفاضلة؛ أنك تنصح له.
عندنا خطأ واجب بيانه، وعندنا نصح من الأفضل أن نقوم به، عندنا عمل فاضل وعندنا عمل واجب؛ لا نُغطِّي الفاضلَ لنُسقِطَ الواجبَ، واضح.
فالبعض يستخدم العمل هذا - الفاضل - لإسقاط الواجب مع انتشار الخطأ هذا غلط، الإمام قتادة يقول: "إنَّ الرجل إذا ابتدع بدعة يجب أن تذكر حتى تحذر"، لا بد من بيان الحق، والأنبياء والرسل جاؤوا لبيان الحق للخلق: "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت".
وكلمة التوحيد قائمة على أصلين؛ ليست نفياً محضاً ولا إثباتاً محضاً، هي: نفي واثبات، ففيها بيان الحق والرد على الباطل: "لا إله" هذا رد على أهل الباطل الذين ألهوا غير الله بغير حق، اتخذوا الأوثان و..و.. و..إلى غيره، "إلا الله" إثبات للحق، تضمنت الحق والرد على الباطل. "محمد رسول الله" تضمنت إثبات الحق والرد على الباطل؛كيف؟ إثبات نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله خلافاً لمن أنكر الرسالة وقال إنها مكتسبة، وقال.. و قال ..وقال..، وإثبات للحق وهو أثبات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رسول من رب العالمين، كذلك تضمنت الرد على من غلا فيه فدعاه من دون الله وألهه.
فكلمة التوحيد قائمة على بيان الحق والرد على الباطل، بهذه جاءت الأنبياء، واضح يا إخوتاه؟
هذا المخطئ؛ يُترفَّق معه إنْ كان سنياً، مع ردِّ خطئه: فإنْ عاند بُيِّن أمره أنه غلط في هذا، وأخطا فيه، فليس العزيز على الخنا بمحرم.
الامام علي بن المديني ضعَّف أباه، وأبو داود ضعَّف ابنه، لا يحابون في الله أحداً ولو كان أقرب قريب!، انظر إلى كلام الامام الخطيب في شرف أصحاب الحديث وغيره، هذه المحاباة: لا، لكن يُبين أمره، ينظر، احذروا المقالة الفلانية - ولو كان قائلها زيد أو عمرو من الناس- ، هذا غلط، هذا غلط.
نعم؛ رجوع هذا أحبُّ إلينا، أن يرجع، وأبرد على قلوبنا أن يرجع الإنسان إلى الحق، ليس بيننا وبين الحق عداء، لكن، الاستمرار على الباطل يجب الحذر منه)).

الشيخ جمال بن فريحان الحارثي حفظه الله تعالى:
قال الشيخ جمال بن فريحان الحارثي حفظه الله في مقاله [الرد الريَّان على القرني وحسَّان في سبهما الصحب الكرام]: ((مَنْ انتشر خطؤه في الآفاق وتعدَّى وذاع؛ فالرد عليه واجب قبل أن تقدم له النصيحة، ثم يناصح إنْ أمكن، كما أنه لا يلزم شدُّ الرحال وقطع المفاوز إليه لنُصحه.
ولقد وجَّهنا سؤالاً للإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في مجلسه بمنـزله بحي العزيزية بمكة المكرمة في نهاية شهر رجب تقريباً عام 1414هـ، وكان تواجد سماحته في مكة في ذلك الوقت بسبب الاجتماع السنوي الذي ينعقد في مكة "للمجمع الفقهي"، وكنا أكثر من عشرة أشخاص من طلبة العلم، ومن بيننا شخصية مرموقة، جئنا من مدينتي الطائف وجدهـ، وكان في مجلس الشيخ ابن باز آنذاك ضيفاً عنده؛ رجلاً من علية القوم، فعرّفَنا عليه وقال: تفضلوا بالكلام، وكان سبب حضورنا وجلوسنا مع سماحة المفتى الإمام ابن باز هو: تجاوزات سفر الحوالي وسلمان العودة، ذكرتُ هذه المقدمة من البيان للسؤال الآتي من أجل أن يعرف الجميع أنَّ الأمر موثَّق، وفي نفس الوقت أتحفَّظ على أسماء مَنْ حضر تلك الجلسة، فجاء هذا السؤال: سماحة الشيخ؛ ما هو منهج السلف فيمن أظهر بدعته وانتشر خطأه بالأشرطة في الآفاق، هل يلزم أن نضرب له المفاوز؟ وهل تكون النصيحة له في السر أم يُشهَّر به ويحذر منه؟
قال سماحة المفتي الإمام ابن باز رحمه الله: "فيه تفصيل: إذا أظهر الرجل خطأه أو فسقه؛ فإنَّ القاعدة عند أهل العلم: أنه مَنْ أظهر ذلك لا حرمة له، ومنهج أهل السنة والجماعة فيمن أظهر بدعته وانتشر خطأه للناس أن يُردَّ عليه بالمثل، ويُشهَّر به، وينتشر، كما انتشر خطأه بين الناس، فإنه لا حرمة لفاسق، ويناصح)).
هذا ما أردتُ بيانه، وأسأل الله عزَّ وجل أن يوفِّق الجميع إلى نصرة الحق وأهله.
وكتبـــه
أبو معاذ رائد آل طاهر

17/شعبان/1433 للهجرة

الاثنين، 20 أبريل 2015

الكتُب التي يعتني بها المبتدىء في طلبهِ للعلِم ( الشيخ - محمد بن هادي المدخلى - حفظه الله تعالى )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله
السؤال الأول:-

فأول سؤالٌ نبدأَ به: ما تكلّم بهِ ابننا البارِحة، وهو ما يتعلق بالكتُب التي يعتني بها المبتدىء في طلبهِ للعلِم ؟

