بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

الإسنادُ تعريفُه , أهميّته , فضلُه

الإسنادُ (تعريفُه , أهميّته , فضلُه )
( تعريف الإسناد )
الإسناد في اللغة : مصدر أَسْنَدَ. تقول: أَسْنَدَ في الجِبل: صَعِد فيه. والسَّنَدُ لغةً: ما قابلك من الجبل، وعلا عن السفح (1) فهو: عملية الصعود في ذلك السند .
الإسناد في الاصطلاح: حكاية طريق المتن(2). وقال بعض العلماء: "هو رفع الحديث إلى قائله"(3) وقال بعضهم : سلسة الرجال الموصلة للمتن. والمعنى واحد.
وسُمِّي سنداً، لاعتماد الحفاظ عليه في الحكم على المتن بالصحة أو الضعف (4) ولم يفرّق بعضهم بين السند والإسناد كما قال السيوطي في ألفية الحديث:
والسندُ الإخبار عن طريقٍ *** متنٍ كالإسناد لدى فريقٍ (5) .
وفرّق بعضهم بأن السند المراد به المعنى الاصطلاحي والإسناد المراد به المعنى اللغوي, والصواب أنّ السياق يوضّح المراد .

مثال توضيحي :

المتن الإسناد
المتن هو ما ينتهي إليه الإسناد : 1- عن سميّ مولي أبي بكر
وهو هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: 2- عن أبي صالح السمّان
((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) .

( أهميّة الإسناد )

الإسناد نعمة من الله أكرم بها أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم لحفظ سننه ونقلها محفوظة مصونة، وخصّيصةٌ فاضلة فضلت بها من دون سائر الأمم، ولم يشأ المحدثون أن يكونوا سالبين تلك النعمة الربانية، مفرطين فيها, بل اهتموا بها, ورحلوا وانتقلوا وطافوا . قال العلامة علي القارئ في شرح النخبة: «أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنّة بالغة من السنن المؤكدة بل من فروض الكفاية»(6). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولكون الإسناد يُعلم به الحديث الموضوع من غيره، كانت معرفته من فروض الكفاية»(6) .
ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا من شأن الإسناد وجعلوه من الدين، فقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء»(8) وزادوا : فإن قيل له: من حدّثك؟ بقي» أي بقي ساكتا مفحَما، أو بقي ساكتا منقطعا عن الكلام(9). وصدق الإمام بن المبارك فلو أنَّ الدين جاء بنقلٍ غير موثّق أو نقلٍ غير معتمدٍ عليه لتكلم القاصي والداني ولصحح الناشئ والشادي ولحلل وحرّم كل من هبّ ودب, ولأصبح الدين فوضى لا عارم لها ولا منتهى, ولكن لمّا تكفّل الله بحفظ السنة المطهّرة كلّف رجالاً جعلهم الله من خيار البشر وهم الصحابة الكرام فنقلوا إلى من دونهم من التابعين ثم إلى أتباع التابعين حتى وصل إلينا بالنقل الصحيح لذا فقد قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي : " لا يجوز أن يكون الرجل إماماً ، حتىّ يعلم ما يصح ممّا لا يصح ، وحتى لا يحتج بكل شيء ، وحتى يعْلم مخارج العلم " (10)
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «مِنْهَاجِ السُّنَّةِ« (7/37) "والإسْنَادُ مِنْ خَصَائِصِ هَذِه الأمَّةِ، وهُو مِنْ خَصَائِصِ الإسْلامِ، ثُمَّ هُو في الإسْلامِ مِنْ خَصَائِصِ أهْلِ السُّنَّةِ, والرَّافِضَةُ أقَلُّ عِنَايَةً بِه، إذْ لا يُصَدِّقُوْنَ إلاَّ بِما يُوَافِقُ هَوَاهُم، وعَلامَةُ كَذِبِه عِنْدَهُم، أنَّه يُخَالِفُ هَوَاهُم" انتهى .

