بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 أبريل 2019

مظاهر تعظيم الله عز وجل

مظاهر تعظيم الله عز وجل

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين،        أمَّا بعد:

فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، إن تعظيم الله أعظم العبادات القلبية التي يجب تحقيقها، والقيام بها، وتربية النفوس على ذلك، إذ شريعة الله مبنيةٌ على تعظيم الله، فتوحيد الله الذي هو أساس الملة والدين هو من تعظيم الله، فالله أجلَّ وأعظم من أن يعبد معه غيره، والشرك منافياً للتوحيد يقول صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِى فِيهِ غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" وقال نوح عليه السلام لقومه لما وقعوا في الشرك بالله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) أي مالكم لا تعظمون الله، مالكم لا تقدرون الله حق قدره؛ لأن من عبد غيره فليس بمعظم له ولا بمقدر له حق قدره، وأخبر تعالى أن عظيم المخلوقات السماوات والأرض والجبال أنه قال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً*لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً*تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً*أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).

أيها المسلم، إن لتعظيم الله مظاهره ومعالم فمن أعظمها، فمن مظاهر تعظيم الله أن تؤمن بأسماء الله وصفاته، تؤمن بصفات الله الذي وصف بها نفسه ووصف بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وتسمي الله بما سماء به نفسه أو سمائه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إيماناً بلا تعطيل وتنزيها بلا تشبيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فمن أسمائه المجيد والكبير والعظيم والجبار، وهو جلَّ وعلا موصفٌ بالكبرياء والعظمة والعزة والجلال، فهو اكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل من كل شيء تعالى وتقدس علواً كبيرا، ومن مظاهر تعظيم الله أن تؤمن بالأثر المترتب على إيمانك بأسماء الله وصفاته، فأنت تعلم أن الله سميعٌ بصير أثر ذلك العلم أن تعلم أن الله يسمع كلامك ويرى مكانك ويعلم سرك وعلانيتك (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، فيدعو كذلك إلى تعظيمه وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن مظاهر تعظيمك لربك كمال محبتك له، وتعلق قلبك به، وشوقك إلا لقائه، ومن مظاهر تعظيم ربك خشيته والخوف منه من عقوبته وغضبه وانتقامه (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، وتؤمن به حق الإيمان مع الطمع في رحمة الله وفضله (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ومن تعظيمك لربك أن تكون متعلق القلب به تدعوه وترجوه وتضطر إليه دائما في رخاءك وشددتك، وقوتك وضعفك؛ لأنه يقضي الحاجات ويفرج الكربات ويغيث الهفات (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقال جلَّ وعلا: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ومن أثر تعظيمك لله الإكثار من ذكره والثناء عليه يقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فلا أحد أحق من الله من ذلك مدح نفسه وأثناء على نفسه، مدح نفسه بخلق السماوات والأرض: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، أثنى على نفسه بأنه هو الذي أنزل الكتاب العظيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)، أثنى على نفسه بأنه جلَّ وعلا أنه لم يتخذ وليِّ من الذل: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)، أثنى على نفسه إذا قضاء بعدله بين خلقه قال جلَّ وعلا: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ومن مظاهر تعظيمك لربك أن تعمل بما أوجب عليك من عبادات التي شرعها لك من واجب ومستحب إخلاصاً لله جلَّ وعلا، بأن تصلي وتزكي وتصوم وتحج وتبر الوالدين وتصل الرحم وتلزم الأخلاق الفاضلة طاعةً لله وقربى تتقرب بها إلى الله، قال بعض السلف: وقد سئل عن قوله: (اتقوا الله) ما حقيقة التقوى؟ قال: حقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو بذلك ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومن أثار تعظيمك لربك معرفتك بقدر نعمه عليك، فأنت تعلم عظيم نعم الله عليك فتتفكر في نفسك: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، تذكر نعم الله عليك خلقك بأحسن تقويم، صورك فأحسن صورك، أمدك بالسمع والبصر والفؤاد، سخر لك الأبوين، سخر لك ما في السماوات وما نعم منه، نعمه عليك تترا، لا تستطيع أن تحصيها: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، ومن مظاهر تعظيمك لربك أن تتفكر في عظيم مخلوقاته، وكبيرها وجلالها لتعلم عظمة من خلقها (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، هذه السماوات السبع تفكر في عظيم خلقها وسعتها وكبرها وارتفاعها ودقة صنعتها (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ*ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)، أنظر إلى الأرض التي جعلها الله ذللها الله لنا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) جعل الأرض مهادا، وأرساها بالجبال أن لا تميد بنا، ثم أنظر إلى الدواب في السموات والأرض: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، فالسماوات على عظمتها يقول صلى الله عليه وسلم: "ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم لله راكع أو ساجد يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم إلى يوم القيامة"، ثم تفكر في الأرض وما فيها من الدواب على اختلافها أجناسها وأنواعها النافع منها والمؤذي منها، لينتفع الناس من النافع ويعلم قدر ضعف أنفسهم أمام قوة تلك المخلوقات ليعلموا بها عظمة من خالقها، هذا الليل والنهار يتعقبان من دقيق (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، الشمس والقمر منذ خلقهم الله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ثم قال: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كلها عظات وعبر ودلالة على عظم خالق هذا الكون، ليكون في القلب تعظيم لله وإجلال لله، وإخلاص العبادة لله، وتعلق القلوب لله، في كل أحوالنا، في صحتنا ومرضنا، في قوتنا وضعفنا "تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" كلما تعرف المؤمن هذه المخلوقات العظيمة عرف قدر خالقها وعظمة خالقها واستدل على كمال عظمته، وكمال كبرياءه وجلاله؛ وأنه مستحق أن يعبد ويخضع له ويذل له ويطاع فلا يعصى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتبرين: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، إن من تعظيم الله تعظيم شرعه ودينه، بأن تعظم كتاب الله وتعظم سنة محمد صلى الله عليه وسلم تعظمهما التعظيم اللائق بهما؛ بأن تقبل نصوص القرآن وتقبل نصوص السنة بالسمع والطاعة والاستجابة المطلقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، لابد للمسلم أن يعظم شرع الله فإن تعظيمك لأوامر لله بالامتثال، وتعظيمك لنواهي الله بالاجتناب، دليل على تعظيمك بما أمرك ودليل على تعظيمك لما نهاك عن ذلك، ولتعظيم شرع الله معالم فأول ذلك: الاستسلام التام لشرع الله وألا يقع في نفسك حرج من ذلك ولا اختيار لك بل السمع والطاعة واجبان عليك قال جلَّ وعلا: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)، ومن مظاهر تعظيم شرع الله ألا يكون في نفسك حرج عند تطبيق أحكام الشريعة بل تقبل وينشرح صدرك بذلك قال الله جلَّ وعلا: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي: ينقادوا ويرضوا بذلك، ومن مظاهر تعظيم الله أن لا يتطول بالبحث عن الحكم، فالحكم إن وجد إن علمتها فالحمد لله، وإلا فأنت على يقين بأن شرع الله مبنيٌ على كمال حكمة الرب وكمال علمه وكمال رحمته وعدله، فقد تستدرج أحيانا وقد تخفى عنك أحيان لكن عليك بالسمع والطاعة والاستجابة التامة، ومن مظاهر تعظيمك لشرع لله أن تمسك لسانك عن الخوض فيما لا تعلمه ولا تتكلم في الشرع إلا بعلم ويقين (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فقول على الله بلا علم دليل الجهل وضعف الإيمان وقلة البصيرة، فالمسلم المعظم لله لا يتكلم بشرع الله إلا بعلم يعلمه، وأما من الذي لا علم عنده فيمسك عما لا يعنيه فذلك أفضل له من أن يخوض بجهل ويقول باطلا ويفتي بخلاف الحق فيرتكب الإثم والعدوان، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ،   أما بعدُ:

فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله، إن المتأمل في كثير من أحوال المسلمين يجد أن هناك أموراً تنافي تعظيم الرب، أموراً تنافي تعظيم الرب وتقديره،أن هناك أموراً تنافي تعظيم الرب جلَّ وعلا ولا تقدر الله حق قدره، هذه المظاهر السيئة مبنيةٌ غالباً على أمور بدعوى الانفتاح، دعوى الحرية الرأي دعوى الحوار المفتوح في الأمور، هذه الأشياء يراد بها الاستهزاء والاستخفاف والسخرية والتنقص لشرع الله؛ بل الطعن في الذات الإلهية ومقام نبينا صلى الله عليه وسلم، الاعتراض على شرع الله، والقدح في أوامر الله ونواهيه، وكأن أولئك ينصبون أنفسهم بأنهم مشرعون العباد (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، والمصيبة أن قضايا الأمة المصيرية في معتقدها وأخلاقها وسلوكها يطرحها البعض من خلال القنوات الفضائية أو الانترنت أو نحو ذلك يطرحونها على بساط البحث فيتكلم جاهلٌ ويتكلم سفيٌ ويتكلم منافقٌ، ويقول من يقول في شرع الله ودينه فيما أحل وفيما حرم، وفيما أمر وفيما نهى، ثم يأتي من يقول إن لكل إنسان حقاً أن يعترض على الله في تشريعه أو يعترض على رسوله بتشريعه أو يناقش الشرع فيقبل ما يوافق عقله ويرفض سواء ذلك، أهاذي الألفاظ ، أهاذي تصدر من قلب ذاق طعم الإيمان إن المؤمن حقاً سماع مطيع لله فيما أمره ونهوه عنه، كونه يعصي، كونه يرتكب المحرم لكن كونه يعترض على الله بما أحل وحرم ويقول هذه أمور انتهاء دورها ومحرمات مضى زمانها ونحن زمان التقدم والرقي المادي والصناعي، يجب أن نلغي بعض المحرمات ونبيح بعض المحرمات ونرفض التقيد بهذه الشريعة ونعترض عليها بأهوائنا وعقولنا كل ذلك منافي للإيمان الصحيح، اسمع الله يقول عن المنافقين هؤلاء المنافقين عن رسول الله وهم منافقو هذا العصر: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ*وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)ثم قال: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) لما أنزل الله على نبيه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أشفق الصحابة من عموم هذه الآية، وأتوا رسول الله فجلسوا على الركب وقالوا يا رسول الله: كلفنا من الأعمال من نطيق الصلاة والصيام، وقد جاءت آية لا طاقة لنا بها، قال: "وما هي"، قالوا: قول الله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قال: "أتريدون أن تقولوا سمعنا وعصينا، قولوا سمعنا وأطعنا ثم أنزل الله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما قراءها القوم ودلت بهم ألسنتهم قال الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يتكلموا بها أَوْ يعملوا ".

فلنتقي الله، معاشر المسلمين يا كتاب الإسلام ويا رجال الإعلام ويا رجال الثقافة والفكر لنتقي الله في أنفسنا، ولنجعل أنفسنا أنصاراً لشرع الله، دعاةً لدين الله، حماةً لهذه العقيدة ولهذه الأخلاق والفضائل، إياكم أن تزل اللسان بما يندم العبد عليه يوم القيامة "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه"، إياكم والاعتراض على شرع الله، وتنقص هذه الشريعة، آمنوا بها حق الإيمان؛ فإن العبد لا يقوي إيمانه حتى يرضى بالله ربا، ويرضى بالإسلام دينا، ويرضى بمحمد نبياً رسولا، سنسأل عن ذلك عندما نضع في ألحادنا ويتخلى عنا أهلونا وأموالنا، فيسأل كل من ما ربك؟ ما دينك؟ ما علمك بهذا الرجل؟، فلنتقي الله في إسلامنا، ولنتقي الله في شريعة رمزنا صلى الله عليه وسلم، ولنحذر من الألسنة البذيئة، والكلمة الوقحة، ولنتأدب في ألفاظنا، فكم ألفاظ يدلي بها بعض الناس؟ لو محصت الحق حقا وحملتها على ظهرها لرأيتها قد تحكم على قائلها بخروجها عن الإسلام؛ ولأنه اعترض على الله ولم يقبل شرع الله، الله جلَّ وعلا حينما ذكر شبه المعترضين ذكرها ذا من لها منتقص لها، لما قال القائل: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) قال الله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) ذكرها ذا من لها ولأهلها لا مادح لها ولا آمناً فيها، فإن الواجب علينا أن نسمع ونطيع لما قال ربنا ولما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نخضع كل أمورنا لتوافق المنهج القويم الذي رضاه الله لنا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)، فنسأل الله الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، نسال الله الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى، وأن يطهر قلوبنا من النفاق والضلال، وألسنتنا من الفحش والبذاءة إنه على كل شيء قدير.

واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلكم ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهدين الذين قضوا بالحق وبه قائمون، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، واجعل هذا البلاد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة إنك علة كل شيء قدير، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير سدده في أقواله وأعماله، ومنحه الصحة والعافية، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بن عبد العزيز لكل خير، سدده في أقواله وأعماله، وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

عبادَ الله،(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

سماحة المفتي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ 

الخوف والرجاء من الله

الخوف والرجاء من الله

الحمد لله وحده نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء قبله ولا بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وخلقه وأمره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين امنوا به وقاموا بنصرته، وجاهدوا معه في الله حق جهاده رضي الله عنهم وأرضاهم، وسلم تسليما كثيرا،   أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، وتدبروا القرآن العظيم، فإن تدبر القرآن هو العلم الذي يتبعه العمل به، الله جل وعلا أمر بتدبر القرآن وحث على ذلك، لما في ذلك من الفائدة العظيمة للمسلم، فالمتدبر للقرآن يجد العجب العجاب في علومه وأساليبه ومن ذلك:

ما جاء في القرآن من ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، فلا تكاد تذكر آيات في الجنة إلا وتذكر قبلها أو بعدها آيات في النار، من أجل أن المسلم يكون بين الخوف الرجاء، الخوف من النار ورجاء الجنة، فلا يكون خائفا فقط ولا يكون راجيا فقط وإنما يكون بين الخوف والرجاء، فالخوف يحمله على العمل الصالح، وتقوى الله سبحانه، والرجاء يحمله على حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فهذه طريقة أهل الإيمان، بل هي طريقة الرسل: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) هذه طريقة الرسل وأتباعهم، أما من عبد الله بالخوف فقط فهذا من القانطين من رحمة الله، والله جل وعلا: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)، ولا يعبدونه بالرجاء فقط فتلك طريقة المرجئة الضلال، فالله جل وعلا يعبد بالخوف ويعبد بالرجاء، خوفا ورجاءا، خوفا من ناره، ورجاءا لجنته، فإذا رجاء فإنه لا ييئس من رحمة الله ولا يقنط من رحمة الله؛ بل يكون راجيا لربه محسنا للظن بالله سبحانه وتعالى، وهناك طائفة لا تعتبر الخوف والرجاء أبدا وإنما يقولون نعبد الله لأننا نحبه ولا نعبده خوفا من ناره ولا طمعا في جنته وهؤلاء هم الصوفية الضلال.