الجواب:-

ونحنُ قد تكلمنا على هذا، ولكن لا مانِع فمرةً نعتذر ونُحيل على ما سبَق، ومرةً نُكرر ولا بأس.
فأقول أول ما يجب على طالِب العلِم الإعتناء بهِ كتابُ الله -جلَّ وَعلا- تلاوةً وإتقانًا لإحكامِ التلاوة، نَعني بها أحكام التجويد، وفي هذا يكفي المبتدي تُحفة الأطفال.
ثُمَّ يحفظ كتابَ الله -جلَّ وَعلا- وإن لم يتيسر لهُ ذلك، حَفِظَ ما يتيسر لهُ منه، وأتّقنّه على يدِ مُقرئ، فإنَّ القُرآن إنما يُتلقى بالعَرضِ والسماع، ثُمَّ بعد ذلك يعتني بفهم هذا الكتاب العزيز، تفاسيرهِ المُختَصَرَة المُيَسَرّة، حتى يفهم معنى كلام الله -جَلَّ وَعلا- ومن الكُتب الجميلة في هذا تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمهُ اللهُ تعالى- وقد طُبِع -وللهِ الحَمد- في مُجلَد مع القُرآن الكريم، يسهُل على طالِب العلِم حملهُ وليس بثقيل -ولله الحمد-.
ثُمَّ بعد ذلك يأخُذ في الاعتقاد ما يصحّ بهِ اعتقاده، فيقرأَ القواعِد الأربع فيحفظها لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، ثُمَّ الأصول الثلاثة، ثُمَّ كتاب التوحيد، ثُمَّ كشف الشُبُهات، ثُمَّ العقيدة الواسطيّة، ثُمَّ تلخيص الحمويّة، ثمَّ الحموية الكبرى –الأصل-، ثُمَّ يقرأَ بعد ذلكَ ماشاء من شرح الطحاوية وكُتُب الإعتقاد، لكن إنما يبتدأَ بهذا الذي ذكرنا القواعِد الأربع، الأصول الثلاثة، كتاب التوحيد، كشف الشُبُهات، ثمَّ يقرأَ الواسطية في أسماء الله وصفاتهِ، وفيها ما يتعلق بأركان الإيمان، ثُمَّ لا يضيرهُ بعد ذلك أن يقراَ المُطولات.
الحديث: يأخذ الأربعين حِفظًا، فهي أربعين جامِعَة، ثُمَّ عمدة الأحكام، ثمَّ البلوغ، ثُمَّ لا يضيرهُ بعد ذلك أن يقرأَ في كُتُب الأحكام المُطوّلَة، وفي الأُمهات،لكن المبتدأ يبدأ بهذا بالأربعين النووية ثم عمدة الأحكام ثم يأتي بعد ذلك إلى البلوغ.
في الفقه:يأخذ آداب المشي إلى الصلاة، أخصر المختصرات، زاد المستقنع، ثم لا يضيره بعد ذلك أن يقرأ في الكتب الأخرى.
وهكذا أصول الفقه: يبتدأ في أصول الفقه للشيخ محمد بن عثيمين- رحمهُ اللهُ تعالى- العلم بأصول الأصول، الورقات، للجويني، وشرحها للمحلي، هذه لابُدَّ منها للمبتدي في الفن.
في النحو: يأخذ الآجروميّة، ثم المُلحة، مُلحة الإعراب، ثم الخُلاصة التي هي الألفيّة، ألفية بن مالك.
هكذا درج طلبة العلم عندنا على هذا في التلقيّ.
أصول الحديث: يأخذ نُخبة الفكر حفظًا، مع شرحها بعد ذلك، النُزهة، ثم يأخذ بعد ذلك الباعث الحديث، ثم التدريب، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، لا يضيره بعد ذلك أي شيء قرأ.
في السيرة النبوية:الفصول في سيرة الرسول للحافظ بن كثير- رحمه الله تعالى- فإنها مُختصَرة وشاملة، ثم يقرأ بعد ذلك تلخيص ابن هشام لسيرة ابنِ إسحاق، لأنهُ سيعود إليها دائمًا، وأنصحهُ مع سيرة ابنِ هشام أن يقرأ السيرة النبوية التي كتبها الحافظ ابنُ كثير في مُقدمة البداية والنهاية، فإنهُ قد حررها تحريرًا طيبًا- رحمهُ الله تعالى-يستفيد منها المبتديء ويستفيد منها المتوسِط، ويحتاج إليها المنتهي، فإن تحريراتهُ بديعة جدًا، ويحرص على أن يذكُر مع الأحداث أحاديثها سواء كانت في الصحيحين أو في الأُمهات أو في المُسنَد، وإذا وُجِد ما يظهر من التعارض فإنه يحرص على التوفيق ويعتني بالأسانيد والكلام عليها، ويبيّن مُنكرات في الجملة، وإلا فإنه قد فاتهُ شيءٌ ولكنهُ يسير بالنسبةِ إلى ما ذكرهُ رحمه الله تعالى-.
هذا ما يتعلق بسؤالِ ابننا ولعلنا جئنا على جميع الجوانب .. (1)
منقول

