بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 يوليو 2015

سيـلُ الغـوادي في ردِّ دعـوى سلمان العودة: أنَّ الألباني لم يُتقنْ مسألةَ الكفرِ العملي والكفرِ الاعتقادي

سيـلُ الغـوادي في ردِّ دعـوى سلمان العودة: أنَّ الألباني لم يُتقنْ مسألةَ الكفرِ العملي والكفرِ الاعتقادي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فهذا سؤال ورد في موقع د. سلمان العودة؛ هو عبارة عن مجموعة أسئلة وردت من شباب تعلَّموا أقسام الكفر من كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ولكن أُشكِل عليهم تنزيل هذه المسألة على الحكَّام المعاصرين، فتوجَّهوا في حلِّ الإشكال إلى د. سلمان العودة وتركوا سؤال أكابر أهل العلم فزادهم ظلمة إلى حيرتهم، أسأل الله تعالى أن يهديهم إلى القول السديد وأن يوفِّق لهم مَنْ يرشدهم إلى سبيل السلف الصالح.

وإليـكم السؤال والجواب:
س/ فضيلة الشيخ: قد أُشكِلت علينا في نقاشات مع بعض الإخوة مسألة الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وقد تلقينا أصلَ المعرفة بالمسألة من خلال كتابات وأشرطة الشيخ العلامة الألباني؛ لكن المشكل بالنسبة لنا هو:
مدى انطباق القاعدة على الحكم بغير ما أنزل الله، وعلى حكام المسلمين في بلادنا وغيرها؟
وهل كفرهم كفر أكبر أم أصغر؟
وإذا كان كفرهم كفراً أكبر؛ فمتى انتقل إليهم هذا الحكم بعد أن كانوا على الأصل؟
ثم هل يسوغ تعيين أسمائهم كما يفعل بعض الإخوة؟
نرجو الإفادة ورفع الإشكال في هذا الموضوع؟

فأجاب سلمان العودة؛ ونقف مع جوابه كلمة كلمة:
1. قال سلمان: ((أما مسألة الكفر العملي والكفر الاعتقادي؛ فأظنُّ - والله أعلم - أنَّ الشيخ المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني لم يتقن هذه المسألة جيداً، فحصل له فيها بعض الارتباك))

