بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 ديسمبر 2019

السدل قبل تكبير الامام للركوع ليس عليه دليل

السدل قبل تكبير الامام للركوع ليس عليه دليل
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. 
أما بعد:
فمن الأخطاء التي تقع في صلاة الجماعة سدل المأموم يديه قبل تكبير الامام للركوع، فانتهاء الحركات والأقوال – القراءة والأذكار – في الصلاة تكون بعد تكبير الإمام وذلك لما صح عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا , وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد , وإذا سجد فاسجدوا)).
وحديث في الصحيحين.
فعلى هذا من سدل قبل تكبير الامام فقد خالف.


وهذه المخالفة لهذا صور منها:
أولا: في الصلاة السرية.
يقطع المأموم القبض ويسدل يديه عقب انتهائه من قراءته.


ثانيا: في الصلاة الجهرية.
يقطع المأموم القبض ويسدل قرب إنهاء الإمام قراءته – أي في آخر آية من سورة أو ثمن -، وتلاحظ هذا الخطأ واضحا وجليا في صلاة التراويح عندما ينتهي الإمام من قراءة سورة فتجد بعض المأمومين يسدل يديه ثم يشرع الامام في قراءة سورة ثانية فيرجع المأموم للقبض مرة أخرى.
فعلى المأموم أن ينتبه لهذا الخطأ، ولا يحدث فعلا ليس له فيه سلف، ولا يسدل يديه إلا بعد تكبير الإمام للركوع.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
✍️ كتبه 
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
باجة تونس: يوم الخميس 16 شوال سنة 1440 هـ 
الموافق لـ: 20 يونيو سنة 2019 ف

ملئ الكف على مشروعية إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف

ملئ الكف على مشروعية إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. 
أما بعد:
فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في ((صحيحه)) (باب: إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف).
وساق حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه)).
ففعل الصحابة رضي الله عنهم إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم فيه إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو ما أخدوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قال: ((أقيموا الصُفوفَ، وحاذُوا بين المناكِبِ، وسُدُّوا الخَلَلَ، ولينُوا بأيدي إخوانِكم- لم يقل عيسى: بأيدي إخوانِكم-، ولا تَذَروا فُرُجاتِ للشَّيطان، ومَن وصلَ صفاً وصلَه اللهُ، ومَن قطعَ صفاً قطعَه الله)).
أخرجه أبو داود في ((السنن)) وصححه الألباني.
وعلق البخاري في ((صحيحه)) قال النعمان بن بشير: (رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((تغليق التعليق)): ((رواه أبو داود وابن خريمة من حديث وكيع عن زكريا به وإسناده حسن واصل الحديث دون الزيادة في آخره من حديث النعمان في صحيح مسلم وغيره من غير هذا الوجه والله أعلم)) اهـ.
قال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)) تحت حديث (رقم 32): ((وسنده صحيح، وعلقه البخاري مجزوما به، ووصله ابن خزيمة أيضا في "صحيحه" كما في "الترغيب" (1 / 176) و "الفتح" (2 / 176).
ثم رواه الدولابي من طريق بقية بن الوليد، حدثنا حريز قال: سمعت غيلان المقرىء يحدث عن أبي قتيلة مرثد بن وداعة (قال: سمعت) النعمان بن بشير يقول: فذكره.
وهذا سند لا بأس به في المتابعات، ورجاله ثقات غير غيلان المقرىء)) اهـ.


إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة فعلها الصحابة الكرام وأقرهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)): ((التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب، وحافة القدم بالقدم، لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمروا بإقامة الصفوف)) اهـ.
فكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف

هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه 
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأثنين 6 شوال سنة 1440 هـ 
الموافق لـ: 10 يونيو سنة 2019 ف

من الآداب الواجبة مع الله

بسم الله الرحمن الرحيم




من الآداب الواجبة مع الله


قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله

في سلسلة الأحاديث الصحيحة - الأحاديث رقم (136 - 139):


136- ( قولوا: ماشاء الله ثم شئت ، وقولوا: ورب الكعبة ) . 
أخرجه الطحاوي , والحاكم , والبيهقي , وأحمد , من طريق المسعودي عن سعيد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت : ( إن حبراً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : إنكم تشركون , تقولون : ما شاء الله وشئت , وتقولون : والكعبة , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فذكره ) .

ولعبدالله بن يسار حديث آخر نحو هذا , وهو :
137- ( لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ ) .
138- ( إِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا قَالَ لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ ) .

وللحديث شاهد آخر من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرَاجِعُهُ في بعض الْكَلَامَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 
139- ( أجعلتني مع الله عدلاً [ وفي لفظ: نداً ] ؟ ! لا ، بل ما شاء الله وحده ) .



وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره ( ما شاء الله وشئت ) : يعد شركاً في الشريعة , وهو من شرك الألفاظ , لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى , وسببه القرن بين المشيئتين , ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعي العلم ( مالي غير الله وأنت )
و( وتوكلنا على الله وعليك ) , ومثله قول بعض المحاضرين : ( باسم الله والوطن ) , أو ( باسم الله والشعب ) , ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها , أدباً مع الله تبارك وتعالى .

ولقد غفل عن هذا الأدب الكريم كثير من العامة , وغير قليل من الخاصة الذين يسوغون النطق بمثل هذه الشركيات , كمناداتهم غير الله في الشدائد , والاستنجاد بالأموات من الصالحين , والحلف بهم من دون الله تعالى , والإقسام بهم على الله عز وجل ,
فإذا ما أنكر ذلك عليهم عالم بالكتاب والسنة , فإنهم بدل أن يكونوا عوناً على إنكار المنكر , عادوا بالإنكار عليه ,
وقالوا : إن نية أولئك المنادين غير الله طيبة , وإنها الأعمال بالنيات كما جاء في الحديث .

فيجهلون أويتجاهلون – إرضاء للعامة – أن النية الطيبة وإن وجدت عند المذكورين , فهي لا تجعل العمل السيئ صالحاً , وأن معنى الحديث المذكور إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة , لا أن الأعمال المخالفة للشريعة تنقلب إلى أعمال صالحة مشروعة بسبب اقتران النية الصالحة بها , ذلك ما لا يقوله إلا جاهل أو مغرض , ألا ترى أن رجلاً لو صلى تجاه القبر , لكان ذلك منكراً من العمل , لمخالفته للأحاديث والآثار الواردة في النهي عن استقبال القبر بالصلاة , فهل يقول عاقل : إن الذي يعود إلى الاستقبال – بعد علمه بنهي الشرع عنه – إن نيته طيبة وعمله مشروع ؟ كلا ثم كلا ,
فكذلك هؤلاء الذي يستغيثون بغير الله تعالى , وينسونه تعالى في حالة هم أحوج ما يكونون فيها إلى عونه ومدده , لا يعقل أن تكون نياتهم طيبة , فضلاً عن أن يكون عملهم صالحاً , وهم يصرون على هذا المنكر وهم يعلمون.

لماذا السؤال عن كيفية الاستواء بدعة؟ ومعه قاعدة عظيمة في باب الصفات

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:


فهذا جوابٌ من شيخنا العلامة/ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- على من يسأل لماذا السؤال عن كيفية الاستواء بدعة؟ وهو مستل من "شرح عقيدة أهل السنة والجماعة", وإليكم الرد:


قوله: ((والسؤال عنه بدعة))؛ أي: عن الاستواء, والمراد عن كيفيته: ((بدعة)) ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن السؤال عنه سؤال دين وعقيدة, ولم يرد ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فما منهم أحدٌ سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كيفية الاستواء مع شدة حرصهم على ما يتعلق بربهم -عز وجل-.
ومع وجود المجيب بالتأكيد وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم-, فإذا كان السبب موجوداً والمانع مفقوداً, لزم منه وجود الشيء, لكن لم يسألوا عنه, فما قالوا: يا رسول الله, كيف استوى؛ وذلك لأدبهم مع الله ورسوله, وعلمهم بأن هذا الأمر لا يمكن الوصول إليه ولم يأتِ مثل هذه الإيرادات إلا من الخلف الخالفين, فعلى هذا نقول: إن السؤال عنه بدعة.

الوجه الثاني: أن السؤال عنه من سمات أهل البدع, هم الذين يقولون كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ كيف يده؟ كيف وجهه؟ وما أشبه ذلك, فلا أحد يسأل عن الكيفية إلا وهو مبتدع, ونقول بذلك في جميع الصفات مثل ينزل إلى السماء الدنيا كيف ينزل؟ نقول: النزول معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وهذه في الحقيقة قاعدة عظيمة, ألهمها الله -تعالى- للإمام مالك -رحمه الله- فصارت نبراساً يسير عليه الناس. انتهى.



الفقيرُ إلى رَبِّ العالمين
أبو عبد الله هيثم آل فايد

اهتمام السلف بتعليم الأطفال التوحيد

اهتمام السلف بتعليم الأطفال التوحيد


إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فأشرف ما يتعلمه المرء دينه، وأشرف ما فيه توحيد الله عز وجل، لأنه يتعلق بمعرفة الله عز وجل، وما له من أسماء حسنى وصفات عليا وما يجب من حقه سبحانه وتعالى، فإن شرف العلم بشرف المعلوم، لهذا كانت العقيدة أشرف العلوم وأفضلها.
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في ((تفسيره)): ((إنّ العلم بالله، وأسمائه، وصفاته أشرف العلوم، وأجلها على الإطلاق لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه، وتعالى بأسمائه، وصفاته وأفعاله، فالاشتغال بفهم هذا العلم اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب)) اهـ.
فتعلم العقيدة والتوحيد أهم المهمات وأوجب الواجبات، فكان لزاما على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من توحيد الله وإفراده عز وجل بما يختص به وما يجب إفراده من عبادة ومعرفته من أسمائه وصفاته.
كما يجب على كل مسلم أن يسعى في تعلم التوحيد لمن تحت يديه ومن في رعايته، { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا }، ولأنه مسؤول عنهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته)) والحديث متفق عليه.
وينشأُ ناشئُ الفتيـانِ منـَّا *** على ما كان عوَّدهُ أبـوه
لهذ جاء في كتاب الله العزير دعاء نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
ومن دعائه: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات: 100].
وكان زكريا يدعو: { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
ويدعو أيضًا:{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
ومدح الله عز وجل عباد الرحمن بقولهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((تحفة المودود بأحكام المولود)): ((فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أينما كانوا وكان بنو إسرائيل كثيرا ما يسمون أولادهم بعمانويل ومعنى هذه الكلمة إلهنا معنا)) اهـ. 
وقد ألف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتابا موسوما بـ ((تعليم الصبيان التوحيد)) قال فيه: ((فهذه رسالة نافعة. فيما يجب على الإنسان أن يعلم الصبيان قبل تعلمهم القرآن)) اهـ.


وكذلك على المسلم أن يحرص على تعلم أبنائه ما يضاد التوحيد ويخدشه، والاهتمام بهذا الأمر.
ولهذا جاء: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وكذلك: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].



وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يعلم النشء التوحيد. 
فعن جندب بن عبد الله قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا).
أخرجه ابن ماجه في ((السنن)) وغيره وصححه الألباني وفي زيادة عند الطبراني في ((المعجم الكبير)) والبيهقي في ((الكبرى)) في ((شعب الإيمان)) ((وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان)) قال العراقي في تخريج الإحياء: وهو صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك؛ احفظ الله تجده تجاهك؛ إذا سألت فسأل الله , وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , وإن اجتمعوا علي أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
أخرجه الترمذي في ((السنن)) وغيره وصححه الألباني.
وعن عائشة قالت: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: ((يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم)). 
أخرجه مسلم.
وفاطمة رضي الله عنها كانت صغيرة عندما بعث عليه الصلاة والسلام.
وعلم سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما دعاء القنوت وعلم ربيبه عمرو بن سلمة أن يسم الله عند الأكل، وفي هذا استعانة بالله عز وجل.