الاثنين، 13 أبريل 2015

علم الجرح والتعديل تعريفه..تاريخه..ثمراته

علم الجرح والتعديل
تعريفه..تاريخه..ثمراته
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله؛
أما بعد؛ فهذه نُبذة يسيرة عن علم "الجرح والتعديل"، هذا العلم الذي خصَّ الله سبحانه هذه الأمة به دون سائر الأمم، حفظًا للوحيين أن يدخل فيهما ما ليس منهما، وهو علمٌ يبحث في أحوال الرجال –رواة الحديث وغيرهم من المتصدرين للتعليم والدعوة والفتوى والتصنيف ونحو ذلك من المهمات- والفرق والكتب، والحكم عليهم بما يليق من حالهم جرحًا أو تعديلاً.
وجرح الرجال نوعان:
النوع الأول: جرح في العدالة، والذي يشمل التبديع والتضليل والتفسيق.
النوع الثاني: جرح في الضبط والحفظ، والذي يشمل: سوء الحفظ، والغفلة، والخطأ، والوهم، والتخليط..إلخ.
ويُسمى هذا العلم أيضًا بـ: "الرد على المخالف"، و"التحذير من أهل البدع والأهواء"، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة، ولذلك اعتنوا بذكره في كتب أصول الاعتقاد.
وقد أخرجت هذا العمل في طبعته الأولى منذ حوالي خمس سنوات على صورة مطوية، ثم بدا لي أن أنقحه وأزيد فيه، ثم أعرضه على العلماء، وقد تم هذا، وشرُف العمل بمراجعة وتقريظ عدة من أفاضل أهل العلم له، وكان على رأسهم إمام هذا العلم في هذا الزمان شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله ونفع بعلمه-، حيث قرأت عليه هذه المطوية إبان ظهورها، فأجازها ووصَّى بطبعها ونشرها، وقال لي: انشرها على شبكة سحاب.
فجزاه الله خيرًا، وجزى إخوانه من مشايخنا الذين بذلوا معي وقتًا لمراجعة هذه المطوية وتصحيح بعض العبارات فيها؛ كي تخرج في أبهى حلة إن شاء الله، والغرض منها هو تعريف عامة بالمسلمين بأهمية هذا العلم العظيم، ومعناه، وكيفية نشأته، وثمراته الجليلة؛ حيث إن أهل البدع والأهواء قد شوَّشوا على كل هذا، حتى اندثر هذا العلم وسط المسلمين، وصار غريبًا بغربة الإسلام.
ونظرًا لزيادة حجم العمل عن الطبعة الأولى، رأيت أن نجعله في كتيب صغير بدلاً عن المطوية.
والله أسأل أن يبلغ كلمة الحق فيه إلى كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ كي يعرفوا قدر هذا العلم، ولا ينجرفون خلف شبهات أهل الأهواء في التنقص والسُّخرية منه، وليدركوا خطورة بخس حق علماء الجرح والتعديل، والطعن فيهم، الذي يؤول إلى الطعن في أصول ديننا، وتنفتح الثغرات التي ينفذ منها أهل الزيغ والكفر والضلال.
اعلم –رحمني الله وإياك- أن أوَّل من جرح الرجال نصحًا للأمة هو نبي الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي سنَّ هذا المنهج الحكيم بوحي من الله لحماية هذا الدين من أهل البدع والأهواء، ولهذا أمثلة منها: تحذير النبي من ذي الخويصرة التميمي، فلما قال له ذو الخويصرة: "اتق الله يا محمد"، سأله رجل قتله، فمنعه فلما ولَّى قال: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا- قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"؛ وقال أيضًا عن الخوارج: "ألا إنَّهم كلابُ أَهْل النَّار".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عَائِشَةَ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : "ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: "أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ".
ولما قال حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّان"، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
ولما سألته فاطمة بنت قيس عن حال مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ لما خطباها، فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ"، أخرجه مسلم.
فهذه الأقوال من النبي صلى الله عليه وسلم كلُّها من باب النصيحة، والتحذير مِمَّا يجب التحذير منه، وليست هي من الغيبة باتفاق أهل العلم، وإليك بعض أقوالهم الدالة على هذا كما أوردها بأسانيد صحيحة الخطيب البغدادي –رحمه الله- في كتابه "الكفاية في علم الرواية" : (باب: وجوب تعريف الْمُزكي ما عنده من حال المسئول عنه) (ط دار الهدى):
(80) عن الحسن قال: "ليس لأهل البدعة غيبة".
(81) عن يحيى بن سعيد قال: سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ: قالوا: "بيّن أمره للناس".
(82) عن عفَّان قال: "كنا عند إسماعيل بن عُلية جلوسًا فحدَّث رجل عن رجل فقلت: إن هذا ليس بثبت، فقال الرجل: اغتبته، قال إسماعيل: "ما اغتابه، ولكنه حكم أنه ليس بثبت".
(85) عن حماد بن زيد قال: "كلَّمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد وجرير بن حازم في رجل، قلنا لو كففت عن ذكره؛ فكأنه لان وأجابنا ثم مضيت يومًا أريد الجمعة فإذا شعبة يناديني من خلفي، فقال: "ذاك الذي قلت لكم فيه لا أراه يسعني".
(87) عن أبي بكر بن خلاد قال: قلت ليحيى بن سعيد القطان: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى؟ قال: قال: لأن يكون هؤلاء خُصمائي أحب إلَيَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ حدَّثت عني حديثًا ترى أنه كذب؟!
(88) عن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصِّر بعمرو بن عُبَيْد فجثوت على ركبتي، فقلت: يا أبا الخطاب، هذه الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ فقال: يا أحول رجلٌ ابتدع بدعة فيُذكَر خيرٌ من أن يُكَفَّ عنه.
(91) عن مكي بن إبراهيم قال: كان شعبة يأتي عمران بن حُدَيْر يقول: "يا عمران تعال حتى نغتاب ساعة في الله عز وجل÷ -يذكرون مساوئ أصحاب الحديث-.
(92) عن ابن المبارك قال: "المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، قال: فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن، تغتاب؟ قال: "اسكت، إذا لم نُبَين كيف يعرَف الحق من الباطل؟!" -أو نحو هذا الكلام-.
(93) عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم ويُصحِّف؛ فقال: فقلت: لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: لا.
(95) عن محمد بن بندار السبَّاك الجرجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: "إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذَّاب، فقال أحمد: "إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!".
(96) عن عبد الله بن أحمد قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعلَّه أن يكون مُرجئًا أو شيعيًّا أو فيه شيء من خلاف السنة؟! أيسعني أن أسكت عنه أم أحذر عنه؟ فقال أبي: "إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام ويدعو إليها قال: نعم، تحذِّر عنه".