قلتُ: هذه دعوى لا برهان عليها، بل الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى كلامه في تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي لم يخرج به عن كلام السلف من المتقدمين والمتأخرين، بل هو أكثر الأئمة المعاصرين كلاماً في بيان هذا التقسيم وتفصيله، وكتبه ومجالسه وفتاواه شاهدة على ذلك دون أدنى ريب، وكلامه في تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي يدلُّ على رسوخه في العقيدة، وإليك النقل من كلامه ما يدلُّ على ذلك:
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((فائدة هامة: إذا علمت أنَّ الآيات الثلاث: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون"، "فأولئك هم الفاسقون" نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم: "إنْْ أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإنْ لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه" و قد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: "يقولون: إنْ أوتيتم هذا فخذوه، وإنْ لم تؤتوه فاحذروا".
إذا عرفت هذا؛ فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين و قضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله وإنْ كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله؛ لا يجوز ذلك لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى؛ ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار  فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: "... و إنْ لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً.
وسرُّ هذا؛ أنَّ الكفر قسمان: اعتقادي وعملي؛ فالاعتقادي مقرّه القلب، والعملي محلّه الجوارح؛ فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر به: فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبداً.
وأما إذا كان – أي: العمل - مخالفاً لما وقَرَ في قلبه؛ فهو مؤمن بحكم ربه ولكنه يخالف بعمله: فكفره كفرٌ عملي فقط وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه، وإنْ شاء غفرَ له، وعلى هذا النوع من الكفر تُحمَلُ الأحاديثُ التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب، والنياحةُ على الميت" رواه مسلم، "الجدال في القرآن كفر"، "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، "كفر بالله تبرؤ من نسب وإنْ دقْ"، "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر"، "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض" متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها.
فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي: فكفرُه كفر عملي؛ أي إنه يعمل عمل الكفار؛ إلا أن يستحلَّها ولا يرى كونَها معصية: فهو حينئذ كافرٌ حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضاً.
والحكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر"، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم تلقّاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولا بُدَّ من ذِكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضلّ اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون المسلمين بارتكابهم المعاصي وإنْ كانوا يصلون ويصومون.
1 - روى ابن جرير الطبري ( 10 / 355 / 12053 ) بإسناد صحيح عن ابن عباس: (ومن لم يحكم بما 
أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: "هي به كفر وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله".
 2 - وفي رواية عنه في هذه الآية: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر" أخرجه الحاكم ( 2 / 313) وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط 
الشيخين؛ فإنَّ إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6/ 163) عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين" فالظاهر أنَّ في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطاً، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضاً ببعض اختصار. 
3 - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق" أخرجه ابن جرير (12063). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس  لكنه جيد في الشواهد.
4- ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم" وإسناده صحيح.
5- ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية) قال: "ليس بكفر ينقل عن الملة" وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع .
6- وروى (12025 و 12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفرٌ من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟! قال: هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون - [ يعني الأمراء ] - فإنْ هم تركوا شيئاً 
منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله ولكنك تفرق [أي: تخاف منهم]!!. قال: أنتم أولى بهذا مني، لا أرى، وإنَّكم أنتم ترون هذا ولا تخرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا.  وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال؛ ساقها ابن جرير (10 /346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/358)‏:
"وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب؛ لأنَّ ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم فكونها خبراً عنهم أولى.
فإنْ قال قائل: فإنَّ الله - تعالى ذكره - قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله فكيف جعلته خاصاً؟ قيل: إنَّ الله تعالى عمَّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم - على سبيل ما تركوه - كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي".
وجملة القول: أنَّ الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله فمن شاركهم في الجحد فهو كافر كفراً اعتقادياً ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم؛ ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقد شرح هذه وزاده بياناً الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم ابن سلام في "كتاب الإيمان/ باب الخروج من الإيمان بالمعاصي" (ص84-87 -بتحقيقي) فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ما سبق؛ رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في (مجموع الفتاوى 
3 / 268): "أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" ثم ذكر (7 /254) أنَّ الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: "كفر لا ينقل عن الإيمان؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه"، وقال ( 7 / 312 ): "وإذا كان من قول السلف أنَّ الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر؛ وليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا: كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة"))انتهى كلام الألباني رحمه الله تعالى نقلاً من  سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/110  دار المعارف/الرياض.
ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الصلاة وحكم تاركها أنَّ الكفر ينقسم إلى اعتقادي وعملي؛ وأنَّ العملي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده ثم قال: ((فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً)).
علَّق الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فقال [حكم تارك الصلاة ص38]: ((قلت: هذا الإطلاق فيه نظر؛ إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحياناً، وذلك: إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته كاستهزائه بالصلاة والمصلين وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها كما سيأتي، فتذكر هذا فإنَّه مهم)).
ولما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في رسالة التحذير من فتنة التكفير ص70: ((إذاً الكفر الاعتقادي ليس له علاقة أساسية بمجرد العمل، إنما علاقته الكبرى بالقلب))، علَّق في هامش الصفحة فقال: ((إنَّ من الأعمال أعمالاً قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينية، بحيث يقوم فعله هذا مقام إعرابه بلسانه عن كفره؛ كمثل من يدوس المصحف مع علمه وقصده له)).
وقال كذلك في التحذير: ((فكل المعاصي - وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنى وشرب الخمر وغيرها - هي من الكفر العملي؛ فلا يجوز أن نكفِّر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عملياً إلا إذا ظهر - يقيناً - لنا منهم - يقيناً - ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله اعتقاداً، فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة، أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم لأننا نخشى أن نقع تحت وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما")).
وفي المحاورة العلمية النافعة التي جرت بين الشيخ الألباني وبين الدكتور خالد العنبري ما يدفع أدنى شك أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى لم يُتقن مسألة الكفر الاعتقادي والعملي:
فبعد أن قرأ عليه الدكتور خالد العنبري مباحث الإيمان فأقرَّه الشيخ رحمه الله تعالى، ثم ثنَّى بمباحث الكفر وذكر أقسام الكفر، وأنه أكبر وأصغر، وأنَّ الكفر الأكبر ستة أنواع: تكذيب، وجحود ، وعناد، ونفاق، وإعراض، وشك، وفصَّل ذلك، والشيخ يقرَّه على ذلك كلِّه، ثم قال الدكتور خالد العنبري: ((وبناءً على ذلك؛ أتوجه بسؤالي أليكم: هل يكون الكفر بالقلب فقط أم يكون بالقلب واللسان والعمل؟ وبعبارة أخرى: هل يكون الكفر بالاعتقاد فقط؟ أم يكون بالاعتقاد والقول والعمل؟ نبّئوني بعلم بارك الله فيكم.
فقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((الذي أفهمه في هذه المسألة: أنَّ الأصل الكفر القلبي؛ لكن هناك أقوال وأعمال قد تصدر من الإنسان تنبئ عما وقر في قلبه من الكفر، لكننا لا نرى ضرورة الجمع بين أن يكفر بقلبه وبشيء من عمله؛ فقد يجتمعان وقد يفترقان.
بمعنى: المنافق لا يصلح فيه أنه كفر بقلبه وعمله؛ فأنه بعمله مسلم، ولهذا جاء صريح القرآن بهذا الصدد بالنسبة للأعراب، ما يبدو لي أنه هناك ضرورة للتوفيق بل والتسائل: هل يكون الكفر بالقلب والعمل؟! قد يكون، لكن لا يشترط أن يكون العمل مع الكفر القلبي؛ لأنَّ الأصل هو الكفر القلبي، فما أدري إذا كان هناك شيء ما وضح لي حتى استحسن مثل هذا السؤال))
وقال في نفس الجلسة: ((نحن لا نختلف في هذا - بارك الله فيك - هناك أعمالٌ تنبئ عما في القلب، هناك أعمال تصدر من الإنسان تنبئ عما في القلب من الكفر والطغيان؛ من ذلك: الاستهزاء))
وقال فيها كــذلك: ((فإذا رجعنا إلى كفر إبليس، إبليس كفر  - وهنا نقطة - لم يكفر إبليس لمجرد أنه خالف أمر الله وإنما لأنه استكبر بنص القرآن الكريم وكان من الكافرين، فمجرد المخالفة والمعصية - عند أهل السنة  جميعاً - لا تكون سبباً للتكفير؛ لكن إذا اقترن مع هذه المعصية شيء ينبئ عن كفر القلب ولو بعد أن كان عامراً بالإيمان فهذا الإيمان يضيع ويزول بسبب هذا الكفر الذي يعتبر كفرا اعتقادياً أو يعتبر كفراً عملياً ينبئ عن الكفر الاعتقادي))
وختم المجلس الأول الدكتور خالد العنبري فقال: (( إذن أنا فهمت منكم أنَّ الكفر يكون بالاعتقاد ويكون أيضاً بالقول ويكون أيضاً)) فعاجله الشيخ الألباني قائلاً: ((بالعمل، بلى؛ لكن أقول من باب الإيضاح: أنَّ هذا العمل يكون دالاً على ما في القلب من الكفر، لماذا هذا العمل كان كفراً؟ لأنه دلَّ على ما في القلب من الكفر)) فقال العنبري: ((لا التكذيب؟!)) فقال الألباني: ((قد يكون شيءٌ ثانٍ)).
وفي شريط "الكفر كفران" وهو جلسة مناظرة مفيدة بين الشيخ الألباني رحمه الله تعالى وبين رجل يُدعى (سامي) يظهر أنَّه متأثر بشبه أهل التكفير ولم يفقه الفرق بين الكفر الاعتقادي والعملي؛ فبعد كلام طويل قال له الشيخ رحمه الله تعالى:
{((الكفر العملي له ارتباط بالكفر الاعتقادي الذي تقول عنه إنه ردة أم ليس له ارتباط؟!))
فقال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((إذاً رجع إلى الكفر الاعتقادي؛ بارك الله فيك. الكفر العملي فيما يبدو – ولا تؤاخذاني مهما وإنْ كنت أحاول أن ألطف العبارة - لم يتبين لك بعد الفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي ليتبين لك ثمرة هذا الاختلاف بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي.
الكفر العملي: عمل يصدر من المسلم هو عمل الكفار، لكن هذا العمل الذي يصدر من المسلم هو مشابه لذاك العمل الذي يصدر من الكافر من جهة؛ أي من حيث العمل، لكنه يختلف من جهة أخرى عن ذلك العمل الذي يصدر من الكافر مقرون بالكفر الاعتقادي.