فعلى المسلم أن يتجنب هذه الطرائق وأن يأخذ طريق أهل الحق والصواب الذين يخافون ربهم ويرجونهم وينتفعون بآيات الوعد وبآيات الوعيد فيكونون على الاستقامة في حياتهم من غير انحراف إلى مذهب الخوارج أو انحراف إلى مذهب المرجئة أو انحراف إلى مذهب الصوفية؛ بل يكون المسلم على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل على طريقة كل الرسل وأتباعهم، هناك من أمن عذاب الله فقوم عاد لما وعظهم  نبيهم هود عليه السلام، قالوا له: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) نسأل الله العافية، ولما راءوا الريح العاتية المقبلة عليهم لتهلكم: (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، فهنا من المعاصرين من يسخر من الوعظ والتذكير ويقول أنتم تشددون على الناس، أنتم تسدون في وجوه الناس باب الأمل افتحوا لهم باب الأمل أدخلوا عليهم الفرح والسرور وهذه طريقة الضالين من قوم عاد وغيرهم.

فعلينا أن نحذر من هذه الأساليب الماكره وأن تأخذ طريق الحق، نرجوا رحمة ربنا فنعمل، ما يكفي الرجاء دون عمل نرجوا رحمة ربنا فنعمل لها، ونخاف من عذاب ربنا فنترك المعاصي والذنوب والسيئات، هذه طريقة الحق والصراط المستقيم، تدبروا القرآن ما تجدون ذكرا للجنة ونعيمها إلا وتجدون قبله أو بعده ذكرا للنار وعذابها وسمومها وحرها من أجل أن تعملوا للجنة وأن تخافوا من النار فتجتنبوا ما يوصل إليها لا يكفي الخوف من النار؛ بل لابد مع الخوف أن تعمل الأسباب التي تبعدك من النار ومن أعمالها هذه حكمة الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين، ومعلوم أن الجنة محفوفة بالمكاره مكاره النفس، الجنة لا تدخل بالأماني إنما تدخل برحمة الله وبأسباب الأعمال الصالحة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فالجنة لا تدرك بالأماني أو يقول الإنسان أنا مسلم أنا مؤمن هذه دعوة لابد لها من حقيقة ما هو إسلامك؟ وما هو إيمانك؟ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال كما قال الحسن البصري رحمه الله، هذه هو الإيمان.

فعلى المسلم أن لا يغتر بهذه الأساليب الخادعة وينسى الوعيد، الجنة محفوفة بالمكاره تحتاج إلى قيام ليل، إلى صيام نهار، تحتاج إلى الجهاد في سبيل الله، تحتاج إلى مشاق الطاعة، وهي شاقة على النفوس فلابد أن يحمل الإنسان نفسه على المكاره التي هي في رضا الله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك النار محفوفة بالشهوات التي تميل إليها كثير من النفوس الشهوات المحرمة، شهوات اللهو واللعب، شهوات الزنا والسرقة وشرب الخمور وأكل الربا وغير ذلك، الجنة ارتفاع تحتاج إلى ارتفاع وصعود وهذا يشق على النفوس، النار انحدار وسفول وهذا سهل على النفوس، الانحدار أسهل من الصعود، فعلينا أن نتذكر هذا وأن نصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى ومشاقها رجاء ثواب الله سبحانه وتعالى، وأن نترك ما حرم الله من الذنوب والمعاصي خوفا من الله سبحانه وتعالى.

فعلى المسلم أن يلزم هذا الطريق الذي هو طريق النبيين والمرسلين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا.  أما بعد:

أيها الناس،  كما تشاهدون اليوم ما يحيط بالمسلمين من الأخطار، ومن تهديد الأعداء، ومن اجتياح الديار، وإخراج أهلها منها، وتشريدهم من بيوتهم كما تشاهدون هذا تسمعونه صباحا ومساءا فماذا أفادنا هذا؟ هل رجعنا إلى الله؟ هل تبنا إلى الله؟ هل أخذنا بأنفسنا وأولادنا وإخواننا ومن حولنا إلى طاعة الله؟ تأمرنا بالمعروف وتنهينا عن المنكر؟ هل فعلنا أسباب النجاة التي تقي من هذه الشرور المحيطة بنا أم أننا مجرد نسمع الأخبار ولا نعتبر ولا نتعظ ونحن مقيمون في سلوتنا وغفلتنا؟ معرضون عما يحيط بنا؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، إنما أتى على جيراننا ليس بعيدا عنا ونحن قد فعلنا الأسباب التي تجذبه إلينا من معصية الله ومن تضيع أمر الله، ومن الغفلة الإعراض، لم نأخذ بأسباب السلامة إلا من شاء الله.

فاتقوا الله عباد الله، اعتبروا بما يجري، اعتبروا يا أولي الأبصار، كما قال الله جل وعلا: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) يعني: اليهود لما عصوا الله وعصوا رسوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) هذا ليس خاصا باليهود؛ بل هو كل من كان على شاكلتهم ممن عصى الله ورسوله ولم يأتمر بأوامر الله ورسوله وتباع هواه: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

ثم اعلموا رحمكم الله أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين  فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا وأصلح سلطاننا وولي علينا خيارنا وكفنا شر شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه وصرف عنا كيده وكفنا شره، اللَّهُمَّ اجعل ما صنعه الكفار من الأسلحة التي غرتهم وقوتهم على المسلمين، اللَّهُمَّ ردها في نحورهم، اللَّهُمَّ  ردها في صدورهم، اللَّهُمَّ  اجعلها وباءا عليهم وكف المسلمين شرهم إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ كفنا عنا بأس الذين كفروا فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). 

عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.

الشيخ صالح بن فوزان الفوزان



خطبة الجمعة 14-04-1435هـ   

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة - الحديث رقم (22): (توسلوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم) (لا أصل له):

مما لا شك فيه أن جاهه صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله عظيم ، فقد وصف الله تعالى موسى بقوله: (وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) [الأحزاب: 69] ، ومن المعلوم أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى ، فهو بلا شك أوجه منه عند ربه سبحانه وتعالى ، ولكن هذا شيء ، والتوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم شيء آخر ، فلا يليق الخلط بينهما كما يفعل بعضهم ، إذ إن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم يقصد به من يفعله أنه أرجى لقبول دعائه ، وهذا أمر لا يمكن معرفته بالعقل ، إذ إنه من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في إدراكها ، فلا بد فيه من النقل الصحيح الذي تقوم به الحجة ، وهذا مما لا سبيل إليه البتة ، فإن الأحاديث الواردة في التوسل به صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين : صحيح ، وضعيف .

أما الصحيح ، فلا دليل فيه البتة على المدعى ، مثل توسلهم به صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ، وتوسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم فإنه توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم ، لا بجاهه ولا بذاته صلى الله عليه وسلم ، ولما كان التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن ، كان بالتالي التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن ، وغير جائز .

ومما يدلك على هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما استسقوا في زمن عمر ، توسلوا بعمه صلى الله عليه وسلم العباس ، ولم يتوسلوا به صلى الله عليه وسلم ، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون معنى التوسل المشروع ، وهو ما ذكرناه من التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم ولذلك توسلوا بعده صلى الله عليه وسلم بدعاء عمه ، لأنه ممكن ومشروع ، وكذلك لم ينقل أن أحداً من العميان توسل بدعاء ذلك الأعمى ، وذلك لأن السر ليس في قول الأعمى : (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة....) ، وإنما السر الأكبر في دعائه صلى الله عليه وسلم له كما يقتضيه وعده صلى الله عليه وسلم إياه بالدعاء له ، ويشعر به قوله في دعائه : (اللهم فشفعه في) ، أي : اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم ، أي : دعاءه في ، (وشفعني فيه) ، أي : اقبل شفاعتي ، أي : دعائي في قبول دعائه صلى الله عليه وسلم في .

فموضوع الحديث كله يدور حول الدعاء ، كما يتضح للقاريء الكريم بهذا الشرح الموجز ، فلا علاقة للحديث بالتوسل المبتدع ، ولهذا أنكره الإمام أبو حنيفة ، فقال : (أكره أن يسأل الله إلا بالله) كما في "الدر المختار" ، وغيره من كتب الحنفية .

وأما قول الكوثري في " مقالاته " : (وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكورة في أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح) .
فمن مبالغاته ، بل مغالطاته ، فإنه يشير بذلك إلى ما أخرجه الخطيب من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال : نبأنا علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : (إني لأتبرك بأني حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين ، وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى الحاجة عنده ، فما تبعد عني حتى تقتضى) ، فهذه رواية ضعيفة ، بل باطلة.

وقد ذكر شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" معنى هذه الرواية ، ثم أثبت بطلانه فقال : (هذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة بل ولم يكن هذا على عهد االشافعي معروفا وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف).

وأما القسم الثاني من أحاديث التوسل ، فهي أحاديث ضعيفة و تدل بظاهرها على التوسل المبتدع ، فيحسن بهذه المناسبة التحذير منها ، والتنبيه عليها فمنها: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها،بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين) حديث ضعيف . 

ومن الأحاديث الضعيفة في التوسل ، الحديث الآتي :(مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَخَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ) حديث ضعيف. 

ومن الأحاديث الضعيفة ، بل الموضوعة في التوسل : (لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه قال يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) موضوع. (انتهى كلام العلامة الالباني من سلسلة الأحاديث الضعيفة )
 
 

الاهتمام بصلاح القلوب

الحمد لله الذي أصلح بلطفه الصالحين ، وخَلَعَ عليهم خِلَعَ الإيمان واليقين ، وحفظهم بعنايته مِمَّا يقبح ويشين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك يوم الدين ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين . اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين . أما بعد :

أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أنَّ مدار التقوى على إصلاح القلوب ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ في الجسد مُضْغَة إذا صَلحَتْ صَلح الجسد كله وإذا فَسدَتْ فَسد الجسد كله ، ألاَ وهي القلب ) .

فمتى صلح القلب بالإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وصحح ذلك بالمعرفة وحسن الاعتقاد ؛ ثم توجه القلب إلى ربه بالإنابة والقصد وحسن الانقياد ؛ فإن الجوارح كلها تستقيم على طريق الهدى والرشاد .

فصلاح الجوارح ملازم لصلاح القلوب ، فاغتنموا - رحمكم الله - إصلاحها بحسن النية في كل مطلوب ، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر ما أكنته القلوب .

فأخلصوا الأعمال لله في كل ما تأتون وما تذرون ، وأنيبوا إلى ربكم واطمعوا في رحمته لعلكم ترحمون .

فالعمل اليسير مع الإخلاص خير من الكثير مع الرياء ، والثمرات الطيبة إنما تحصل لمن حقق النية واتقى .

فمن أصلح باطنه أصلح الله له الأحوال ، وسدده في الأقوال والأفعال ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) . [ الأحزاب : 70 - 71 ] .

وسَلُوا مولاكم أن يُطهر قلوبكم مِن الغِّلِ والحقد ، ومِن الكِبْر والتعاظم على العباد والحسد ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُؤمنُ أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحب لنفسه ) .

( ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة مَن وَلاَّه الله أمركم ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) .

( لا تَحَاسدوا ، ولا تَنَاجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، بحسب امرئ مِن الشَّر أنْ يَحْقِرَ أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ) .

طوبى لمن أخلص لله في أقواله وأفعاله ، ورجا فضله في حاله ومآله ، وطهر قلبه من البغضاء والعداوة للمسلمين ، وتعاون معهم في أمور الدنيا والدين .

وَوَيْلٌ لمن تعلق قلبه بأحد من المخلوقين ، أو امتلأ مِن الغل والحقد على المؤمنين .

أما الأول فإنه يسعى في علو الدرجات ، وأما الآخر فإنه يتردى في مهاوي الهلكات .

اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا . ويا من بيده خزائن كل شيء أسعفنا بمطلوبنا . ويا مَن يغفر الذنوب جميعًا اغفر ذنوبنَا ، واستر عوراتنَا وعيوبنَا .

إنك أنت الجواد الكريم .

( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ) . [ الإسراء : 25 ] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .

خطبة للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله

هل تبحث عن السعادة ؟

هل تبحث عن السعادة ؟

السعادة" هي الغاية التي يسعى كل من على وجه الأرض لتحقيقها.
وقد حرص الناس جميعهم -عالمهم وجاهلهم- على البحث عن أسباب حصولها، وأتعبوا أنفسهم في اختراع ما يُذهب عنهم شبح الضيق والألم والشقاء.
إلا أن الواقع أن الحلول المطروحة لم تصل بهم إلى مبتغاهم، فهم يقصدون السعادة بكل سبب ممكن من لهو أو متعة أو غيرها؛ وقد يحصلون على لذة ما، لكنها لذة مؤقتة؛ وعن قريب يستفيقون على شيء في داخلهم يكدر عليهم صفو حياتهم.
وهذه الكلمات التي بين يديك قد تفتح لك بابا إلى السعادة الحقيقية، وتأخذ بيدك إلى الراحة النفسية والاطمئنان التام.
وقبل أن تسترسل في إكمالها أتمنى أن تقف وقفة مع نفسك وتحاول أن تفتح عقلك وقلبك لها، والعاقل هو الذي يبحث عن الحقيقة مهما كان قائلها.
إن الحقيقة التي لا ينكرها أي إنسان تجرد من الأهواء: أن السعادة الدائمة لا تكون إلا بالإيمان بالله الذي خلق الخلق، والاهتداء بهديه؛ لأنه هو الذي خلق الناس، وهو العالم بما يسعدهم ويشقيهم، وينفعهم ويضرهم. 
وكثير من علماء النفس قد قرروا أن الإنسان المتدين هو الذي يعيش -وحده- السعادة والطمأنينة .
وإذا كان الإيمان بالله هو مكمن السعادة فكيف الطريق إليه؟
لقد تعددت الديانات والمعتقدات وتنوعت، والناظر فيها يلاحظ أن الاختلافات بينها اختلافات جذرية، ولا يمكن بحال أن تكون جميعها حقاً.
 