P وسئل العلامة صالح الفوزان -حفظه الله-:
$لقد تفشى ورع بارد بين بعض علوم طلبة العلم، وهو إذا سمعوا الناصحين من طلبة العلم أو العلماء يُحذِّرون من البدع وأهلها ومناهجها، ويذكرن حقيقة ما هم عليه ويردون عليهم وقد يوردون أسماء بعضهم ولو كان ميتًا لافتتان الناس به، وذلك دفاعًا عن هذا الدين، وكشفًا للمتلبسين والمندسين بين صفوف الأمة لبث الفُرقة والنزاع فيها، فيدَّعون أن ذلك من الغيبة المحرمة، فما قولكم في هذا المسألة؟
الجواب: "القاعدة في هذا التنبيه على الخطأ والانحراف وتشخيصه، وإذا اقتضى الأمر أن يُصرح باسم الأشخاص حتى لا يُغتر بِهم، وخصوصًا الأشخاص الذين عندهم انحراف فِي الفكر، أو انحراف فِي السيرة والمنهج، وهم مشهورون عنــــد الناس، ويحسنون فيهم الظن، فلا بأس أن يذكروا بأسمائهم وأن يُحذر منهم، والعلماء بحثوا في علم الجرح والتعديل فذكروا الرواة وما قيل فيهم من القوادح، لا من أجل أشخاصهم، وإنما من أجل نصيحة الأمة أن تتلقى عنهم أشياء فيها تجن على الدين، أو كذب على رسول اللّه ج، فالقاعدة أولاً أن ينبه على الخطأ ولا يذكر صاحبه إذا كان يترتب على ذكره مضرة أو ليس لذكره فائدة، أما إذا اقتضى الأمر أن يُصرِّح باسمه من أجل تَحذير الناس منه، فهذا من النصحيـــــــة لله ولكتابه ولرسولــــه ولأئمـــــة المسلمين وعامتهم، وخصوصًا إذا كان له نشاط بين الناس، ويحسنون الظن به، ويقتنون أشرطته وكتبه، لا بد من البيان، وتَحذير الناس منه، لأن السكوت عنه ضرر على الناس، لا بد من كشفه لا من أجل التجريح أو التشهير، وإنما من أجل النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم#. اهـ
قلت: وهل يقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليس حريصًا على توحيد صفوف الأمة حين جرح هؤلاء بهذه الألفاظ الشديدة: "بئس أخو العشيرة"، "إنما هذا من إخوان الكهَّان"، "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، "لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"، "ألا إنَّهم كلابُ أَهْل النَّار"؟! وهل هذا من الغلو في الجرح يا صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" ؟!
وسار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا السبيل القويم في حماية الدين من أهل الزيغ؛ فحذَّر علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج، فأخرج مسلم عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا : لا حُكْمَ إلا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأعرَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ.  
ولما ظهرت القدرية حذَّر منهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وتبرأ منهم، فأخرج مسلم عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر َأنه قَالَ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ، قَال ابن عمر: "فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لَوْ أَنَّ لأحدهم، مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ، حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ".
بل طعن فيهم بجرح شديد قائلاً: "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ" (جاء موقوفًا ومرفوعًا).
و وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (905) عن سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ. فَقَالَ: مَا فَعَلَ وَالِدُكَ؟ فَقُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ. قَالَ: قَتَلَ اللَّهُ الْأَزَارِقَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: ثنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ» . قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ كُلُّهَا، أَوِ الْخَوَارِجُ؟ قَالَ: الْخَوَارِجُ كُلُّهَا.
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (934) عن عقبة بن وساج أنه سأل ابن عمرو عن أناس بالعراق يطعنون على أمرائهم ويشهدون عليهم بالضلالة، فقال –مجرِّحًا إياهم-: "أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
ولما ذُكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن؟ قال: "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابِهه، وقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]" ([1]).
فكانت الخوارج والقدرية هما أول فرقتين فارقتا سبيل الصحابة؛ وكان هذا هو موقف الصحابة منهما بأن حذَّروا منهما بهذه الألفاظ الشديدة في الجرح، بل استخدم الصحابة قوة السلطان في قمع أهل البدع؛ فضرب عمر رضي الله عنه صَبِيغ الذي أراد اتباع المتشابه من آيات القرآن، وحرَّق عليٌ رضي الله عنه الزنادقة الذين قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا (انظر الفتح 12/270)؛ وقاتل عليٌ الخوارج –الذين وقعوا في بدعة الغلو في التكفير- وقتل منهم الكثير؛ فهل هذا من الغلو يا صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" ؟!!
وبلا شك هذه الفرق فيها خطأ وصواب، وحقٌّ وباطل؛ فليست هي على الباطل المبين، كما ذُكر من حال الخوارج واجتهادهم في العبادة، ورغم هذا كان هذا هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من هذه الفرق؛ وبِهذا يُرَد على صاحب " رسالة إلى غلاة التجريح" احتجاجه بفتاوى مجملة منسوخة للجنة الدائمة سئلت فيها عن أحزاب هي امتداد لفرق: الخوارج والمعتزلة والصوفية والرافضة؛ وهي: حزب الإخوان المسلمين، وفرقة التكفير والهجرة، وفرفة التبليغ والدعوة..إلخ؛ فأجابت: "كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب، وبعضها أقرب إلى الحق والصواب وأكثر خيرًا وأعمُّ نفعًا من بعض؛ فعليك أن تتعاون مع كل منها على ما معها من الحق، وتنصح لها فيما تراه خطأ"؛ فنقول: وهل نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاون مع الخوارج فيما معهم من الحق حيث كانوا أصحاب اجتهاد في العبادة؟! وهل نصح عمر جند المسلمين أن يتعاونوا مع صبيغ بن عِسل فيما معه من الحق، ويدعوه يبث شبهاته في وسطهم دون ردع أو زجر؟! وهل نصح ابن عمر يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أن يتعاونا مع القدرية في قراءة القرآن وتقفر العلم؟!  وهل..؟! ..وهل..؟! أم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نفَّروا أشد التنفير من هذه الفرق، وأمروا بمجانبتها بالكليَّة، خشية التأثر بمناهجها الفاسدة، حيث إن الحقَّ الذي معها، هو مع أهل السنة، فلسنا في حاجة إلى صوابِها؛ ولأن شرها غلب على خيرها، وخطأها على صوابِها، وفي الغالب من يتبع هذه الفرق من العامة يأخذ كل ما عندها من شر وخير؛ لأنه لا يستطيع التمييز؛ فلماذا نفتن الناس عن الدين الحقِّ بهذا التمييع المشين الذي يوقع المغرَّر بهم في حبال هذه الفرق المخالفة للسنة؟!!