أما هذا المسلم – هنا يظهر الفرق والثمرة بين الكفرين - هذا المسلم إنْ صدر منه كفر عملي وأيضاً مقترن معه كفر اعتقادي ككفر الكافر: هو كفر ردة لا إشكال فيه، أما إذا لم يخرج منه ما يدل على أنه قد اقترن بكفر العملي كفر اعتقادي: حينئذ لا يكون كفراً اعتقادياً؛ لأنَّ الكفر الاعتقادي يختلف عن الكفر العملي من حيث أنه كفر قلبي، أما الكفر العملي ليس كفراً قلبياً وإنما هو كفر عملي.
خذ مثلاً: الحديث الصحيح المتفق عليه ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، قتال المسلم لأخيه المسلم كفر. الآن أسألك: مسلم يقاتل مسلماً هل كفر بهذه المقاتلة؟))
فقال سامي: لا يكفر، لأنه كفر أصغر.
فقال الشيخ: ((يا أخي – بارك الله فيك - خير الكلام ما قلَّ ودل، طيب هذا كفر، أنت الآن تسميه كفراً أصغر، أنا أسميه كفراً عملي، فما الفرق بيني وبينك؟!
الآن نحن نقول: هذا كفر عملي؛ لماذا لأنه عمل عمل الكفار، الكفار من طبيعتهم كما هو مشاهد دائماً وأبداً أنَّ بعضهم يقاتل بعضاً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة التي تساعدنا نحن عليك وعلى تأويلك بأنَّ هذا الكفر كفر أصغر، يساعدنا أنه كفر كفراً عملياً، قوله عليه السلام في حجة الوداع، كما جاء في صحيح البخاري من حديث جرير بن عبد الله البجلي، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استنهض لي الناس، فخطبهم عليه الصلاة والسلام، فقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، كلمة "يضرب بعضكم رقاب بعض" هذا لا شك عمل، وهو تفسير لقوله عليه السلام من قبل "لا ترجعوا بعدي كفاراً" كيف؟ يضرب بعضكم رقاب بعض.
إذاً هذا كفر عملي؛ سباب السلم فسوق وقتاله كفر، فهو لا يخرج عن الملة، ولكن إذا اقترن مع قتال المسلم لأخيه المسلم استحلال دمه قلباً وهو يعتقد أنه مسلم حينئذ يتحول الكفر العملي إلى الكفر الاعتقادي.
أنت تحتج بالإجماع الذي نقلته عن المتقدمين أو المعاصرين!!، لا بد أنك قرأت في تفسير الأئمة لمثل قوله تبارك وتعالى: "ومنْ لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" أعني: أنَّ الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يدفعون بعضهم إلى أن يسألوا الرسول لأنهم كانوا حزبين ومتخاصمين، فيدفعون أحدهم ليسأل محمداً فإنْ أجابهم بما يوافقهم قبلوه وإلا رفضوه.
ومن أئمة المفسرين المعروفين والمشهورين ابن جرير الطبري، يقول في تفسيره هذه الآية: "أولئك هم الكافرون" لأنهم لا يؤمنون بحكم رسوله الله صلى الله عليه وسلم قلباً، لأنهم هم في الأصل كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا حكم لهم ولصالحهم فحينئذ يتبنون هذا الحكم لأنه لصالحهم، لكن إذا لم يكن كذلك فهم يرفضونه قلباً وقالباً.
ولذلك فهو – أي ابن جرير- يقرر، وكذلك ابن كثير أنه لا يجوز سحب هذه الآية على المسلم الفاجر الفاسق الذين يدين ويؤمن بما أنزل الله عز وجل، ولكنه قد يحكم إما في نفسه أو في غيره بخلاف ما حكم الله عز وجل في كتابه أو نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، لا يجوز سحب هذه الآية على أولئك المسلمين لأنهم يختلفون عن المشركين بأنهم آمنوا بما أنزل الله لكن إيمانهم بما أنزل الله لم يقترن به العمل، بينما أولئك الكفار جحدوا ما أنزل الله قلباً وقالباً.
لذلك فعلماء المسلمين في تفسير هذه الآية التي يحتج بها كثيرٌ من الذين يتمسكون بالتكفير إطلاقاً، ومنه قولك أنَّ الكفر العملي قد يكون كفر خروج عن الملة، ولم تلاحظ أنَّ هذا يستحيل أن يكون الكفر العملي خروج عن الملة إلا إذا كان الكفر قد انعقد في قلب الكافر عملاً.
يجب التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي؛ لا يوجد عندنا في الشريعة أبداً نصٌّ يصرح ويدل دلالة واضحة على أنَّ من آمن بما أنزل الله لكنه لم يفعل بشيء مما أنزل الله فهذا هو كافر.
الذي  –مثلاً- يأكل الربا ما حكمه؟ هل هو كافر مرتد عن دينه؟ فستقول: لا، أليس كذلك؟))
فقال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((أنا لا أقول بقولك هكذا، أنا أقول: قد وقد؛ أي إذا استحل الربا بقلبه كما استحله بعمله فهو كفر ردة وإلى جهنم وبئس المصير، أما إذا قال: الله يتوب علينا، وبدنا نعيش، ومن هذه الكلمات الفارغة هذه...إلخ، مما يشعرنا بأنه هو يؤمن بأنه يعصي الله ورسوله، واتبع هواه، ولا فرق يا حضرة الأخ المسلم بين من يعصي الله في أكله الربا مثلاً وبين من يعصي الله في أن يحكم بغير ما أنزل الله.
والآن أنهي الكلمة بمثال بسيط جداً:
أقول: قاضي شرعي يحكم لا أقول يحكم بالشرع؛ بل أقول كما نقول نحن دائماً: يحكم بالكتاب والسنة، ولكن في حكومة وفي قضية معينة تقاضى عنده اثنان فحكم للظالم بحق المظلوم، هل هذا حكم بما أنزل الله؟))
فقال سامي: أنا أجيب، ولكن باستفسار، قبل ما أجيبك بتجاوب.
فقال الشيخ: ((طيب، يقولون عندنا بالشام: "يلي ما بيجي معاك تعال معه" تفضل))
قال سامي: هل هذا القاضي جعل هذا الحكم شريعة؟ نضرب مثال: إنسان سرق وجاء إلى هذا القاضي الذي لا يحكم بما أنزل الله عز وجل، ولكن في هذه القضية لهوى أو لقرابة قال: ما بدي أقطع يده، بدي أقيم عليه حد ثاني رغم أنَّ شروط السرقة متوفرة فيه، رغم أنه في الحالات الأخرى يقطع اليد، فهذا لا نقول: كفر؛ ينزل عليه قول ابن عباس: كفر دون كفر، أما إنْ جعل حد السرقة السجن أو ...، فهذا قد كفر لمجرد حكمه أن جعلها شرعاً يتبع، لأنه جعل نفسه نداً لله.
فقال الشيخ: ((أنت بارك الله فيك ما تؤاخذني، أنت تؤيد عبارات قرأتها، وطلبك أن تقطع كلامي لتبين هذا لا يفيدك شيئاً.
أنا سأقول: هذا الإنسان الذي حكم للظالم على المظلوم، هل حكم بشرع الله؟ المفروض أن تقول: لا، ونتابع الموضوع لنهايته، بعد ذلك إنْ وجدت مناسبة لتقول ما قلت، تقول ذلك.
هذا المسلم والقاضي الذي يحكم بما أنزل الله عادة حكم في قضية ما بغير ما أنزل الله، ما أظنُّ أنَّ مسلماً يحكم بمجرد أنْ صدر منه هذا الحكم المخالف الشرع، أنه يحكم عليه أنه كفر، ما أظن أحداً يفعل هذا.
فأريد أن أقول في قضية أخرى لسبب أو آخر تكرر ذلك السبب أو تجدد، مش مهم، وإنما حكم أيضاً بغير ما أنزل الله. كذلك أنا أقول: لا أستطيع أن أقول أنه كفر كفر اعتقاد، وكفر ردة، إلى متى سنكرر … خمس مرات، عشر مرات، مائة مرة .. إلخ.
متى أستطيع أن أقول بأنَّ حكمه هذا يدينه بأنه كفر ردة وليس كفر عمل فقط؟ إذا بدا منه ما يُنبئ عما وقر في قلبه، إذا بدا منه شيء عما وقر في قلبه، وهو أنَّ هذا الحكم لا يصلح الحكم به بالرغم أنه مما أنزل الله، هنا يقال بأنَّ كفره كفر ردة.
فلا نعود  –لعلنا نلتقي- أنَّ هذا الذي اتخذ نظاماً قد يكون سبب قول القائلين: أنَّ هذا كفر ردة، هو أنهم اتخذوا نظامه دليلاً على ما وقر في نفسه بأنَّ الحكم في الإسلام لا يصلح.
أنا أقول: إنْ صح حكمهم أو استنباطهم، فيكون هذا حكماً صحيحاً مطابقاً للكفر الاعتقادي.
إذاً مناط الحكم والبحث، والتفريق بين كفر وكفر وهو: أن ننظر إلى القلب؛ فإنْ كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم لمستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل، أما إذا كان ما في القلب مطابق للعمل، أي: هو لا يقر هذا الحكم الذي جاء به الشرع؛ إما إعراباً وإفصاحاً بلسانه، أو تعبيراً بلسان حاله، يعني: التعبير قد يكون بلسان القال أو بلسان الحال؛ إذا كان تعبيره عن كفره القلبي بلسان القال انتهى الموضوع، أما إذا كان بلسان الحال، هنا لسان الحال قد يقبل الجدال، فماذا تقول الآن بمثل هذا التفصيل؟
وألخص ما سبق: الكفر العملي الذي قد يكون كفراً اعتقادياً كما قلت في جوابك، هذا لا بد أن يكون مربوطاً بالكفر الاعتقادي، أما كفر عملي وهو حكمه كالكفر الاعتقادي أي مرتد عن الملة وهو مؤمن بقلبه هذا لا وجود له في الإسلام؟ الآن تفضل ما عندك))
قال سامي: نحن ما نعتقده أنَّ هناك كفراً عملياً يخرج من الملة بغض النظر عن الاعتقاد؛ كان مؤمناً أو كان غير مؤمناً!!، لنا في ذلك سلف: منهم ابن تيمية شيخ الإسلام في الفتاوى.
فقال الشيخ: ((بدنا أدلة؟))
قال سامي: "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر".
فقال الشيخ: ((اسمح لي يا أخي رجعت إلى قولي، قلت لك آنفاً: الكفر الاعتقادي الذي مركزه القلب، إما أن يدل عليه لسان القال أو لسان الحال، فأنت تحتج بالآية: "ولقد قالوا كلمة الكفر" سبحان الله هذا لي))
قال سامي: الله عز وجل ما بيَّن أنهم استحلوا أو لم يستحلوا، الله عز وجل أطلق.
فقال الشيخ: ((يا أخي الله يهديك، أقول لك بلسان عربي مبين: المؤمن بما تحكم على إيمانه؛ أليس بقوله؟))
قال سامي: نعم.
فقال الشيخ: ((طيب، والكافر بما تحكم عليه؟ بقوله، وأنا معك، وأنا سبقتك، فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال، تفرق معي بين الأمرين، فأنت الآن تحتج بالآية، فالآية حجة لي)).
قال سامي: هذا بِغَضِّ النظر لو كان مؤمن أو غير مؤمن، لمجرد شتمه لله فقد كفر....} إلى آخر المناظرة وهي طويلة، وهي توضح معتقد الشيخ بجلاء.
أقول: بعد هذا النقل الموثَّق من كلام الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى في مسألة الكفر الاعتقادي والعملي وعلاقتها بالحكم بغير ما أنزل الله يتبـيَّن لكلِّ ذي عينين أنَّ الشيخ الإمام رحمه الله تعالى لم يخرج في هذه المسألة – بل ولا في غيرها – عن معتقد السلف الصالح.
وخلاصة قول الشيخ في هذه المسألة: أنَّ الكفر كفران؛ كفر اعتقادي يخرج صاحبه من الإسلام ويُخلَّد في جهنَّم إن لم يتب منه، ومحلَّه القلب، ويُنبئ عنه إما بلسان المقال وهو موضع يقين وإما بلسان الحال وهو موضع نقاش واحتمال، والآخر كفر عملي وهو من كبائر الذنوب ولا يخرج صاحبه من الإسلام ولا يُخلَّد في جهنَّم إنْ دخلها، ومحلَّه الجوارح، ولكن قد يقترن به ما يدلَُّ على فساد العقيدة فيكفر به صاحبه، ولكن إنْ كان كذلك فهو معدود في الكفر الاعتقادي وإن كان ظاهره بالعمل، ولا يُمكن أن يكفر الرجل مع علمه وقصده واختياره بقول ظاهر أو بعمل ظاهر مع إيمان القلب أو اعتقاد صحيح، هذا من جانب.
من جانب آخر: أنَّ ضابط الكفر الاعتقادي هو أن يُشابه المسلم الكافر في اعتقاده، والكفر العملي ضابطه هو أن يُشابه المسلم الكافر في عمله، فهذا التعبير أدق وأضبط من تقسيم الكفر إلى أكبر وأصغر؛ لأنَّ هذا الثاني لا يُشعر بضابط محدد، ولهذا نرى أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى يُدندن حول التقسيم الأول، مع أنَّ كلا التقسيمين مأثور مقبول.
وتسمية الكفر الذي يُخرج من الملة بالكفر الاعتقادي أضبط من تسميته بالكفر الأكبر؛ لأنَّ  المكفِّرات إنما سُمِّيَت نواقض لأنَّها تنقض عقدة الإيمان التي في القلب.
والاعتقاد في لسان العرب مأخوذ من العقد وهو الإبرام والربط بشدة وإحكام وإيثاق وقوة وحزم، وضده الحَلِّ والنقض والإبطال والإفساد، والحبلُ إما أن يكون مربوطاً أو محلولاً، والمربوطُ إما أن يكون بشدة وإما أن يكون برخاوة؛ فالأول يسميه العرب عقدة والثاني رِخواً، وبهذا يكون حالات الحبل ثلاثاً: محلولٌ، ومربوطٌ بشدة، ومربوط برخاوة.
وعقيدة الإسلام هي حبل الله المتين، وعلى امتداد هذا الحبل معاقدٌ هي عُرى الإسلام، وأوثق هذه العُرى كلمة التوحيد، والناس في ذلك ثلاث أقسام (من حيث أحكام الآخرة): كافرٌ، ومؤمنٌ، ومؤمنٌ ناقص الإيمان.
ومحلُّ العقد هو القلب؛ قال تعالى: ((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ))، وقال في آية أخرى: ((لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)).
فكذلك مرجع النقض هو القلب؛ لأنَّ العقدة في القلب، فلا يكون النقض إلا فيه، وهذا يعني أنَّ نواقض الإسلام أو مبطلات الإيمان مرجعها إلى انحلال العقدة التي في القلب، ومحال أن تكون العقدة قائمة مع إتيان النواقض.
وأصل الكفر في القلب كما أنَّ أصل الإيمان في القلب، والكفر كفران كما أنَّ الإيمان مرتبتان، لأنَّ الكفر ضد الإيمان؛ فمراتب الإيمان أصل وكمال، والكفر: كفر ضد الأصل وكفر ضد الكمال، قال الإمام المروزي رحمه الله تعالى وهو يُناقش مذهبي أهل الحديث في تسمية الإسلام والإيمان [تعظيم قدر الصلاة 2/120]: ((ولكنا نقول: للإيمان أصل وفرع، وضد الإيمان الكفر في كل معنى، فأصل الإيمان الإقرار والتصديق وفرعه إكمال العمل بالقلب والبدن، فضد الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان: الكفر بالله وبما قال وترك التصديق به وله، وضد الإيمان الذي هو عمل وليس هو إقرار: كفر ليس بكفر بالله ينقل عن الملة ولكن كفر يضيع العمل؛ كما كان العمل إيماناً وليس هو الإيمان الذي هو إقرار بالله))، وهذا يعني: أنَّ كفر العمل لا ينقل عن الملة لأنَّه ضد الإيمان الذي هو كمال.