فما الدين الصواب منها؟ 
وما هي العقيدة التي يحبها الله ويحب أن نعتنقها؟ 
وما هو الذي يكفل لنا منها السعادة في الدنيا والآخرة؟
 
قبل الإجابة على هذه التساؤلات لابد من وضع أساس صحيح يُنطلق منه إلى الاختيار الصحيح للدين الصحيح؛ إذ أعتقد جازماً أن جميع العقلاء يوافقون على أن نشأة الإنسان على دين معين، وكون أبيه وأمه ومجتمعه عليه لا يدل بالضرورة على أنه الدين الحق ما لم تدل الأدلة المقنعة على ذلك، ويصل العقل إلى اطمئنان ويقين بذلك.
وإذا كان العقل هو الفارق بين الإنسان و الحيوان؛ فإن على صاحبه أن يستعمله في النظر في هذه القضية التي هي أهم القضايا وأخطرها.
وإن رحلة قصيرة في عالم الأديان والتجول بين معتقداتها قد يكون وسيلة جيدة للوصول إلى الجواب المأمول.
وحتى أختصر عليك الوقت والجهد فإني أقول لك بكل ثقة وشفقة: إنك مهما بحثت ونقبت فلن تصل إلا إلى حقيقة واحدة، هي: الدين الحق هو (الإسلام)، والسعادة الحقيقية هي في (الإسلام).
وقبل أن تتعجل برد هذه الكلمات وتقطع إكمالها لاحظ أن إكمالها لن يضرك شيئاً، وقد تستفيد بذلك فائدة ما ..
وقبل ذلك أنت صاحب عقل تميز به الأشياء، وتعرف الصواب من الخطأ.
لماذا الإسلام هو الدين الحق؟
سؤال قد يطرحه القارئ؛ وهو سؤال جيد ومهم، ويدل على أن صاحبه ذو عقل ناضج وفكر مستنير. 
وللإجابة على هذا السؤال أقول: إن دين الإسلام دين اجتمعت فيه خصائص ومميزات لا توجد في دين سواه، وهي أدلة مقنعة تدل على أنه الدين الحق المنزل من عند الله، و يمكن التحقق من صدق ذلك أو كذبه بالنظر فيها بعمق وهدوء.
ومميزات الإسلام وخصائصه من الكثرة بحيث يصعب حصرها في كلمات معدودة، لكن يمكن إيجاز ذلك فيما يأتي:
 
1- من أعظم مميزات الإسلام أنه يشبع الناحية الروحية في الإنسان ، ويجعل من يعتنقه ذا صلة بالله تعالى دائما؛ فيورثه ذلك الطمأنينة والراحة النفسية، ويحميه من الفوضى والضياع والفراغ الروحي والاضطرابات النفسية.

2- من مميزات الإسلام أيضاً أنه متوافق مع العقل تماماً ، فجميع أحكامه وشرائعه مقبولة عقلاً ، ولا يمكن أن يكون بينها تناقض أبداً ، ولذلك لما أسلم أحد الأشخاص سئل : لماذا أسلمت ؟ فقال : ما أمر الإسلام بشيء فقال العقل ليته لم يأمر به ، ولا نهى عنه فقال العقل ليته لم ينه عنه .
وإذا كانت كثير من الديانات يصعب قبول الكثير من مبادئها ، ويقف العقل حائراً أمام كثير من مسلماتها ؛ فإننا نجد الإسلام يحترم العقل ويأمر بالتفكير ، وينهى عن الجهل ويذم التقليد الأعمى . 

3- أن الإسلام يمزج بين الدين والدنيا ، ويعتني بالروح والبدن جميعاً ، ولا يعني الالتزام بالإسلام الانفراد بهيئة معينة ، أو تحريم طيبات الحياة .
بل في الإسلام يمكن للإنسان أن يكون متديناً ، وهو مع ذلك يمارس حياته العملية على أحسن أحوالها ، بل ويصل إلى أعلى منصب ويحوز أرفع شهادة .

4- من مميزات الإسلام أيضاً : أنه دين شمولي؛ فكل جانب من جوانب الحياة فللإسلام فيه تنظيم ، وكل مشكلة فلها في الإسلام حل . ولذلك فيمكن تطبيقه واعتناقه في كل زمان ومكان .
وكيف لا يكون الإسلام كذلك وقد نظم هذا الدين ووضع القواعد والأحكام المناسبة في كل المجالات ، ابتداءً بأحكام القضاء وفصل النزاعات ، ومروراً بأحكام البيع والمعاملات التجارية وتنظيم العلاقات الاجتماعية والحياة الزوجية ، وانتهاءً بأحكام التحية وآداب الطريق وتنظيم تصرفات المرء مع نفسه من نوم وأكل وشرب ولباس ... إلخ ، كل ذلك ليس بصورة إجمالية ، بل بتفصيل دقيق يقف العقل عنده متعجباً، ولك أن تعلم أن الإسلام يوجه المسلم حتى في كيفية لبس الحذاء وخلعه، ويحثه على استعمال اليد اليمنى في الأكل والشرب والمصافحة والأخذ والإعطاء ، وأما الأمور المستكرهة – كقضاء الحاجة مثلاً – فتُستعمل فيها اليد اليسرى .
وإذا جاء وقت النوم فللإسلام توجيهٌ بديع في كيفية النوم والاستيقاظ. 
وإذا التقى المسلمان في الطريق فالإسلام ينظم كيفيه السلام بينهما؛ فالراكب ينبغي أن يبدأ بالسلام على الماشي ، والصغير هو الذي يبادر الكبير ، والجماعة القليلة عليها أن تلقي التحية على الجماعة الأكثر منها.
وهذا قليلٌ من أحكامه الكثيرة الشاملة والمنظمة لجميع مناحي الحياة.

5- من مميزات الإسلام : أنه في جميع أحكامه يحقق الخير للإنسان ويدفع عنه الضرر ، فأحكام الإسلام ترجع منفعتها للإنسان نفسه ومجتمعه.
فإذا منع الإسلام الخمر والمخدرات - مثلاً – فلما فيها من ضرر كبير على عقله وصحته ، وأنت ترى حال السكران وأنه أصبح بغير الإنسان أشبه منه بالإنسان . 
وما كانت كثير من حالات القتل أو المشاجرات أو حوادث السيارات أو الاغتصاب أن تحصل لولا تناول هذه المذهبات للعقول . 
وإذا منع الإسلام العلاقات الجنسية خارج عقد الزواج فلتجنيب الإنسان الأمراض الفتاكة كالإيدز والزهري وغيرهما ، ولتجنب المجتمع ويلات الانفلات الخُلقي ، ونشوء جيل من اللقطاء فاقدي حنان الأم وتربية الأب فيكونون عبءً على المجتمع ووبالاً عليه . 
وإذا أمر الإسلام المرأة بعدم إظهار مفاتنها أمام الرجال الغرباء فلأنه يراها درة مصونة غالية الثمن ، ليست سلعة رخيصة تعرض على الطرقات أمام كل أحد ، وليحميها من ذئاب البشر الذين لا همَّ لهم إلا تحصيل شهواتهم ولو كانت على حساب كرامة المرأة وقيمتها وطهارتها . 
وفي المقابل أباح الإسلام كل شراب نافع غير ضار ، كما أباح استمتاع كل من الجنسين بالآخر بمقتضى عقد الزوجية ، وداخل بيت أسري سعيد .
والخلاصة : أن الإسلام لم يأت بكبت الحريات والرغبات ، وإنما جاء بضبطها وتنظيمها بما يعود نفعه على الإنسان وعلى مجتمعه وعلى العالم أجمع .

6- من الجوانب المشرقة في الإسلام : عنايته بالقيم والأخلاق والآداب الحميدة ، ونهيه عن الظلم والاعتداء وكل خلق سيء .
فالإسلام دين المحبة والاجتماع والرحمة ، نظم علاقة الإنسان بوالديه وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وسائر الناس ، وزرع في نفوس معتنقيه أمثل الأخلاق وأرفع الآداب .
إن الإسلام ينهى الإنسان عن أن يعيش لنفسه فقط ، ويربيه على مساعدة غيره ومراعاة شعورهم ؛ فالفقير واليتيم وكبير السن والأرملة لهم في الإسلام حقوق لا يؤديها المسلم على أنها أمر ثانوي ، ولا يشعر حينذاك بالمنة والتفضل؛ بل هي من واجباته وما يلزمه .
ففي الإسلام -مثلا- يُعد من الذنوب العظيمة أن ينام الإنسان شبعان وهو يعلم أن جاره جائع ، كما أن الإسلام ينهى أن يتحدث اثنان همساً وثالث في المجلس لا يسمعهما؛ مراعاة لشعوره .
بل تجاوز الإسلام ذلك؛ إذ أوجب الرفق بالحيوان وحرم أذيته أو الإضرار به.
ومن دقائق الإسلام في ذلك أنه يمنع الذابح أن يذبح الشاة مثلاً والأخرى تنظر إليها ، أو أن يحد السكين أمامها حتى لا يقتلها مرتين .
إن الصدق والأمانة والشجاعة والكرم والحياء والوفاء بالوعد أخلاقٌ حث عليها الإسلام كثيراً ، كما أن عيادة المريض وتشييع الجنائز وبر الوالدين وزيارة الأقارب والجيران والسعي في قضاء حاجات الآخرين: آداب دعا إليها وأمر بها .
وفي المقابل فإن الإسلام قد منع المسلم أشد المنع من الظلم والكذب والتكبر والحسد والاستهزاء بالآخرين أو سبهم أو خيانتهم .
في الإسلام لا يجوز أن تذكر شخصاً غائباً بسوء ولو كنت صادقاً ، كما أنه يدعو في الإنفاق إلى التوسط بين الإسراف والبخل .
إنه في الوقت الذي تشكو فيه كثير من المجتمعات من جفاف المشاعر وطغيان المادية وغلبة حب الذات نجد الإسلام يضع العلاج الناجع لكل تلك المشكلات .
وبعد ... فإذا كانت الكلمات السابقة قد أعطت نبذة يسيرة عن الإسلام وبعض خصائصه ؛ فإنه من المناسب التذكير بأن الإسلام دين واضح ، وفمهه ميسور لكل أحد ، كما أنه دين مفتوح الأبواب ، لا يغلق في وجه من يريد اعتناقه .
وإذا كان استيعاب أحكام الإسلام جميعها في كلمات يسيرة ممتنعاً ؛ فإن إطلالة يسيرة على أهم مبادئه قد تزيد صورته وضوحاً لدى من يريد التعرف عليه .
إن جميع أحكام الإسلام وتعليماته مهمة ، غير أن منها ما هو أهم من غيره، وهذه الأحكام ( الأهم ) ستة يجب أن تُعتقد بالقلب ، وخمسة عملية .
أما الستة الاعتقادية فهي :
 
1- الإيمان بالله وحده لا شريك له .
وذلك بأن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى وحده خالق هذا الكون بجميع ما فيه ، وأنه وحده المتصرف فيه بما يشاء ، وإذا كان الأمر كذلك فإن العبادة لا تكون إلا له وحده. وهذه العبادة هي العمل بأحكام الإسلام وشعائره, مع اعتقاد أن أي دين غيره فهو دين باطل.
 
2- الإيمان بالملائكة.
والملائكة خَلْقٌ من خلق الله لا نراهم في الدنيا, وهم قائمون بعبادة الله, ولا يعصونه أبداً, والله سبحانه يأمر الملائكة بالقيام بكثير من شئون هذا الكون؛ مثل جبريل عليه السلام, ومهمته نقل وحي الله تعالى -أي كلامه- بين الله وأنبيائه, ومنهم ميكائيل عليه السلام وهو الموكَّل بشأن المطر, ومنهم ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد وكتابتها حتى يحاسبوا عليها يوم القيامة, إلى غير ذلك من الوظائف الكثيرة.
ويجب إن يُعتقد أن هؤلاء الملائكة الكرام إنما يتصرفون بأمر الله تعالى, ولا يفعلون إلا ما يريده.
 
3- الإيمان بالكتب.
وذلك بأن يُعتقد أن الله تعالى أنزل على عباده كتباً هي كلامه الذي فيه سعادة البشر وبيان ما يحبه الله تعالى وما يكرهه, والذي ينقل هذا الوحي إلى النبي هو جبريل عليه السلام -الذي هو أعظم الملائكة- والنبي يبلغ ذلك إلى الناس.
والكتب التي أنزلها الله كثيرة, منها: التوراة وقد أنزله الله على موسى عليه السلام, والزبور الذي أنزله الله على داود عليه السلام, والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام, والقرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ويجب أن يُعتقد أن جميع هذه الكتب قد نسخها القرآن, بمعنى: أنه القرآن هو وحده الذي يجب العمل به بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم, لاسيما وأن هذا القرآن قد جمع كل مميزات الكتب التي قبله وزاد عليها.
ولك أن تعلم أن هذا القرآن من أعظم الأدلة على أن هذا الدين حقٌ منزلٌ من عند الله تعالى؛ إذ قد أُُنزل القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة؛ ومن ذلك الوقت وإلى الآن لم يُكتشف فيه خطأ أو تناقض ولو في كلمة واحدة.
ولا تزال الاكتشافات العلمية في هذا العصر تتوالى, وكثير من تلك الاكتشافات قد وردت في القرآن منذ ذلك الوقت البعيد.
كما أنه من ذلك الوقت وإلى الآن لم يُزد عليه ولم يُنقص منه كما حصل للكتب الأخرى, ولذا فإن المصحف الذي تجده في أقصى الشرق لا يختلف عن المصحف الذي تجده في أقصى الغرب, ولو اطلعت على مصحف عمره مئات السنين فإنك لا تجده يختلف عن المصحف المطبوع هذا العام ولو في حرف واحد, وهذا من حفظ الله لهذا الكتاب, الذي هو كتاب الدين الخاتم لجميع الأديان.
إن الكلام عن القرآن كلام طويل, لكن يكفي أن تعلم أنه لا مثيل له مطلقاً من حيث الأسلوب، ومن حيث تأثيره على النفوس, ومن حيث إخباره عن المغيبات.
 