وقد كتم صاحب "رسالة إلى غلاة التجريح" الفتاوى المحكمة لعلماء اللَّجنة الدائمة الناسخة لهذه الفتوى المجملة؛ فلما سئل الإمام عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- رئيس اللجنة الدائمة سابقًا- عن فرقتي الإخوان والتبليغ قبل موته بسنتين: هل هاتان الفرقتان تدخلان في الفرق الهالكة؟ أجاب: "تدخل في الثنتين والسبعين، من خالف عقيدة أهل السنة دخل في الثنتين والسبعين".
وقال الإمام الألباني: "ليس صوابًا أن يُقال إن الإخوان المسلمين هم من أهل السنة؛ لأنهم يحاربون السنة"، وقال العلامة صالح اللحيدان: "الإخوان وجماعة التبليغ ليسوا من أهل المناهج الصحيحة فإن جميع الجماعات والتسميات ليس لها أصل في سلف هذه الأمة"، وقال العلامة عبد الرزاق عفيفي –رحمه الله- نائب رئيس اللجنة الدائمة- عن فرقة التبليغ: "الواقع أنَّهم مبتدعة ومُخرِّفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس فِي سبيل الله، لكنه فِي سبيل إلياس، وهم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعونَ إلى إلياس شيخهم"...إلخ الفتاوى المحكمة التي ذكرتُها كاملةً في "الكواشف الجلية"، وفيه توثيق هذه الفتاوى.
ولنا مقام آخر -إن شاء الله- أوسع من هذا نرد فيه ترهات وشبهات الجريح صاحب غلاة التجريح، ونظهر فيه زيف الجواهر الحسان في بيان منهج محمد حسَّان، والله المستعان.
وسار التابعون بإحسان إلى وقتنا هذا على هذا المنهج الرباني، وهذه مصنَّفات الجرح والتعديل شاهدة على هذا، ومنها: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"بحر الدم فيمن تكلَّم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذمّ" لابن عبد الهادي، والتواريخ الثلاثة "الكبير والأوسط والصغير"، و"الضعفاء" كلُّها للبخاري، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي، و"الضعفاء" للعقيلي، و"ميزان الاعتدال" للذهبي، ولسانه لابن حجر، و"الضعفاء والمتروكين" للنسائي، ونحوه للدارقطني ثم ابن الجوزي..إلخ، وفيها تقرأ تجريح وتبديع مئات من الرجال –رواة وغيرهم- وبيان مخالفاتِهم –صغُرت أم كبُرت-، دون الاعتناء بذكر محاسنهم؛ لأن المقام مقام تحذير، ونصح للمسلمين، وهذه نُبذة يسيرة من هذه الأقوال:
في طبقات الحنابلة (1/233، 234) في ترجمة علي بن أبي خالد: قال علي: "قال قلت لأحمد: إن هذا الشيخ لشيخ حضر معنا هو جاري وقد نهيته عن رجل ويحب أن يسمع قولك فيه -حارث القصير، يعني: حارثًا المحاسبي- كنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة فقلت لي: لا تجالسه، ولا تكلِّمه؛ فلم أكلِّمه حتى الساعة، وهذا الشيخ يجالسه فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احْمَّر لونه وانتفخت أوداجه وعيناه وما رأيته هكذا قط ثم جعل ينتفض ويقول: ذاك فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه، أويه أويه أويه، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم هلكوا بسببه؛ فقال له الشيخ: يا أبا عبدالله يروى الحديث ساكن خاشع من قصته ومن قصته؛ فغضب أبو عبدالله، وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه؛ فإنه رجل سوء ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره، لا تكلِّمه ولا كرامة له، كُلُّ من حدَّث بأحاديث رسول الله ج، وكان مُبتدعًا تجلس إليه لا ولا كرامة ولا نعمي عين، وجعل يقول: ذاك ذاك÷.
وجاء فِي ســــــؤالات البرذعي (ص561): "شهدت أبا زرعة سئل عن الحــــــارث المحاسبي وكتبه، فقلت للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغني عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقـــــــــدمين صنَّفوا هــــــذه الكتب فِي الخطرات والوساوس وهــــــــــذه الأشياء؛ هــــــؤلاء قوم خـــــــــالفوا أهــــــل العلم؛ فآتوْنا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبد الرحيم الديبلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع÷.اهـ
قلت: فهذا هو موقف جبلين من جبال علم الجرح والتعديل مع أحد القُصَّاص الكبار، رغم أنه لم يكن جاهلاً متعالِمًا كحال كثير من قُصَّاص هذا الزمان، بل كان كما قال الخطيب في تاريخ بغداد (8/211): "وللحارث كتب كثيرة في الزهد وفي أصول الديانات والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة وغيرهما÷.
قلت: أي أنه كان له ردود على بعض المخالفين لأصول أهل السنة، وفي الوقت نفسه كان هو واقعًا في مخالفات أخرى لأصول أهل السنة، منها رأي جهم، وكلامه في الخطرات والوساوس، فلم يأبه أحمد بردوده على المعتزلة والرافضة، ويعقد موازنة بين حسناته وسيئاته كما يصنع رويبضة هذا الزمان.
وقال الذهبي في الميزان (2/166) بعد أن نقل كلام أبي زرعة: "وأين مثل الحارث؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كــــ(القوت) لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم وحقائق التفسير للسلمي لطار لُبَّه؟ كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟ كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ بلى لما كان الحارث لسان القوم في ذاك العصر كان معاصره ألف إمام في الحديث فيهم مثل أحمد بن حنبل وابن راهوية، ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة، كان قطب العارفين كصاحب الفصوص وابن سبعين، نسأل الله العفو والمسامحة آمين÷.اهـ
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! فكيف إذا رأوا كتب سيد قطب، ومحمد الغزالي، والمودودي، والقرضاوي، والترابي؟ فكيف لو استمعوا لقُصَّاص هذا الزمان؟! لطار لُبَّهم.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: كنا عند ابن عيينة فسأله منصور بن عمار عن القرآن؟ فزبره وأشار إليه بعكازه؛ فقيل يا أبا محمد: إنه عابد؛ فقال: ما أراه إلا شيطانًا÷.
وقال العقيلي في الضعفاء (4/193): "منصور بن عمار القاص، لا يقيم الحديث وكان فيه تجهُم÷.
قلت: هكذا لم يغتر ابن عيينة به، وقال فيه مثل هذا الجرح الشديد، فهلاَّ قام أصحاب منهج القصص والتمييع باتِّهَام ابن عيينة بالغلو في الجرح؟؟
وقال البخاري في ترجمة إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى المدني الأسلمي مَولاهم: "كان يرى القَدَر، عن يحيي بن سعيد: تركه ابن المبارك والناس، حدثنا محمد حدثني ابن المثني، ثنا بشر بن عمر، قال: نهاني مالك، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قلت من أجل القدر تنهاني عنه؟ قال: ليس في دينه بَذَاك".(الضعفاء 9).