( فضل الإسناد ) امتاز علم الإسناد بأشياء جليلة نوردها بشكل ميسّر :

(1) كونه ممّا خصّ الله به أمة محمّد عن سائر الأديان المتّبعة فقد روى الخطيب البغدادي عن محمد بن حاتم بن المظفر أنه قال: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات..." (11) .
(2) علامةٌ على أهل السنة والجماعة, إذ بقيت الطوائف المنحرفة تروي الأحاديث الضعيفةَ والموضوعة التي توافق هواهم, ومن الأدلّة على ذلك أنك تجد في كتب الصحاح وكتب السنن وكتب المسانيد أحاديثَ يرويها أصحابها بالأسانيد الصحيحية الخالية من النقد البناء .
(3) سلاح المؤمن يتّقي به من النقد, وسلّم يصعد به. قال الثوري الإسناد سلاح المؤمن فمن لم يكن معه سلاح فبأيّ سلاحٍ يقاتل . قال سفيان ابن عيينة حدث الزهري يوماً بحديث فقلت هاته بلا إسناد فقال الزهري أترقي السطح بلا سلم (12) . وشبه بعضهم الحديث من غير إسناد بالبيت بلا سقف ولا دعائم ونظموه بقولهم :
والعلم إن فاته إسناد مسنده كالبيت ليس له سقف لا طنب
(4) اتصاله إلى النبي محمدٍ –عليه السلام- وانتظامه وقدحه إن علّ, لذا قال بعضهم: ولَو لم يَكُنْ في فَضْلِ الإسْنَادِ إلاَّ انْتِظَامُ الرَّاوِي في سِلْسِلَةٍ سَلِسَةٍ مَعَ اسْمِ المُصْطَفَى ?؛ لَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وفَضْلاً ونُبْلاً!(13) .
(5) شرف رجال الأسانيد, قال يزيد بن زريع –رحمه الله-: لكل دين فرسان،وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد (14 (ومن ثم رغّب النبي صلى الله عليه وسلم بنقل سنته إلى من بعده ودعا له بالنضارة فقال صلى لله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها إلى من يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .
(6) بفقد علم الإسناد يفقد العلم, قال الأوزاعي: "ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد " .

_________________________
(1) انظر: القاموس المحيط (ص370 ) .
(2) نزهة النظر للحافظ ابن حجر: (ص34)، وفتح المغيث للسخاوي (1/14) .
(3) المنهل الروي في علوم الحديث النبوي لبدر الدين بن جماعة (1/81) .
(4) الخلاصة في أصول الحديث للطيبي (ص33) .
(5) إسعاف ذوي الوطر بشرح منظومة الأثر" لمحمد آدم الأثيوبي (1/13) "المنهل الروي" لبدر الدين ابن جماعة ص"29".
(6) ص (194).
(7) مرقاة المفاتيح للعلامة علي القارئ، 1/218.
(8) مقدمة صحيح الإمام مسلم 1/15، وجامع الترمذي كتاب العلل 5/695، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي 1/16، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 6.
(9) انظر تحقيق كتاب ""الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة" للإمام اللكنوي. حاشية ص 33.
(10) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/476) .
(11) شرف أصحاب الحديث: (ص40) .
(12) انظر : (سير أعلام النبلاء) للذهبي (7/272) و (قواعد التحديث في فنّ المصطلح) (1/ 171) .
(13) انظر (الوَجَازَةُ في الأثْبَاتِ والإجَازَة) (1/20) .
(14) (المدخل إلى الإكليل) للحاكم (1/2) .
منقول