4- الإيمان بالرسل.
وذلك بأن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى اختار بشراً هم أفضل البشر, وأنزل عليهم وحيه, وأمرهم بتبليغ دينه إلى الناس.
والرسل كثيرون, منهم: نوح وإبراهيم وداود وسليمان ولوط ويوسف وموسى, وغيرهم كثير عليهم الصلاة والسلام.
ومنهم عيسى بن مريم عليه السلام الذي يجب الإيمان بأنه رسول كريم, وأنه من أفضل الرسل, فيجب الإيمان بنبوته, ومحبته واحترامه, ومن أبغضه أو لم يؤمن بنبوته فليس له نصيب في الإسلام. كما يجب اعتقاد أن الله تعالى خلقه من أم بلا أب؛ حيث أرسل الله المَلَك ونفخ في بطن مريم فكان منه عيسى عليه السلام.
ولا يجد المسلم في نفسه ما يمنع من تصديق ذلك, فليس الله سبحانه عاجزاً عن خلق عيسى من أم بلا أب, كما لم يعجز عن خلق آدم من غير أم ولا أب.
وبهذا نعلم أن عيسى عليه السلام رسول كريم, وليس هو الله وليس ابناً لله.
وقد جاء عيسى عليه السلام بالبشارة بالنبي الذي يجيء بعده, وهو محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, الذي ختم الله به الرسل, فلا رسول بعده.
وهذا الرسول (محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم) الذي بعثه الله قبل ألف وأربعمائة عام أصبح واجباً على جميع الناس الذين وُجدوا بعد بعثته وإلى قيام الساعة أن يؤمنوا به ويعتقدوا برسالته ويطيعوه فيما يأمر به أو ينهى عنه.
وقد أجمع كل من اطلع على سيرة هذا الرسول وتاريخه أنه شخصية عظيمة, قد أعطاه الله من كريم الخلق ونبيل الصفات ما لم يوجد في أحد قبله أو بعده, ولعل أدنى اطلاع على ما كُتب عنه يؤكد صحة ما أقول.
كما أن الله تعالى قد آتاه من الأدلة والبراهين على صدق نبوته ما يجعل التشكيك في ذلك من المستحيلات العقلية. ومن لم يؤمن بصدق النبي محمد عليه الصلاة والسلام مع ما آتاه الله من الدلائل والبراهين فإنه لا يمكن أن يدعي ثبوت نبوة غيره من الأنبياء إطلاقا.
 
5- الإيمان باليوم الآخر.
وذلك بالاعتقاد الجازم بأن بعد هذه الحياة التي نعيشها حياة أخرى أكمل منها, وأن هناك جزاءً ونعيماً وعقاباً, أما النعيم ففي دار اسمها (الجنة), وأما العقاب ففي دار اسمها (جهنم). فمن آمن بدين الإسلام وعمل به فمصيره إلى (الجنة) التي فيها من أصناف النعيم والسعادة مالا يخطر بالبال, وكل نعيم بالدنيا لا يساوي من نعيم الجنة شيئاً, ومن دخل الجنة فإنه يتنعم فيها إلى مالا نهاية؛ إذ لا موت فيها.
وأما من لم يؤمن بدين الإسلام وخالف أحكامه فمصيره إلى (جهنم) التي فيها من النيران وأصناف العذاب مالا يخطر بالبال. وجميع نيران الدنيا وأصناف عذابها لا تساوي أمام عذاب جهنم شيئاً.
و وجود الحساب والنعيم والعذاب بعد هذه الحياة قضيةٌ مقبولة عقلاٌ؛ لأنه يستحيل أن توجد هذه الدنيا بما فيها ثم تنتهي وتتلاشى ولاشيء بعد ذلك! فهذا نوع من العبث, وربنا الخالق سبحانه منزهٌ عن هذا.
 
6- الإيمان بالقدر.
وذلك بأن يُعتقد أن كل ما في هذا الكون من حركة أو سكون فهو بعلم الله وإرادته, فلا يقع إلا ما يريده, ومالا يريده فلا يقع, وقد كتب الله سبحانه في كتاب عظيم هو (اللوح المحفوظ) كل ما سيقع في هذا الكون.
كما يتضمن الإيمان بالقدر اعتقاد أن الله خالق كل شيء.
أما الأمور الخمسة العملية الأهم في الإسلام فهي:
 
1- أن يقول الإنسان جملة هي مفتاح الدخول في الإسلام, وهي عهد بين الإنسان وربه أنه على هذا الدين, وهذه الجملة هي: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
وهي تعني: الإقرار والاعتراف والالتزام بأداء العبادة لله وحده, والإقرار بأن دين الإسلام هو الدين الحق وأن الإله الذي يستحق العبادة هو الله وحده, وما سواه من المعبودات فباطل, وما سوى الإسلام من الأديان فهو باطل.
وكذلك الإقرار بأن محمداً رسول الله, وأنه يطاع ويُصدّق في كل ما يقوله.
 
2- الصلاة.
وهي أقوال وأفعال ودعوات بهيئة معينة, تُفعل خمس مرات كل يوم, ولا تستغرق وقتاً طويلاً, بل لا تستغرق الصلاة الواحدة إلا نحو خمس دقائق.
إن الصلاة صلة بين العبد وربه, وتشعر المسلم بالثقة والطمأنينة والراحة النفسية.

3- الزكاة.
وهي أن يدفع المسلم صاحب الأموال مبلغاً يسيراً من ماله كل عام للفقراء, هو ربع العُشر (اثنان ونصف في المائة) فقط من ماله, وهو مبلغ يسير, لكنه يجعل المجتمع المسلم مجتمعاً متآلفاً متراحماً, تشيع معاني الأخوة والعطف والمحبة بين أهله.
وأكرر ما ذكرته سابقاً: الزكاة إنما تلزم الأغنياء, وأما الفقراء فلا تلزمهم.
 
4- الصيام
والمقصود به أن يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب والمعاشرة الزوجية خلال شهر رمضان كل عام ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ويُعفى عن المريض والمسافر وبعض أصحاب الأعذار الأخرى؛ فلهم أن يأكلوا ويشربوا في رمضان, وعليهم أن يصوموا بدلاً عن ذلك بعد انتهاء العذر بقدر الأيام التي لم يصوموها في أي وقت من العام.
إن للصوم فوائد صحية ونفسية واجتماعية كثيرة, منها: إراحة الجهاز الهضمي بعض الوقت, ومنها شعور المسلم بالسمو الروحي والاعتدال الخُلقي, ومنها شعوره بغيره من إخوانه الفقراء الذين لا يجدون ما يكفيهم من الطعام طوال العام؛ فتتواضع نفسه وتبادر بتقديم المساعدة لهم.

5- الحج.
وهو عبارة عن أداء عبادات معينة في (مكة)، وهو واجب مرة واحدة في العمر, ومن لا يجد النفقة أو كان مريضاً فإنه يُعذر في تركه.
وفي الحج فوائد عظيمة, منها: اجتماع المسلمين من أطراف الأرض في مكان واحد وتعارفهم وإشاعة المحبة بينهم, هذا عدا ما يكسبه المسلم في نفسه من صفاء النفس وتهذيب الخلق بسبب ما يعيشه من أجواء إيمانية في ظلال الحج.

وبعد ..
فلعل ما سبق من الحديث يكون كافياً في توضيح صورة مختصرة عن الإسلام.
وإنني أدعوك يا من لم تدخل بعد في الإسلام .. اسمع نداءً من قلب صادق مشفق: أدرك نفسك قبل أن يفجأك الموت فتموت على غير الإسلام فتكون الخسارة الكبرى.
تدري ماذا يعني موتك على غير الإسلام؟ إنه يعني دخولك (جهنم) وتعذيبك فيها أبداً إلى ما لا نهاية .. هكذا توعد الله كل من مات على غير الإسلام, فلماذا تُغامر في قضية خطيرة كهذه؟
سأسألك سؤالاً أجب عنه بصدق: ما الذي ستخسره إن دخلت في الإسلام؟ نعم .. ماذا ستخسر بدخولك في الإسلام؟
إنك إن اعتنقت الإسلام ستمارس حياتك الاعتيادية, لكن بصورة أكثر صفاءً وسعادة وانتظاماً .. وبعد الموت تنتظرك السعادة الكبرى والنعيم الأبدي.

إذا كنت وصلت إلى قناعة بصحة الإسلام, لكن تخشى أن دخولك فيه يمنعك من لذات لا تستطيع الاستغناء عنها, فعليك بالمقارنة بين اللذة الوقتية الطارئة, والنعيم واللذة الأبدية .. فأيهما أولى بالتقديم؟
ثم إنك يمكن أن تدخل في الإسلام وتحاول تركها تدريجياً, وإذا دعوت الله بصدق فسوف يعينك على تركها.
وعلى أسوأ الأحوال: لو بقيت عليها بعد دخولك في الإسلام فستكون مسلماً مخطئاً أو مقصراً، وهذا خيرٌ من أن لا تكون مسلماً.
أما إذا كانت العقبة أمام اعتناقك هذا الدين هي ضعف شخصيتك وعدم قدرتك على اتخاذ القرار, أو خوفك من كلام أحد أو سخريته .. فاعلم أن هذه توهمات لا حقيقة لها, ولست أول من يدخل الإسلام من غير المسلمين, كثيرٌ غيرك اتخذوا هذا القرار ولم تتحطم حياتهم ولم يخسروا شيئاً ولم يندموا, ثم هل يُعقل أن تُضحي بنفسك وبسعادتها الدنيوية والأخروية من أجل كلام أحد أو سخريته أو عتابه؟

إن هذا الموضوع جديرٌ بأن تقف عنده كثيراً.. وأن تتأمله طويلاً.

كلمتي الأخيرة لك: إياك أن تخسر نفسك.
أسأل الله تعالى أن يَمُنَّ عليك بالهداية للحق.

كتب هذه الكلمات: من يحب لك الخير
 
د. صالح بن عبد العزيز سندي. 
 
 

اسْتِقْـبَالُ شَهْرِ رَمَضَان

اسْتِقْـبَالُ شَهْرِ رَمَضَان

 إن من نِعَمِ الله العظيمة على عباده أن جعل لهم مواسم متعددة للعبادات ؛ تكثُر فيها الطاعات ، وتُقال فيها العثرات ، وتُغفر فيها الذنوب والسيئات ، وتُضاعف فيها الحسنات ، وتَـتَنزَّل فيها الرّحمات ، وتعظم فيها الهبات ، وإن من أجلِّ هذه المواسم وأكرمها على الله شهر رمضان المبارك ، قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ  }[البقرة:185] ، فيا له من شهر كريم وموسم عظيم !! شهر البركات والخيرات ، شهر الصيام والقيام ، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار ، شهر الجود والكرم والبذل والعطاء والمعروف والإحسان .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشـِّر أصحابه بمقدم هذا الشهر العظيم ويستحثهم فيه على الاجتهاد بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل من صلواتٍ وصدقات ، وبذل معروفٍ وإحسان ، وصبرٍ على طاعة الله ، وعمارة نهاره بالصيام وليله بالقيام ، وشَغْلِ أوقاته المباركة بالذكر والشكر والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن .
روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُسَلْسَلُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ))(1).
وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ))(2).
وروى أحمد عن أبي هريرة قال : ((لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ))(3). ؛ لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر مبارك ، فهو شهر مبارك حقاً ، كل لحظة من لحظات هذا الشهر تتصف بالبركة ؛ بركةٍ في الوقت ، وبركة في العمل ، وبركة في الجزاء والثواب ، وفيه ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر ، وإن من بركة هذا الشهر كما تقدم أن الحسنات فيه تضاعف ، وأبواب الجنان تفتح ، وأبواب النيران تغلق ، والشياطينَ ومردةَ الجنّ تصفد، ويكثر فيه عتقاء الله من النار.
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))(4) ، وقال صلى الله عليه وسلم (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))(5).
هذا ؛ وإن من أعظم الخسران وأكبر الحرمان أن يدرك المرء هذا الشهر الكريم المبارك شهر المغفرة فلا تُغفر له فيه ذنوبه ولا تحطّ عنه خطاياه لكثرة إسرافه وعدم توبته وتركه في هذه الأوقات العطرة والأيام الفاضلة الإقبال على الله بالإنابة والرجوع والخضوع والخشوع والتوبة والاستغفار ، بل يدخل عليه هذا الشهر الكريم ويخرج وهو باقٍ على ذنوبه مصرٌ على خطاياه سادر في غيِّه .
روى الطبراني في معجمه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فَمَاتَ ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ))(6). 
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ ))(7) .
إن شهر رمضان شهر ربح وغنيمة ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره ، وكان السلف - رضوانُ الله عليهم ورحمتهُ - يهتمون بهذا الشهر غاية الاهتمام ويتفرغون فيه للتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وكانوا يجتهدون في قيام ليله وعمارة أوقاته بالطاعة ، قال الزهري - رحمه الله - : (( إذا دخل رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام)) هذا هو شأن رمضان عند السلف - رحمهم الله - : جدٌّ واجتهاد ، صيامٌ وقيام ، عبادةٌ وتلاوة قرآن ، تهليلٌ وتسبيحٌ وبرٌّ وإحسان ، عطفٌ ومواساةٌ وإطعام .
إن شهر رمضان ضيف عزيز على المسلمين ووافد كريم عليهم ؛ فحريٌّ بهم أن يحسِنوا استقباله بما يستحقه من حفاوة وإكرام ، فإنه إذا نزل بالإنسان ضيفٌ كريم فإنه يفرح بمقدمه ويُسَرُّ بمجيئه ويبذل له كل غالٍ ونفيس، وشهر رمضان هو أكرم ضيف وأنبله وأزكاه وأطهره فلنفرح بإدراكه وبأن بلَّغنا الله إياه ، فكم من قريبٍ وصديقٍ وجارٍ شهد معنا رمضان الماضي ثم اخترمته المنية فلم يدرك هذا الشهر ، فلنشكر الله على ما أنعم به علينا من إدراك هذا الشهر وليكن ذلك باستغلال أوقاته المباركة فيما يُقرِّب إلى الله من طاعات نافعة وأعمال مبرورة وتوبة نصوح وإحسان . قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ  }[يونس:58] .
وصيام رمضان من دعائم الإسلام ومن مبانيه وأركانه العظام ، وفي هذا الشهر نزلت رحمة الله على عباده التي هي القرآن ؛ فحُقَّ لنا أن نفرح بهذا الشهر وأن نشكر الله عليه ونغتنمه فيما شرع الله وأراد من عمارة نهاره بالصيام والمنافسة في جميع أبواب الخيرات ، وليله بالصلاة وتلاوة القرآن والذكر والبر والإحسان .
اللهم وفِّقنا لطاعتك ، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ويسِّرنا لليسرى ، وأتِمَّ علينا النعمة بالقيام بحق هذا الضيف الكريم ، وأعنّا على صيامه وقيامه وحُسن الأدب فيه يا رب العالمين.
 
 

 

فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
----------------------------
(1) مسند الإمام أحمد (13408) ، قال محققه: إسناده صحيح .
(2) الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، واللفظ للترمذي .
(3) المسند: (9497)
(4) متفق عليه ؛ البخاري(2014) ، مسلم (760)
(5) متفق عليه ؛ البخاري(37) ، مسلم (759)
(6)المعجم الكبير للطبراني (2022)
(7) رواه الترمذي (3545) .
  

براءة الأمة من عقيدة الحلاج

براءة الأمة من عقيدة الحلاج

بقلم: د. ربيع بن أحمد بيطار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

حفَل التاريخ الإسلامي بشخصيات كثيرة كان لها أثرٌ كبيرٌ على أفكار الناس وتصوراتهم، بل وعقائدهم كذلك، ومن تلك الشخصيات: الحلَّاج.

والحلَّاج هو الحسين بن منصور الحلاج، يكنى أبا مغيث، وقيل: أبا عبد الله، كان جده مجوسيًّا اسمه محمي، من أهل بيضاء فارس.

نشأ بواسط، وقيل: بتستر، وقدم بغداد، فخالط الصوفية، وصحب من مشيختهم الجنيد بن محمد، وأبا الحسين النوري، وعمرو المكي[[1]].

حكى ولده سيرته فيما رواه عنه الخطيب وغيره، ومما جاء فيها:

أنه كان مخلط الحال، ففي أوقات يلبس الـمُسوح، وفي أخرى يمشي بخرقتين مُصبَّغ، ويلبس وفي أخرى الدُّرَّاعة والعمامة، وأحيانًا يمشي بالقَبَاء على زِيِّ الجند.

وأنه طوَّف البلاد، وتنقل بين البصرة ومكة وبغداد وتستر وخراسان، وما وراء النهر، ودخل إلى سجستان، وكرمان، وفارس، والأهواز، والهند، وتركستان وماصين، ودعا الخلق إلى الله تعالى، وصنف لهم كتبا، وأنه لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت، ومن خراسان بالمميز، ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار، وكان ببغداد قوم يسمونه المصطلم، وبالبصرة قوم يسمونه المحير.

ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من سفرته هذه إلى الهند وما وراء النهر، فقام وحج ثالثًا، وجاور سنتين، ثم رجع وتغير عما كان عليه في الأول، واقتنى العقار ببغداد، وبنى دارًا، حتى خرج عليه جماعة من أهل العلم والتصوف، وقبحوا صورته، وكان يقول قوم: إنه ساحر، وقوم يقولون: مجنون، وقوم يقولون: له الكرامات، وإجابة السؤال، واختلفت الألسن في أمره حتى أخذه السلطان وحبسه.

هذه جملة ما ذكره عنه ولده، وفيما ذكره كذلك ذم مشايخ التصوف له كالجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ الصوفية[[2]].

والواقع أنه لم يصحح حاله منهم غير أبي العباس بن عطاء، ومحمد بن خفيف -مع براءته من كلامه لما عرض عليه كما سيأتي-، وإبراهيم أبو القاسم النصر آباذي، وأما سائرهم فتبرؤوا منه لما بلغهم عنه، فمنهم من نسبه إلى الحلول، ومنهم من نسبه إلى الزندقة، ومنهم من نسبه إلى الشعبذة والسحر.

وقد ذُكر عن الحلاج صنوفٌ من هذه التُّهم، منها ما ذكره الخطيب وغيره[[3]] عن أحمد الحاسب وعن أبي الحسن المزين أن الحلاج أخبرهما بقصده للهند لتعلُّم السحر.

وعن طاهر بن عبد الله التستري قال: «تعجبت من أمر الحلاج، فلم أزل أتتبع وأطلب الحيل، وأتعلم النارنجيات لأقف على ما هو عليه، فدخلت عليه يوما من الأيام، وسلمت وجلست ساعة، فقال لي: يا طاهر! لا تتعنَّ، فإن الذي تراه وتسمعه من فعل الأشخاص لا من فعلي، لا تظن أنه كرامة أو شعوذة؟»، علَّق الذهبي: «فعل الأشخاص: يعني به الجن»[[4]].     

وقال ابن النديم: «قرأت بخط أبي الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: الحسين بن منصور الحلاج كان رجلًا محتالًا مشعبذًا، يتعاطى مذاهب الصوفية يتحلَّى ألفاظهم، ويدعي كل علم وكان صِفرًا من ذلك، وكان يعرف شيئًا من صناعة الكيمياء، وكان جاهلًا مقدامًا متدهورًا جسورًا على السلاطين، مرتكبا للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويدعي عند أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول، ويظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه وأنه هو هو، تعالى الله جل وتقدس عما يقول هؤلاء علوًّا كبيرًا»[[5]].

وذكر غير واحد ممن ترجم له كالخطيب وابن كثير بعض ما حُكي عن الحلاج من الحيل، وفيها من الخداع والدهاء وفتنة خلق الله شيء عظيم[[6]].

قال أبو الحسين أحمد بن يوسف الأزرق: «أَخْبَرَنِي جماعة من أصحابنا أَنَّهُ لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلاج وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة فِي غير حينها، والدراهم التي سماها دراهم القدرة حدث أَبُو عَلِيّ الجبائي بذلك، فَقَالَ لهم: هذه الأشياء محفوظة فِي منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتا من بيوتكم لا من منزله هو، وكلفوه أن يخرج منه جرزتين شوكا فإن فعل فصدقوه، فبلغ الحلاج قوله وأن قوما قد عملوا عَلَى ذلك، فخرج عَنِ الأهواز»[[7]].

وقال أبو علي التنوخي القاضي: «من مخاريق الحلاج أنه كان إذا أراد سفرًا ومعه من يتنمس عليه ويهوسه، قدم قبل ذلك من أصحابه الذين يكشف لهم الأمر، ثم يمضي إلى الصحراء، فيدفن فيها كعكا، وسكرا، وسويقا، وفاكهة يابسة، ويعلم على مواضعها بحجر، فإذا خرج القوم وتعبوا قال أصحابه: نريد الساعة كذا وكذا، فينفرد ويري أنه يدعو، ثم يجيء إلى الموضع فيخرج الدفين المطلوب منه، أخبرني بذلك الجم الغفير، وأخبروني قالوا: ربما خرج إلى بساتين البلد، فيقدم من يدفن الفالوذج الحار في الرقاق، والسمك السخن في الرقاق، فإذا خرج طلب منه الرجل - في الحال - الذي دفنه، فيخرجه هو»[[8]].

ولو كان أمر الحلاج على السحر والشعوذة والحيل لكان أمرًا على عظمه هينًا، لكنه انحدر -عياذًا بالله- في أودية الكفر والزندقة والحلول.

قال الفقيه أبو علي بن البناء: «كان الحلاج قد ادعى أنه إله، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت، فأحضره الوزير علي بن عيسى فلم يجده - إذ سأله - يحسن القرآن والفقه ولا الحديث، فقال: تعلمك الفرض والطهور أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها، كيف تكتب - ويلك - إلى الناس: تبارك ذو النور الشعشعاني؟! ما أحوجك إلى أدب! وأمر به فصلب في الجانب الشرقي، ثم في الغربي، ووجد في كتبه: إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود، وكان يقول للواحد من أصحابه: أنت نوح، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت محمد»[[9]].

وقال أبو بكر بن ممشاذ: «حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة، ففتشوها، فوجدوا فيها كتابًا للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان.

فوجه إلى بغداد فأحضر وعرض عليه، فقال: هذا خطي وأنا كتبته.

فقالوا: كنت تدعي النبوة، صرت تدعي الربوبية؟!

قال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله وأنا؟ فاليد فيه آلة»[[10]].

وقال محمد بن يحيى الرازي: «سمعت عمرو بن عُثْمَان [وهو من مشايخ الصوفية] يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت: أيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قَالَ: قرأت آية من كتاب اللَّه، فَقَالَ: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به»[[11]].

وقال أبو يعقوب الأقطع الصوفي: «زوجت ابنتي من الْحُسَيْن بن مَنْصُور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لِي بعد مدة يسيرة أَنَّهُ ساحر محتال، خبيث كافر»[[12]].

وقال أبو بكر الصولي: «قد رأيت الحلاج وجالسته ، فرأيت جاهلًا يتعاقل، وغبيًّا يتبالغ، وفاجرًا يتزهَّد، وكان ظاهره أنه ناسكٌ صوفٌّي، فإذا علم أن أهل بلدة يرون الاعتزال صار معتزليًّا، أو يرون الإمام صار إماميًّا، وأراهم أن عنده علما من إمامتهم، أو رأى أهل السنة صار سنيًّا، وكان خفيف الحركة مشعبذًا، قد عالج الطب، وجرب الكيمياء، وَكَانَ مع جهله خبيثًا، وكان يتنقل في البلدان»[[13]].

وقال عيسى بن بزول القزويني: «سألت أبا عَبْد اللَّهِ بْن حفيف، عَنْ معنى هذه الأبيات[[14]]:

سبحان من أظهر ناسوته *** سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا فِي خلقه ظاهرا *** فِي صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه ** كلحظة الحاجب بالحاجب

فَقَالَ الشيخ: عَلَى قائلها لعنه اللَّه، فقلت: هذا للحسين بن مَنْصُور، فَقَالَ: إن كَانَ هذا اعتقاده فهو كافر»[[15]].

ومن كلامه كذلك قوله: «لولا أن الله تعالى قال: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لكنت أبصق في النار حتى تصير ريحانًا على أهلها»[[16]].

وقوله:

«كفرت بدين الله والكفر واجب *** علي، وعند المسلمين قبيح»[[17]]

وقوله: «تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة، فقال إبليس: إن سجدت سقط عني اسم الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضاً إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة، وقال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} حين لم ير غيراً، وقال فرعون. {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل، وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق، لأني مازلت أبداً بالحق حقاً، فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة البتة... وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي»[[18]].

وكلام الحلاج في الحلول والزندقة كثير سواء في كتبه أو فيما نقل عنه.

***

قُتِل الحلاج لست بقين من ذي القعدة سنة (309هـ)؛ ضرب ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه وأحرقت جثته، وكان قتله بسيف الشرع، ولم يكن لهوى شيخ أو أمير، بل قتل على الزندقة بإجماع من علماء بغداد حينها، قال القاضي عياض: «أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وقاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول وقوله: أنا الحق»[[19]].

وقال البقاعي: «أجمع أهل زمان الحلاج الذي هو رأس هذه الطائفة الاتحادية بعد فرعون، وهم أتباع طريقته على قتله على الزندقة»[[20]].

وقال أبو الوفاء بن عقيل: «كنت قد اعتقدت في الحلاج، ونَصرتُه في جزء، وأنا تائب إلى الله منه، وقد قتل بإجماع فقهاء عصره، فأصابوا وأخطأ هو وحده»[[21]].

فليس لأحد بعد هذا أن يقول: قتل الحلاج مظلومًا، أو أن خصومه وحساده وشوا به عند السلطان فقتله، إذ الجو العلمي والاجتماعي آنذاك لم يكن مخالفًا لأصل طريقة التصوف، ففي زمانه عاش الجنيد وابن خفيف والشبلي وغيرهم من أئمة التصوف.

ولم يقع من الحلاج -إذ عرف أنه مقتول- توبة ولا رجوع عما كان عليه، بل استمر في ذلك إلى آخر نفس.

قال أبو عمر بن حيويه: «لما أخرج الحلاج ليقتل، مضيت وزاحمت حتى رأيته، فقال لأصحابه: لا يهولنكم، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يومًا».

قال الذهبي: «فهذه حكاية صحيحة توضح لك أن الحلاج ممخرق كذاب، حتى عند قتله»[[22]].

***

ولا شك في أن ما قاله الحلاج من الحلول كفر وزندقة لا يتفوه به من في قلبه ذرة من إيمان وتعظيم للرب سبحانه، وأنه لم يكن حال السكر والغيبة بواردات الأحوال -كما يسمونها-، بل كان منهجًا مستمرًّا يدعو إليه من استوثق منه، ويبثه في كتبه ورسائله إلى أتباعه.

ويكفيك أخي القارئ أن تعلم أنه ما عَذَر الحلاج فيما قاله أحد ممن ينتسب إلى العلم ممن اطلع على كلامه، قال شيخ الإسلام: «وما نعلم أحدًا من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير لا من العلماء ولا من المشايخ؛ ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره»[[23]].

ومع ذلك فإن قدر أن الحلاج تاب قبل قتله توبة صحيحة فإن ذلك نافعه عند الله، ولا يقدح ذلك في صحة الحكم بقتله، فإن من أظهر الزندقة لا تقبل توبته في قول أكثر أهل العلم، وعلى كل حال فلا يعدو حال الحلاج عند ذلك أن يكون من عامة المسلمين، بل هو دونهم إذ كانت توبته عند موته، وليس عنده ما عندهم من أعمال صالحة.

***

وهاقد مضى على مقتل الحلاج ألف ومائة سنة وزيادة، لم يمجد الحلاج طيلة هذه المدة -ممن اطلع على كلامه- رجل من أهل العلم والخير، إلا من كان على طريقته من غلاة المتصوفة وأضرابهم.

إلى أن نبغ المستشرقون الذين درسوا الإسلام وتاريخه للبحث عن منافذ وثغرات يتسللون من خلالها لضرب الإسلام من داخله بعد أن فشلت الجهود العسكرية في ذلك، فكان مما وجدوا فيه أرضيَّة خِصبة للانطلاق في تشكيك الناس بالإسلام: شخصية الحلاج، فأقبلوا على دراستها وإبرازها وتمجيدها، ومن أشهر هؤلاء «لويس ماسينيون» الذي اعتنى بالحلاج عناية خاصة فأخرج عددًا من كتبه، ككتاب: «الطواسين»، و«ديوان الحلاج»، وعني بترجمته وأخباره، فكانت رسالته في الدكتوراه في جامعة السوربون بفرنسا بعنوان: «آلام الحلاج شهيد التصوف الإسلامي»، وحقق كذلك كتاب «أخبار الحلاج» لابن الساعي.

ثم حمل هذا اللواء عن المستشرقين بعض المنتسبين للإسلام، فعزموا على إبراز الحلاج في مسلسل تلفزيوني يعرض في شهر الصيام على الناس.

ولئن كانت أعمال المستشرقين حول الحلاج محصورة بمن يطلع عليها من أهل العلم والثقافة، فإن عمل هؤلاء معروض على عامة المسلمين، كبيرهم وصغيرهم مثقفهم وجاهلهم، فأي مصيبة أعظم من فتنة الناس في أصل عقيدتهم وديانتهم؟ لا يفعل هذا مؤمن بالله ورسوله وكتابه، والفاعل لذلك يريد إغواء الناس وإخراجهم من دين الله فاتخذ الحلاج وُصْلة لذلك، حتى إذا أُنكر عليه فعله قال: إنما أظهرت رجلًا من أهل العبادة والزهد، أو رجلًا له ذكر في تراجم كتب المسلمين.

بخاصة إذا علمت أن الصوت الذي ينادي ويعمل بهذا هو الصوت نفسه الذي ينادي بالطعن في السنة والتشكيك في البخاري، ويدعو إلى دين التسامح المزعوم، فما هذه الفعلة في حقيقة الأمر إلا حلقة في سلسلة المحاولات المستميتة في سلخ الناس من دين الله {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8].


[[1]] انظر: تاريخ بغداد (8/ 688).

[[2]] انظر: المرجع السابق (8/ 689-692).

[[3]] انظر: المرجع السابق (8/966).

[[4]] انظر:سير أعلام النبلاء (14/ 322).

[[5]] الفهرست (ص: 328-329).

[[6]] انظر: تاريخ بغداد (8/ 705)، والبداية والنهاية (14/ 826).

[[7]] انظر: تاريخ بغداد (8/ 704).

[[8]] انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 320).

[[9]] انظر: المرجع السابق (14/ 327).

[[10]] انظر: تاريخ بغداد (8/ 707).

[[11]] انظر: المرجع السابق (8/ 700).

[[12]] انظر: المرجع السابق (8/ 700).

[[13]] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (13/ 202).

[[14]] الديوان (الأعمال الكاملة) (291).

[[15]] تاريخ بغداد (8/ 709).

[[16]] الحلاج الأعمال الكاملة (235).

[[17]] الديوان (الأعمال الكاملة) (297).

[[18]] الطواسين (الأعمال الكاملة) (192).

[[19]] الشفا (2/ 297).

[[20]] تنبيه الغبي (2/ 267)

[[21]] سير أعلام النبلاء (14/ 331).

[[22]] المرجع السابق (14/ 346).

[[23]] مجموع الفتاوى (2/ 483).

صَحيحُ البُخارِيّ... ديوانُ السُّنَّةِ ومَفخَرةُ الأُمّة

صَحيحُ البُخارِيّ... ديوانُ السُّنَّةِ ومَفخَرةُ الأُمّة 

بقلم: الشيخ طارق بن عبدالله بن حميد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين، نبينا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنّ الله سبحانه جعل رسالة محمّد ﷺ الرسالةَ الخاتمةَ لكلّ دين، وجعل كتابَه مهيمنًا على ما تقدّمه من الكُتُب والوحي، واختصّه بأكمل شريعة، وأعظمِ منهاج، فدينُ الإسلام هو آخر الأديان، والناسخ لكلّ ما سواه، ولأجل هذا فقد وَعَد بحفظه من أن تندثر معالمُه، أو تُحرَّف نصوصُه أو تُبَدّل أصولُه، قال جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهذا وعدٌ مؤكّدٌ متحقّقُ الوقوع، والذّكرُ اسمٌ يتناول الدين كلَّه، فالقرآن ذكرٌ، والسّنّة ذكرٌ؛ إذ كان كلاهما وحيًا من عند الله، نزل به جبريل على نبينا محمد ﷺ، قال تعالى عن نبيه ﷺ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} والحكمةُ: السّنّة([1])، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال السمعاني في تفسير الآية: «وقد كان الرّسول مبينًا للوحي، وقد قال أهل العلم: إنّ بيانَ الكتاب في السّنّة»([2]) وقال القرطبيّ: «{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول ﷺ مُبينٌ عن الله عز وجلّ مرادَه، مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفَصّلْه»([3]) فحفظُ الله للقرآن شاملٌ لحفظ بيانه وهو السّنّة النبوية.

وقد تحقق وعد الله بحفظ الكتاب والسّنّة منذ عصر النّبوّة إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن تقوم الساعة، وكما هيّأ الله لحفظ كتابه: القراءَ والحفّاظَ؛ هيّأ لحفظ سنّة نبيه ﷺ علماء الحديث، فحفظوا ألفاظه ومعانيَه، وكتبوه وأدَّوه إلى مَن بعدَهم، ونفَوْا عنه الكذب والخطأ، وصانوه عن عبثَ العابثين، وتحريفَ المبطلين، ولقد صار علمُ الحديث بدقّة مناهجه، ورسوخ قواعده؛ مفخرةً لهذه الأمّة، إذ لم يكن لغيرها إسنادٌ تَنقُل به موروثَها من العلم والدّين، وبلغ المحدّثون الغايةَ في البحث والتّنقيب، والتّدقيق في جمع الحديث، وتمييزِ صحيحه من سقيمه، وبيانِ أحوال نقَلَته في كلّ طبقةٍ من طبقات الرّواة، ونَقَلة الأخبار.

قال الخطيب البغداديّ مبيناً شرف أصحاب الحديث: «فقد جعل ربّ العالمين الطّائفةَ المنصورة حرّاسَ الدّين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسّكهم بالشّرع المتين، واقتفائهم آثارَ الصّحابة والتّابعين.

فشأنُهم: حفظُ الآثار، وقطعُ المفاوز والقفار، وركوبُ البراريّ والبحار، في اقتباس ما شرع الرّسول المصطفى، لا يعرّجون عنه إلى رأيٍ ولا هوًى، قبِلوا شريعتَه قولًا وفعلًا، وحرسوا سنّته حفظًا ونقلًا، حتّى ثبّتوا بذلك أصلَها، وكانوا أحقّ بها وأهلَها. وكم من ملحدٍ يَروم أن يَخِلط بالشّريعة ما ليس منها! واللّهُ تعالى يذبّ بأصحاب الحديث عنها؛ فهم الحفّاظ لأركانها، والقوّامون بأمرها وشأنها، إذا صُدِف عن الدّفاع عنها فهم دونها يناضلون، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}»([4]).

ومما شاع في الأمّة -عامّها وخاصّها- وذاع: أنّ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري –رحمه الله- جمع كتابه الذي اشتهر بــ«صحيح البخاريّ» من صحيح سنة رسول الله ﷺ([5])، وكان عملُ البخاريّ في هذا الكتاب العظيم: تطبيقَ قواعد المحدّثين بأعلى درجات الدّقّة، فانتقى أصولَ الأحاديث النبوية التي نُقِلت عن رسول الله ﷺ نقلاً صحيحاً، وصار كتابُه أهمَّ وأعظمَ كتابٍ في الحديث، لشدّة تحرّيه فيه، وحُسن تصنيفه وترتيبِه، ووَسَمت الأمّةُ كلُّها هذا الكتاب بأنه: أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله جل وعلا.

وهذه المنزلةُ العظيمة لهذا الكتاب ليست محلَّ شكٍّ ولا نزاع أو اختلاف بين الأمّة؛ لأنها منزلةٌ مبنيّةٌ على مقدِّماتٍ قاطعةٍ يُستفاد منها أنّ هذا الكتابَ هو ديوانُ الأمّة الأوّل لمعرفة سنّة نبيها ﷺ، وهذه المقدّمات يطول تفصيل القول فيها، فلأجل ذلك نذكر في هذا المقال جوامعَ القول فيها، فمن هذه المقدّمات:

أولاً: منزلةُ الإمام البخاريّ -رحمه الله- العلميّة، وتميُّزه الفائقُ وحِذْقُه في علم الحديث.

إنّ البخاريّ -رحمه الله- لم يكن من آحاد العلماء المجتهدين في علم الحديث فقط، بل كان من أفذاذ الأمّة وأفراد العالم مطلقاً، في معرفته العميقة بعلم الحديث، وحدّة ذكائه وقوّة حفظه، ومداومته على الطلب والكتابة والرحلة في تحصيل الحديث، وخبرته التامة برواة الحديث من كل طبقة، ومعرفتِه الدقيقة بخفايا عِلَلِ الحديث وأوهام الثّقات، فضلاً عن أخطاء الضعفاء وأوهام المخلّطين، إضافة إلى ما حباه الله به من الـمُكْنة العجيبة في اللُّغة والفقه وأصوله، مع الورع التام والصّدق وعفّة اللسان، وإنّ القارئ في سيرة هذه الإمام لا يتردد في أنه كان عزيزّ المثال، وأنّه هبةٌ من الله لهذه الأمة.

لقد بلغ البخاريّ منزلةً بين علماء الحديث سابقِهم ولاحقهم تجعله بمنزلة واسطة العِقْد بين فحول المحدّثين، ومن طالع ترجمة البخاريّ وجد الثناء البالغَ عليه من مشايخه يجاوزُ كلَّ ما قاله شيخٌ في تلميذه، حتى لقد فضّله كثيرٌ منهم على أنفسهم.

وإذا كان ثناءُ شيوخه عليه بلغ هذه الدرجةَ فإنّ ثناء أقرانه وتلاميذه ومن جاء بعدهم؛ يزيد على ذلك بدرجات، ويفوقه بأضعاف.

قال النووي –رحمه الله-: «واعلم أن وصف البخاري -رحمه الله- بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران؛ متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله أّن مُعظمَ من أثنى عليه ونَشَر مناقبَه: شيوخُه الأعلامُ المبرّزون، والحذّاق المتقنون»([6]).

وسنختار هنا من ترجمته ما يحصل به المقصود من بيان منزلته الفائقة في علم الحديث([7]).

كان الإمام الكبير عليّ بن المدينيّ من أفذاذ علم الحديث، وكان شيخاً للبخاري، وقد ثبت عن البخاريّ أنه قال: «ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلّا عند عليّ بن المدينيّ، وربما كنت أغرب عليه» فلمّا ذكر أحدهم هذا الكلام لعليّ بن المدينيّ قال له: «دع قولَه، هو ما رأى مثل نفسه».

ومن شيوخ البخاري المشاهير الأثبات: قتيبةُ بن سعيد، وكان له في البخاري من القول الحسن، والثناء الكبير ما يُتعجّب منه.

قال قتيبة بن سعيد: «جالست الفقهاء والزهاد والعبّاد؛ فما رأيت منذ عقلت مثل محمّد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصّحابة» وقال: «لو كان محمّد بن إسماعيل في الصّحابة لكان آية».

بل جعله قتيبة حاوياً لعلم أئمة العلم في زمانه؛ كأحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق ابن راهويه؛ فقد سئل قتيبة عن طلاق السّكران فدخل محمّد بن إسماعيل البخاريّ، فقال قتيبة للسّائل: «هذا أحمد ابن حنبل وإسحاق ابن راهويه وعلي بن المدينيّ قد ساقهم الله إليك» وأشار إلى البخاريّ.

وفضّله بعضهم في علم الحديث على أمثال أحمد ابن حنبل إمام أهل السنة، وهو الإمام العلَم الذي لا يجارى في معرفة الحديث وعلله.

قال حاشد بن إسماعيل قال: قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهريّ: «محمّد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث من أحمد ابن حنبل».

وقال خلف الخيّام: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر الخفاف يقول: «محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق ابن راهويه، وأحمد ابن حنبل وغيرهما بعشرين درجة».

وهذا يحيى بن معين الإمام المقدّم في الحديث وعلله ورجاله؛ كان يستفيد من البخاري وينقاد له، قال مِهْيار لما ذكر قتيبة بن سعيد: «أنا رأيته –أي قتيبة- مع يحيى بن معين وهما جميعًا يختلفان إلى محمّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى منقاداً له في المعرفة».

وقال إبراهيم بن محمّد بن سلام: «كان الرُّتُوتُ([8]) من أصحاب الحديث -مثل سعيد بن أبي مريم، وحجاج بن منهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والحميدي ونعيم بن حمّاد، والعدني، والخلال، ومحمّد بن ميمون، وإبراهيم بن المنذر، وأبي كريب محمّد بن العلاء، وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، وإبراهيم بن موسى، وأمثالهم- يَقْضون لمحمد بن إسماعيل على أنفسهم في النّظر والمعرفة».

ومن أشهر أئمة الحديث والدراية برجاله، وعلله: إماما الرّيّ؛ أبي زرعة وأبي حاتم –رحمة الله عليهما، ومع ذلك فضّله العلماء عليهما، بل فضّلوه على شيخه محمد بن يحيى الذهليّ الإمام الكبير.

يقول العجليّ: «رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إليه، وكان أمّةً من الأمم، ديّنًا فاضلا يحسن كلَّ شيء، وكان أعلمَ من محمّد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا».

وقال إبراهيم الخّواص: «رأيت أبا زرعة كالصّبيّ جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث».

وأمّا تفضيلُ العلماء له بإطلاق فكثيرٌ.

قال عبدُ الله بن عبد الرّحمن الدّارميّ: «قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشّام والعراق؛ فما رأيت فيهم أجمع من محمّد بن إسماعيل».

وقال أبو سهل محمود بن النّضر الفقيه: «دخلت البصرة والشّام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها؛ فكلما جرى ذكر محمّد بن إسماعيل فضّلوه على أنفسهم».

وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: «فإن المشايخ قاطبةً أجمعوا على قدمه، وقدّموه على أنفسهم في عنفوان شبابه»([9]).

ونصّ الأكابر على تفرّده بالحفظ التامّ والمعرفة الدقيقة بالحديث وعلومه.

قال عمرو بن عليّ الفلاس: «حديث لا يعرفه محمّد بن إسماعيل ليس بحديث».

وقال له مسلم بن الحجاج: «أشهد أنه ليس في الدّنيا مثلك» وسمّاه: «أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله».

وقال أبو عيسى التّرمذيّ: «لم أر أعلم بالعلل والأسانيد من محمّد بن إسماعيل البخاريّ».

وقال إمام الأئمّة أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة: «ما تحت أديم السّماء أعلم بالحديث من محمّد بن إسماعيل».

ولأجل ما في ترجمة هذا الإمام من العَجَب والأخبار الباهرة؛ استطال العلماء الكلام فيها، وأفردوها بمصنفات مستقلة لطول ما فيها وحُسنه.

قال النووي بعد أن ذكر شيئاً من ترجمة البخاري: «ومناقبه لا تُستَقصى؛ لخروجها عن أن تحصى، وهي منقسمة إلى حفظ، ودراية، واجتهاد في التحصيل، ورواية، ونسك، وإفادة، وورع، وزهادة، وتحقيق، وإتقان، وتمكّن، وعرفان، وأحوال، وكرامات، وغيرها من أنواع المكرمات، ويوضح ذلك ما أشرت إليه من أقوال أعلام المسلمين أولي الفضل والورع والدين، والحفاظ والنقاد المتقنين، الذين لا يجازفون في العبارات، بل يتأملونها ويحررونها، ويحافظون على صيانتها أشد المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرته غير منحصرة»([10]).

وقال الحافظ الذهبي: «قد أفردتُ مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيها العجب»([11]).

وقال ابن كثير: «ولو ذهبنا نسطّر ما أثنى عليه الأئمّة في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وتبحّره؛ لطال علينا»([12]).

وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طرفاً من ثناء أعلام الأمّة المتقدّمين على الإمام البخاري: «ولو فتحتُ باب ثناء الأئمّة عليه ممّن تأخّر عن عصره؛ لفني القرطاس، ونفِدت الأنفاس»([13]).



ثانياً: شروط الحديث الصحيح التي اعتمدها البخاري في جمع كتابه وتحريره؛ شروطٌ متفقٌ عليها بين العلماء، فليست صحّةُ أحاديث كتابه مأخوذةً من تسميته لها بالصّحة تسميةً مجرّدة! بل لأنه طبّق عليها قواعدَ النقد، وأصولَ التصحيح والتضعيف بدقّةٍ متناهية، وهي قواعد مأخوذة في أصلها من الكتاب والسنة.

قال أبو بكر الإسماعيليّ -وقد ذكر كتب الحديث التي اعتنت بانتقاء الأحاديث الصحيحة-: «وكلٌّ قصَد الخيرَ وما هو الصّواب عنده، غير أنّ أحدًا منهم لم يبلغ من التّشديد مبلغ أبي عبد اللّه»([14]).

وقال الحافظ ابن الصلاح عن الشيخين: «وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه العزيز...ثمّ إنّ كتاب البخاريّ أصحّ الكتابين صحيحًا، وأكثرهما فوائد»([15]).

وإذا كان الحديث الضعيف يتفاوت في درجة الضعف؛ فإن الحديث الصحيح يتفاوت في درجات الصحة أيضاً، وكان منهج البخاري في كتابه: انتقاءَ أصحّ الصحيح، ولذلك جعل العلماءُ أحاديثه في أعلى درجات الصحة.

قال ابن كثير: «وشرطُه في صحيحه هذا أعزُّ من شرط كلّ كتابٍ صنّف في الصّحيح، لا يوازيه فيه غيره؛ لا صحيح مسلمٍ ولا غيره»([16]).

وذكر ابن الصلاح ومن تبعه من علماء مصطلح الحديث أقسامَ الحديث الصحيح، ورتّبوها هكذا([17]): أوّلها: صحيحٌ أخرجه البخاريّ ومسلمٌ جميعًا. الثّاني: صحيحٌ انفرد به البخاريّ عن مسلمٍ. الثّالث: صحيحٌ انفرد به مسلمٌ عن البخاريّ. الرّابع: صحيحٌ على شرطهما لم يخرجاه. الخامس: صحيحٌ على شرط البخاريّ لم يخرجه. السّادس: صحيحٌ على شرط مسلمٍ لم يخرجه. السّابع: صحيحٌ عند غيرهما، وليس على شرط واحدٍ منهما.

قال ابن الصلاح: «هذه أمّهات أقسامه، وأعلاها: الأوّل»([18]).

فما أخرجه البخاري هو الأعلى صحةً بعد المتفق عليه، كما هو ظاهر من هذا الترتيب.

وقال السخاوي: «وخُصّ ما أسنده في صحيحه بالتّرجيح على سائر الصّحاح»([19]).

وقال السيوطي: «وأرفع الصحيح ما اتفقا على إخراجه في صحيحيهما، وذلك بالإجماع»([20]).

والمقصود أن أحاديث البخاري لم تكن صحيحةً لمجرّد وجودها في كتاب البخاريّ، بل لأن شروط الحديث عند كافة العلماء منطبقةٌ عليها، ولا يمكن لأحد أن يدّعِي خلاف ذلك، فشروط صحّة الحديث شروطٌ وُجوديّةٌ، أي أنّه يلزم وجودُها مِن تَصوُّر معنى الحديث الصحيح، وهي موجودةٌ بأعلى درجاتها وأكمل حالاتها في صحيح البخاريّ.



ثالثاً: عَرَض البخاريّ –رحمه الله- كتابَه على بعض أشهر علماء عصره، فنظروا فيه نَظَر فحصٍ ونقد وتتبّعٍ، فلم يجدوا فيه شيئاً يُنتقَد عليه، بل أقرّوا له بدقّته المتناهية في عمله، سوى بعض الأحاديث اليسيرة التي كان لهم فيها رأيٌ غيرُ رأيِه.

قال أبو جعفر العُقَيليّ: «لما ألَّف البخاريّ كتابَ الصّحيح عَرَضَه على: أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ وغيرهم؛ وكلُّهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث» قال العقيليّ: «والقول فيها قول البخاريّ وهي صحيحة»([21]).

وهؤلاء الثلاثة الأئمة المذكورون هم رؤوس هذا العلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عن الصحيحين: «وكذلك في عصرهما، وكذلك بعدهما، قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة»([22]).



رابعاً: لقد أبرز البخاريُّ كتابَه للناس، وسماه صحيحاً، وقرأه خلائقُ من علماء عصره لا يحصيهم إلا الله، بل أخذه عنه من التلاميذ المشتغلين بالحديث: أممٌ كثيرة يُعدّون بالآلاف، ولم يُحفظ عن أحٍد منهم إنكارُ صَنيع البخاريّ، أو مناقشتُه في صحّة أحاديثه، سوى أحاديث يسيرة انتقدها بعض العلماء كما تقدّم ذكرُ ذلك.

قال الفِرَبْرِيُّ تلميذ البخاري وراويةُ كتابه: «سمع كتابَ (الصّحيح) لمحمّد بن إسماعيل تسعون ألف رجلٍ»([23]).

وقال علامة الظاهرية أبو محمّد ابن حزم –رحمه الله-: «ما وجدنا للبخاريّ ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلّا حديثين؛ لكل واحد منهما حديث تمّ عليه في تخريجه الوهم، مع اتصافهما وحفظهما وصحّة معرفتهما»([24]).

وأشهر من أُثِرَ عنه تعقُّب البخاري ومسلم في بعض ما أورداه من أحاديث: الحافظُ الإمام الدراقطني، ولم يَذكر –بعد التتبع- سوى أحاديثَ يسيرةٍ، والصواب في أكثر ما انتقده على البخاري إنما هو مع البخاريّ، وكثيرٌ مما انتقده لا يرجع إلى أصل الحديث ولا إلى متنه، بل هو راجع إلى بعض الأسانيد والرجال، وسيأتي زيادة بيان لذلك.



خامسًا: لم ينفرد البخاريّ ولا مسلمٌ برواية حديثٍ واحد من أحاديث كتابيهما ولا بتصحيحه، فكلُّ ما في كتابَيهما من الأحاديث رواه قبلهما وبعدهما خلقٌ كثيرٌ من الرواة، وهي أحاديث صحيحةٌ مشهورة معروفة عند العلماء قبلهم، فليس للبخاريّ ومسلم فيها إلا الجمعُ والانتقاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية متعقّباً بعض من غمز في صحّة بعض ما في الصحيحين: «ومثلُ هؤلاء الجهّال يظنّون أن الأحاديثَ التي في البخاريّ ومسلم إنما أُخِذت عن البخاريّ ومسلم، وأن البخاريَّ ومسلماً كان الغلطُ يَروج عليهما، أو كانا يتعمّدان الكذبَ، ولا يعلمون أن قولنا: (رواه البخاري ومسلم) علامةٌ لنا على ثبوت صحّته، لا أنه كان صحيحاً بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرُهما من العلماء والمحدّثين مَن لا يحصي عددَه إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يُخلق البخاريُّ ومسلمُ لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودةً بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.

وإنما قولنا: (رواه البخاري ومسلم) كقولنا: (قرأه القراء السبعة) والقرآن منقول بالتواتر، لم يختصَ هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيحُ؛ لم يقلّدْ أئمةُ الحديث فيه البخاريَّ ومسلمًا، بل جمهور ما صحَّحاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقًى بالقبول...

والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح»([25]).



سادساً: أجمع العلماء المعتدّ بأقوالهم على صحّة أحاديث البخاريّ ومسلم إجماعاً صحيحاً معلوماً، وتلقّوا كتابَيهما بالقبول العامّ، وهذا الأمرُ من أهمّ ما يجب معرفته والعناية به، لأنّ الإجماع حجّة شرعيّة لا يجوز مخالفتها، ومخالفها مبتدع.

وهذا الإجماع والتلقي بالقبول يؤخذ من وجوه:

أولها: النّصُّ الصّريح من العلماء على ذلك، وقد نصّ على ذلك جمع كبيرٌ من العلماء؛ منهم من صرّح بلفظ الإجماع أو الاتّفاق، ومنهم من نصّ على ثبوت تلقّيهما بالقَبول، وهو من صُوَر الإجماع، ونذكر هنا بعض هؤلاء العلماء:

قال الحافظ أبو نصرٍ السّجزيّ: «أجمع أهل العلم -الفقهاءُ وغيرهم- على أنّ رجلًا لو حلف بالطّلاق أنّ جميع ما في كتاب البخاريّ ممّا روي عن النّبيّ ﷺ قد صحّ عنه، ورسول اللّه ﷺ قاله لا شكّ فيه؛ أنّه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته»([26]).
وقال أبو إسحاق الإسفرائيني: «أهل الصّنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها»([27]).
ورد عن الجوينيّ أنه قال قريباً من مقالة السجزيّ المتقدّمة، فقد نُقِل عنه أنه قال: «لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في كتاب البخاري ومسلم -مما حكم بصحته- من قول النبي ﷺ؛ لما ألزمته الطلاق ولا حنّثتُه؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتهما»([28]).
وقال محمد بن طاهر المقدسي: «أجمع المسلمون على ما أُخرِج فيهما أو ما كان على شرطهما»([29]).
أطال الحافظ ابن الصلاح في مواضع من كتبه في تقرير تلقّي الأمة للصحيحين بالقبول، وبيان أن ذلك يقتضي إجماعهم في الجملة على صحّة ما فيهما، وصار كلامه أصلاً مشهوراً في هذه المسألة، يتناقله العلماء ويَبْنون عليه.
ومن ذلك أنه ذكر من أنواع الحديث الصحيح: (المتفق عليه) بين الشيخين، وبيّن المراد به فقال: «يطلقون ذلك ويعنون به اتّفاقَ البخاريّ ومسلمٍ، لا اتّفاق الأمّة عليه؛ لكنّ اتّفاق الأمّة عليه لازمٌ من ذلك وحاصلٌ معه، لاتّفاق الأمّة على تلقّي ما اتّفقا عليه بالقبول».

ثم بيَّنَ أن هذا التلقّيَ بالقبول ليس مختصًا بالمتفق عليه، بل هو شامل لكلا الكتابين، فقال: «ما انفرد به البخاريّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قبيل ما يُقطَع بصحّته لتلقّي الأمّة كلّ واحدٍ من كتابيهما بالقبول، سوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلّم عليها بعض أهل النّقد من الحفّاظ، كالدّارقطنيّ وغيره، وهي معروفةٌ عند أهل هذا الشّأن»([30]).

قال النوويّ –رحمه الله-: «اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان؛ البخاريُّ ومسلم، وتلقتهما الأمّة بالقَبول، وكتابُ البخاريّ أصحُّهما وأكثرهما فوائد ومعارفَ ظاهرةً وغامضةً»([31]).
وقال أيضاً: «أجمعت الأمةُ على صحة هذين الكتابين، ووجوب العمل بأحاديثهما»([32]).

وممن قرر هذا الإجماع شيخُ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مواطن من كتبه، ومن ذلك قولُه: «جمهور متون الصحيحين متفقٌ عليها بين أئمّة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي ﷺ قالها»([33]).
وقال رحمه الله: «فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطإ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يُعلم صحتُه عند علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام»([34]).

وهو يشير بقوله: «أكثر متون الصحيحين» إلى استثناء الأحاديث اليسيرة التي انتقدها بعض العلماء.

نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية –رحمهما الله- أنه قال بعد نقله معنى ما كلام ابن الصلاح المتقدّم: «وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشّيخ أبو عمرٍو –أي: ابن الصلاح-، والحجّة على قول الجمهور: أنّ تلقّي الأمّة للخبر تصديقًا وعملًا إجماعٌ منهم، والأمّة لا تجتمع على ضلالةٍ... واعلم أنّ جمهور أحاديث البخاريّ ومسلمٍ من هذا الباب كما ذكره الشّيخ أبو عمرٍو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهرٍ السّلفيّ وغيره»([35]).
قال الحافظ ابن كثير مترجماً للبخاريّ: «أبو عبد اللّه البخاريّ الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدّم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصّحيح أجمع على قبوله وصحّة ما فيه أهلُ الإسلام»([36]).
قال العلائي: «أحاديث الصّحيحين -لإجماع الأمة على صحّتها وتلقيهم إيّاها بالقبول- تفيد العلم»([37]).
قال الزركشي: «اتّفقت الأمة على أن ما اتّفق البخاريّ ومسلم على صحّته فهو حق وصدق»([38]).
قرر الحافظ ابن حجر هذه المسألة أيضا في مواطن من كتابه، ومن ذلك قوله: «ما أخرجه الشّيخان في صحيحيهما ممّا لم يبلغ حدّ المتواتر؛ فإنّه احتفّت به قرائن؛ منها: تلقّي العلماء كتابيهما بالقبول»([39]).
قال العينيُّ عن صحيح البخاريّ: «أطبق على قبوله بلا خلاف: علماءُ الأسلاف والأخلاف»([40])
وقال: «اتفق علماءُ الشرق والغرب على أنه ليس بعد كتاب الله تعالى أصحّ من صحيحي البخاري ومسلم»([41]).

قال السخاويّ –رحمه الله-: «الذي أورده البخاري ومسلم مجتمعَين ومنفردَين بإسناديهما المتصل: مقطوع بصحته؛ لتلقي الأمة -المعصومة في إجماعها عن الخطأ- لذلك بالقبول من حيثُ الصّحة، وكذا العمل»([42]).
قال السيوطي عن البخاريّ: «وخُصّ كتابه بالترجيح على كلّ كتاب في الحديث بالإجماع»([43]).
هذه بعض النقول الصريحة في نقل الإجماع القطعيّ على صحّة كتاب البخاريّ رحمه الله، تقنع المتردّد، وتُلجم المشكّك.

ويحسُن هنا أن نختم هذه الإجماعات بكلمة لطيفة للشيخ عبد السلام المباركفوري (ت 1342هـ) تبيّن إجماع جميع المسلمين -من كلّ طبقة وتخصّص وبلدٍ ومذهب- على صحة البخاري وجلالته، حيث يقول: «وتوجَد الآن أربعةُ مذاهب في أهل السنة، تعرف بالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهناك تقسيمات فرعية أخرى من حيث العقائد الصوفية([44])، ولكنهم كلهم مجتمعون على الاعتراف بأن هذا الكتاب أصحّ الكتب بعد كتاب الله، ويتساوى في ذلك: العربي والعجميّ، والحجازي والشامي والعراقي، والهندي والتركي والكابلي، والبربري والإفريقي، والرومي والروسي، والبدوي والحضري، والمحدث والفقيه، والمتكلم والصوفي»([45]).

الوجه الثاني: الإجماع السّكوتيّ؛ إذ إن البخاريّ –رحمه الله- وَسَم كتابَه بالصّحّة، وَعَرضه على العلماء، وقرأه من شيوخه وأقرانه وتلاميذه الجمُّ الغفيرُ، ولم يُخطّئه أحدٌ منهم في تسمية كتابه بالصحيح أو في تصحيح عامة ما جمعه من الحديث، ولم ينتقدوا عليه سوى مواضع يسيرة، ولم يُحفظ عن أحد خلافُ ذلك، فكان هذا إجماعاً على صحّة كتابه، وهذا الإجماع أظهر من كثير من الإجماعات الفقهية وغيرها؛ مما يثبته العلماء بما هو أقلّ وضوحاً من هذا الطريق.

الوجه الثالث: الإجماع العمليّ المستقرّ منذ أزمان طويلةٍ على الاكتفاء بعزو ما في البخاريّ إليه دون بحث عن صحته؛ اكتفاءً بما هو معلوم لدى الخاصة والعامة من صحة أحاديث كتابه، وهذا الإجماع ليس خاصاً بالمحدّثين، بل يشاركهم فيه أصناف العلماء وطلاب العلم والباحثون، والأقسامُ البحثية في الجامعات المنتشرةِ في طول بلاد الإسلام وعرضها؛ كلهم على رأي واحد في أحاديث البخاري ومسلم، وهو تلقّيها بالقبول، والانتهاءُ في شأنها إلى مجرّد عزوها إلى الصحيح، دون بحث في شأنها، أو شك في ثبوتها، أو توقف في الاحتجاج بها.



سابعاً: ثناءُ العلماء على صحيح البخاريّ زيادة على ما تقدّم.

قال أبو أحمد الحاكم عن البخاريّ: «كان أحدَ الأئمّة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت إنّي لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة؛ لفعلت»([46]).

وقال أيضاً: «رحم الله تعالى محمد بن إسماعيل، فإنه ألّف الأصول وبيّن للناس، وكلّ من عمِل بعده فإنما أخذه من كتابه»([47]).

وقال الإمام النسائي صاحب السنن: «ما في هذه الكتب كلِّها أجودُ من كتاب محمد بن إسماعيل»([48]).

وقال الحافظ عبد الغني المقدسي –وتبعه المزّيَ رحمهما الله- في ترجمة البخاري: «إمام هَذَا الشأن والمقتدى بِهِ فيه، والمعوَّل على كتابه بين أهل الإسلام»([49]).

وقال الذهبي وابن السبكي: «وأمّا جامعه الصحيح فأجلُّ كُتُب الإسلام وأفضلُها بعد كتاب اللّه تعالى»([50]).

وقال ابن الملقن: «هو أصحُّ الكتب بعد القرآن، وأجلُّها، وأعظمها، وأعمُّها نفعًا بعد الفرقان»([51]).

واستحسن العلماء الأبيات التي قالها الأديب الفضل بن إسماعيل الجرجاني، وهي قوله:

صحيحُ البخاريّ لو أنصفوه ... لما خُطّ إلاّ بماء الذّهبْ

هو الفرقُ بين الهدى والعمى ... هو السّدُّ بين الفتى والعطبْ

أسانيدُ مثلُ نجوم السّماء ... أمام مُتونٍ كمِثْل الشُّهُبْ

به قام ميزانُ دينِ الرّسول ... ودان به العُجْم بعد العربْ

فيا عالماً أجمع العالمون ... على فضل رُتبته في الرُّتَبْ

سبَقْتَ الأئمّة فيما جمعْتَ ... وفُزْتَ على رُغْمهم بالقَصَبْ

نَفَيتَ الضّعيفَ من النّاقلين ... ومَن كان متّهماً بالكذِبْ

وأبرزْتَ في حُسن ترتيبه ... وتبويبه عَجَباً للعَجَبْ([52])

وقال ابنُ السّبكيّ في ثنايا ترجمته للبخاريّ:

علا عن المدح حتّى ما يُزانُ به ... كأنّما المدحُ مِن مقداره يضعُ

له الكتابُ الذي يتلو الكتابَ هُدىً ... هَذِي السّيادةُ طَودًا ليس يَنْصَدِعُ

الجامِعُ المانعُ الدّينَ القويمَ وسنّةَ ... الشّريعة أَن تغتالهَا البِدعُ

قاصي المراتبِ داني الفضلِ تحسبه ... كالشّمس يبدو سَناها حِين ترتفِعُ

ذَلَّتْ رقابُ جماهير الأنام له ... فكلُّهمُ وهْو عالٍ فيهمُ خضعوا([53])



ولأثير الدّين أبي حيّان في مدح البخاريّ وكتابه قصيدةٌ رائقةٌ بديعةٌ، منها قوله:

هلِ الدّينُ إلا ما رَوَتْهُ أكابرٌ ... لنا نقلوا الأخبار عن طيّبٍ خُبْرا

وأدَّوْا أحاديثَ الرسولِ مَصونةً ... عَنِ الزَّيف والتَّصحيف فاستوْجَبوا الشُّكْرا

وإنّ البخاريَّ الإمامَ لجامعٌ ... بجامعه منها: اليواقيتَ والدُّرَرا

على مَفْرِقِ الإسلام تاجٌ مُرَصَّعٌ ... أضاءَ به شمساً ونار به بدرا([54])

إلى أن يقول:

إلى أنْ حوى منها الصحيحَ صحيحُه ... فوافى كتاباً قَدْ غدا الآيةَ الكُبرى

ولعمر الله! إنّ كتاب البخاريّ آيةٌ من آيات الله في أرضه، وإنّ مؤلفَه «معجزةٌ للرّسول البشير النذير، حيث وُجِد في أمته مثلُ هذا الفرد العديم النّظير، مَن كان وجوده من النّعم الكبرى على العالم»([55]).

هذا «ونقلُ كلام الأئمة في تفضيل كتاب البخاريّ يَكْثُر» كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله([56]).

وأخيراً لا بد من التنبيه على أمور:

الأول: الأحاديث المنتقَدة على البخاريّ يسيرةٌ جدًّا، وغالب انتقادات العلماء ترجع إلى أسانيدها دون متونها، ويكون البخاريّ غالباً قد ذكر السند أو اللفظ الصحيح، وذكر أيضاً السند المنتقد أو اللفظة المنتقدة لبيان أمرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الانتقادات التي وجّهها بعض العلماء إلى الصحيحين: «المواضع المنتقدة غالبها في مسلم... وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظًا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقَدٌ إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد»([57]).

وكثير من هذه الانتقادات متوجّه إلى ما هو خارج عن شرط البخاريّ في كتابه؛ مثل الآثار غير المرفوعة، أو الأحاديث المعلقة، وهي في مآلها ليست نقداً مستقيماً([58]).

الثاني: يجب أن يفرَّق بين انتقادات العلماء المبنيَّة على النّظر العلميّ المنضبط، والبحث الصحيح، وبين غَمْزِ المستشرقين، وتلبيس أعداء السنة، وطعونات الملاحدة والمنافقين، فهذا لون، وذلك لون؛ الأول محلُّ مناقشة وبحث ومدارسة وترجيح، والثاني لا يجوز الالتفات إليه ولا التعلُّقُ به، بل يتعيّن ردُّه وعدم قَبوله.

الثالث: العبرةُ في كلّ فنّ بكلام أهله المختصّين به دون غيرهم، فالمرجع في علم الحديث إلى علماء الحديث، وفي الفقه إلى الفقهاء، وفي النحو إلى اللغويين، وهكذا، ومن طعن في صحة البخاري أو بعض أحاديثه أو انتقد بعضها وليس هو من أهل الحديث المختصين بمعرفته ولو كان منتسباً إلى العلم؛ فإن كلامه غير مقبول، ويجب «تقديم كلام أهل كلّ فنٍّ على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصّوا به»([59]).

قال ابن القيم –رحمه الله-: «الاعتبار في الإجماع على كلّ أمرٍ من الأمور الدّينيّة بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يُعتَبرْ في الإجماع على الأحكام الشّرعيّة إلّا العلماء بها دون المتكلّمين والنّحاة والأطبّاء، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلّا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيّهم، الضّابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشدّ من عناية المقلّدين بأقوال متبوعيهم»([60]).



والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


([1]) هذا من التفاسير المشهورة عند أهل السنة، وأكثر ما اشتهرت نسبته إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وقد ذكره في كتابه الرسالة (90).

([2]) تفسير السمعاني (3/ 174).

([3]) الجامع لأحكام القرآن (10/ 109).

([4]) شرف أصحاب الحديث (ص10).

([5]) «صحيح البخاري» هو لقب هذا الكتاب العظيم، واسمه الذي وضعه له مصنفه هو: «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه». انظر: فهرست ابن خير (ص82) ومقدمة ابن الصلاح (ص26).

([6]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 71).

([7]) انظر أغلب ما يأتي ذكره في مصادر ترجمته المشهورة، ومن أهمها: تاريخ بغداد (2/ 322) للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق (52/ 50) لابن عساكر، وسير أعلام النبلاء (12/ 391) وتاريخ الإسلام (6/140) كلاهما للذهبي، وهدى الساري مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر، وسيرة الإمام البخاري سيد الفقهاء وإمام المحدثين للمباركفوري.

([8]) الرتوت: الرؤساء. كذا نقل شرحها الحافظ ابن حجر في هدى الساري (ص482)

([9]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 70).

([10]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 76).

([11]) تذكرة الحفاظ (2/ 105).

([12]) البداية والنهاية (14/ 531).

([13]) هدى الساري (ص485).

([14]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 46)

([15]) معرفة أنواع علوم الحديث المعروف بالمقدمة (ص18).

([16]) البداية والنهاية (14/ 534).

([17]) انظر: مقدمة ابن الصلاح (ص27) والتقريب والتيسير (ص28) والتقييد والإيضاح (ص41) والتوضيح الأبهر (ص31) وفتح المغيث (1/ 61) وتدريب الراوي (1/ 131) وشرح التبصرة (ص38) وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي (1/ 123).

([18]) مقدمة ابن الصلاح (ص28).

([19]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 42).

([20]) شرح التبصرة (ص38).

([21]) فهرست ابن خير (83) وانظر: هدى الساري (ص7).

([22]) منهاج السنة النبوية (7/ 215).

([23]) سير أعلام النبلاء (12/ 469).

([24]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 288)

([25]) منهاج السنة النبوية (7/ 214- 216).

([26]) مقدمة ابن الصلاح (ص26).

([27]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 280) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 377).

([28]) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 372).

([29]) محاسن الاصطلاح للبلقيني بهامش ابن الصلاح (172).

([30]) مقدمة ابن الصلاح (ص28-29) وانظر ما نقله عنه النووي في شرح مسلم (1/ 20) والحافظ في النكت (1/ 372).

([31]) شرح النووي على مسلم (1/ 14).

([32]) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 74).

([33]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص189).

([34]) مجموع الفتاوى (18/ 70)

([35]) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1499-1501) ونقله الحافظ ابن حجر أيضاً بنحوه في النكت محتفياً به (1/ 374).

([36]) البداية والنهاية (14/ 526-527) باختصار، وانظر: اختصار علوم الحديث له (ص35).

([37]) تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (ص114).

([38]) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 276) وانظر له: تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/ 513).

([39]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص52) باختصار، وطوّل الكلام في المسألة في كتابه النكت (1/ 171) وما بعدها.

([40]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 2).

([41]) السابق (1/ 5).

([42]) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 72) باختصار، وانظر: (1/ 63).

([43]) شرح التبصرة (ص29).

([44]) هذا إخبار عن الواقع، وإلا فإن التصوف في أصله بدعة لا تُجامِع السنة، إلا إذا قُصِد به معنى صحيح موافق للشرع.

([45]) سيرة الإمام البخاري (1/ 321).

([46]) هدى الساري (ص485).

([47]) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 285).

([48]) تاريخ دمشق (52/ 74).

([49]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (24/ 431).

([50]) تاريخ الإسلام (6/ 142) وطبقات الشافعية الكبرى (2/ 215).

([51]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (1/ 336).

([52]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 471) والبداية والنهاية (14/ 534) وإرشاد الساري (1/ 30) للقسطلاني.

([53]) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 212) ولم ينسبها، والظاهر أنها له، وقد صرح بذلك العجلوني في الفوائد الدراري (ص153).

([54]) ذكرها العجلونيّ في الفوائد الدراري (ص153–154).

([55]) هذه الكلمة للفقيه الحنفيّ ابن عابدين، نقلها المباركفوري في سيرة البخاري (1/ 230).

([56]) النكت (1/ 286).

([57]) منهاج السنة النبوية (7/ 216) وقد أطال الحافظ ابن حجر في الجواب عن الانتقادات التي وجهها الدراقطني إلى البخاري وأجاب عنها جميعا. انظر: هدى الساري (ص346) والنكت على ابن الصلاح (1/ 383).

([58]) انظر: المصدرين السابقين.

([59]) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (2/ 429) لابن الوزير.

([60]) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1502).