وقال في ترجمة أبان بن أبي عَيَّاش: "وهو أبان بن فَيْرُوز أبو إسماعيل البصري، عن أنس، كان شعبة سيئ الرأي فيه" (الضعفاء 33).
وقال في ترجمة عبد المجيد بن أبي روَّاد: "كان يرى الإرجاء عن أبيه، وكان الحميدي يتكلَّم فيه"(الضعفاء 239).
وقال في ترجمة يحيى بن بِسطام: "يُذكر بالقدر" (الضعفاء 394).
وقد جرح البخاري في الضعفاء ما يقرب من أربعمائة رجلاً، والنسائي جرح ما يزيد عن ستمائة وخمسين رجلاً في كتابه.
وقال إبراهيم بن طهمان: حدثنا من لا يتهم –غير واحد- أن جهمًا رجع عن قوله ونزع عنه وتاب إلى الله منه فما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه، ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم".
وعلى هذا المنهج الرباني أسَّس أئمة الجرح والتعديل مصنَّفاتِهم في بيان حال الرجال –رواة وغير رواة- حفظًا لهذا الدين من التبديل والتحريف والإحداث، وحتى ينقل جيلاً بعد جيل عن الثقات الأمناء إلى الثقات الأمناء، بأسانيد نظيفة إلى أن وصل إلينا في زماننا صاف غير مكدَّر محفوظًا بحفظ الله، فهنيئًا لك يا أمة الإسناد بعلم الجرح والتعديل.
قال أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم –رحمه الله- في تقدمته على "الجرح والتعديل" (ص5-6): "فلمَّا لم نجد سبيلاً إلى معرفة شئ من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عزوجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حق علينا معرفتهم ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات.
وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين [وأعلامه]
وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذي رووه، ويعتمد عليه، ويحكم به، وتجري أمور الدين عليه، وليعرف أهل الكذب تخرصا، وأهل الكذب وهما، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبأ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذب فكذب، وإن وهم فوهم، وان غلط فغلط وهؤلاء هم أهل الجرح، فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يعبأ به ولا يعمل عليه، ويكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار، ومن حديث بعضهم الآداب الجميلة والمواعظ الحسنة والرقائق والترغيب والترهيب هذا أو نحوه".اهـ
وقال الجوزجاني في مقدّمته على "أحوال الرجال": "وسأصفهم على مراتبهم ومذاهبهم منهم الزائغ عن الحق كذاب في حديثه ومنهم الكذاب في حديثه لم أسمع عنه ببدعة وكفى بالكذب بدعة ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس حديثه إذ كان مخذولا في بدعته مأمونا في روايته فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إذا لم يقو به بدعته فيتهم عند ذلك.
ومنهم الضعيف في حديثه غير سائغ لذي دين أن يحتج بحديثه وحده إلا أن يقويه حديث من هو أقوى منه فحينئذ يعتبر به.
فأبدأ بذكر الخوارج إذ كانت أول بدعة ظهرت في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً أعني التميمي الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل حين وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياعه وجلاَّهم ونعتهم وأحسن نعتهم ثم هم تحركوا أيضًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرقوا جماعة الأمة وميلوا اعتدال الإلفة فشاموا أنفسهم أولا والأمة بعدها آخرا فنبذ الناس حديثهم اتهامًا لهم.
منهم:
1 - عبد الله بن الكواء رأسهم.
2 - وعبد الله بن راسب
3 - وشبث بن ربعي أول من حلل الحرورية.
4 - ومالك بن الحارث.
5 - وأبو بلال مرداس بن أدية
6 - وأخوه عروة بن أدية
7 - ونافع بن الأزرق
8 - ونجدة بن عامر
9 - وصعصعة بن صوحان ...".اهـ
قلت: كذا استهل الجوزجاني كتابه بذكر أسماء أول من ظهر من رءوس بدعة الخوارج، ناعتًا إياهم بأنهم سبب تفريق الأمة، وإذا تقفى الأئمة في زماننا آثار الأئمة السابقين نحو الجوزجاني في تعداد رءوس أهل البدع في زماننا خاصة رءوس الخوارج المفرقين للأمة من قديم، إذ برويبضة هذا الزمان يتهمون هؤلاء الأئمة بأنهم هم المفرقون الفتَّانون، فاللهم الصبر والثبات في زمن الغربة.
ولا نعلم أحدًا أبدًا من العلماء المعتبرين اعتبر التجريح الشديد لأهل الأهواء المخالفين لمنهج السلف غلوًّا، بل كانوا يعتبرونه مَحمدة لصاحبه، كما قال الحافظ في الإصابة (3/130): "وكان سمُرة بن جندب رضي الله عنه شديدًا على الخوارج، فكانوا يطعنون عليه".
وقال أحمد: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام؛ فإنه كان شديدًا على المبتدعة"(السير7/447).
وقال مالك: "كان ابن هرمز قليل الكلام، وكان يشدُّ على أهل البدع، وكان أعلم  الناس بما اختلفوا فيه من ذلك، وكذا كان عبد الرحمن عبد القاسم" (مناقب مالك للزواوي ص152).
وقال قتيبة بن سعيد: "كان عمر بن هارون شديدًا على المرجئة، وكان يذكر مساوئهم وبلاياهم"(تاريخ دمشق45/365).
وقال أبو الصلت الهروي في ترجمة إبراهيم بن طهمان: "كان شديدًا على الجهمية"(السير7/380).
وقال عبد الله بن أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2/158): سمعت أبي يقول: وكان أبو عصمة شديدًا على الجهمية والرد عليهم، ومنه تعلم نُعَيْم بن حَمَّاد الردَّ على الجهمية.
وقيل في ترجمة يوسف بن يحيى البويطي: "إنه كان شديدًا على أهل البدع"(تبيين كذب المفتري ص348) ([2]).
وقال ابن رجب في ترجمة البربهاري: "شيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع والمباينة لهم باليد واللسان"(طبقات الحنابلة2/18)...إلخ الأمثلة المبثوثة في كتب التراجم([3]).
وقال شيخ الإسلام في نقض المنطق (ص12): "الراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذَّبّ عن السنة أفضل من الجهاد".
وقد أجمع العلماء على وجوب التحذير من أهل البدع والأهواء، وحذَّروا من مجالستهم، كما قال الفضيل بن عياض: "وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وهم ينهون عن أصحاب البدعة".
وقال أبو عثمان الصَّابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص123): "واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم".اهـ
وقال ابن بطة في الشرح والإبانة (ص282): "ومن السنة مُجانبة كلّ من اعتقد شيئًا مما ذكرناه –أي من البدع- وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه ونصره وذبَّ عنه وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السُّنَّة".