أهمية الإسناد

أهمية الإسناد :
إنّ الله سبحانه وتعالى شرّف هَذِهِ الأمة بشرف الإسناد ، وَمَنَّ عَلَيْهَا بسلسلة الإسناد واتصاله، فهو خصيصة فاضلةٌ لهذه الأمة وليس لغيرها من الأمم السابقة ، وَقَدْ أسند الْخَطِيْب في كتاب " شرف أصحاب الْحَدِيْث " (1) إلى مُحَمَّد بن حاتم بن المظفر قَالَ : (( إنّ الله أَكْرَمَ هَذِهِ الأمة وشرّفها وفضّلها بالإسناد ، وليس لأحد من الأمم كلها ، قديمهم وحديثهم إسنادٌ ، وإنما هِيَ صحف في أيديهم وَقَدْ خلطوا بكتبهم أخبارهم ، وليس عندهم تمييز بَيْنَ ما نزل من التوراة والإنجيل مِمَّا جاءهم بِهِ أنبياؤهم ، وتمييز بَيْنَ ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار الَّتِيْ أخذوا عن غَيْر الثقات . وهذه الأمة إنما تنُصّ الْحَدِيْث من الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حَتَّى تتناهى أخبارهم ، ثُمَّ يبحثون أشد البحث حَتَّى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ ، والأضبط فالأضبط والأطول مجالسةً لِمَنْ فوقه ممن كَانَ أقل مجالسةً . ثُمَّ يكتبون الْحَدِيْث من عشرين وجهاً وأكثر حَتَّى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عداً.فهذا من أعظم نعم الله تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأمة )) .
وَقَالَ أبو علي الجياني ( 2) : (( خصّ الله تَعَالَى هَذِهِ الأمة بثلاثة أشياء لَمْ يعطها مَنْ قَبْلَهَا مِنَ الأمم : الإسناد ، والأنساب ، والإعراب )) (3) .
وَقَالَ الْحَاكِم النيسابوري : (( فلولا الإسناد وطلب هَذِهِ الطائفة لَهُ ، وكثرة مواظبتهم عَلَى حفظه لدرس منار الإِسْلاَم ، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فِيْهِ بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد ، فإنَّ الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فِيْهَا كانت مبتراً ، كَمَا حَدَّثَنَا أبو العباس مُحَمَّد بن يعقوب (4)، قَالَ : حَدَّثَنَا العباس بن مُحَمَّد الدوري (5)، قَالَ : حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي الأسود ، قَالَ : حَدَّثَنَا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني (6)، قَالَ: حَدَّثَنَا بقية ، قَالَ حَدَّثَنَا عتبة بن أبي حكيم (7)، أنه كَانَ عِنْدَ إسحاق بن أبي فروة ، وعنده الزهري ، قَالَ: فجعل ابن أبي فروة يقول: قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ الزهري : قاتلك الله يا ابن أبي فروة ، ما أجرأك عَلَى الله ، ألا (8) تسند حديثك ؟ تُحَدِّثُنا بأحاديث ليس لها خُطُم (9) ، ولا أَزِمَّة (10) )) (11) .
هكذا أدرك الْمُحَدِّثُوْنَ – منذ الصدر الأول – ما للإسناد من أهمية بالغة في الصناعة الحديثية ؛ إِذْ هُوَ دعامتها الأساسية ومرتكزها في أبحاث العدالة والضبط .
وكذلك أدرك الْمُحَدِّثُوْنَ أنه لا يمكن نقد الْمَتْن نقداً صحيحاً إلا من طريق البحث في الإسناد ، ومعرفة حلقات الإسناد والرواة النقلة ، فلا صحة لمتن إلا بثبوت إسناده .
وأعظم مثال عَلَى اهتمام المسلمين بالإسناد هُوَ ما ورثوه لنا من التراث الضخم الكبير الهائل ، وما سخروا للإسناد من ثروة علمية في كتب الرجال .
والبحث في الإسناد مهم جداً في علم الْحَدِيْث ، من أجل التوصل إلى مَعْرِفَة الْحَدِيْث الصَّحِيْح من غَيْر الصَّحِيْح ، إِذْ إنّه كلما تزداد الحاجة يشتد نظام المراقبة ، فعندما انتشر الْحَدِيْث بَعْدَ وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اشتد الاهتمام بنظام الإسناد ، وعندما بدأ السهو والنسيان يظهران كثر الالتجاء إلى مقارنة الروايات ، حَتَّى أصبح هَذَا المنهج مألوفاً معروفاً عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ ؛ إِذْ إنه لا يمكن الوصول إلى النص السليم القويم إلا عن طريق البحث في الإسناد ، والنظر والموازنة والمقارنة فِيْمَا بَيْنَ الروايات والطرق . من هنا ندرك سر اهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ بِهِ ، إذ جالوا في الآفاق ينقّرون أَوْ يبحثون في إسنادٍ ، أَوْ يقعون عَلَى علة أَوْ متابعة أَوْ مخالفة ، وكتاب " الرحلة في طلب الْحَدِيْث " (12) للخطيب البغدادي خير شاهد عَلَى ذَلِكَ .