ومع هذا؛ فالكفر الأصغر والكفر العملي اسمان لمعنى واحد وكلاهما لا يخرج صاحبه من الملة؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى في كتابه [التوحيد ص18]:((النوع الثاني: كفر أصغر لا يخرج من الملة؛ وهو الكفر العملي: وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة كفراً وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر)).
أما مَنْ ذكر من أهل العلم كالإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وتبعه بعض المعاصرين: بأنَّ الكفر العملي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده؛ فليس ثمة فرق بينهم وبين مَنْ أطلق فقال: الكفر العملي لا يُضاد الإيمان، ويقصد المجرَّد عن الاعتقاد، أما إن اقترن معه فساد الاعتقاد أو كفر القلب أو دلَّ على ذلك دلالة قطعية يقينية فيكفر لأنَّه أصبح من الكفر الاعتقادي عندهم وإنْ كان ظاهره بالعمل، ويبقى الأمر خلافاً في الاصطلاح ولا مشاحة فيه.
فإنْ أصرَّ المقابل أو المخالف على إلزام خصمه بالتفصيل في الكفر العملي؛ لزمه ذلك التفصيل في الكفر الاعتقادي كذلك؛ لأنَّ من الاعتقاد ما لا يكفر به المسلم كفراً أكبراً كيسير الرياء والحلف بغير الله والتميمة والطيرة وكل صور الشرك الأصغر التي لا تصل بصاحبها إلى الشرك الأكبر ولا يخرج بها المسلم من دائرة الإسلام إلى الكفر، فيلزمه أن يقول: الكفر الاعتقادي منه ما يُضاد الإيمان ومنه ما لا يُضاده!!، وهم لا يقولون به.
وفرقٌ بين كفر العمل والكفر بالعمل، فالأول نوعٌ من أنواع الكفر وهو ضد كمال الإيمان، والثاني سببٌ من أسباب الكفر، والقول الظاهر أو العمل الظاهر إذا كان في الشرع من صور الكفر الناقل عن الملة فلأنه يستلزم انتفاء إيمان القلب؛ إما بزوال قول القلب - المعرفة والتصديق - أو بزوال عمل القلب - المحبة والانقياد والتعظيم - أو بهما.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 14/120]: ((وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان وسبِّ الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن؛ وإلا فلو قُدِّرَ أنه سجد قدَّام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله)).
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى [أعلام السنة المنشورة]: ((الكفر كفران؛ كفر أكبر يخرج من الإيمان بالكلية وهو الكفر الاعتقادي المنافي لقول القلب وعمله أو لأحدهما، وكفر أصغر ينافي كمال الإيمان ولا ينافي مطلقه وهو الكفر العملي؛ الذي لا يناقض قول القلب ولا عمله ولا يستلزم ذلك))
ثم أرد دفع توهم قد يتطرق إلى الذهن فقال: ((س/ إذا قيل لنا: هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين ونحو ذلك هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر؛ فلم كان مخرجاً من الدين وقد عرفتم الكفر الأصغر بالعملي؟!
ج/ اعلم أنَّ هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس، ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده؛ لا يبقى معها شيء من ذلك.
فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولا بد، ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد، وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أنْ "قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا" إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا: "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، قال الله تعالى: "قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
ونحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقاً، بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب ولا عمله)).
ولكـن أُكرر فأقول: لا يفهم أحدٌ من عبارة "أنَّ مرجع الكفر في القلب" أنْ لا يكون الكفر بالقول الظاهر أو العمل الظاهر؛ كلا، بل الكفر يكون بالاعتقاد ويكون بالقول ويكون بالعمل كما صرَّح بذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، ولا يُمكن أن يجتمع الكفر بالقول أو بالعمل مع صحة الاعتقاد أو الإيمان القلبي.
ولهذا من أغرب ما يُدندن به المخالِف في هذا العصر: أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل دون الاعتقاد!!، فإنْ أراد أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل مع تصديق القلب المجرَّد عن العمل فكلامه حق؛ وهو قول أهل السنة، فمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أو داس المصحف فهو كافر وإنْ لم يُكذِّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يُكذِّب القرآن الكريم، وهو كافر وإن لم يستحل السب والدَّوس، وهو كافر وإن لم يجحد الرسالة والتنزيل، لكن إنْ قصد يكفر ولو كان صحيح الاعتقاد أو ولو كان مؤمناً في قلبه فكلامه باطل؛ وهو قول المرجئة.
لا بدَّ أن نتنبَّه إلى أنَّ "كلمة الاعتقاد" عند السلف قد ترد في كلامهم بمعنى التصديق المجرد عن العمل؛ وهو قول القلب فقط كما في قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الصلاة وحكم تاركها ص69-70]: ((حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل؛ والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإنَّ تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة)).
وقد ترد بمعنى التصديق المقترن بالعمل؛ وهو قول القلب وعمله كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [7/506]: ((وكذلك قول من قال: "اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح" جعل القول والعمل اسماً لما يظهر؛ فاحتاج أن يضمَّ إلى ذلك: اعتقاد القلب؛ ولابدَّ أن يدخل في قوله "اعتقاد القلب": أعمال القلب المقارنة لتصديقه؛ مثل حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك، فإنَّ دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها))
فَمَنْ قال من أهل السنة أنَّ الكفر لا يكون إلا إذا زال الاعتقاد؛ فمراده من كلمة الاعتقاد المعنى الثاني قطعاً؛ ولهذا نقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى في شرح العمدة [4/72] مؤصِّلاً حين قال: ((من أصول أهل السنة: أنَّهم لا يُكفِّرون أحداً من أهل السنة بذنب، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفر بالاعتقادات))، وقال العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى – وهو من تلامذة شيخ الإسلام البارزين - في [العقود الدرية ص114]: ((قال أهل السنة: إنَّ مَنْ ترك فروع الإيمان لا يكون كافراً حتى يترك أصل الإيمان؛ وهو الاعتقاد)).
ففرقٌ شاسع بين مَنْ يقول: أنَّ الكفر لا يكون إلا إذا زال اعتقاد القلب وهو قوله أو عمله أو كلاهما، ولكنه قد يكفر بالعمل أو بالقول أو بالاعتقاد، وبين قول مَنْ يقول: الكفر لا يقع إلا بالاعتقاد، ومراده: لا يقع بالقول ولا بالعمل، فالأول حق والثاني باطل.
فلا يُخلط بين الأمرين؛ كما نلاحظ ذلك في تخليط سامي عندما أفصح عن معتقده فقال: ((نحن ما نعتقده أنَّ هناك كفراً عملياً يخرج من الملة بغض النظر عن الاعتقاد؛ كان مؤمناً أو كان غير مؤمناً))!!، وهذا باطل بيقين، كيف يكفر بعمله مع إيمان قلبه وصحة اعتقاده؟! هذه لوثة إرجائية، وهو قول مبتدع لم يقل به أحدٌ من الأئمة، والعجيب أنَّ سامياً نسب ذلك إلى شيخ الإسلام رحمه الله تعالى جهلاً منه فقال: ((لنا في ذلك سلف: منهم ابن تيمية شيخ الإسلام في الفتاوى)).
وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 7/557-558] يقول: ((فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي؛ قد صرَّحوا بأنَّ سبَّ الله ورسوله والتكلم بالتثليب وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أنَّ هذا كافر باطناً وظاهراً، قالوا هذا يقتضي أنَّ ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأنَّ الإيمان يستلزم عدم ذلك فيقال لهم معنا أمران معلومان:
أحدهما معلوم بالاضطرار من الدين، والثاني معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
أما الأول: فإنا نعلم أنَّ من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً وأنَّ منْ قال إنَّ مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين .....
وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محباً لرسول الله معظِّماً له امتنع مع هذا أنْ يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته؛ فعلم بذلك أنَّ مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب))
وقال [المجموع 7/609]: ((فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين؛ وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقاً بقلبه كان كافراً في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدَّم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة)).
ومن جانب ثالث: أنَّ الشيخ الألباني يرى أنَّ الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله تعالى لا يكفر إلا إذا جحد ما أنزل الله أو استحل ما لم ينـزِّله الله عزَّ وجل، كما هو الحال في تارك الواجبات وفاعل المحرمات، ونقل بما يؤيِّد كلامه عن ترجمان القرآن ابن عبَّاس رضي الله عنهما وعن شيخ المفسِّرين ابن جرير الطبري وعن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل وعن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم رحمهم الله تعالى جميعاً في تفسير قوله تعالى: ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) وكفى بأولئك سلف.
وأما تحكيم القوانين أو التشريع الوضعي الذي ذكره سامي ونقل أنَّ البعض ادَّعى أنَّ إجماع المعاصرين على كفر الحاكم الذي يُقنِّن أو يُشرِّع، وأنَّ ثمة فرق بين تبديل الحكم وترك الحكم؛ فهذا تفريق لا برهان عليه، ودعوى الإجماع منقوضة بقول الشيخين الألباني وابن باز رحمهما الله تعالى ومَنْ تبعهم من المعاصرين.
والحكم المبدَّل هو نفسه الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الروح ص267]: ((والحكم المنزَّل لا يحل لمسلم أنْ يخالفه ولا يخرج عنه، وأما الحكم المبدَّل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم)).
والشيخ الألباني رحمه الله تعالى لم يدَّعي الإجماع على عدم تكفير المبدِّلين بل ولم يُطلق القول بذلك وإنَّما جعله محل بحث وجدال واستنباط، فقال: ((أنَّ هذا الذي اتخذ نظاماً قد يكون سبب قول القائلين: أنَّ هذا كفر ردة، هو أنهم اتخذوا نظامه دليلاً على ما وقر في نفسه بأنَّ الحكم في الإسلام لا يصلح.
أنا أقول: إنْ صحَّ حكمهم أو استنباطهم، فيكون هذا حكماً صحيحاً مطابقاً للكفر الاعتقادي.
إذاً مناط الحكم والبحث؛ والتفريق بين كفر وكفر وهو: أن ننظر إلى القلب؛ فإنْ كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم لمستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل، أما إذا كان ما في القلب مطابق للعمل، أي: هو لا يقر هذا الحكم الذي جاء به الشرع؛ إما إعراباً وإفصاحاً بلسانه، أو تعبيراً بلسان حاله، يعني: التعبير قد يكون بلسان القال أو بلسان الحال؛ إذا كان تعبيره عن كفره القلبي بلسان القال انتهى الموضوع، أما إذا كان بلسان الحال، هنا لسان الحال قد يقبل الجدال)).
وشيخُ الإسلام رحمه الله تعالى توقف في الحكم على صورة مَنْ يبدِّل الشرع المبين بالقانون اللعين تبديلاً عامَّاً فقال [المجموع 35/388]:
((إنَّ الحاكم إذا كان ديِّناً لكنه حكم بغير علم: كان من أهل النار، وإنْ كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه: كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم: كان أولى أن يكون من أهل النار؛ وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص.
وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الحقَّ باطلاً والباطلَ حقاً والسنةَ بدعةً والبدعةَ سنةً والمعروفَ منكراً والمنكرَ معروفاً، ونهى عما أمر اللهُ به ورسولُه وأمر بما نهى اللهُ عنه ورسولُه: فهذا لون آخر؛ يَحكمُ فيه ربُّ العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي له الحمد في الأولى وفي الآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم))، فيا تُرى هل سيحكم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيما هو دونها؟! بالطبع لا.
فيا سلمان العودة – بل ويا كل من تكلَّم في الشيخ الألباني جهلاً أو ظلماً – هل خرج الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فيما سبق من نقول عنه عن قول السلف، أم أنـَّه وافق معتقدهم ونصره بالحجة والبرهان؟!
وبعد ذلك النقل والبيان؛ هل يظهر لـكم أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى غير متقن لمسألة الكفر الاعتقادي والعملي وحصل له فيها ارتباك، أم أنَّه يتكلَّم برسوخ ويقين نابعين من أدلة الكتاب والسنة ومن فهم أقوال السلف الصالح؟!
نترك الجواب لأهل الإنصاف؛ وقليلٌ ما هم.