وحذَّر السلف من القراءة في كتب أهل البدع، كما قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله –أي أحمد- عن الكرابيسي، وما أظهره؟ فكلح وجهه ثم قال: "إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على هذه الكتب" (المعرفة والتاريخ 3/494)، وقال أحمد أيضًا: "إياكم أن تكتبوا عن أحد من أصحاب الأهواء قليلاً ولا كثيرًا، عليكم بأصحاب الآثار والسُّنَن" (السير 11/321)، وقال ابن أبي حاتم: "وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلّظان في ذلك أشد التغليظ، ويُنكران وضع الكتب برأي في غير آثار، وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين، ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبدًا" (شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 322).
واعلم –أرشدك الله- أن هذا العلم العظيم ليس قاصرًا على رواة الحديث كما يُموه البعض، واسمع إلى ما قاله ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير (3/464-مجموع الرسائل): "ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث، ولا التمييز بين مَن تقبل روايته ومن لا تقبل وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّل شيئًا منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به، ليُحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا([4])".
وكذلك الرد على المخالف لا يشمل أهل الأهواء فحسب بل يدخل فيه أيضًا المخالف من أهل السنة، لكنهم يفرقون في كيفية الرد بين المبتدع والسلفي، وبين العالم والمتعالم الجاهل، فقال ابن رجب في النصيحة (3/467): "وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الخطاب وأحسن في الرد والجواب؛ فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه...وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردَّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردِّها عليهم هذا كله حكم الظاهر...وسواء كان الذي بيِّن الخطأ صغيرًا أو كبيرًا فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتَيْن وغير ذلك.."، إلى أن قال: "وهذا كلّه في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم".اهـ
وأهل البدع يشتركون في سمة رئيسة هي: مخالفة سبيل السلف الصالح في فهم  الكتاب والسنة، فهم يتبعون أهواءهم وأراءهم المبنية على المتشابهات لا المحكمات، ويعارضون بها الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ لا ينتسبون إلى السلف إما بلسان مقالهم أو بلسان حالهم، فإما أن ينتسبون صراحة إلى مسميات أخرى نحو الجهمية والخوارج والأشاعرة والمعتزلة والصوفية والإخوان والتبليغ..إلخ، أو يظهرون الانتساب إلى السلفية ادعاءً، ويخالفون هذا الانتساب اعتقادًا وعملاً، فيخالفون أصولاً عظيمة من الأصول السلفية، وأخطرهم من ينسب مخالفاته إلى المنهج السلفي، ويقدمها للناس على أنها من أصول منهج السلف الصالح، وفي واقع الأمر هي أصول الخوارج والمعتزلة والصوفية وغيرهم، ويدرك تدليسه وكذبه مَن له أدنى اهتمام بكتب العقيدة السلفية، وهذا بخلاف العالم الرباني المجتهد –لا المتعالم القصَّاص أو الجاهل- الذي قد تزل قدمه في بدعة أو خطأ في الأصول دون تعمُّد أو اتباع للهوى.
ومن سماتهم أيضًا إطلاق الألفاظ المنفرة على أصحاب الطائفة المنصورة والفرقة الناجية: السلفيين –أهل الحديث والأثر- إذا حذَّروا من أهل البدع والفرق المبتدعة، فيلقبونهم بأنهم وهابية، جامية، ألبانيون، مداخلة، فتَّانون، مفرِّقون..إلخ، ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع لنا التحذير من مُخالفي السنة، وهو الذي أخبر بافتراق الأمة، وحذَّر من سبل هذه الفرق، وأمر باتباع سبيل الجماعة الأم وهو ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن ثَمَّ ندرك الثمرة العظيمة لهذا العلم الجليل –علم الجرح والتعديل-، الذي ما وُضع إلا لبيان حال كل مخالف لسبيل هذه الفرقة الناجية –سبيل الصحابة والسلف الصالح-، والتحذير من سبل الفرق والأحزاب الذين قال الله سبحانه عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام:159].
وعليه فإن الواجب على المسلم إذا سمع عالِمًا يحذِّر من أحد المخالفين للسنة أن لا يغضب ويتعصَّب له، بل الواجب عليه أن يذعن للحق، ويعتقد أن هذا التحذير يدخل في باب "النصيحة في الدين"، وأن به يتحقَّق توحيد المسلمين على المنهج الحق، وبه يحدث الفرقان بين الفرقة الناجية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سبيلها، وبين الفرق التي فارقت هذا السبيل القويم.
ومن أراد المزيد فليراجع كتب العلامة ربيع بن هادي –إمام الجرح والتعديل-: "منهج أهل السنة في نقد الرجال والكتب والطوائف"، "والمحجة البيضاء في حماية السنة الغراء"، و"النقد منهج شرعي".
ودعك من تهويل المرجفين الذين اتهموا أئمة السنة- ومنهم العلامة ربيع- بالغلو في الجرح؛ فإن سلفهم في ذلك هو بكر بن حَمَّاد المغربي الذي قال منتقصًا أصحاب الحديث ومنهم ابن معين:
ولابن معين في الرجال مقالة                سيـُسأل عنها والمليك شهيد
فإن يكُ حقًّا قوله فهي غيبة                وإن يكُ زورًا فالقصاص شديد
فأجابه أبو عبد الله الْحُمَيدي:
ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت               معالمه في الآخرين تبيد
هم حفظوا الآثار من كل شبهة                 وغيرهم عمَّا اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا                 إلى كل أفق والمرام كؤود
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم                  فدام صحيح النَّقل وهو جديد
في أبيات طويلة أخرجها الخطيب في الكفاية (ص38).
نسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى سبيل الفرقة الناجية، وأن يجنبنا سبل الفرق المحدثة، وأن يوفقنا إلى تعظيم ما عظَّمه السلف الصالح من العلوم والأصول، ومنها علم الجرح والتعديل، وأصل الرد على أهل البدع والأهواء، ونبرأ إلى الله من التنقص من أئمة الحديث والسنة، ومن تلقيبهم بالألقاب السيئة؛ فإن هذا من الخيبة والخسران أن يُجرح العدول من أهل العلم، ويُعدل المجروحين من الحزبيين والقُّصَّاص والمتعصِّبين للباطل والأهواء، وعليه يُوسد الأمر إلى غير أهله، وهذا من غربة الإسلام الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب
أبو عبد الأعلى خالد محمد عثمان المصري
في ليلة الجمعة 17 من ذي القعدة 1427 (الطبعة الأولى)
وانتهيت من تحريرها إعدادًا للطبعة الثانية:
في ليلة الأربعاء 24 رمضان 1432