وتداول الإسناد وانتشاره معجزة من المعجزات النبوية (13) الَّتِيْ أشار إِلَيْهَا المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله : (( تَسْمَعُون ويُسْمَع منكم ويُسْمَع مِمَّنْ يَسْمَع منكم )) (14).
ثُمَّ إنَّ للإسناد أهمية كبيرة عِنْدَ المسلمين وأثراً بارزاً ؛ وذلك لما للأحاديث النبوية من أهمية بالغة ، إذ إنَّ الْحَدِيْث النبوي الشريف ثاني أدلة أحكام الشرع ، ولولا الإسناد واهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ بِهِ لضاعت علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولاختلط بِهَا ما ليس مِنْهَا ، ولما استطعنا التمييز بَيْنَ صحيحها من سقيمها ؛ إذن فغاية دراسة الإسناد والاهتمام بِهِ هِيَ مَعْرِفَة صحة الْحَدِيْث أو ضعفه ، فمدار قبول الْحَدِيْث غالباً عَلَى إسناده ، قَالَ القاضي عياض : (( اعلم أولاً أنّ مدار الْحَدِيْث عَلَى الإسناد فِيْهِ تتبين صحته ويظهر اتصاله ))(15). وَقَالَ ابن الأثير (16) : (( اعلم أنّ الإسناد في الْحَدِيْث هُوَ الأصل ، وعليه الاعتماد ، وبه تعرف صحته وسقمه )) (17) .
وهذا المعنى مقتبس من عبارات المتقدمين .
قَالَ سفيان الثوري : (( الإسناد سلاح المؤمن ، إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سلاح فبأي شيء يقاتل ؟ )) (18) .
وهذا أمير المؤمنين في الْحَدِيْث شعبة بن الحجاج (19) يقول : (( إنما يعلم صحة الْحَدِيْث بصحة الإسناد )) (20) .
وَقَالَ عَبْد الله بن المبارك : (( الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء )) (21).
وعلى هَذَا فالإسناد لابد مِنْهُ من أجل أن لا ينضاف إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما ليس من قوله. وهنا جعل الْمُحَدِّثُوْنَ الإسناد أصلاً لقبول الْحَدِيْث ؛ فلا يقبل الْحَدِيْث إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ إسناد نظيف ، أوله أسانيد يتحصل من مجموعها الاطمئنان إلى أنّ هَذَا الْحَدِيْث قَدْ صدر عمن ينسب إِلَيْهِ ؛ فهو أعظم وسيلة استعملها الْمُحَدِّثُوْنَ من لدن الصَّحَابَة رضي الله عنهم إلى عهد التدوين كي ينفوا الخبث عن حَدِيْث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، ويبعدوا عَنْهُ ما ليس مِنْهُ .
وَقَدْ اهتم الْمُحَدِّثُوْنَ – كَمَا اهتموا بالإسناد – بجمع أسانيد الْحَدِيْث الواحد ، لما لِذَلِكَ من أهمية كبيرة في ميزان النقد الحديثي ؛ فجمع الطرق كفيل ببيان الخطأ ، إذا صدر من بعض الرُّوَاة ، وبذلك يتميز الإسناد الجيد من الرديء ، قَالَ علي بن المديني : (( الباب إذا لَمْ تجمع طرقه لَمْ يتبين خطؤه )) (22) .
ثُمَّ إنّ لجمع الطرق فائدة أخرى ؛ فيستفاد تفسير النصوص لبعضها ، إِذْ إنّ بعض الرُّوَاة قَدْ يحدث عَلَى المعنى ، أو يروي جزءاً من الْحَدِيْث ، وتأتي البقية في سند آخر ؛ لذا قَالَ الإمام أحمد بن حَنْبَل : (( الْحَدِيْث إذا لَمْ تجمع طرقه لَمْ تفهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضاً )) (23) .
وَقَالَ الحافظ أبو زرعة العراقي (24) : (( الْحَدِيْث إذا جمعت طرقه تبين المراد مِنْهُ ، وليس لنا أن نتمسك برواية ونترك بقية الروايات )) (25) .
ويعرف – أَيْضاً – بجمع الطرق : الْحَدِيْث الغريب متناً وإسناداً ، وَهُوَ الَّذِيْ تفرد بِهِ الصَّحَابِيّ أَوْ تفرد بِهِ راوٍ دون الصَّحَابِيّ ، ومن ثَمَّ يعرف هل المتفرد عدل أو مجروح ، فتكرار الأسانيد لَمْ يَكُنْ عبثاً وإنما لَهُ مقاصد وغايات يعلمها المشتغلون بهذه الصنعة . قَالَ الإمام مُسْلِم في ديباجة كتابه " الجامع الصَّحِيْح " : (( وإنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها عَلَى ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس عَلَى غَيْر تكرار ، إلا أن يأتي موضع لا أستغني فِيْهِ عن ترداد حَدِيْث فِيْهِ زيادة معنى أَوْ إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك ؛ لأن المعنى الزائد في الْحَدِيْث المحتاج إِلَيْهِ يقوم مقام حَدِيْث تام ، فلابد من إعادة الْحَدِيْث الَّذِيْ فِيْهِ ما وصفنا من الزيادة ، أو أن يفصل ذَلِكَ المعنى من جملة الْحَدِيْث عَلَى اختصاره إذا أمكن ، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيأته إذا ضاق ذَلِكَ أسلم )) (26)