2. أما قول سلمان العودة: ((وهذا منغمر في بحر علمه وفضله، وما من عالم إلا وله زلة، فالناس في هذه الزلة أصناف: صنف يَقبل زلته، ولا يعي خطأها؛ لأنها صدرت من عالم يجلُّه، فيتهيب مخالفته، ونسي أنه يخالفه ليوافق غيره من العلماء، وأنه إنْ وافقه ربما خالف جماً غفيراً من أهل العلم السابقين واللاحقين. وصنف يشنّع عليه بهذه الزلة، ويغشيها، ويعظِّمها، ينسى الحسنات والفضائل، فيختصر الشيخ بهذه المسألة التي انفرد فيها.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
 ولو أن كل من أخطأ في مسألة ردت أقواله وأسقط لما بقي أحد قط، فإنه لا عصمة لأحدٍ بعد الأنبياء)).

نعم الشيخ الألباني رحمه الله تعالى هو عالم من علماء الأمة له مكانته وعلمه وفضله، وهو يُخطئ ويصيب وليس بمعصوم وكذلك حال باقي العلماء، وقد زلَّ مَنْ هو أعظم من الشيخ الألباني من علماء المسلمين قديماً فلا يُستغرب أن يزلَّ الألباني أو غيره، ولا نتعصَّب لقوله ولا نتحزب حوله.
ولكن لا تكن هذه الكلمات غطاءً للطعن في أهل العلم من غير تثبّت ولا برهان ولا تكن تسويغاً للتهم المتعجِّلة من غير تمحيص ولا تحرير، وإلا كان الباب مفتوحاً على مصراعيه للطاعنين، فكلُّ مَنْ أراد أن ينال من عالم من علماء الأمة قدَّم تلك الكلمات تمهيداً للطعن والتجريح.
بل الواجب ألا نتسارع إلى الطعن والتجريح ولا نتعجَّل في التخطئة والتغليط إلا بعد أن نتثبت من كلام المشار إليه ونحرر قوله ونحقق المسألة علمياً؛ فإنْ ظهر لنا أنَّ المشار إليه قد زلَّ مع كونه من أهل العلم المشهورين، فنردَّ غلطه بعلم وعدل مع التذكير بعلمه ومكانته، فنعظِّم مَنْ يستحق التعظيم وننصر الحق ونرحم الخلق.
وما تقدَّم من نقول عن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى يظهر به لكلِّ ذي عينين أنَّ الشيخ لم يزل في مسألة الكفر الاعتقادي والعملي ولم ينفرد بها، ولو أنَّ سلمان حقَّق المسألة جيداً لما تكلَّف مثل هذا الكلام.

3. أما قوله: ((الصنف الثاني، وهم أهل العدل والإنصاف الذين يجتنبون هذه الزلة ويحذرونها، ويبينونها بأمثل أسلوب، وأضفى عبارة، وأقوم سبيل، ويحفظون للعالم قدره ومنـزلته، ويثنون عليه، ويوالونه في الخير، ويُصْفونه الود ظاهراً وباطناً. وهذا وإن كان منهجاً واضحاً وسهلاً وصحيحاً، إلا أن كثيراً من الناس يصدِفون عنه، ويميلون صوب إحدى الطائفتين. ولزوم الاعتدال من الاعتدال هو مطلب آخر، "وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم"[فصلت : 35]، جعلنا الله وإياك منهم)).

يا سلمان؛ أين أهل العدل والإنصاف الذين أشرتَ إليهم من زلات سيد قطب، بل من طوامِّه التي تدل على ضلاله وفساد عقيدته؟!!
لم نسمع منـكم أحداً إلى الآن مَنْ حذَّر من انحرافه بل من انحرافاته، والعكس هو الواقع، فنسمع منكم الدفاع عن تلك الضلالات والتسويغ لها ومناصرتها، بل وجعلها أصولاً سلفية لا تقبل النقاش!!.
ولو تكلَّم أحدٌ في بيان تلك الضلالات وحذَّر من سيد قطب وكتبه التي حوتها، رفع صوتهم أهلُ العدل والإنصاف الذين أشرتَ لهم تعصّباً وتحزباً لسيد وكأنَّه إمام من أئمة السلف أو مجدد من مجددي هذه الأمة؛ مستنكرين الرد ورافضين النقد!!.
هذا مع أنَّ مقارنة الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى بسيد قطب من الظلم بمكان، فكـيف وأنتم تتجرَّؤون على الشيخ الألباني بالطعن والتغليط من غير تثبت ولا تحقيق وليس لـكم جرأة في الكلام عن سيد وضلالاته مع ظهورها ووضوحها؟
وإنْ تجرَّأ فيكم أحدٌ تكلَّم مجملاً في تخطئة سيد قطب مع ما يُصاحب ذلك النقد من منهج الموازنة بين الحسنات والسيئات ومن هالات من التقديس لسيد؛ وكأنَّ سيداً له مكانته العلمية وجهوده الدعوية التي لا يُمكن تجاهلها!!.  
فيا سلمان؛ أهـذا هو العدل الذي تدَّعونه؟! أم هـذا هو الإنصاف الذي تنشدونه؟!

4. وقال سلمان: ((والصواب: أنَّ الكفر الأكبر كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل؛ فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر، والسجود للصنم طائعاً مختاراً عالماً عامداً: لا تفسير له إلا الكفر، والتلفظ بأقوال الكفر التي لا تحتمل تأويلاً كسبّ الله ورسوله وكتابه، أو تكذيب الله ورسله، ونحو هذا من عالم عامد بغير إكراه، ولا غلبة سكر ولا حالة نفسية مرضية تتلبس صاحبها، وتجعله يتصرف بلا وعي ولا ضبط لنفسه، مما لا يحتمل تأويلاً غير الكفر)).

يا سلمان ما الفرق بين قولك ((والصواب: أنَّ الكفر الأكبر كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل))، وبين قول الشيخ الألباني: ((الذي أفهمه في هذه المسألة: أنَّ الأصل الكفر القلبي؛ لكن هناك أقوال وأعمال قد تصدر من الإنسان تنبئ عما وقر في قلبه من الكفر))؟!
يا سلمان ما الفرق بين قولك: ((فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر))، وبين قول الشيخ الألباني: ((إنَّ من الأعمال أعمالاً قد يكفر بها صاحبها كفراً اعتقادياً؛ لأنها تدل على كفره دلالة قطعية يقينية، بحيث يقوم فعله هذا مقام إعرابه بلسانه عن كفره؛ كمثل من يدوس المصحف مع علمه وقصده له))؟!
يا سلمان ما الفرق بين باقي تفريعك: ((والسجود للصنم طائعاً مختاراً عالماً عامداً: لا تفسير له إلا الكفر، والتلفظ بأقوال الكفر التي لا تحتمل تأويلاً كسبّ الله ورسوله وكتابه، أو تكذيب الله ورسله، ونحو هذا من عالم عامد بغير إكراه، ولا غلبة سكر ولا حالة نفسية مرضية تتلبس صاحبها، وتجعله يتصرف بلا وعي ولا ضبط لنفسه، مما لا يحتمل تأويلاً غير الكفر)) وبين تأصيل الشيخ الألباني: ((فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال))؟!
وأما الخلاف الحقيقي بين الشيخ الألباني رحمه الله تعالى وبين سلمان ومَنْ وافقه: أنَّ الشيخ الألباني يربط هذه المكفِّرات القولية والعملية الظاهرة بكفر القلب لأنَّها تدل عليه؛ حتى لا يبقى للخوارج الذين يُكفِّرون بمجرد العمل حجة على أهل السنة، وحتى لا يتعجَّل الشباب المتحمّس في تكفير الناس سواء كانوا حاكمين أو محكومين بمجرد العمل دون النظر إلى عقائدهم، بينما لا يتطرق سلمان ولا مَنْ وافقه إلى بيان ذلك الارتباط، فأوهموا الناس أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل دون أن ننظر إلى القلب حتى ظهر التكفير على ألسنة الشباب المتحمِّس وعمَّت فتنته وعظُمَ بلاؤه واتسعت آثاره في البلاد والعباد، بل ويُصرِّح بعضهم فيقول: يكفر ولو كان مؤمناً في الباطن، والبعضُ يتردد فيقول: يكفر بالقول أو بالعمل سواء كان مؤمناً في الباطن أو غير مؤمن؛ وألبسوا  على الناس الحقَّ بالباطل فقالوا: أنَّ المرجئة تقول يكفر بالأقوال أو الأعمال الظاهرة لأنها علامة على كفر القلب، فليس القول بذاته كفراً وليس الفعل بذاته كفراً وإنما الكفر بالقلب وتلك الأقوال والأعمال علامات عليه، فمَنْ قال أنَّ المكفِّرات الظاهرة تستلزم انتفاء الإيمان الذي في القلب أو أنَّ الكفر بالقول أو بالعمل يستلزم كفر القلب وفساد الاعتقاد فقد وافق مذهب المرجئة.
وقد تقدَّم أنَّ مقولة أنَّ الكفر يكون بالقول أو بالعمل ولو كان القلب مؤمناً باطلة وهي من أقوال جهمية المرجئة؛ وكثيرٌ من أمثال سلمان يعلم ذلك ولكـنَّهم يكتمون الحق ولا يُظهرونه.
وأما قولهم الأخير ففيه تلبيس بين الحق والباطل وفيه كتم للحق وتشويه لأهله؛ فما قالوه عن مذهب المرجئة حق لا مرية فيه، وأما تسويتهم بين قول المرجئة وقول مَنْ قال أنَّ المكفِّرات الظاهرة هي مكفِّرات بذاتها دلَّ عليها الشرع بالأدلة الثابتة، وهي تستلزم انتفاء الإيمان الذي في القلب، أو أنَّ الكفر بالقول أو بالعمل يستلزم كفر القلب وفساد الاعتقاد، فهذه التسوية باطلة تدلُّ على تخبطهم كما أنَّ تسوية المشركين بين البيع والربا باطلة نابعة من تخبطهم: ((قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)).
وبهذا يكونون قد جمعوا بين خطيئتين: تلبيس الحق بالباطل وكـتم الحق؛ والله تعالى يقول: ((وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ))، والله المستعان.
وقد نقلنا قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 14/120]: ((وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن؛ وإلا فلو قُدِّرَ أنه سجد قدَّام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله)).
ففرِّق يا مَنْ رزقـك الله عقلاً؟! وميـِّز يا مَنْ وهبـك الله قلباً؟! ولا تكن من المتخبطين ولا من الملبِّسين.

5. وقال سلمان: ((ولا يوجد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد؛ لأنَّ الاعتقاد مما لا سبيل له، ولا يعلم حقيقته إلا الله، وإنما العبرة والمؤاخذة بظاهر حال الناس من أقوالهم وأفعالهم.
وقد جاء في الصحيح ما يرسّم هذه القاعدة، من مثل: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قام رجل فقال: يا رسول الله أتق الله، قال: "ويلك، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال:"لا لعله أن يكون يصلِّي " فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه البخاري (4351)، ومسلم (1046).وفي الحديث الآخر قال: - صلى الله عليه وسلم -:"إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض.." الحديث. أخرجه البخاري (2680) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة – رضي الله عنها -. فالعبرة والحكم هو لما يظهر من الناس ويبدو من أفعالهم وأقوالهم)).

نعم العبرة بالظاهر والله يتولَّى السرائر كما يقول أهل العلم؛ ولكنَّهم كذلك يقولون: العبرة بالمقاصد والنيِّات!!، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها: أنَّ المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وطاعة أو معصية؛ كما أنَّ القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة، أو صحيحة أو فاسدة، ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر)) وانظر [إعلام الموقعين  3/95-96].
ثم قال: ((فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم؛ هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته. فإنَّ خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على  الأُمة، ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك. والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرهاً وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه؛ فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به)) ثم ذكر أدلة هذه الأسباب العشرة، انظر [إعلام الموقعين 3/123-125].
وقول سلمان: ((لأنَّ الاعتقاد مما لا سبيل له، ولا يعلم حقيقته إلا الله)) يلزم منه تكفير فاعل الكبيرة لأننا لا سبيل إلى معرفة اعتقاده؛ هل يعتقد حلّها أم لا؟! بل ويلزم منه تكفير مَنْ فعل الكفر أو قاله من غير قصد؛ لأننا لا سبيل لنا إلى معرفة قصده!!، وهذا معارض بما قرَّره سلمان نفسه حين قال: ((فدوس المصحف عمداً ممن يعلم أنه كلام الله بقصد إهانته من غير إكراه ولا ملابسة لا تفسير له إلا الكفر))؛ فلعلَّ قائلاً يقول لك: ومن أين لك سبيل على أنَّه قصد الإهانة أو لم يقصد؟!!
ثم ما الفرق بين معرفة قصد القلب وبين معرفة اعتقاده؟ حتى تطالبنا يا سلمان بأدلة على أنَّ الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد.
ثم إذا كانت المؤاخذة في حنث اليمين لا تكون إلا عن عقد القلب كما قال تعالى: ((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ))، أفتكون المؤاخذة في الكفر دون اعتبار اعتقاد القلب؟!
ثم أين أنت يا سلمان من الأصل الذي نقله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الإمام ابن بطة في شرح العمدة حين قال: ((من أصول أهل السنة: أنَّهم لا يُكفِّرون أحداً من أهل السنة بذنب، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفر بالاعتقادات))؟!
نعم الإطلاع على ما في القلب لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ ولكن هناك أقوال وأعمال تنبئ عمَّا في القلب من اعتقاد، وتدلُّ على سلامته أو فساده، وهذا ما قرَّره الشيخ الألباني كما تقدَّم، فلماذا تصوِّر يا سلمان – ويا غير سلمان – أنَّ الشيخ الألباني يريدنا أن ننقب أو نشق عن قلوب الناس لنعرف اعتقادهم؟ وقد قال رحمه الله تعالى: ((فالكفر الذي وقر في القلب نحن ما نصل إلى القلب، لكن نتخذ طريقاً للوصول إلى ما في القلب أحد طريقين: إما القال وهذا لسان القال، وإما لسان الحال)).
ثم ألم يقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((والمقصود هنا: أنَّ القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده، وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب)) انظر [المجموع 14/113-120].
فقول شيخ الإسلام: ((فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده)) هل لـكم أن تقولوا فيه: "معرفة القلب وقصده" لا سبيل له ولا يعلم حقيقته إلا الله، وإنما العبرة والمؤاخذة بظاهر حال الناس من أقوالهم وأفعالهم؟!
وخلاصة ذلك: أنَّ الكفر بالقول الظاهر أو بالعمل الظاهر لا يكون إلا عن فساد الاعتقاد؛ وهذا هو مقصود مَنْ قال: ((إنما الكفر بالاعتقادات)) وليس مراده قطعاً أنَّ الكفر لا يكون بالقول الظاهر ولا العمل الظاهر، بل يقع بهما ولكنَّه لا محال يستلزم زوال أصل الإيمان الذي في القلب وهو الاعتقاد: قول القلب وعمله.
وقول مَنْ قال: يكفر الرجل بالقول الظاهر أو بالعمل الظاهر، إنما مقصوده يكفر مع زوال الاعتقاد، لكن قد يُعبِّر البعض بتعبير يوهم فيقول: قد يكفر الرجل بالقول أو العمل دون الاعتقاد، ومراده بـكلمة (الاعتقاد) هنا التصديق المجرَّد وهو قول القلب، وهذا حق لا ريب فيه، فساب الرسول يكفر ولو لم يعتقد حل السب أو يكفر ولو اعتقد حرمة السب؛ واعتقاد الحرمة والحل متعلِّق بتصديق القلب لا بعمله كما لا يخفى.
فجاء مَنْ لم يفهم مراد أهل العلم أو مَنْ أراد التلبيس والفتنة بينهم فقال: هنـاك خلاف بين الألباني وبين غيره من أئمة السلف المتقدمين والمتأخرين، فالألباني لا يُكفِّر إلا بالاعتقاد لا يُكفِّر بالقول ولا بالعمل، وأما أئمة السلف فلا يحصرون الكفر بالاعتقاد وإنما الكفر عندهم قد يكون بالقول وقد يكون بالعمل وقد يكون بالاعتقاد!!، وحقيقة الأمر كما ذكرناه، والله الموفِّق.

6. قال سلمان: ((وقد ذكر الله الكفار والمشركين في كتابه من الوثنيين وأهل الكتاب، ووصفهم بالكفر، وبين أسبابه، وهي أقوال وأفعال واعتقادات، وهذا الذي مضى عليه عمل السلف - رضي الله عنهم -، وإن كانوا لا يجرون هذه القاعدة على الأعيان إلا بعد التحقق والتوثق؛ لأن الحكم على الفعل بكونه كفراً أسهل من الحكم على الشخص المعين، لما يعتري حال الناس من اللبس والاحتمال)).

نعم مضى عمل السلف على أنَّ أسباب الكفر قد تكون اعتقادات وقد تكون أفعال وقد تكون أقوال، وتبعهم على ذلك الشيخ الألباني كما تقدَّم فلا نعيد.
وأما قول سلمان: ((الحكم على الفعل بكونه كفراً أسهل من الحكم على الشخص المعين))؛ بل هو مقدِّمته وبابه، فمن أحكم هذا الباب وأوثقه ولم يتقدَّم إليه إلا بالنصوص الثابتة مع الفهم السديد فقد سَلِمَ ومَنْ ولجه وأقدم إليه بلا علم ولا فهم فقد هلك.
والحكم على القول أو الفعل بأنه كفر ليس سهلاً؛ لأنـَّه أصل وتأصيل، والحكم على الشخص المعين فرع وتنزيل، والأصل أشدُّ من الفرع، والفرع مبنيٌّ على الأصل، فلا تُهوِّن الأمر يا سلمان ولا تفتح الباب ثم تحرِّم الدخول منه.
ثم كـيف يكون الحكم على الفعل بكونه كفراً سهلاً؛ والتشريع من خصائص الله جلَّ في علاه؟ فأين يا سلمان تعظيم الحكم بغير ما أنزل الله؟!
ثم لا يكفي التحقيق والتوثق في تكفير الأعيان وتنزيل الأحكام عليهم؛ بل تكفير الأعيان من خصائص الراسخين في العلم وليس من شأن الأفراد؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى: ((ليس من حق كلِّ أحد أن يطلق التكفير أو أن يتكلم بالتكفير على الجماعات أو على الأفراد!!، التكفير له ضوابط فمن يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإنَّه يحكم بكفره ...، [إلى أن قال:]
فالتكفيرُ خطيرٌ ولا يجوز لكل أحد أن يتفوه به في حق غيره!!، إنَّما هذا من صلاحيات الحاكم الشرعي، ومن صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم: الذين يعرفون الإسلام، ويعرفون نواقض الإسلام، ويعرفون الأحوال، ويدرسون واقع الناس والمجتمعات؛ فهم أهل الحكم بالتكفير وغيره، أما الجهال وأما أفراد الناس وأنصاف المتعلمين فهؤلاء ليس من حقهم إطلاق التكفير على الأشخاص أو على الجماعات أو على الدول؛ لأنهم غير مؤهلين لهذا الحكم!!)) انظر كتاب [مراجعات في الفقه السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة ص 50- 51] .
وقال في ص58: ((الحكم بالردة والخروج من الدين: من صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم؛ وهم القضاة في المحاكم الشرعية والمفتون المعتبرون، وهي كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد أو من حق أنصاف المتعلمين أو المنتسبين إلى العلم الذين ينقصهم الفقه في الدين؛ ليس من صلاحياتهم أن يحكموا بالردة!!؛ لأنَّ هذا يلزم منه الفساد!!، وقد يحكمون على المسلم بالردة وهو ليس كذلك، وتكفير المسلم الذي لم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومَنْ قال لأخيه يا كافر أو فاسق وهو ليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله، فالذين يحكمون بالردة: هم القضاة الشرعيون والمفتون المعتبرون، والذين ينفذون هذا الحكم: هم ولاة أمر المسلمين، وما عدا هذا فهو فوضى)).

7. وختم سلمان جوابه بقوله منبِّهاً: ((وهذا بمعزل عن تكفير أصحاب المعاصي من الكبائر وغيرها، فإنهم لا يكفرون بمجرد المعصية ولو كانت كبيرة، إلا أنْ يستحلوا محرماً معلوماً تحريمه علماً قطعياً، فيكون كفرهم حينئذ كفر اعتقاد، ولو لم يعلموا))

كان أولى بهذا التنبيه صاحبه وبخاصة وهو القائل في شريط "جلسة على الرصيف" في مُغَنٍّ يجاهر بفسقه: ((من المجاهرة: أنَّ الإنسان يفخر بالمعصية أمام زملائه؛ يبدأ يجاهر بأنَّه فعل كذا وفعل كذا، ويبدأ يسرد قائمة من المعاصي: هذا لا يَغفر الله له إلا أن يتوب!!؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بأنه لا يُعافَى "كلّ أمتي معافى [إلا المجاهرون]".
وأخبث وأعظم من ذلك أنَّ بعضهم ... يقول: أنا لي علاقات محرَّمة وأنا لي صداقات وأنا لي أسفار؛ فهذا يتشبع بالمعصية، وبعضهم يسجل المعصية على أشرطة: ولا كرامة لهم؛ لأنَّهم مرتَدُّون بفعلهم هذا!!، يسجل كيف غرر بفتاة وارتكب معها الفاحشة وهذه رِدَّة عن الإسلام!!، هذا مخَلَّد ـ والعياذ بالله ـ في نار جهنم إلا أن يتوب!!؛ لماذا؟ لأنَّه لا يؤمن بقول الله عزَّ وجل:{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}؛ بالله عليكم الذي يَعرف أنّ الزنى حرام وفاحشة ويُسخط الله، هل يفتخر أمام الناس؟! أمام الملايين أو فئات الألوف من الناس؟! ... لا يَفعل هذا مؤمن أبدا!! ...)).
ثم دَوَّنَ سلمان العودة كلامَه هذا في كتاب له بعنوان الشريط نفسه، بل وأصرَّ عليه في شريط آخر بعد هذا عنوانه: "الشباب: أسئلة ومشكلات" وهو يتكلم عن المغنين الذين يتداول أشرطتهم بعضُ الشباب والتي تدعو للرذيلة وتغرير الشباب والفتيات فقال: ((أنا مطمئنٌّ أنَّ صاحب هذا العمل أقل ما يقال عنه: أنَّه مستخفٌّ بالذنب؛ ولا شك أنَّ الاستخفاف بالذنب – خاصة إذا كان ذنباً كبيراً ومتفق على تحريمه - : أنَّه كفر بالله!!؛ فمثل هؤلاء لا شك أنَّ عملهم هذا ردة عن الإسلام!!، أقول هذا وأنا مرتاح مطمئن القلب إلى ذلك!!)).
أقول: فسلمان العودة يعد المجاهرة بالمعاصي والمفاخرة بها وتسجيل الغناء ونشره بين الشباب ردةٌ عن الإسلام دون أدنى تردد؛ فيا تُرى كم عاصٍ يشمله هذا التكفير؟! فليهنأ أتباع سلمان به شيخاً لهم؛ فها هو يُنبِّههم أنَّ أصحابَ الكبائر لا يكفرون إلا إذا استحلوا تلك المعاصي، فإنْ استحلوها كان كفرهم كفر اعتقاد، ثم هو أوَّل المخالفين لهذا التنبيه؛ والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ.كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ))، ويقول: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)).
ومن هذا يتبيِّن لنا – بقين – أنَّ سلمان لم يُتقن مسألة الكفر الاعتقادي والعملي، وأنَّ أحكامه ومواقفه – وبخاصة في أوقاتنا المعاصرة - تُخالف ما يؤصِّله ويعتقده وفي هذا ارتباك كبير وتلون ظاهر لا يخفى إلا على متعصِّب.
وأما الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فعالم راسخ في العقيدة، ومواقفه ثابتة لا تتلون وأحكامه مستقيمة لا تضطرب، ولا يضرُّه ما قال فيه سلمان وغيره ولا ينقص ذلك من مكانته.
ومَنْ أراد أن يعرف أقوال الشيخ الألباني في مسائل الإيمان والكفر فعليه أن يرجع إلى كلامه في كتبه ومجالسه قبل أن يتفوَّه فيه بكلمة ولا يبني على ما يُنسب إليه؛ قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى في جوابه على إثبات نسبة الأسئلة العراقية إليه: ((وَأَما الشَّيخُ الألبانيُّ - رحمهُ الله ُ- فَمَنْ أَرَادَ معرِفةَ قوْله ِ فَليَرْجِعْ إِلى ُكتُبه ِ وأشرِطَتِهِ، ولا يعتمدُ على مُجرَدِ النِّسبَة ِ إِليْهِ دُوْنَ مَا يُثبتُ ذلِكَ)).
أسأل الله تعالى أن يرحم الألباني برحمة واسعة، وأن يهدي ضال المسلمين إلى صراطه المستقيم، وأن يغفر لنا الزلات وأن يُبارك لنا الجهود والأوقات وأن يُضاعف لنا الحسنات، وأن يرزقنا الأجر والثواب، والإخلاص والسداد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

وكتبه العبد الضعيف: أبو معاذ رائد آل طاهر