([1]) أخرجه الآجري في الشريعة (1/343) (45/ط دار الوطن)، والهروي في "ذمِّ الكلام وأهله" (2/33) (193)، وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن"، وسعيد بن منصور في سننه، وابن أبي داود في المصاحف، كما في "إتحاف المهرة" للحافظ ابن حجر (7/301) (7857) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس به.
قلت: إسناده صحيح، وقال الحافظ: "على شرط الشيخين".
([2]) قال ابن عبدالبر في "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء" (ص109): " أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ يَحْيَى الْبُوَيْطِيُّ.. كَانَ عَالِمًا فَقِيهًا لَطِيفًا فِي أَسْبَابِهِ يُدْنِي الْغُرَبَاءَ وَيُقَرِّبُهُمْ إِذَا قَدِمُوا لِلطَّلَبِ وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَ الشَّافِعِيِّ وَفَضْلَ كُتُبِهِ حَتَّى كَثُرَ الطَّالِبُونَ لِكُتُبِ الشَّافِعِيِّ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانَ يَقُولُ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ لِي اصْبِرْ لِلْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّلامِيذِ؛ وَكَانَ ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْحَنَفِيُّ قَاضِي مِصْرَ يَحْسِدُهُ وَيُعَادِيهِ فَأَخْرَجَهُ فِي وَقْتِ الْمِحْنَةِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَنْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى بَغْدَادَ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ غَيْرِهِ وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَحُبِسَ فَلم يجب الى مادعى إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ هُوَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحُبِسَ وَمَاتَ فِي السِّجْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلاةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ".

([3]) راجع كتاب "إجماع العلماء على التحذير من أهل البدع والأهواء" للشيخ خالد الظفيري.
([4]) قال الشيخ عبدالرحمن محيي الدين –حفظه الله-: "بل على وجوبه على الكفاية".

الخميس، 2 أبريل 2015

أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم

وقال المقدسي رحمه الله 
في «حكاية المناظرة في القرآن» ص(57-58): 
ومن العجب أن أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم وظهورهم ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم فيجعلون ما جعله النبي صلى الله عليه و سلم دليل الحق وعلامة السنة دليل الباطل فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق.