بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 مارس 2015

الراحمون يرحمهم الرحمن

( الراحمون يرحمهم الرحمن )
==================
بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
فإن الرحمة خلق كريم, وشرفُ عظيم, لمن تخلًّقَ بها. 
كيف لا وهي: صفة من صفات رب العالمين, وخلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين, وعلامة من علامات الأتقياء والصالحين ... وحتى لا أطيل عليك أخي القارئ الكريم؛ إليك تعريفها, وفضلها, وبيان خسران من حرمها: 
قال الجوهري: الرحمة: الرقة والتعطف. [مختار الصحاح (1/120)]
قال ابن منظور: والرحمة في بني آدم عند العرب: رقة القلب وعطفه. [لسان العرب (12/231)
واصطلاحاً: هي رِقَّة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه. [التحرير والتنوير (21/26/1388)].
وقد سمّى الله نفسه { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } والرحمة صفة من صفات الله عز وجل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة). [تفسير البغوي (1/71).]
وقال الشنقيطي - رحمه الله - { الرحمن الرحيم } هما وصفان لله تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم ; لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة. وعلى هذا أكثر العلماء. [أضواء البيان (1/5)].
ومن رحمته سبحانه وتعالى بخلقه أن أرسل إليهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؛ قال سبحانه وتعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107].
ومن رحمته سبحانه أن أخَّر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه ) [رواه البخاري (8/8/6000)].
وفي روايةلمسلم: ( إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) [رواه مسلم (19/2752)].
هذا وقد قال تعالى واصفًا نبيه - صلى الله عليه وسلم -: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]. 
وقال سبحانه عن نبيه وعن أصحابه الذين معه:
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]. 
قال ابن رجب: وهذا يرجعُ إلى أن المحبينَ للَّهِ يحبونَ أحباءَهُ ويعودونَ عليهم بالعطفِ والرأفةِ والرحمةِ. [تفسير ابن رجب 1/435].
وقال سبحانه: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54].
قال السعدي: أي: أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله - أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم. [تفسير السعدي (1/235)].
وفي الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرَّحْمَة ) [رواه مسلم (126/2355)].
وقال عليه الصلاة والسلام: ( ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادِّهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائر جسده بالسَّهر والحمَّى ) [متفق عليه: رواه البخاري برقم (6011) ومسلم برقم (2586) ].
قال النووي في شرح هذا الحديث: ( هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثِّهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه ) [شرح النووي على مسلم (16/139)].
وقد حثَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته على التخلق بهذه الخصلة الحميدة حيث قال: ( الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السَّماء) [صحيح الجامع (3522)].
قال شمس الدين السفيري: ( فندب صلى الله عليه وسلم إلى الرَّحْمَة، والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافرًا، فكن رحيمًا لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذَّليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب النَّاس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه، والرَّحْمَة على عباده، رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته ) [شرح صحيح البخاري (2/50/51)].
وذمَّ - صلى الله عليه وسلم - من نزعت من قلبه هذه الخصلة الطيبة وحُرم منها حيث قال: ( لا تنزع الرَّحْمَة إلَّا من شقيٍّ ) [صحيح الجامع (7467)].
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من لا يَرحم لا يُرحم ) [متفق عليه: أخرجه البخاري برقم (5997) ومسلم برقم (2318)].
وفي رواية أخرى: ( لا يرحم الله من لا يرحم النَّاس ) [رواه البخاري (7376)].
قال السعدي: ( رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله.
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56]، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم ) [ بهجة قلوب الأبرار (269)].
وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ( جاء أعرابيٌّ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصِّبيان فما نقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحْمَة؟ ) [رواه البخاري (5998)].
وقد حثَّ الشارع على الرحمة حتى بالبهائم والحيوانات وبشَّرَ راحمهم برحمة الله يوم القيامة حيث قال: ( من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة ) [رواه البخاري في الأدب المفرد (381) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (27)].
وأخبر عليه الصلاة والسلام أمته بأن امرأة دخلت النار بسبب هرة لعدم رحمتها بها حيث قال: ( دخلت امرأة النَّار في هرَّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ) [متفق عليه: رواه البخاري برقم (3318) ومسلم (2242)].
كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بغية من بغايا اسرائيل قد غفر الله لها ذنبها بسبب رحمتها بكلب حيث قال: ( بينما كلب يطيف - أي يدور - بركيَّة كاد يقتله العطش، إذْ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها - أي خفها - فسقته، فغفر لها به ) [رواه البخاري (3476)].
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن امراة دخلت الجنة بشق تمرة.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار ) [رواه مسلم برقم (2630)].
هذا وأحث نفسي وإخواني بالتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصلة الطيبة - الرحمة - وفي جميع أخلاقه وأفعاله - صلى الله عليه وسلم -.
قال سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21].
فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحم النَّاس بالنَّاس, وأرفق الناس بالناس, وأعلم الناس بالناس, وأرأف الناس بالناس, وأحكم الناس بالناس.... ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - أنه: (كان ينصح ولا يفضح) وحريّ بمن يدعي السنة واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخلّق بما تخلّق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي مدحه سبحانه وتعالى في قوله: 
{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4].
وأن يعامل إخوانه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعامل أصحابه؛ فصاحب السنة من أولى الناس أن ( يُعَامِل ويُعَامَل ) بالتي هي أحسن. 

بادرْ إلى الخيرِ يا ذا اللبِّ واللسنِ *** واشكرْ لربِّك ما أولى مِن المننِ
وارحمْ بقلبِك خلقَ اللهِ كلَّهم *** يُنلْك رحمته في الموقفِ الخشنِ

هذا وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه: أحمد بن محمد نصر بكور

صباح يوم الأحد 2 جمادى الآخرة 1436 هـ.