.............................. ............................
( ) شرف أصحاب الْحَدِيْث : 40 ( 76 ) .

(2) أبو علي الحسين بن مُحَمَّد بن أحمد الجياني ، ولد سنة ( 427 ه‍ ) ، كَانَ إماماً في الْحَدِيْث ، وبصيراً بالعربية والشعر والأنساب ، لَهُ كتب مفيدة مِنْهَا : " تقييد المهمل " ، توفي سنة ( 498 ه‍ ) . 
انظر: وفيات الأعيان 2/195،وتذكرة الحفاظ، للذهبي 4/1233 و1234، ومرآة الجنان 3/36-37.
(3) قواعد التحديث : 201 .
(4) مُحَمَّد بن يعقوب بن يوسف الأصم ، أبو العباس الأموي ، حّدث بكتاب الأم للشافعي عن الربيع ، وَكَانَ ثقة كَثِيْر الرحلة والرواية ، مَعَ ضبط الأصول ، توفي سنة ( 346 ه‍ ). 
انظر: الأنساب 1/187-189 ،وسير أعلام النبلاء 15/452 ، وشذرات الذهب 2/473 .
(5) الإمام الحافظ أبو الفضل ، عَبَّاس بن مُحَمَّد بن حاتم بن واقد الدوري ثُمَّ البغدادي ، مولى بني هاشم ، أحد الأثبات المصنفين ، ولد سنة ( 185 ه‍ ) ، رَوَى عن الإمام أحمد توفي سُنَّةُ (271 ه‍). 
تهذيب الكمال 4/75 ( 3129 ) ، وسير أعلام النبلاء 12/522 ، والتقريب ( 3189 ) .
(6) إبراهيم بن إسحاق بن عيسى البناني ، مولاهم ، أبو إسحاق الطالقاني ، نزيل مرو ، قدم بغداد وحدّث بِهَا ، صنف كتاب " الرؤيا " وكتاب " الغرس " وغيرهما ، توفي بمرو سنة ( 215 ه‍ ). 
تاريخ بغداد 6/24، وتهذيب الكمال 1/99 (141)، وتاريخ الإِسْلاَم : 51-52 وفيات ( 215 ه‍ ) .
(7) عتبة بن أبي حكيم الهمداني ثُمَّ الشعباني ، أبو العباس الشامي الأردني الطبراني : صدوق يخطئ كثيراً ، مات بصور سنة ( 147 ه‍ ) . تهذيب الكمال 5/93 و 94 ( 4360 ) ، والتقريب ( 4427 ) ، وتهذيب التهذيب 7/94 و 95.
(8) وقع في المطبوع : (( لا )) ، تحريف والتصحيح من نسختنا الخطية المصورة عن الأصل المحفوظة في مكتبة أوقاف بغداد .
(9) خطم : من الدابة مقدمة أنفها ، والخطم : جمع خطام وَهُوَ الحبل الَّذِيْ يقاد بِهِ البعير . لسان العرب 12/186 ، وتاج العروس 8/281 الطبعة القديمة مادة ( خطم ) .
(10) زمّ الشيء يزمه زماً فانزم : شده ، والزمام ما زم بِهِ ، والجمع أزمة ، وزممت البعير خطمته . لسان العرب 12/272 ، وتاج العروس 8/328 الطبعة القديمة مادة ( زمم ) .
(11) مَعْرِفَة علوم الْحَدِيْث : 6 . وهَذِهِ القصة في أدب الإملاء والاستملاء : 5 .
(12) هُوَ كتاب فريد في بابه ، جمع فِيْهِ الْخَطِيْب أخباراً نادرة من أخبار العلماء في رحلاتهم من أجل الْحَدِيْث الواحد ، وما أشبه ذَلِكَ . وَقَدْ صدر الكتاب بأحاديث وآثار تدلل عَلَى ذَلِكَ وترغب فِيْهِ ، وَقَدْ طبع الكتاب في بيروت بطبعته الأولى عام 1975 في دار الكتب العلمية بتحقيق : د. نور الدين عتر .
(13) بغية الملتمس : 23 .
(14) أخرجه أحمد 1/351 ، وأبو داود ( 3659 ) ، وابن حبان ( 92 ) ، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل" : 207 ( 92 ) ، والحاكم في " المستدرك " 1/95 ، وفي مَعْرِفَة علوم الْحَدِيْث : 27 و 60 ، والبيهقي في " السنن " 10/250 وفي " الدلائل " 6/539 ، والخطيب في " شرف أصحاب الْحَدِيْث " (70) ، وابن عَبْد البر في " جامع بَيَان العلم " 1/55 و2/152 ، والقاضي عياض في " الإلماع ": 10. من طرق عن الأعمش ، عن عَبْد الله بن عَبْد الله ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عَبَّاسٍ ، بِهِ مرفوعاً .
وصححه الْحَاكِم ، وَلَمْ يتعقبه الذهبي ، وَقَالَ العلائي في " بغية الملتمس " : 24 : (( هَذَا حَدِيْث حسن من حَدِيْث الأعمش )) .
وأخرجه البزار ( 146 ) ، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " ( 91 ) ، والطبراني في " الكبير " (1321)، والخطيب في "شرف أصحاب الْحَدِيْث " ( 69 ) ، من حَدِيْث ثابت بن قيس بلفظ : 
(( تسمعون ويُسمع منكم ويُسمع من الَّذِيْنَ يسمعون منكم ثُمَّ يأتي من بَعْدَ ذَلِكَ قوم سمان يحبون السِّمَن،يشهدون قَبْلَ أن يُسألوا )).
(15) الإلماع : 194 .
(16) المبارك بن مُحَمَّد بن عَبْد الكريم الشيباني ، العلامة مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير الجزري ، ثُمَّ الموصلي ، من مصنفاته : "جامع الأصول" و "النهاية" ، ولد سنة ( 544 ه‍ ) ، وتوفي سنة ( 606 ه‍ ) . 
وفيات الأعيان 4/141 ، وتاريخ الإِسْلاَم : 225-226 وفيات ( 606 ه‍ ) ، سير أعلام النبلاء 21/488 .
(17) جامع الأصول 1/9-10 .
(18) أسنده إِلَيْهِ الْخَطِيْب البغدادي في " شرف أصحاب الْحَدِيْث " : 42 ( 81 ) .
(19) هُوَ شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي ، مولاهم ، أبو بسطام الواسطي ، ثُمَّ البصري : ثقة حافظ متقن، كَانَ الثوري يقول : هُوَ أمير المؤمنين في الْحَدِيْث ، وَهُوَ أول من فتش بالعراق عن الرجال ، وذب عن السنة ، وَكَانَ عابداً ، مات سنة ( 160 ه‍ ) . 
تهذيب الأسماء واللغات 1/244-246 ، وسير أعلام النبلاء 7/22 و 227 ، التقريب ( 2790 ) .
(20) التمهيد 1/57 .
(21) مقدمة صَحِيْح مُسْلِم 1/12 ، وطبعة فؤاد عَبْد الباقي 1/15 ، وشرف أصحاب الْحَدِيْث : 41 (78)، والإلماع : 194 .
(22) الجامع لأخلاق الرَّاوِي وآداب السامع 2/212 ( 1641 ) ، ومعرفة أنواع علم الْحَدِيْث : 82 ، وطبعتنا : 188 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/227 ، وطبعتنا 1/275، وتدريب الرَّاوِي 1/253 ، وتوجيه النظر 2/601 .
(23 ) الجامع لأخلاق الرَّاوِي 2/212 ( 1640 ) .
(24) هُوَ الإمام العلامة الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عَبْد الرحيم بن الحسين العراقي الأصل المصري الشَّافِعِيّ،ولد سنة (762 ه‍)، وبكر بِهِ والده بالسماع فأدرك العوالي، وانتفع بأبيه جداً ، ودرّس في حياته، توفي سنة (826 ه‍)، من تصانيفه: "الإطراف بأوهام الأطراف"و"تكملة طرح التثريب" و " تحفة التحصيل في ذكر المراسيل" وغيرها. 
انظر : طبقات الشافعية ، لابن قاضي شهبة 4/80 ، ولحظ الألحاظ : 284،والضوء اللامع 1/336،وحسن المحاضرة 1/363،ومقدمتنا لكتاب شرح التبصرة والتذكرة 1/34.
(25) طرح التثريب 7/181 .
(26) صَحِيْح مُسْلِم 1/3 ، و 1/ 4-5 طبعة مُحَمَّد فؤاد .