أما ما جاء عن سلفنا الصالح.
ابن عمر يقول: (لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدثنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن).
أخرجه الحاكم في ((المستدرك)) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة و لم يخرجاه. 
وقال الذهبي: على شرطهما ولا علة له.
وقال العلامة مقبل الوادعي في ((تعليقه على مستدرك الحاكم)): كلا ، هلال بن العلاء وأبوه ليسا من رجال الشيخين، كما في ((تهذيب التهذيب))، ((ثم أن هلال بن العلاء ضعيف، ففي ((تهذيب التهذيب)) قال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف الحديث عنده عن يزيد بن زريع أحاديث موضوعة وقال النسائي هلال بن العلاء روى عن أبيه غير حديث منكر فلا أدري منه أتى أو من أبيه، والقاسم بن عوف الشيباني من رجال مسلم وهو مختلف فيه)) اهـ.
وطريق هلال بن العلاء عن أبيه لها متابع علي بن معبد عند الطحاوي في ((بيان مشكل الآثار)) وله متابعة أيضا عند ابن منده في ((الإيمان)) والبيهقي في ((الكبرى)) ومن طريق ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
قال محقق في ((المشكل)): ((فيه علي بن معبد ثقة، ومن فوقه من رجال الشيخين غير القاسم بن عوف فقد روى له مسلم حديثا واحدا، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ومحله عندي الصدق، وذكره ابن حبان في الثقات)) اهـ.
وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.
وعن إسحاق بن عبد الله عن جدته أم سليم أنها آمنت برسول الله قالت فجاء أبو أنس وكان غائبا فقال أصبوت قالت ما صبوت ولكني آمنت بهذا الرجل قالت فجعلت تلقن أنسا وتشير إليه قل لا إله إلا الله قل أشهد أن محمدا رسول الله قال ففعل قال فيقول لها أبوه لا تفسدي علي ابني فتقول إني لا أفسده 
أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)).
وكان علي بن الحسين، يعلم ولده، يقول: (قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت).
أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)).
وعن إبراهيم التيمي قال: (كانوا يستحبون أن يلقنوا الصلاة، ويعرب أول ما يتكلم يقول: لا إله إلا الله سبع مرات، فيكون ذلك أول شيء يتكلم به).
أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)).
وعن حماد بن زيد قال: كنت في الكتاب، وأنا صغير، علي ذؤابة فجاء عمرو بن عبيد حتى وقف على رأسي فقال: يا غليم ما تقول في الدعوة فقلت: أما الدعوة فعامة، وأما المنة فخاصة، فجر بذؤابتي، فقال: علموك الكفر صغيرا.
أخرجه ابن الأعرابي في ((المعجم)).
والمقصد بقوله: (الدعوة عامة) أي: الدعوة للإسلام لكل أحد، وقوله: (المنة فخاصة) أي: الهداية عطية وتوفيق من الله.


كما حذر السلف الصالح الصبيان مما يدنس توحيدهم وصحيح أعتقادهم.
عن معمر، قال: كنت عند ابن طاوس في غدير له، إذ أتاه رجل يقال له صالح، يتكلم في القدر، فتكلم بشيء منه، فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه وقال لابنه: (أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد, حتى لا تسمع من قوله شيئا، فإن القلب ضعيف).
أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)).
وعن أم بكر بنت المسور ، أن المسور سمع ابنا له وهو يقول: أشركت بالله ، أو كفرت بالله فضربه ، ثم قال : قل : استغفر الله آمنت بالله ، ثلاثا.
أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)).
وعن قتادة قال: ثنا مطرف [بن عبد الله الشخير]، قال: كنا نأتي زيد بن صوحان وكان يقول: يا عباد الله أكرموا وأجملوا فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين الخوف والطمع.
فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابا فنسقوا كلاما من هذا النحو: إن الله ربنا ومحمدا نبينا والقرآن إمامنا ومن كان معنا كنا وكنا له ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا.
قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا.
فيقولون: أقررت يا فلان؟
حتى انتهوا إلي فقالوا: أقررت يا غلام؟
قلت: لا.
قال: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟
قال: قلت: إن الله قد أخذ علي عهدا في كتابه فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه الله عز وجل علي.
قال: فرجع القوم عند آخرهم ما أقر به أحد منهم.
قال: قلت لمطرف: كم كنتم؟ 
قال: زهاء ثلاثين رجلا.
أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) ومن طريق ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) وأبو نعيم في ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) من طريق ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)).
وأختم بكلام قيم للإمام ابن القيم رحمه الله في ((تحفة المودود بأحكام المولود)) يحذر من إهمال تعليم الصبيان، قال: ((فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال يا أبت إنك عققتني صغيرا فعققتك كبيرا وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا)) اهـ. 
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
✍️ كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأربعاء 1 جمادى الآخرة سنة 1440 هـ 
الموافق لـ: 6 فبراير سنة 2019 ف

التحذير من التسرع في التكفير - العلامة محمد آدم الإتيوبي حفظه الله

قال العلامة الإتيوبي رحمه الله:
(المسألة السادسة):
ا[اعلم]: أن مذهب أهل الحق، أنه لا يُكَفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يُعلم من دين الإسلام ضرورة، حُكم بردته وكفره، إلَّا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه، فيُعَرَّف ذلك، فإن استمر حُكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا، أو الخمر، أو القتل، أو غير ذلك من المحرمات التي يُعلم تحريمها ضرورة، ذكره النووي في "شرحه" (1)
:وقال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في الكوكب الساطع
وَلَا نَرَى تَكْفِيرَ أهْلِ الْقِبْلَةِ ... وَلَا الْخُرُوجَ أَيْ عَلَى الأَئِمَّةِ
وقلت في "شرحي" عليه: أشار به إلى ما قاله الشافعيّ، وأبو حنيفة، والأشعريّ: لا نكفّر أحدًا من أهل القبلة بذنب أجرمه، وروى البيهقيّ بسند صحيح أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما سُئل، هل كنتم تسمّون من الذنوب كفرًا، أو شركًا، أو نفاقًا؟ قال: معاذ الله، لكنّا نقول: مؤمنون مذنبون
وقال الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" 15/ 88 - في ترجمة أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى ما نصّه: رأيت للأشعريّ كلمة أعجبتني، وهي ثابتةٌ، رواها البيهقيّ، سمعت أبا حازم العبدريّ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسيّ يقول: لَمّا قرب أجل أبي الحسن الأشعريّ في داري ببغداد، دعاني، فأتيته، فقال: اشهَدْ عليّ أني لا أكفّر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكلّ يُشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قال الذهبيّ: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيميّة في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفّر أحدًا من الأمة، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن" (2). فمن لازم الصلوات بوضوء، فهومسلم. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة من عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب هو الحقّ، فينبغي التنبّه له، وعدم التسرّع إلى القول بتكفير أحد منهم إلَّا ببيّنة واضحة، لا يُقبل معها التأويل، هذا على الجملة، وأما من حيث التفصيل، فمن قامت بَيِّنَةٌ واضحة على أنه ارتكب ما يخرجه من الإسلام، فلا يُتَوَقَّفُ في تكفيره، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب
هذه جُمَلٌ من المسائل المتعلقة بالإيمان، قدمتها في صدر الكتاب، تمهيدًا لكونها مما يكثر الاحتياج إليها، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها في موضع واحد، ليسهل فهمها، ويقرب إدراكها، ويتيسّر الإحالة عليها، إذا مرّ في الأبواب الآتية ما يتعلّق بها. والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، ومنه التوفيق والعصمة
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} - هود: [88}

_______________________
(1) "شرح النوويّ" 1/ 144 - 150
(2) حديث صحيح. أخرجه أحمد، والدارميّ، والحاكم، وابن حبّان
المصدر : البحر المحيط الثجاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - 1/57

الأحد، 1 ديسمبر 2019

النهي عن الحمامات الشعبية للنساء مثل الحمام البخاري في وقتنا هذا.

وقد سئلت اللجنة الدائمة الإفتاء هذا السؤال

ما الحكم في الحمامات البخارية، هل يجوز دخولها للنساء والرجال بدون إزار حيث قد انتشرت بكثرة؟
الإجابة:

دخول الحمامات البخارية للرجال بدون إزار فيه نهي شديد، فقد ثبت من حديث جابر رضي الله عنه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر» (رواه النسائي والحاكم وصححه على شرط مسلم، وله شواهد). وأما النساء فهن منهيات عن دخول الحمامات، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لنسوة دخلن عليها: أنتن اللائي يدخلن نساؤكن الحمامات؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي). وفي (مسند الإمام أحمد) وحسن إسناده الحافظ ابن كثير، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام». وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وروى الإمام أبو يعلى الموصلي والحافظ أبو حاتم محمد بن حبان في (صحيحه) الملقب بـ: (الأنواع والتقاسيم) من حديث محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخل الحمام»، قال: فقلت ذلك لعمر بن عبد العزيز في خلافته، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن سل محمد بن ثابت عن حديثه فإنه مرضي، فسأله ثم كتب إلى عمر فمنع النساء عن الحمام، فهذا عمر بن عبد العزيز قد نفذ هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»، وأجمع المسلمون قاطبة على أن عمر بن عبد العزيز من الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. انتهى كلامه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الأحد، 24 نوفمبر 2019

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة

ظهَرَ لنا أنَّ أئمةَ أهلِ السُّنَّةِ، وعلماءَ الأشاعرةِ مُجمِعون على أنَّ الخلافَ بينهم خلافٌ منهجيٌّ وجَوْهريٌّ؛ ولأجلِ هذا سعى كلُّ طرَفٍ منهما إلى إخراجِ الطرَفِ الآخَرِ من السُّنَّةِ،

شكَّلَ المذهَبُ الأشعريُّ مَنهجًا جديدًا مُختلِفًا عمَّا كان عليه السَّلَفُ المتقدِّمونَ منذُ أوَّلِ لحظةٍ من ظُهورِه؛ حيثُ إنَّ الأشعريَّ اعتمَدَ طريقةَ ابنِ كِلابٍ ومَنهجَه في تأسيسِ العقائدِ، ويكشِفُ الشَّهْرَسْتانيُّ عن هذه الحقيقةِ، فيقولُ في مَعرِضِ مَدحِه لشَيخِه الأشعَريِّ: "حتَّى انتَهى الزَّمانُ إلى عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ الكِلابيِّ وأبي العبَّاسِ القَلانِسيِّ والحارِثِ بنِ أسعَدَ المُحاسِبيِّ، وهؤلاء كانوا من جُملةِ السَّلَفِ إلَّا أنَّهم باشَروا عِلمَ الكَلامِ وأيَّدوا عقائدَ السَّلَفِ بحُجَجٍ كَلاميَّةٍ وبراهينَ أُصوليَّةٍ... وانحازَ الأشعَريُّ إلى هذه الطائفةِ فأيَّدَ مَقالتَهم بمناهِجَ كَلاميَّةٍ، وصارَ ذلك مَذهَبًا لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وانتقلَتْ سِمَةُ الصِّفاتيَّةِ إلى الأشعَريَّةِ" [1]).

ومن حينِ أنْ ظهَرَ المَذهبُ الأشعريُّ باعتبارِه مَذهبًا عَقَديًّا له أصولٌ وعقائدُ خاصَّةٌ، اتخَذَ منه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين هم أَخبَرُ بمذهَبِ الأئمَّةِ المتقدِّمينَ وأعلَمُ بمدلولاتِها مَوقِفًا واضحًا، وعَدُّوه من الفِرقِ الخارجةِ عن السُّنَّةِ التي كان عليها الصحابةُ وتلاميذُهم ومَن جاء بَعدَهم من الأئمةِ المتبوعينَ؛ نتيجةً لمَا تلبَّسَ به من أخطاءٍ منهجيَّةٍ وعَقَديَّةٍ.

وقد تتالَتْ مَقالاتُهم ومواقِفُهم التي تؤكِّدُ ذلك، وقامَ عدَدٌ من الباحثينَ في القَديمِ والحديثِ بجَمعِ تلك المَقالاتِ والمواقِفِ التي صرَّحَ فيها أئمَّةُ مَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ بأنَّ المذهَبَ الأشعَريَّ خارجٌ عن مَنهجِهم، وأنَّه يُمثِّلُ مَذهبًا مُتناقضًا مع مَذهبِهم.

ولكنَّ هناك نافذةً أخرى يمكِنُ من خِلالِها تأكيدُ ذلك الحُكمِ الذي اتخَذَه عُلماءُ أهلِ السُّنَّةِ، وهي مَقالاتُ ومواقفُ أئمَّةِ المذهَبِ الأشعريِّ ومُحقِّقيه، التي أكَّدوا فيها على أنَّ طريقَتَهم مُخالفةٌ للطريقةِ التي يُقرِّرُها أئمَّةُ أهلِ السنَّةِ، ومُناقِضةٌ لها في المنهجِ والأصولِ.

وهذه النافذةُ لم تُكشَفْ بالشَّكْلِ الكافي، وهي من أقْوى الدلائلِ وأوضَحِها في التأكيدِ على أنَّ المذهَبَ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والمَذهبِ غيرُ الذي قرَّرَهُ أئمَّةُ المَذهبِ الأشعريِّ، كُلٌّ منهما يختلِفُ عن الآخَرِ، ويتناقَضُ معه بوُضوحٍ وجَلاءٍ، وأنَّ الخلافَ بينهما ليس خِلافًا لَفظيًّا، وإنما هو خلافٌ جَوْهريٌّ ومنهجيٌّ، وأنَّ إثباتَ صحَّةِ أحدِهما يستلزِمُ بُطلانَ الآخَرِ.

ويمكِنُ أنْ نُجمِلَ أهَمَّ المواقفِ التي أعلَنَ فيها أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ براءتَهم من المذهبِ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ في الأمورِ التاليةِ:

الأمرُ الأوَّلُ: تَلقيبُهم لمَن أثبَتَ ما عليه السَّلَفُ بالحَشْوِيَّةِ:

المرادُ بالحَشْويَّةِ رُذالةُ الناسِ وأقَلُّهم مَنزلةً ومكانةً، ومَن لا فَهمَ لهم ولا معرفةَ، ويُعدُّ المعتزلةُ أوَّلَ مَن أطلَقَ هذا اللقَبَ على أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ من المُحدِّثين والفُقَهاءِ قصْدًا منهم لتحقيرِهم وإنزالِ مَكانتِهم، ثم تلقَّفَه الأشاعرةُ مِن عِندِهم وأكثَروا من إطلاقِه في مُؤلَّفاتِهم، والمُتأمِّلُ في استعمالاتِهم لهذا اللقَبِ يُدرِكُ بوُضوحٍ أنَّ مَن يَعتقِدُ المَذهبَ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ يدخُلُ في ذلك الوصفِ بجَلاءٍ؛ فإنَّهم يُطلِقونَه على جُملةِ مَن يُثبتُ الصِّفاتِ الإلهيَّةَ، ويُجري نُصوصَها على ظاهرِها ولا يَعتمِدُ على التأويلِ، وكذلك مَن يُقرِّرُ أنَّ الإيمانَ حقيقةٌ مُركَّبةٌ، ومَن يُقرِّرُ أنَّ النظَرَ ليس بواجبٍ، وغَيرِها من المَقالاتِ.

يقولُ الجُوَيْنيُّ: "ذهبَتِ الحَشْويَّةُ المُنتمونَ إلى الظاهرِ إلى أنَّ كلامَ اللهِ قديمٌ، ثم زعَموا أنَّه حُروفٌ وأصواتٌ، وقطَعوا بأنَّ المسموعَ من أصواتِ القُرَّاءِ ونَغَماتِهم عينُ كلامِ اللهِ" [2]، ويقولُ أيضًا: "ذهبَتِ الكَرَّاميَّةُ وبعضُ الحَشْويَّةِ إلى أنَّ الباريَ -تعالى عن قولِهم- مُتحيِّزٌ مختَصٌّ بجهةِ فَوقٍ" [3]، ثم ساقَ الأدلَّةَ التي يَستدِلُّ بها أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ على إثباتِ العُلوِّ، وقامَ بتأويلِها.

ويقولُ الغَزالِيُّ: "أما الحَشْويَّةُ فإنهم لم يتمكَّنوا من فَهمِ مَوجودٍ إلَّا في جِهةٍ، فأثبَتوا الجِهةَ -أي: للهِ- حتى ألزمَتْهم بالضرورةِ الجِسْميَّةِ" [4].

ويقولُ الآمِديُّ: "وبهذا ثبَتَ فَسادُ قولِ الحشْويَّةِ: إنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالجَنانِ، والإقرارُ باللسانِ، والعمَلُ بالأركانِ" [5]، وقد ذكَرَ الجُوَينيُّ أنَّ هذا القولَ الذي حكَمَ الآمِديُّ بفَسادِه هو قولُ أصحابِ الحديثِ، ثم صرَّحَ هو أيضًا ببُطلانِه [6].

ويقولُ الرازِيُّ -بعد أن ساقَ حُجَّةً تدُلُّ عندَه على وجوبِ النظَرِ- وهي: "تدُلُّ على فَسادِ قولِ الحَشْويَّةِ الذين يقولونَ: نستفيدُ مَعرفةَ اللهِ والدِّينِ من الكتابِ والسُّنَّةِ" [7].

ويكشِفُ السُّبْكيُّ عن مُرادِ الأشاعرةِ بالحَشْويَّةِ فيقولُ: "هم طائفةٌ ضَلُّوا عنِ السبيلِ وعَمِيَتْ أبصارُهم، يُجْرون آياتِ الصِّفاتِ على ظاهرِها، ويعتقِدونَ أنَّه المُرادُ" [8].

وقد تتالَتْ مَقالاتُ أئمَّةِ المذهَبِ الأشعريِّ في تضليلِ الحَشْويَّةِ وتَقبيحِهم وذَمِّهم، واختلَفوا في حُكمِ تَكفيرِهم على قولينِ مَشهورَينِ عندَهم [9].

وإذا رجَعْنا إلى مَقالاتِ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ ومؤلَّفاتِهم، كالأئِمَّةِ: مالكٍ والشافعيِّ وأحمَدَ، والثَّوْريِّ وابنِ عُيَينةَ والبُخاريِّ، وغيرُهم كثيرٌ، نَجِدُها دالَّةً على الأقوالِ نَفسِها التي حكَمَ عليها أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ بالحَشْويَّةِ، وهذا الصَّنيعُ منهم يدُلُّ بوضوحٍ على أنَّهم يَعُدُّونَ المذهبَ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ من المحدِّثينَ والفُقهاءِ مَذهبًا باطِلًا وفاسدًا، وأنَّه خارجٌ عن السُّنَّةِ ومناقضٌ لما هم عليه، وأنهم يختلِفونَ معه اختلافًا جَوْهريًّا، وليس اختلافًا لفظيًّا فقطْ.

الأمرُ الثاني: وَصفُهم لمَن سلَكَ طريقةَ السَّلَفِ بالمُجسِّمةِ والمُشبِّهةِ:

يُعَدُّ لفظُ المُشبِّهةِ من أكثَرِ الألفاظِ ذِكرًا في مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ، وعادةً ما يُطلَقُ هذا اللَّقبُ على صِنفينِ: الأوَّلِ: المُشبِّهةُ حقًّا، الذين صرَّحوا بالتشبيهِ واتَّخذوه مَذهبًا، كمُقاتلِ بنِ سُلَيْمانَ، وهِشامِ بنِ الحَكَمِ، وداودَ الجَواليقيِّ وغيرِهم [10]، والثاني: مَن أَجْرى نصوصَ الأسماءِ والصِّفاتِ على ظاهرِها المُتبادَرِ، وأقَرَّ بإثباتِ المَعاني التي تدُلُّ عليها مع نَفيِه للتشبيهِ والتمثيلِ، كما هو المذهبُ الذي يُقرِّرُه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، فهذا الصِّنفُ عند أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ يُعدُّ داخلًا في المُشبِّهةِ والمُجسِّمةِ، فمَن أثبَتَ العُلُوَّ والاستواءَ على العرشِ، وأثبتَ أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ حقيقةً، وأنَّه حرفٌ وصوتٌ، وأثبتَ النزولَ حقيقةً، وأثبتَ الصفاتِ الذاتيَّةَ، كالوجهِ واليدينِ والرِّجلِ وغيرِها مع نَفيِ التمثيلِ؛ يُعدُّ مُشبِّهًا لديهم.

يقولُ الجُوَيْنيُّ في بيانِ عقيدةِ المُشبِّهةِ: "وذهبَتِ المُشبِّهةُ إلى أنَّه -تعالى عن قولِهم- مُختصٌّ بجهةِ فَوقٍ" [11]، ويقولُ السُّبكيُّ: "إنما المصيبةُ الكُبْرى، والداهيةُ الدهياءُ: الإمرارُ على الظاهرِ، والاعتقادُ أنَّه المرادُ، وأنَّه لا يستحيلُ على الباري، فذلك قولُ المُجسِّمةِ، عُبَّادِ الوَثَنِ الذين في قلوبِهم زَيْغٌ يَحمِلُهم الزَّيْغُ على اتِّباعِ المُتشابهِ ابتغاءَ الفِتنةِ، عليهم لعائنُ اللهِ تَتْرَى واحدةً بعد أخرى، ما أجرَأَهم على الكذِبِ، وأقَلَّ فَهمَهم للحقائقِ!" [12].

والقارئُ في مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ يجِدُهم يُطلِقون وَصفَ المُشبِّهةِ على كلِّ مَن أثبَتَ جميعَ الصفاتِ الإلهيَّةِ، وأجرى نُصوصَها على ظاهرِها، حتى ولو صرَّحَ بنفيِ التشبيهِ والتمثيلِ، وعدَمِ العِلْمِ بالكَيفيَّةِ، ويجِدُ جُلَّ المواضعِ التي يَنسِبونها إلى المشبِّهةِ والمُجسِّمةِ مُنطبقةً بشكلٍ ظاهرٍ وجَليٍّ على ما هو مذكورٌ في مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ومن ذلك -زِيادةً على ما ذُكِرَ- قولُ الرازيِّ: "قالتِ المُشبِّهةُ: قولُه تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] هذا يدُلُّ على أنَّ الإلهَ -تعالى- فوقَهم بالذاتِ" [13]، ويقولُ: "قالتِ المُشبِّهةُ: قولُه تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] يدُلُّ على أنَّه تعالى يحضُرُ في ذلك المكانِ، وتُعرَضُ عليه أهلُ القيامةِ صَفًّا" [14]، ويقولُ أيضًا: "المُشبِّهةُ استدلُّوا بلفظِ الإسراءِ في السورةِ المُتقدِّمةِ وبلفظِ الإنزالِ في هذه السُّورةِ على أنَّه تعالى مُختصٌّ بجهةِ فوقٍ" [15]، وغيرُها كثيرٌ مبثوثٌ في مُؤلَّفاتِ المذهبِ الأشعريِّ.

وقد تتالَتْ مَقالاتُ أئمَّةِ الأشاعرةِ على تأكيدِ ضَلالِ المُشبِّهةِ وزَيغِهم، والحُكمِ عليهم بالخروجِ من السُّنَّةِ، وقد اختلَفوا في حُكمِ تَكفيرِهم على قولينِ مشهورينِ لديهم [16].

ولو رجَعْنا إلى نصوصِ أهلِ السُّنَّةِ من التابعينَ ومَن بَعدَهم، وكذلك إلى المُصنَّفاتِ المشهورةِ المُعتمَدةِ، كالردِّ على الجَهميَّةِ، والردِّ على بِشرٍ المَرِيسيِّ للدَّارمِيِّ، وكتابِ التوحيدِ لابنِ خُزَيمةَ، وكتابِ التوحيدِ لابن مَندَهْ، والشريعةِ للآجُرِّيِّ، وشرحِ أصولِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ للَّالَكائيِّ وغيرِها، تَجِدُهم يُقرِّرونَ الأقوالَ التي يَصِفُها أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ بالتشبيهِ والتجسيمِ.

وهذا يدُلُّ بوضوحٍ على أنَّ أئمةَ المذهبِ الأشعريِّ لا يَعُدُّون الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خلافًا لفظيًّا، وإنما هو خلافٌ جوهريٌّ متعلِّقٌ بأصولِ الدينِ ومنهجِ فَهمِه.

وفضلًا عما في قولِهم هذا من التناقُضِ البيِّنِ؛ فإنَّ أئمةَ المذهبِ الأشعريِّ المُؤسِّسين له، كالأشعريِّ والبَاقِلانيِّ يُصرِّحونَ بإثباتِ صِفةِ العُلُوِّ وعددٍ من الصفاتِ الذاتيَّةِ كاليدينِ والوَجهِ ونحوِهما [17]، فكيف لا يكونونَ مُشبِّهةً وهم يتفِّقونَ مع أهلِ السُّنَّةِ في إثباتِ ذلك النوعِ من الصفاتِ؟!

 الأمرُ الثالثُ: موقفُ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ من كتابِ التوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ:

يُعدُّ ابنُ خُزَيمةَ من أشهرِ العلماءِ المُمثِّلينَ لمَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ويُعدُّ كِتابُه من العُمَدِ الأصليَّةِ في تأسيسِ مَنهجِهم، وقد نالَ شُهرةً واسعةً جِدًّا؛ نتيجةً لشُهرةِ ابنِ خُزَيْمةَ نَفسِه، فإنَّه كان يُلقَّبُ بإمامِ الأئمَّةِ، وهو مِن أشهَرِ أئمةِ المذهبِ الشافعيِّ البارِزينَ.

وقد أضحى كتابُه (التوحيدُ) مَعلَمًا من مَعالِمِ أهلِ السُّنَّةِ، ومَرجِعًا من مَراجِعِهم الأصليَّةِ، ولأجلِ هذا تقصَّدَه بالردِّ والمُعارَضةِ عددٌ من أعلامِ المذاهبِ العَقَديَّةِ الخارجةِ عن السُّنَّةِ، سواءٌ من المعتزلةِ، أو من الأشاعرةِ، أو من غيرِهم [18].

ومِن أشهَرِ وأوَّلِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ الذين أعلَنوا المُخالَفةَ لكتابِ التوحيدِ لابنِ خُزَيمةَ: ابنُ فُورَكٍ؛ فإنَّه قالَ بعدَ أنْ أوَّلَ عددًا كبيرًا من نصوصِ الصِّفاتِ: "ثم سألتُم عند انتهائِها إلى هذا الموضِعِ مِن كِتابِنا أنْ نتأمَّلَ مُصنَّفَ الشيخِ أبي بَكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خُزَيْمةَ -رضيَ اللهُ عنه- الذي سمَّاه كِتابَ التوحيدِ، وجمَعَ فيه نوعَ هذه الأخبارِ التي ذُكِرَتْ فيها هذه الألفاظُ المتشابهةُ، وحمَلَ ذلك على أنَّها صِفاتُ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأنه فيها لا يُشبِهُ سائرَ الموصوفينَ بها من الخَلقِ، فتأمَّلْنا ذلك، وبيَّنَّا ما ذهَبَ فيه عن الصَّوابِ في تأويلِه، وأوْهَمَ خِلافَ الحَقِّ في تخريجِه، وجمْعِه بين ما يجوزُ أنْ يَجرِيَ مَجْرى الصِّفةِ، وما لا يجوزُ ذلك فيه، وذكَرْنا ألفاظًا ذكَرَها في كتابِه الذي روى وجمَعَها فيه، ممَّا لم يدخُلْ فيما أملَيْنا قبلُ، ورتَّبْنا معانِيَها، وإنْ كنَّا قد أَوْمَيْنا إلى أصلِه، وأشَرْنا إلى طريقتِه" [19].

ثم تتبَّعَ ما ذكَرَه ابنُ خُزَيمةَ في عددٍ من الصفاتِ الإلهيَّةِ، كصِفةِ النَّفسِ، وصفةِ الوجهِ، وصفةِ اليدَينِ، وصفةِ الرِّجْلِ والقَدمِ، وغيرِها من الصفاتِ، وقامَ بتأويلِها وصَرْفِها عن ظاهرِها الذي أجراه عليه ابنُ خُزَيْمةَ.

وهذا يدُلُّ دَلالةً ظاهرةً على أنَّه يَرى أنَّ ما قرَّرَه ابنُ خُزَيْمةَ في كتابِه مناقضٌ لمذهبِ الأشاعرةِ، ومُتعارضٌ معه تعارُضًا بيِّنًا.

ومن أئمةِ المذهبِ الأشعريِّ الذين أعلَنوا مُناقضَتَهم لكتابِ ابنِ خُزَيمةَ: أبو عُمَرَ الرازيُّ، بل إنَّه أغلَظَ في القولِ، ووصَفَ ابنَ خُزَيْمةَ بقِلَّةِ العَقلِ والفَهمِ، ونعَتَ كِتابَه بأنه كتابُ الشِّركِ، وفي هذا يقولُ: "واعلَمْ أنَّ محمدَ بنَ إسحاقَ بنِ خُزَيمةَ أورَدَ استدلالَ أصحابِنا بهذه الآيةِ في الكتابِ الذي سمَّاه "التوحيد"، وهو في الحقيقةِ كتابُ الشِّركِ، واعترَضَ عليها، وأنا أذكُرُ حاصلَ كَلامِه بعد حذفِ التطويلاتِ؛ لأنَّه كان رجُلًا مُضطرِبَ الكَلامِ، قليلَ الفَهمِ، ناقصَ العَقلِ" [20]، فها هو الرازيُّ في هذا التقريرِ يُؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه يُناقِضُ مَذهَبَه الأشعريَّ تَمامَ المُناقضةِ، ولأجلِ هذا وصَفَه بالشِّركِ.

وممَّنْ ذمَّ كتابَ التوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ وعابَه وعدَّه خارجًا عن السُّنَّةِ: ابنُ جَماعةَ، حيثُ يقولُ: "فإنِ احتجَّ مُحتَجٌّ بكتابِ ابنِ خُزَيمةَ، وما أَورَدَ فيه من هذه العظائمِ، وبِئْسَ ما صنَعَ من إيرادِ هذه العظائمِ الضعيفةِ والموضوعةِ؛ قُلْنا: لا كرامةَ له ولا لأتباعِه إذا خالَفوا الأدلَّةَ العقليَّةَ والنقليَّةَ على تنزيهِ اللهِ تعالى بمثلِ هذه الأحاديثِ الواهيةِ، وإيرادِها في كُتُبِهم.

وابنُ خُزَيمةَ، وإنْ كان إمامًا في النقْلِ والحديثِ؛ فهو عن النظَرِ في العقليَّاتِ وعن التحقيقِ بمَعزِلٍ، فقد كان غنيًّا عن وضعِ هذه العظائمِ المُنكَراتِ الواهيةِ في كُتبِه" [21]، وقد أوَّلَ في كتابِه عامَّةَ النصوصِ التي أورَدَها ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه، وأثبَتَ ما يقتضيه ظاهِرُها من الصفاتِ الإلهيَّةِ.

ومن عُلماءِ الأشاعرةِ الذين أكَّدوا مُناقَضةَ ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه لمَذهبِهم: ابنُ جَهْبَلٍ، حيثُ يقولُ: "على أنَّ ابنَ خُزَيمةَ قد علِمَ الخاصُّ والعامُّ حديثَه في العقائدِ، والكتابَ الذي صنَّفه في التَّشبيهِ، وسمَّاه بالتوحيدِ، ورَدُّ الأئمةِ عليه أكثَرُ من أنْ يُذكَرَ، وقولُهم فيما قاله هو في غيرِه معروفٌ" [22].

وقد تتالَى عددٌ من عُلَماءِ الأشاعرةِ في العصرِ الحديثِ على تأكيدِ ذلك الذمِّ.

وكلُّ تلك النصوصِ تدُلُّ على معنًى واحدٍ، وهو أنَّ علماءَ الأشاعرةِ يُدرِكون أنَّ ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه التوحيدِ مُناقضٌ تمامَ المُناقَضةِ لمَذهبِهم، وأنَّه في نَظرِهم مذهبٌ بِدْعيٌّ خارجٌ عن السُّنَّةِ، وأنه بِناءً على ذلك لا يُمكِنُ أنْ يُجمَعَ هو ومَذهَبُهم في تمثيلِ الحقِّ.

والغريبُ حقًّا أنَّه مع وضوحِ رأيِ ابنِ خُزَيمةَ في كتابِه، ووضوحِ موقفِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ من كتابِ ابنِ خُزَيمةَ، من أنَّه يُقرِّرُ إثباتَ المعاني للصفاتِ، ويُجري نُصوصَها على الظاهرِ، أقولُ: مع وضوحِ ذلك؛ يأتي بعضُ المعاصرين من المنتسبينَ للمذهَبِ الأشعريِّ، وينسُبُ التفويضَ إلى ابنِ خُزَيمةَ، ويدَّعي أنَّه ممَّن يَنسُبُه إلى السَّلَفِ [23]!، ومن غرائِبِه أيضًا أنَّه يجعَلُ ابنَ خُزَيْمةَ والرازيَّ كِليهما ممَّن يقولُ بالتفويضِ، وينسُبُه إلى السَّلَفِ، مع أنَّ الرازيَّ يحكُمُ على ابنِ خُزَيمةَ بأنه يُؤلِّفُ في الشِّرْكِ، وأنَّه مخالفٌ لمنهجِ الحقِّ!

 ابنُ خُزَيْمةَ ليس وَحدَه:

أصولُ العقائدِ التي قرَّرَها ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه ليستْ خاصَّةً به وَحدَه، بل هي في مُجمَلِها العقيدةُ التي عليها أئمَّةُ الهُدى من العلماءِ المتبوعين قَبْلَه، كالأئِمةِ: أبي حَنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ والثَّوريِّ وابنِ عُيَينةَ والبُخاريِّ، وغيرُهم كثيرٌ، وهو في كتابِه لم يكُنْ يريدُ أنْ يُؤسِّسَ عقيدةً خاصَّةً به، وإنما كان يريدُ أنْ يشرَحَ العقيدةَ التي أجمَعَ عليها العلماءُ قَبْلَه، وتلقَّاها هو عنهم؛ ولهذا فقد كان حريصًا على التأكيدِ على إجماعِهم في عددٍ من المواطنِ، ومن ذلك قولُه: "فنحن وجميعُ عُلمائِنا من أهلِ الحجازِ وتِهامةَ واليمَنِ والعِراقِ والشامِ ومِصْرَ، مَذهَبُنا أنَّا نُثبِتُ للهِ ما أثبَتَه اللهُ لنفسِه؛ نُقِرُّ بذلك بألسنَتِنا، ونُصدِّقُ ذلك بقُلوبِنا، من غيرِ أنْ نُشبِّهَ وَجهَ خالِقِنا بوَجهِ أحدٍ من المخلوقينَ، عَزَّ ربُّنا عن أنْ يُشبِهَ المخلوقينَ، وجَلَّ ربُّنا عن مَقالةِ المُعطِّلينَ" [24].

وكذلك فعَلَ في صِفةِ السمْعِ والبصَرِ واليدينِ والاستواءِ على العرشِ والعُلُوِّ وغيرِها، فهو في كلِّ هذه الصفاتِ يُؤكِّدُ على الإجماعِ فيها بين أئمةِ السَّلَفِ.

ونحن إذا رجَعْنا إلى الكتُبِ المُسندةِ التي اهتمَّتْ بجمْعِ مقالاتِ أولئك العُلماءِ نَجِدُها متطابقةً مع ما ذكَرَه ابنُ خُزَيمةَ في الجُملةِ، ولم تَختلِفْ عنه في أصولِ العقائدِ، وكذلك الحالُ في الأئمةِ الذين عاصَروا ابنَ خُزَيْمةَ أو جاؤوا بعدَه، كالصابونيِّ، وعبدِ اللهِ ابنِ الإمامِ أحمَدَ، والدَّارَقُطْنيِّ، وابنِ عبدِ البَرِّ، والسَّمْعانيِّ، والأصْفهانيِّ، وابنِ جَريرٍ الطَّبريِّ، وقبلَهم البُخاريُّ، كلُّ هؤلاء قرَّروا ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في صفاتِ اللهِ، ولم يَختلِفوا عنه في شيءٍ منها.

وهذا ما أدرَكَه الكَوْثريُّ، ولهذا جعلَهم كُلَّهم مُندرِجين ضِمْنَ المُجسِّمةِ والمُشبِّهةِ بكُلِّ وضوحٍ، حيثُ يقولُ: "فدونَك كتابَ الاستقامةِ لخُشَيشِ بنِ أَصْرَمَ، والكتُبَ التي تُسمَّى السُّنَّةَ لعبدِ اللهِ وللخَلَّالِ، ولأبي الشيخِ، وللعسَّالِ، ولأبي بكرِ بنِ عاصِمٍ، وللطَّبَرانيِّ، والجامعَ، والسُّنَّةَ والجماعةَ لحربِ بنِ إسماعيلَ السيرجانيِّ، والتوحيدَ لابنِ خُزَيمةَ، ولابنِ مَندَهْ، والصِّفاتِ للحَكَمِ بنِ مَعْبَدٍ الخُزاعيِّ، والنَّقْضَ لعُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِميِّ، والشريعةَ للآجُرُّيِّ، والإبانةَ لأبي نَصرٍ السِّجْزِيِّ، ولابنِ بَطَّةَ، ونَقْضَ التأويلاتِ لأبي يَعْلَى القاضي، وذَمَّ الكلامِ والفَاروقَ لصاحبِ مَنازلِ السائرينَ.. تجِدُ فيها ما يَنبِذُه الشَّرعُ والعَقلُ في آنٍ واحدٍ، ولا سِيَّما النقضَ لعُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارميِّ السِّجْزِيِّ المُجسِّمِ، فإنه أوَّلُ مَنِ اجترَأَ مِن المُجسِّمةِ بالقولِ إنَّ اللهَ لو شاءَ لاستقرَّ على ظهرِ بَعوضةٍ فاستقَلَّتْ به بقُدرتِه، فكيف على عرشٍ عظيمٍ!!" [25].

فإذا كان كتابُ ابنِ خُزَيمةَ يُعدُّ كِتابَ تَشبيهٍ وشِركٍ لأجْلِ ما فيه من إثباتِ الصِّفاتِ، وإجراءِ نُصوصِها على ظاهرِها؛ فإنَّ هذا الحُكمَ ليس خاصًّا به، بل هو شاملٌ لكلِّ مَن جَرى على طريقتِه وسارَ على مِنهاجِه وتوافَقَ معه، وهم عددٌ كبيرٌ جدًّا من العلماءِ المشهورينَ من جميعِ المذاهبِ: الحنفيِّ والمالكيِّ والشافعيِّ والحنبَليِّ.

وهذا الوضوحُ في الحُكمِ مِن قِبَل أئمةِ المذهبِ الأشعريِّ يؤكِّدُ بقوَّةٍ على أنهم يرَونَ أنَّ الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ ليس خلافًا لفظيًّا فحَسْبُ، وإنما هو خلافٌ منهجيٌّ حقيقيٌّ.



 الأمرُ الرابعُ: موقِفُهم من كتابِ إثباتِ الحَرفِ والصوتِ للسِّجْزيِّ:

ألَّف أبو نصْرٍ السِّجْزيُّ كتابًا في إثباتِ الحرفِ والصوتِ، وقرَّرَ فيه مذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وقد ردَّ عليه الجُوَينيُّ في كتابٍ مُستقِلٍّ، بالَغَ في الهُجومِ على السِّجْزيِّ وفي وَصفِه بالجهلِ وسَخافةِ العقلِ، وقد نقَلَ تقيُّ الدينِ السُّبْكيُّ شيئًا من ذلك الكتابِ، فقال ذاكرًا قُدوتَه في الردِّ على المبتدعةِ: "وها أنا أذكُرُ مجامِعَ ما تضمَّنَتْه القصيدةُ -نُونيَّةُ ابنِ القَيِّمِ- مُلخِّصًا من غيرِ نَظمٍ، وناظِمُها أقَلُّ من أنْ أذكُرَ كَلامَه، لكني تأسَّيتُ في ذلك بإمامِ الحرمَينِ في كتابِه المُسمَّى بنَقضِ كتابِ السِّجْزيِّ، والسِّجزيُّ هذا كان مُحدِّثًا له كتابٌ مُترجَمٌ بمُختصَرِ البَيانِ، وجَدَه إمامُ الحرمينِ حين جاورَ بمكَّةَ شرَّفَها اللهُ، اشتمَلَ كتابُ السِّجْزيِّ هذا على أمورٍ: منها أنَّ القرآنَ حروفٌ وأصواتٌ.

قال إمامُ الحرمينِ: وأبدَى مِن غمَراتِ جَهلِه فُصولًا وسوَّى على قصَبةِ سَخافةِ عَقلِه نُصولًا، ومَخايِلُ الحُمْقِ في تَضاعيفِها مَصقولةٌ، وبِعْثاتُ الحَقائقِ دونَها معقولةٌ.

وقال إمامُ الحرمَينِ أيضًا: وهذا الجاهلُ الغِرُّ، المُتمادي في الجَهلِ المُصِرُّ، يتطلَّعُ إلى الرُّتَبِ الرفيعةِ بالدَّأْبِ في المطاعنِ في الأئمةِ والوقيعةِ.

وقال إمامُ الحرمينِ أيضًا: صدَّرَ هذا الأحمَقُ البابَ بالمعهودِ مِن شَتمِه، فأُفٍّ له ولخرَقِه، فقد -واللهِ- سئِمْتُ البحثَ عن عَوارِه وإبداءِ شَنارِه.

وقال الإمامُ أيضًا: وقد كسا هذا التَّيْسُ الأئمةَ صِفاتِه. وقال الإمامُ أيضًا: أبدى هذا الأحمَقُ كَلامًا ينقُضُ آخِرُه أوَّلَه في الصفاتِ، وما يَنبغي لمِثلِه أنْ يتكلَّمَ في صفاتِ اللهِ -تعالى- على جَهلِه وسَخافةِ عَقلِه.

وقال الإمامُ أيضًا: قد ذكَرَ هذا اللعينُ الطَّريدُ المَهينُ الشَّريدُ فُصولًا، وزعَمَ أنَّ الأشعريةَ يَكفُرون بها، فعليه لَعائنُ اللهِ تَتْرى، واحدةً بعد أخرى، وما رأيتُ جاهلًا أجسَرَ على التكفيرِ، وأسرَعَ إلى التحكُّمِ على الأئمةِ من هذا الأخرَقِ.

وتكلَّمَ السِّجْزيُّ في النُّزولِ والانتقالِ والزَّوالِ والانفصالِ والذَّهابِ والمَجيءِ، فقال الإمامُ: ومَن قال بذلك حَلَّ دَمُه، وتبرَّمَ الإمامُ كثيرًا من كلامِه معه" [26].

ونقَلَ الكَوْثريُّ عن أبي جَعفرٍ اللَّبَليِّ الأندَلُسيِّ أنه قال في فَهرسْتِه: "وكذلك اللَّعينُ المعروفُ بالسِّجْزِيِّ فإنه تصدَّى أيضًا للوُقوعِ في أعيانِ الأئمةِ وسُرُجِ الأمَّةِ، بتأليفٍ تالفٍ، وهو على قِلَّةِ مِقدارِه، وكَثرةِ عَوارِه يَنسُبُ أئمَّةَ الحقائقِ وأحبارَ الأمَّةِ وبُحورَ العلومِ إلى التَّلبيسِ والمُراوغةِ والتَّدليسِ، وهذا الرَّذْلُ الخَسيسُ أحقَرُ من أنْ يُكترَثَ به ذَمًّا، ولا يضُرُّ البَحرَ الخِضَمَّ وَلْغةُ كَلبٍ" [27].

وما قرَّره السِّجْزيُّ في رِسالتِه من إثباتِ الحَرفِ والصَّوتِ ليس خاصَّا به، بل هو الذي يُقرِّرُه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ في مُؤلَّفاتِهم المشهورةِ، فالحُكمُ عليه بالبدعةِ والخروجِ من السُّنَّةِ ليس خاصُّا به، بل هو شاملٌ لكلِّ مَن وافَقَه وقرَّرَ مِثلَما قرَّرَ.

وهذا الحُكمُ يُؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ أئمةَ المذهبِ الأشعريِّ يَعُدُّون الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خِلافًا حقيقيًّا ومَنهجيًّا، وليس مُجرَّدَ خِلافٍ لفظيٍّ فحَسْبُ.

الأمرُ الخامسُ: موقِفُهم منِ ابنِ تَيْميَّةَ وابنِ القَيِّمِ وغَيرِهما:

حين قامَ ابنُ تَيْميَّةَ بنُصرةِ مَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ في العقائدِ، وشرَعَ في تأليفِ الكُتُبِ المُطوَّلةِ والمُختصَرةِ في شَرحِه وبَيانِه؛ أدرَكَ عُلماءُ الأشاعرةِ في زَمنِه أنَّ ما يقومُ به مخالفٌ ومناقضٌ لأصولِهم وعَقائدِهم؛ ولهذا سعَوْا إلى مَنعِه والتضييقِ عليه، وقد جرَتْ بينه وبينهم مُناظَراتٌ شهيرةٌ حول بعضِ تلك المُؤلَّفاتِ.

ومن أَشهرِها: المُناظرةُ حول العقيدةِ الواسِطيَّةِ، فقد قرَّرَ ابنُ تَيْميَّةَ في هذه العقيدةِ جُمَلًا مُختصَرةً كُلِّيَّةً مما كان عليه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ من الاعتقادِ، ولم يَذكُرْ شَيئًا خاصًّا به، وكان واثقًا من مُوافقتِه لما كان عليه السَّلَفُ، ولهذا تحدَّى عُلَماءَ الأشاعرةِ في زمَنِه فقال لهم: "قد أَمهَلْتُ كُلَّ مَن خالفَني في شيءٍ منها ثلاثَ سِنينَ، فإن جاءَ بحرفٍ واحدٍ عن أحدٍ من القرونِ الثلاثةِ" [28].

ومع ذلك فقد كان عُلماءُ الأشاعرةِ مُدركين أنَّ ما هم عليه متناقِضٌ مع ما جاءَ في تلك العقيدةِ، وخاصَّةً في بابِ الأسماءِ والصفاتِ، وبابِ الإيمانِ وغيرِها.

وكذلك المُناظرةُ التي كانتْ حولَ العقيدةِ الحمَويَّةِ، التي ألَّفَها ابنُ تَيْميَّةَ ليُثبِتَ الصِّفاتِ الاختياريةَ وصِفةَ الاستواءِ، فقد أدرَكَ علماءُ الأشاعرةِ أنَّ ما جاءَ في هذه العقيدةِ مُناقِضٌ لما هم عليه، ولهذا سعَوْا إلى مُناظرتِه والتضييقِ عليه، وألَّفَ بعضُهم كُتُبًا في نَقضِ ما جاء فيها.

ولم يَكتَفِ بَعضُهم بالردِّ عليه، بل تجاوَزَ ذلك إلى حَبسِه ومَنعِه من الإفتاءِ، بل تجاوَزَ بَعضُهم ذلك إلى الحُكمِ بتكفيرِه والحُكمِ عليه بالخُروجِ من الإسلامِ، وبوُجوبِ قَتلِه.

وأمَّا ابنُ القيِّمِ فهو أيضًا لم يَسلَمْ من معارضةِ عُلماءِ الأشاعرةِ له، ولا من تَضييقِهم؛ فإنَّه حين ألَّفَ النونيَّةَ، وقرَّرَ فيها عقيدةَ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ، بادَرَ بعضُ عُلماءِ الأشاعرةِ إلى الردِّ عليه، وإلى نَقضِ ما جاء فيها، وعَدَّها عقيدةً بِدْعيَّةً خارجةً عن السُّنَّةِ، كما صنَعَ السُّبْكيُّ الأبُ في كتابِه "السَّيفِ الصَّقيلِ".

وممَّن هاجَمَه علماءُ الأشاعرةِ وضيَّقوا عليه: الإمامُ عَبدُ الغنيِّ المَقدسِيُّ؛ فإنه كانَ مُتِّبعًا للإمامِ أحمدَ ومُعجَبًا به جِدًّا، وكان يُحدِّثُ في مسجِدِ دِمَشْقَ، ويُقرِّرُ في بابِ الصِّفاتِ والقرآنِ ما كان عليه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ، من أنها تثبُتُ من غيرِ تحريفٍ ولا تشبيهٍ، كما هو ظاهرٌ وجلِيٌّ في كتابِه (الاقتصاد في الاعتقادِ)، فقام عليه بعضُ علماءِ الأشاعرةِ في زَمَنِه، وشكَوْه إلى الأميرِ، وحكَموا عليه بالكُفرِ وأفتَوْا بقَتلِه [29]، وهذه المواقفُ تؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ علماءَ الأشاعرةِ مُدركونَ أنَّ الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خلافٌ حقيقيٌّ منهجيٌّ، وليسَ مُجرَّدَ خلافٍ لفظيٍّ فحَسْبُ.

المذهبُ الأشعريُّ والانتسابُ إلى السَّلَفِ:

أكثَرَ أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ من الانتحالِ لمذهبِ أهل السُّنَّةِ في مُؤلَّفاتِهم، ومن دَعْوى أنهم المُحقِّقون لما كان عليه الصحابةُ ومَن جاءَ بَعدَهم من أئمةِ الدِّينِ [30].

وفي المقابِلِ فإنَّهم يؤكِّدون كثيرًا على أنَّ ما قرَّرَه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ المشهورون، كابنِ خُزَيْمةَ وعبدِ اللهِ ابنِ الإمامِ أَحمدَ وابنِ مَنْدَهْ وابنِ عبدِ البَرِّ والأَصْفهانيِّ وابنِ أبي زَمَنِينَ وأبي بكرٍ الإسماعيليِّ والصابونيِّ، وغيرُهم كثيرٌ، وصولًا إلى ابنِ تَيْميَّةَ وابنِ القَيِّمِ، لا يُمثِّلُ حَقيقةً ما كان عليه الصحابةُ وأئمةُ الدِّينِ مِن بَعدِهم، وأنَّ ما هو مُقرَّرٌ في تلك المُؤلَّفاتِ يُعَدُّ انحرافًا وخُروجًا عن طريقتِهم التي كانوا عليها.

والكَشفُ عمَّا في هذا الكلامِ من خلَلٍ منهجيٍّ وعَقَديٍّ يحتاجُ إلى تفصيلٍ وكلامٍ مُطوَّلٍ، ولكن نُريدُ في هذا المَقامِ التأكيدَ على أنَّ هذه الدعوى من قِبَلِ الأشاعرةِ لا تدُلُّ بمُجرِّدِها على أنهم هم المُحقِّقون لما كان عليه الصحابةُ وأئمةُ الدِّينِ، ويُمكِنُ أنْ يُوضَّحَ هذا الكلامُ بالأوجُهِ التاليةِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المرءَ لا يكونُ مُحقِّقًا للسُّنَّةِ وما لما كان عليه السَّلَفُ الصالحُ بمجرَّدِ الانتسابِ، ولو كان هذا القدرُ كافيًا لكانت أكثَرُ الفِرَقِ العَقَديَّةِ مُحقِّقةً للسُّنَّةِ؛ لكونِها تُنسَبُ إليها وإلى ما كان عليه السَّلَفُ، فالانتسابُ إلى الصحابةِ، وادعاءُ الموافقةِ التامَّةِ لهم ليس خاصًّا بالأشاعرةِ، بل هو شأنٌ عامٌّ في أشهَرِ الطوائفِ العَقَديَّةِ، فالمعتزلةُ -الذين يَعُدُّهم الأشاعرةُ ضُلَّالًا، وبعضُهم يَحكُمُ عليهم بالكُفرِ- يَنتسِبون إلى السُّنَّةِ، ويدَّعون أنهم هم المُمثِّلون للحقِّ، فقد أكَّدَ القاضي عبدُ الجَبَّارِ على أنَّ التمسُّكَ بالسُّنَّةِ هو طريقةُ المعتزلةِ [31].

ونُقِلَ عن محمدِ بنِ يَزداذَ الأصبهانيِّ: "أنَّ المعتزلةَ هم المقتصِدون، فاعتزلَتِ الإفراطَ والتقصيرَ، وسلكَتْ طريقَ الأدلَّةِ، وذكَرَ أنَّ المعتزلةَ الأُولى هم أصحابُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" [32]، وعقَدَ فصلًا قال فيه: "فصلٌ في نِسبتِهم المعتزلةَ إلى الخُروجِ عن التمسُّكِ بالسُّنَّةِ والجماعةِ، وأنهم ليسوا من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ" وجاء فيه "فالمُتمسِّكُ بالسُّنَّةِ والجماعةِ هم أصحابُنا دون هؤلاء المُشغِّبين" [33].

والمُحصَّلُ من هذا: أنَّ مجرَّدَ الانتسابِ إلى السَّلَفِ ليس دليلًا كافيًا في إثباتِ تحقيقِ السُّنَّةِ، وإنما لا بُدَّ مع ذلك من الموافقةِ التامَّةِ لما كانوا عليه من العقائدِ والمنهَجِ في الاستدلالِ والنظَرِ.

الوجهُ الثاني: وإذا كان تحقيقُ الانتسابِ إلى السُّنَّةِ لا بُدَّ فيه من التوافُقِ التامِّ مع ما كان عليه الصحابةُ والأئمةُ من بعدِهم، فإنَّ حالَ المعتزلةِ والأشاعرةِ لا يتوافَقُ مع هذا الشرطِ، فقد وقَعوا في خلَلٍ مَنهجيٍّ كبيرٍ في مُحاولتِهم إثباتِ صِحَّةِ انتسابِهم؛ لأنهم وقَعوا في عمليةٍ اختزاليَّةٍ ضخمةٍ للنصوصِ والمقالاتِ المَرويَّةِ عن السَّلَفِ، حيثُ إنهم لم يعتمدوا على كلِّ النصوصِ، ولم يَجمَعوا بين كلِّ ما صحَّ عنهم، وإنما أبرَزوا النصوصَ التي يوهِمُ ظاهِرُها الدَّلالةَ على ما هم عليه، وأغفَلوا النظَرَ عن النصوصِ الأخرى الكثيرةِ المناقضةِ لأصلِ مَذهبِهم، أو قاموا بتأويلها وصَرفِها عن ظاهرِها كما في نصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.

فتجِدُ المُعتزلةَ يورِدون نُصوصًا عديدةً عن الصحابةِ والتابعين، ليُثبِتوا أنَّهم يقولونَ بقولِهم في بابِ الصِّفاتِ والقدَرِ والإيمانِ [34]، وأعرَضوا عن عشَراتِ النصوصِ والمقالاتِ الأخرى التي تدُلُّ على نقيضِ ما هم عليه.

وكذلك الأشاعرةُ تجِدُهم يعتمِدون على النصوصِ والمقالاتِ المُجمَلةِ الواردةِ عن بعضِ السَّلَفِ؛ ليُثبِتوا أنهم مُفوِّضةٌ في الصفاتِ، ويُعرضون عن عشَراتِ النصوصِ الأخرى التي تدُلُّ دَلالةً واضحةً على أنهم يُثبِتون معانيَ للصفاتِ الإلهيَّةِ من غيرِ تشبيهٍ بصفاتِ المخلوقينَ [35].

وقد حاوَلَ بعضُ المعاصرينَ منهم أنْ يُثبِتَ صِحَّةَ نِسبةِ التفويضِ إلى السَّلَفِ، فبادَرَ إلى جمعِ نصوصٍ كثيرةٍ للسَّلَفِ [36]، ولكنْ حين نتأمَّلُ في تلك النصوصِ نجِدُه انتقى من كلامِ الأئمةِ النصوصَ المُجملةَ، واعتمَدَ عليها، ثم إنَّه أعرَضَ عن نصوصٍ كثيرةٍ هي أوضَحُ في المعنى، وأحكَمُ في الدَّلالةِ؛ لكونِها تخالِفُ ما يريدُ التوصُّلَ إليه، وكثيرٌ من أعلامِ العُلماءِ الذين نقَلَ عنهم لهم نصوصٌ أخرى تدُلُّ على نقيضِ ما نسبَه إليهم.

وأما في بابِ الإيمانِ فقد صرَّحَ بعضُهم أنَّ قولَ الأشاعرةِ مُخالفٌ لقولِ أهلِ الحديثِ ومناقضٌ له، كما فعَلَ الجُوَينيُّ [37]، وبعضُهم حاوَلَ أنْ يُؤوِّلَ ويُعدِّلَ في مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ ليكونَ مُتوافقًا مع مذهبِ الأشاعرةِ في الإيمانِ، كما صنَعَ تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ [38].

وإذا تجاوَزْنا اختِزالاتِ المذهبِ الاعتزاليِّ والمذهبِ الأشعريِّ في التعامُلِ مع نصوصِ الأئمةِ ومقالاتِهم، وانتقَلْنا إلى مُؤلَّفاتِ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ، كالتوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ، والسُّنَّةِ لعبدِ اللهِ ابنِ الإمامِ أحمدَ، والإبانةِ لابنِ بَطَّةَ، والشريعةِ للآجُرِّيِّ، وشرحِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لِلَّالَكائيِّ وغيرِها، نجِدُ الأمرَ مُختلِفًا، فإنهم قاموا بجمعِ كلِّ ما جاءَ عن السَّلَفِ من نصوصٍ ومقالاتٍ، وقاموا بتَرتيبِها وتَبويبِها وتنسيقِها، وسعَوْا إلى شرحِ معناها وتقريبِ مَفهومِها، وبادروا إلى الجوابِ عما أَوْهمَ التعارُضَ بين بعضِ الظواهرِ في تلك النصوصِ (وهو قليلٌ)، والترجيحُ بين مُختلِفاتِها، ولم يَختزِلوا منها شيئًا ولم يُبرِزوا منها نوعًا دون نوعٍ، وهذا يؤكِّدُ أنهم هم المُحقِّقون لمذاهبِ الأسلافِ، والجامعونَ لعُمومِ أقوالِهم، فهم الأجدَرُ في تحريرِ عقائدِهم ومناهجِهم.



 أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ والتعدُّدِ في مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ:

اختلفَتْ مناهجُ عُلماءِ الأشاعرةِ في تحديدِ مَن يَشمَلُهم وصفُ أهلِ السُّنَّةِ، فمنهم مَن يظهَرُ مِن كَلامِه أنَّ لقَبَ أهلِ السُّنَّةِ لا ينطبِقُ إلَّا على أتباعِ المذهبِ الأشعريِّ فقَطْ [39]، ومنهم مَن ذهَبَ إلى أنَّ مَن يشمَلُهم ذلك الوصفُ طوائفُ مُتعدِّدةٌ، ومَن ذهَبَ إلى هذا القولِ اختلفَتْ آراؤُهم، فمنهم مَن ذكَرَ أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ تندرِجُ ضِمنَه ثمانِ طَوائفَ، كما فعَلَ عبدُ القاهرِ البَغداديُّ [40]، ومنهم مَن جعَلَ الأصنافَ المُندرجةَ ضِمْنَه صِنفينِ فقَطْ، وهما: الأشاعرةُ والسلفيَّةُ من أهلِ الحديثِ، كما فعَلَ الآمِدِيُّ [41]، ومنهم مَن جعَلَهم صِنفينِ، وهما: الأشاعرةُ والماتُريديَّةُ [42]، وأما بعضُ المتأثِّرينَ بالمذهبِ الأشعريِّ من الحنابلةِ، فقد جعَلَ أهلَ السُّنَّةِ ثلاثَ طوائفَ: الأشعريَّةَ والماتُريديَّةَ والأثريَّةَ، كما فعَلَ السَّفارينيُّ [43].

وليس المقصودُ هنا مُحاكمةَ صِحَّةِ هذا التعدُّدِ المُدَّعى، وإنما المقصودُ التنبيهُ على الخلَلِ المنهجيِّ الذي وقَعَ فيه بعضُ الأشاعرةِ؛ فإنَّه ادَّعى أنَّ هناك صِنفًا من السلفيَّةِ مُتوافقًا معه، ثم لم يذكُرْ لنا النصوصَ الواضحةَ البيِّنةَ لذلك الصِّنفِ، ولا المقالاتِ البيِّنةَ التي تُثبتُ صحَّةَ دَعواه، والآمِدِيُّ حين شرَعَ في شرحِ الأصولِ التي اتفَقَ عليها الأشعريَّةُ والسلفيَّةُ من أهلِ الحديثِ لم يذكُرْ إلا جُمَلًا كُلِّيَّةً وعامَّةً جدًّا، وهي في مُجملِها سائرةٌ على طريقةِ الأشاعرةِ، ولم يُعرِّجْ على القضايا الإشكاليَّةِ التي وقَعَ فيها الأشاعرةُ، فأَوْهمَ بأنه لا خلافَ بين الصِّنفينِ، مع أنَّ الصِّنْفَ الآخَرَ وَهْمٌ لا وجودَ له في الواقعِ [44].



خاتمةٌ: ليس إلَّا خيارانِ لا ثالثَ لهما:

ظهَرَ لنا من خلالِ هذه الورقةِ أنَّ أئمةَ أهلِ السُّنَّةِ، وعلماءَ الأشاعرةِ مُجمِعون على أنَّ الخلافَ بينهم خلافٌ منهجيٌّ وجَوْهريٌّ؛ ولأجلِ هذا سعى كلُّ طرَفٍ منهما إلى إخراجِ الطرَفِ الآخَرِ من السُّنَّةِ، وهذا يؤكِّدُ على أنه ليس إلا واحدٌ من خِيارينِ لا ثالثَ لهما: إمَّا أنْ يكونَ المذهَبُ الذي قرَّرَه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ هو المذهبَ الحقَّ المُحقِّقَ لما كان عليه الصحابةُ والتابعون ومَن جاء بعدَهم، وإمَّا أنْ يكونَ المذهبُ الذي يُقرِّرُه أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ هو الحقَّ المُحقِّقَ لما كان عليه الصحابةُ والتابعون ومَن جاءَ بعدَهم.

وأمَّا الخِيارُ الثالثُ، وهو مُحاولةُ الجمعِ بين المذهبينِ وادِّعاءُ أنَّ كُلًّا منهما مُمثِّلٌ للسُّنَّةِ، وأنَّ الخلافَ بينهما خلافٌ لفظيٌّ فحَسبُ، فهو رأيٌ خطأٌ ومخالفٌ لإجماعِ الفريقينِ ومخالفٌ لواقعِ المذهبينِ ولمنهجِهما الاستدلاليِّ والنظَريِّ.

وظهَرَ أيضًا أنَّ الحرصَ على التمايُزِ بين المذهبينِ ليس ناتجًا من قِبَلِ أهلِ السُّنَّةِ فقطْ، بلِ الأشاعرةُ أيضًا لديهم حِرصٌ شديدٌ على إظهارِ التمايُزِ بينهم وبين من يُسمُّونَهم الحَشْويَّةَ والمُجسِّمةَ، وظهَرَ أيضًا أنَّ الوضوحَ في التمايُزِ بين المذهبينِ لم يَبدَأْه ابنُ تَيميَّةَ، وإنما هو موجودٌ مِن قَبلِه، ومنتشرٌ في مُؤلَّفاتِ الأشاعرةِ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا.

وظهَرَ أيضًا أنَّ الصراعَ بين المذهبينِ ليس مُقتصرًا على الحنابلةِ والأشاعرةِ فحَسبُ، وإنما اشترَكَ فيه عددٌ من أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ من سائرِ المذاهبِ، فابنُ خُزَيْمةَ ليس حنبليًّا، وإنما هو من أئمةِ المذهبِ الشافعيِّ، وكذلك أبو حامدٍ الإسفَرايينيِّ الذي كان شديدًا على الأشعريِّ وأتباعِه كان من الشافعيةِ أيضًا، وأبو نَصرٍ السِّجْزيُّ الذي ردَّ عليه الأشاعرةُ ليس حنبليًّا، وإنما هو من علماءِ المذهبِ الحنَفيِّ كما يدُلُّ عليه عددٌ من المُؤشِّراتِ، وكذلك عددٌ كبيرٌ من أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ ليسوا من الحنابلةِ.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( [1] ) المِلَلُ والنِّحلُ (1/91).

( [2] ) الإرشادُ إلى قواطعِ الأدلةِ في أصولِ الاعتقادِ (125).

( [3] ) المرجعُ السابقُ (85).

( [4] ) الاقتصادُ في الاعتقادِ (72).

( [5] ) غايةُ المَرامِ في علمِ الكلامِ (311).

( [6] ) انظر: الإرشادُ إلى قواطعِ الأدلةِ في أصولِ الاعتقادِ (333).

( [7] ) التفسيرُ الكبيرُ (8/56).

( [8] ) الإبهاجُ في شرحِ المنهاجِ (1/361).

( [9] ) انظر: الفُروقَ، القَرافيُّ (4/271).

( [10] ) انظُر: الشامِل في أصولِ الدِّينِ، الجُوَيْنيُّ (288).

( [11] ) الشاملُ في أصولِ الدِّينِ (511).

( [12] ) طَبَقاتُ الشافعيةِ (5/192).

( [13] ) التفسيرُ الكبيرُ (7/218).

( [14] ) المرجعُ السابقُ (7/470).

( [15] ) المرجعُ السابقُ (7/422).

( [16] ) انظُرْ: مُغنِي المُحتاجِ، للشرينيِّ (4/134).

( [17] ) انظر: الإبانة، الأشعريُّ (105، 120) ، والإنصافَ، البَاقِلانيُّ (24)  والتمهيدَ (260).

( [18] ) انظر في جمعِ تلك المواقفِ: نُبذة لطيفة في ردِّ بعض تشغيباتِ المُعطِّلةِ على الإمامِ ابنِ خُزَيمةَ، صادق سليم.

( [19] ) مُشْكِلُ الحديثِ وبَيانُه (167).

( [20] ) التفسيرُ الكبيرُ (9/582).

( [21] ) إيضاحُ الدليلِ في قَطعِ حُججِ أهلِ التعطيلِ (203).

( [22] ) ردُّ ابنِ جَهْبَلٍ على الفتوى الحمَويَّةِ (112).

( [23] ) القولُ التمامُ بثباتِ التفويضِ مذهبًا للسَّلَفِ، سيف العصري (179).

( [24] ) التوحيدُ (26).

( [25] ) مُقدمِّتُه لكتابِ: الأسماء والصفات للبَيهقيِّ.

( [26] ) السيفُ الصقيلُ (25).

( [27] ) المرجعُ السابقُ 26- حاشية.

( [28] ) مجموعُ الفَتاوى (3/169).

( [29] ) انظرِ القِصَّةَ بطولِها: سِيَرُ أعلامِ النُّبلاءِ، الذهبيُّ (21/458-364).

( [30] ) انظر: التبصِرة في الدينِ، الإسفَرايينيُّ (153)، والمقصِد الأسنى في شرحِ الأسماءِ الحُسْنى، الغزاليُّ (157)، والتفسيرَ الكبيرَ، الرازيُّ (14/186)،  وغيرها كثيرٌ جدًّا.

( [31] ) انظُرْ: فضلَ الاعتزالِ وطبَقاتِ المعتزلةِ (156).

( [32] ) المرجعُ السابقُ (185).

( [33] ) المرجعُ السابقُ (186).

( [34] ) انظُرْ مثَلًا: طبَقاتِ المعتزلةِ، ابنُ المُرتضى (120-130).

( [35] ) انظُرْ في جمعِ بعضِ تلك النصوصِ: الأشاعرةُ في ميزانِ أهلِ السُّنَّةِ، فيصل الجاسم (89-143).

( [36] ) انظر: القول التمام بإثباتِ التفويضِ مَذهبًا للسَّلفِ، سيف العصري (165)  وما بعدها.

( [37] ) انظر: الإرشاد (333)

( [38] ) انظر: طَبَقات الشافعيَّةِ (1/ 98، 102، 129).

( [39] ) انظرْ عقيدة أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ -ضِمْنَ شَرحِ اللُّمَعِ (1/111).

( [40] ) انظر: الفَرْق بين الفِرَقِ (113).

( [41] ) انظُرْ: أبكارُ الأفكارِ (5/96).

( [42] ) انظر: الفَتاوى الحديثية، ابنُ حجَرٍ الهَيتميُّ (370)، وإتحاف السادةِ، الزُّبيديُّ (2/6).

( [43] ) لوامعُ الأنوارِ(73).

( [44] ) انظر: أبكارُ الأبكارِ (5/96).


سلطان بن عبد الرحمن العميري

( جامعة أم القرى - قسم العقيدة )


الثلاثاء، 16 أبريل 2019

مظاهر تعظيم الله عز وجل

مظاهر تعظيم الله عز وجل

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين،        أمَّا بعد:

فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، إن تعظيم الله أعظم العبادات القلبية التي يجب تحقيقها، والقيام بها، وتربية النفوس على ذلك، إذ شريعة الله مبنيةٌ على تعظيم الله، فتوحيد الله الذي هو أساس الملة والدين هو من تعظيم الله، فالله أجلَّ وأعظم من أن يعبد معه غيره، والشرك منافياً للتوحيد يقول صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِى فِيهِ غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" وقال نوح عليه السلام لقومه لما وقعوا في الشرك بالله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) أي مالكم لا تعظمون الله، مالكم لا تقدرون الله حق قدره؛ لأن من عبد غيره فليس بمعظم له ولا بمقدر له حق قدره، وأخبر تعالى أن عظيم المخلوقات السماوات والأرض والجبال أنه قال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً*لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً*تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً*أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).

أيها المسلم، إن لتعظيم الله مظاهره ومعالم فمن أعظمها، فمن مظاهر تعظيم الله أن تؤمن بأسماء الله وصفاته، تؤمن بصفات الله الذي وصف بها نفسه ووصف بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وتسمي الله بما سماء به نفسه أو سمائه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إيماناً بلا تعطيل وتنزيها بلا تشبيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فمن أسمائه المجيد والكبير والعظيم والجبار، وهو جلَّ وعلا موصفٌ بالكبرياء والعظمة والعزة والجلال، فهو اكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل من كل شيء تعالى وتقدس علواً كبيرا، ومن مظاهر تعظيم الله أن تؤمن بالأثر المترتب على إيمانك بأسماء الله وصفاته، فأنت تعلم أن الله سميعٌ بصير أثر ذلك العلم أن تعلم أن الله يسمع كلامك ويرى مكانك ويعلم سرك وعلانيتك (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، فيدعو كذلك إلى تعظيمه وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن مظاهر تعظيمك لربك كمال محبتك له، وتعلق قلبك به، وشوقك إلا لقائه، ومن مظاهر تعظيم ربك خشيته والخوف منه من عقوبته وغضبه وانتقامه (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، وتؤمن به حق الإيمان مع الطمع في رحمة الله وفضله (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ومن تعظيمك لربك أن تكون متعلق القلب به تدعوه وترجوه وتضطر إليه دائما في رخاءك وشددتك، وقوتك وضعفك؛ لأنه يقضي الحاجات ويفرج الكربات ويغيث الهفات (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقال جلَّ وعلا: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ومن أثر تعظيمك لله الإكثار من ذكره والثناء عليه يقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فلا أحد أحق من الله من ذلك مدح نفسه وأثناء على نفسه، مدح نفسه بخلق السماوات والأرض: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، أثنى على نفسه بأنه هو الذي أنزل الكتاب العظيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)، أثنى على نفسه بأنه جلَّ وعلا أنه لم يتخذ وليِّ من الذل: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)، أثنى على نفسه إذا قضاء بعدله بين خلقه قال جلَّ وعلا: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ومن مظاهر تعظيمك لربك أن تعمل بما أوجب عليك من عبادات التي شرعها لك من واجب ومستحب إخلاصاً لله جلَّ وعلا، بأن تصلي وتزكي وتصوم وتحج وتبر الوالدين وتصل الرحم وتلزم الأخلاق الفاضلة طاعةً لله وقربى تتقرب بها إلى الله، قال بعض السلف: وقد سئل عن قوله: (اتقوا الله) ما حقيقة التقوى؟ قال: حقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو بذلك ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومن أثار تعظيمك لربك معرفتك بقدر نعمه عليك، فأنت تعلم عظيم نعم الله عليك فتتفكر في نفسك: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، تذكر نعم الله عليك خلقك بأحسن تقويم، صورك فأحسن صورك، أمدك بالسمع والبصر والفؤاد، سخر لك الأبوين، سخر لك ما في السماوات وما نعم منه، نعمه عليك تترا، لا تستطيع أن تحصيها: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، ومن مظاهر تعظيمك لربك أن تتفكر في عظيم مخلوقاته، وكبيرها وجلالها لتعلم عظمة من خلقها (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، هذه السماوات السبع تفكر في عظيم خلقها وسعتها وكبرها وارتفاعها ودقة صنعتها (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ*ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)، أنظر إلى الأرض التي جعلها الله ذللها الله لنا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) جعل الأرض مهادا، وأرساها بالجبال أن لا تميد بنا، ثم أنظر إلى الدواب في السموات والأرض: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، فالسماوات على عظمتها يقول صلى الله عليه وسلم: "ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم لله راكع أو ساجد يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم إلى يوم القيامة"، ثم تفكر في الأرض وما فيها من الدواب على اختلافها أجناسها وأنواعها النافع منها والمؤذي منها، لينتفع الناس من النافع ويعلم قدر ضعف أنفسهم أمام قوة تلك المخلوقات ليعلموا بها عظمة من خالقها، هذا الليل والنهار يتعقبان من دقيق (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، الشمس والقمر منذ خلقهم الله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ثم قال: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كلها عظات وعبر ودلالة على عظم خالق هذا الكون، ليكون في القلب تعظيم لله وإجلال لله، وإخلاص العبادة لله، وتعلق القلوب لله، في كل أحوالنا، في صحتنا ومرضنا، في قوتنا وضعفنا "تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" كلما تعرف المؤمن هذه المخلوقات العظيمة عرف قدر خالقها وعظمة خالقها واستدل على كمال عظمته، وكمال كبرياءه وجلاله؛ وأنه مستحق أن يعبد ويخضع له ويذل له ويطاع فلا يعصى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتبرين: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، إن من تعظيم الله تعظيم شرعه ودينه، بأن تعظم كتاب الله وتعظم سنة محمد صلى الله عليه وسلم تعظمهما التعظيم اللائق بهما؛ بأن تقبل نصوص القرآن وتقبل نصوص السنة بالسمع والطاعة والاستجابة المطلقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، لابد للمسلم أن يعظم شرع الله فإن تعظيمك لأوامر لله بالامتثال، وتعظيمك لنواهي الله بالاجتناب، دليل على تعظيمك بما أمرك ودليل على تعظيمك لما نهاك عن ذلك، ولتعظيم شرع الله معالم فأول ذلك: الاستسلام التام لشرع الله وألا يقع في نفسك حرج من ذلك ولا اختيار لك بل السمع والطاعة واجبان عليك قال جلَّ وعلا: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)، ومن مظاهر تعظيم شرع الله ألا يكون في نفسك حرج عند تطبيق أحكام الشريعة بل تقبل وينشرح صدرك بذلك قال الله جلَّ وعلا: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي: ينقادوا ويرضوا بذلك، ومن مظاهر تعظيم الله أن لا يتطول بالبحث عن الحكم، فالحكم إن وجد إن علمتها فالحمد لله، وإلا فأنت على يقين بأن شرع الله مبنيٌ على كمال حكمة الرب وكمال علمه وكمال رحمته وعدله، فقد تستدرج أحيانا وقد تخفى عنك أحيان لكن عليك بالسمع والطاعة والاستجابة التامة، ومن مظاهر تعظيمك لشرع لله أن تمسك لسانك عن الخوض فيما لا تعلمه ولا تتكلم في الشرع إلا بعلم ويقين (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فقول على الله بلا علم دليل الجهل وضعف الإيمان وقلة البصيرة، فالمسلم المعظم لله لا يتكلم بشرع الله إلا بعلم يعلمه، وأما من الذي لا علم عنده فيمسك عما لا يعنيه فذلك أفضل له من أن يخوض بجهل ويقول باطلا ويفتي بخلاف الحق فيرتكب الإثم والعدوان، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ،   أما بعدُ:

فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله، إن المتأمل في كثير من أحوال المسلمين يجد أن هناك أموراً تنافي تعظيم الرب، أموراً تنافي تعظيم الرب وتقديره،أن هناك أموراً تنافي تعظيم الرب جلَّ وعلا ولا تقدر الله حق قدره، هذه المظاهر السيئة مبنيةٌ غالباً على أمور بدعوى الانفتاح، دعوى الحرية الرأي دعوى الحوار المفتوح في الأمور، هذه الأشياء يراد بها الاستهزاء والاستخفاف والسخرية والتنقص لشرع الله؛ بل الطعن في الذات الإلهية ومقام نبينا صلى الله عليه وسلم، الاعتراض على شرع الله، والقدح في أوامر الله ونواهيه، وكأن أولئك ينصبون أنفسهم بأنهم مشرعون العباد (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، والمصيبة أن قضايا الأمة المصيرية في معتقدها وأخلاقها وسلوكها يطرحها البعض من خلال القنوات الفضائية أو الانترنت أو نحو ذلك يطرحونها على بساط البحث فيتكلم جاهلٌ ويتكلم سفيٌ ويتكلم منافقٌ، ويقول من يقول في شرع الله ودينه فيما أحل وفيما حرم، وفيما أمر وفيما نهى، ثم يأتي من يقول إن لكل إنسان حقاً أن يعترض على الله في تشريعه أو يعترض على رسوله بتشريعه أو يناقش الشرع فيقبل ما يوافق عقله ويرفض سواء ذلك، أهاذي الألفاظ ، أهاذي تصدر من قلب ذاق طعم الإيمان إن المؤمن حقاً سماع مطيع لله فيما أمره ونهوه عنه، كونه يعصي، كونه يرتكب المحرم لكن كونه يعترض على الله بما أحل وحرم ويقول هذه أمور انتهاء دورها ومحرمات مضى زمانها ونحن زمان التقدم والرقي المادي والصناعي، يجب أن نلغي بعض المحرمات ونبيح بعض المحرمات ونرفض التقيد بهذه الشريعة ونعترض عليها بأهوائنا وعقولنا كل ذلك منافي للإيمان الصحيح، اسمع الله يقول عن المنافقين هؤلاء المنافقين عن رسول الله وهم منافقو هذا العصر: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ*وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)ثم قال: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) لما أنزل الله على نبيه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أشفق الصحابة من عموم هذه الآية، وأتوا رسول الله فجلسوا على الركب وقالوا يا رسول الله: كلفنا من الأعمال من نطيق الصلاة والصيام، وقد جاءت آية لا طاقة لنا بها، قال: "وما هي"، قالوا: قول الله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قال: "أتريدون أن تقولوا سمعنا وعصينا، قولوا سمعنا وأطعنا ثم أنزل الله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما قراءها القوم ودلت بهم ألسنتهم قال الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يتكلموا بها أَوْ يعملوا ".

فلنتقي الله، معاشر المسلمين يا كتاب الإسلام ويا رجال الإعلام ويا رجال الثقافة والفكر لنتقي الله في أنفسنا، ولنجعل أنفسنا أنصاراً لشرع الله، دعاةً لدين الله، حماةً لهذه العقيدة ولهذه الأخلاق والفضائل، إياكم أن تزل اللسان بما يندم العبد عليه يوم القيامة "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه"، إياكم والاعتراض على شرع الله، وتنقص هذه الشريعة، آمنوا بها حق الإيمان؛ فإن العبد لا يقوي إيمانه حتى يرضى بالله ربا، ويرضى بالإسلام دينا، ويرضى بمحمد نبياً رسولا، سنسأل عن ذلك عندما نضع في ألحادنا ويتخلى عنا أهلونا وأموالنا، فيسأل كل من ما ربك؟ ما دينك؟ ما علمك بهذا الرجل؟، فلنتقي الله في إسلامنا، ولنتقي الله في شريعة رمزنا صلى الله عليه وسلم، ولنحذر من الألسنة البذيئة، والكلمة الوقحة، ولنتأدب في ألفاظنا، فكم ألفاظ يدلي بها بعض الناس؟ لو محصت الحق حقا وحملتها على ظهرها لرأيتها قد تحكم على قائلها بخروجها عن الإسلام؛ ولأنه اعترض على الله ولم يقبل شرع الله، الله جلَّ وعلا حينما ذكر شبه المعترضين ذكرها ذا من لها منتقص لها، لما قال القائل: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) قال الله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) ذكرها ذا من لها ولأهلها لا مادح لها ولا آمناً فيها، فإن الواجب علينا أن نسمع ونطيع لما قال ربنا ولما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نخضع كل أمورنا لتوافق المنهج القويم الذي رضاه الله لنا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)، فنسأل الله الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، نسال الله الثبات على الحق، والاستقامة على الهدى، وأن يطهر قلوبنا من النفاق والضلال، وألسنتنا من الفحش والبذاءة إنه على كل شيء قدير.

واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلكم ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهدين الذين قضوا بالحق وبه قائمون، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، واجعل هذا البلاد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة إنك علة كل شيء قدير، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير سدده في أقواله وأعماله، ومنحه الصحة والعافية، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بن عبد العزيز لكل خير، سدده في أقواله وأعماله، وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

عبادَ الله،(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

سماحة المفتي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ 

الخوف والرجاء من الله

الخوف والرجاء من الله

الحمد لله وحده نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء قبله ولا بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وخلقه وأمره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين امنوا به وقاموا بنصرته، وجاهدوا معه في الله حق جهاده رضي الله عنهم وأرضاهم، وسلم تسليما كثيرا،   أما بعد:
أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، وتدبروا القرآن العظيم، فإن تدبر القرآن هو العلم الذي يتبعه العمل به، الله جل وعلا أمر بتدبر القرآن وحث على ذلك، لما في ذلك من الفائدة العظيمة للمسلم، فالمتدبر للقرآن يجد العجب العجاب في علومه وأساليبه ومن ذلك:

ما جاء في القرآن من ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، فلا تكاد تذكر آيات في الجنة إلا وتذكر قبلها أو بعدها آيات في النار، من أجل أن المسلم يكون بين الخوف الرجاء، الخوف من النار ورجاء الجنة، فلا يكون خائفا فقط ولا يكون راجيا فقط وإنما يكون بين الخوف والرجاء، فالخوف يحمله على العمل الصالح، وتقوى الله سبحانه، والرجاء يحمله على حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فهذه طريقة أهل الإيمان، بل هي طريقة الرسل: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) هذه طريقة الرسل وأتباعهم، أما من عبد الله بالخوف فقط فهذا من القانطين من رحمة الله، والله جل وعلا: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)، ولا يعبدونه بالرجاء فقط فتلك طريقة المرجئة الضلال، فالله جل وعلا يعبد بالخوف ويعبد بالرجاء، خوفا ورجاءا، خوفا من ناره، ورجاءا لجنته، فإذا رجاء فإنه لا ييئس من رحمة الله ولا يقنط من رحمة الله؛ بل يكون راجيا لربه محسنا للظن بالله سبحانه وتعالى، وهناك طائفة لا تعتبر الخوف والرجاء أبدا وإنما يقولون نعبد الله لأننا نحبه ولا نعبده خوفا من ناره ولا طمعا في جنته وهؤلاء هم الصوفية الضلال.

فعلى المسلم أن يتجنب هذه الطرائق وأن يأخذ طريق أهل الحق والصواب الذين يخافون ربهم ويرجونهم وينتفعون بآيات الوعد وبآيات الوعيد فيكونون على الاستقامة في حياتهم من غير انحراف إلى مذهب الخوارج أو انحراف إلى مذهب المرجئة أو انحراف إلى مذهب الصوفية؛ بل يكون المسلم على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل على طريقة كل الرسل وأتباعهم، هناك من أمن عذاب الله فقوم عاد لما وعظهم  نبيهم هود عليه السلام، قالوا له: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) نسأل الله العافية، ولما راءوا الريح العاتية المقبلة عليهم لتهلكم: (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، فهنا من المعاصرين من يسخر من الوعظ والتذكير ويقول أنتم تشددون على الناس، أنتم تسدون في وجوه الناس باب الأمل افتحوا لهم باب الأمل أدخلوا عليهم الفرح والسرور وهذه طريقة الضالين من قوم عاد وغيرهم.

فعلينا أن نحذر من هذه الأساليب الماكره وأن تأخذ طريق الحق، نرجوا رحمة ربنا فنعمل، ما يكفي الرجاء دون عمل نرجوا رحمة ربنا فنعمل لها، ونخاف من عذاب ربنا فنترك المعاصي والذنوب والسيئات، هذه طريقة الحق والصراط المستقيم، تدبروا القرآن ما تجدون ذكرا للجنة ونعيمها إلا وتجدون قبله أو بعده ذكرا للنار وعذابها وسمومها وحرها من أجل أن تعملوا للجنة وأن تخافوا من النار فتجتنبوا ما يوصل إليها لا يكفي الخوف من النار؛ بل لابد مع الخوف أن تعمل الأسباب التي تبعدك من النار ومن أعمالها هذه حكمة الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين، ومعلوم أن الجنة محفوفة بالمكاره مكاره النفس، الجنة لا تدخل بالأماني إنما تدخل برحمة الله وبأسباب الأعمال الصالحة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فالجنة لا تدرك بالأماني أو يقول الإنسان أنا مسلم أنا مؤمن هذه دعوة لابد لها من حقيقة ما هو إسلامك؟ وما هو إيمانك؟ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال كما قال الحسن البصري رحمه الله، هذه هو الإيمان.

فعلى المسلم أن لا يغتر بهذه الأساليب الخادعة وينسى الوعيد، الجنة محفوفة بالمكاره تحتاج إلى قيام ليل، إلى صيام نهار، تحتاج إلى الجهاد في سبيل الله، تحتاج إلى مشاق الطاعة، وهي شاقة على النفوس فلابد أن يحمل الإنسان نفسه على المكاره التي هي في رضا الله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك النار محفوفة بالشهوات التي تميل إليها كثير من النفوس الشهوات المحرمة، شهوات اللهو واللعب، شهوات الزنا والسرقة وشرب الخمور وأكل الربا وغير ذلك، الجنة ارتفاع تحتاج إلى ارتفاع وصعود وهذا يشق على النفوس، النار انحدار وسفول وهذا سهل على النفوس، الانحدار أسهل من الصعود، فعلينا أن نتذكر هذا وأن نصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى ومشاقها رجاء ثواب الله سبحانه وتعالى، وأن نترك ما حرم الله من الذنوب والمعاصي خوفا من الله سبحانه وتعالى.

فعلى المسلم أن يلزم هذا الطريق الذي هو طريق النبيين والمرسلين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا.  أما بعد:

أيها الناس،  كما تشاهدون اليوم ما يحيط بالمسلمين من الأخطار، ومن تهديد الأعداء، ومن اجتياح الديار، وإخراج أهلها منها، وتشريدهم من بيوتهم كما تشاهدون هذا تسمعونه صباحا ومساءا فماذا أفادنا هذا؟ هل رجعنا إلى الله؟ هل تبنا إلى الله؟ هل أخذنا بأنفسنا وأولادنا وإخواننا ومن حولنا إلى طاعة الله؟ تأمرنا بالمعروف وتنهينا عن المنكر؟ هل فعلنا أسباب النجاة التي تقي من هذه الشرور المحيطة بنا أم أننا مجرد نسمع الأخبار ولا نعتبر ولا نتعظ ونحن مقيمون في سلوتنا وغفلتنا؟ معرضون عما يحيط بنا؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، إنما أتى على جيراننا ليس بعيدا عنا ونحن قد فعلنا الأسباب التي تجذبه إلينا من معصية الله ومن تضيع أمر الله، ومن الغفلة الإعراض، لم نأخذ بأسباب السلامة إلا من شاء الله.

فاتقوا الله عباد الله، اعتبروا بما يجري، اعتبروا يا أولي الأبصار، كما قال الله جل وعلا: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) يعني: اليهود لما عصوا الله وعصوا رسوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) هذا ليس خاصا باليهود؛ بل هو كل من كان على شاكلتهم ممن عصى الله ورسوله ولم يأتمر بأوامر الله ورسوله وتباع هواه: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

ثم اعلموا رحمكم الله أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين  فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيَّنا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرَ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد أمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا وأصلح سلطاننا وولي علينا خيارنا وكفنا شر شرارنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللَّهُمَّ من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه وصرف عنا كيده وكفنا شره، اللَّهُمَّ اجعل ما صنعه الكفار من الأسلحة التي غرتهم وقوتهم على المسلمين، اللَّهُمَّ ردها في نحورهم، اللَّهُمَّ  ردها في صدورهم، اللَّهُمَّ  اجعلها وباءا عليهم وكف المسلمين شرهم إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ كفنا عنا بأس الذين كفروا فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). 

عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكُروه على نعمه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرَ، والله يعلمُ ما تصنعون.

الشيخ صالح بن فوزان الفوزان



خطبة الجمعة 14-04-1435هـ