منقول :

الاثنين، 29 مايو 2017

إفادة الصُّوام بما على المكلف يدركه رمضان وعليه صيام لم يقضه مِن رمضان قديم

إفادة الصُّوام بما على المكلف يدركه رمضان وعليه صيام لم يقضه مِن رمضان قديم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإن مَن أخَّر صيام قضاء ما فاته مِن شهر رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر له حالان:

الحال الأول: أن يؤخره لعذر، كمرض يمتد به من رمضان إلى رمضان آخر.

وهذا لا كفارة عليه، لأنه لم يفرِّط، ولا يجب عليه إلا قضاء الأيام التي فاتته.

وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم مِن السلف الصالح فمن بعدهم.

 وحكاه الحافظ ابن عبد البر المالكي – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 227) عن:

الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وطاوس، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه.

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):

فأما مَن ترك قضاءه لعلة تبيح له ترك القضاء، فإنه لا يجب عليه مع القضاء في ذلك إطعام، وإنما عليه القضاء خاصة على مذهب ابن عباس وأبي هريرة الذي رويناه عنهما.اهـ

وأخرج عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7630) بسند صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال:

(( فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ »)).

الحال الثاني: أن يؤخره مع تمكنه مِن القضاء قبل دخول رمضان الثاني عليه.

وهذا عليه القضاء بسبب الفطر، والكفارة بإطعام مسكين عن كل يوم أخَّرَه، لأجل تأخير القضاء مع القدرة.

وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم مِن السلف الصالح فمن بعدهم.

وقد نسبه إليهم:

ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري”(4/ 190)، وبدر الدين العيني الحنفي في “عمدة القاري”(11/ 55)، والشوكاني في “نيل الأوطار”(4/ 278).

ومن حجتهم على ذلك:

الآثار الواردة عن الصحابة – رضي الله عنهم – في وجوب الكفارة بالإطعام من غير خلاف يُعرف بينهم.

ومن هذه الآثار:

أولًا: أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.

إذ قال ابن الجعد – رحمه الله – في “مسنده”(235):

أنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، قال:

(( سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ فِي رَمَضَانَ، وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَمْ يَصُمْهُ؟ قَالَ: «يَصُومُ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيَصُومُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ» )).

وإسناده صحيح.

وقال عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7628):

عن معمر، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال:

(( كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا تَتَابَعَ عَلَيْهِ رَمَضَانَانَ قَالَ: «تَاللَّهِ أَكَانَ هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِحْدَى مِنْ سَبْعٍ يَصُومُ شَهْرَيْنِ، وَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» )).

وإسناده صحيح.

وأخرج نحوه الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(887 و 888) مِن طريقين آخرين عن ميمون بن مهران.

ونقل ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734) تصحيح البيهقي لأثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.

وصححه النووي – رحمه الله – في كتابه “المجموع”(6/ 364).

ثانيًا: أثر أبي هريرة – رضي الله عنه -.

إذ قال الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2343):

حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا معاذ – يعني: ابن المثنى -، ثنا مسدد ثنا يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة: في رجل مرض في رمضان ثم صَحَّ ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر؟ قال:

(( يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, فَإِذَا فَرَغَ فِي هَذَا صَامَ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ )).

وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ

وله شاهد أخرجه عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7620)، فقال:

عن معمر، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال:

(( مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ صَحَّ، فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الَّذِي أَدْرَكَ، ثُمَّ صَامَ الْأَوَّلَ، وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ )).

قال معمر: ولا أعلم كلهم إلا يقولون هذا في هذا.اهـ

وأخرج نحوه الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2344) مِن طريق مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة.

وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ

وأخرج أيضًا (2348) نحوه مِن طريق عطاء، عن أبي هريرة.

وقال عقبه: هذا إسناد صحيح.اهـ

وقال ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734):

ثم رواه الدارقطني موقوفًا على أبي هريرة من طرق، ثم قال في كل منهما: هذا إسناد صحيح، وكذا قال البيهقي في “خلافياته”.اهـ

وله شاهد آخر عن عند الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(892) إذ قال:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا قتادة، عن أبي الخليل، عن طاوس، عن أبي هريرة، مثله.

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – حمه الله – كما في “مختصر اختلاف العلماء(2 / 22-23 – مسألة رقم:505) :

إلا أن هذه الجماعة مِن الصحابة قد اتفقت على وجوب الإطعام بالتفريط إلى دخول رمضان آخر، وكان ابن أبي عمران يحكي أنه سمع يحيى بن أَكْثَم يقول:

وجدته – يعنى: وجوب الإطعام في ذلك عن ستة مِن الصّحابة، ولم أجد لهم مِن الصحابة مخالفًا.اهـ

ونقله أيضًا عن يحيى بن أكثم:

ابن عبد البر المالكي – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 225-226).

وقال موفق الدين ابن قدامة الحنبلي – رحمه الله – في كتابه المغني”(4 / 401) في ترجيح هذا القول بآثار الصحابة:

ولنا:

ما رُوي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، أنهم قالوا: (( أَطْعِمْ عن كل يوم مسكينًا )) ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلافهم.اهـ

وقال أبو الحسن الماوردي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(3 / 451):

وإن أخَّره غير معذور فعليه مع القضاء الكفارة عن كل يوم بمُد من طعام، وهو إجماع الصحابة.اهـ

وقال أيضًا (3 / 452):

مع إجماع ستة من الصحابة لا يُعرف لهم خلاف.اهـ

وقال صاحب كتاب “الإنباه” – رحمه الله – كما في “الإقناع بمسائل الإجماع”(2/ 747 – رقم:1345) في ترجيح هذا القول:

وبه قال عديد أهل العلم، وهو عندنا إجماع الصحابة.اهـ

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):

غير أنا نظرنا إلى ما رُوي عن ابن عباس وأبي هريرة فِي إيجابهما الإطعام على مَن وجب عليه قضاء رمضان، فلم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر، وقد أمكنه صومه مع القضاء الذي أوجبناه عليه في ذلك، فلم نره منصوصًا في كتاب الله عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، ولا وجدناه يثبت بالقياس، فعقلنا بذلك أنهما لم يقولاه رأيًا، ولا استنباطًا، وإنما قالاه توقيفًا، فكان القول به حسنًا عندنا، ولم نجد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواهما إسقاط الإطعام في هذا، فقلنا به، وخالفنا أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا في نفيهم وجوب الإطعام في ذلك.اهـ

وقد ذهب الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه والمزني وداود الظاهري – رحمهم الله – إلى:

أنه ليس عليه إلا القضاء فقط.

واحتُج لهم بقوله تعالى:

{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.

وقالوا:

لم يُذكر في الآية إلا القضاء، فلا نلزم المؤخِّر إلا به وحده.

وأجيب عن استدلالهم هذا بجوابين:

الأول: أن الصحابة – رضي الله عنهم – أدرى بمدلول الآيات القرآنية وأحكامها مِن غيرهم، ولو استقام هذا الاستدلال لكانوا أوَّل مَن قال به.

كيف وقد نصَّ جماعة مِن العلماء – رحمهم الله – على أنه لا يُعرف بينهم خلاف في لزوم الإطعام بالتأخير.

الثاني: أن متعلق الكفارة تأخير القضاء لا الفطر.

إذ قال أبو لحسن الماوردي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(2/ 452):

فأما قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ } فلا دليل فيه، لأن الفدية لم تجب بالفطر، وإنما وجبت بالتأخير.اهـ

وهذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكتابة الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.

وكتبه:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.



ها قد أقبل شهر رمضان فأحسنوا فيه العمل

ها قد أقبل شهر رمضان فأحسنوا فيه العمل

الخطبة الأولى:

الحمد لله الجواد الكريم، الذي جعل الصيام جُنَّة للصائمين من النار، ومكفرًا للخطايا والآثام، ومضاعفًا للأجر، ورافعًا للدرجات، ودافعًا إلى زيادة البِّر والإحسان، وشافعًا لمن كان مِن أهله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العظيم الكريم، البَّر الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مَن صلى لربه وقام، وأتقى مَن حج وصام، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الكرام، ما تعاقب ليل مع نهار.

أما بعد، أيها المسلمون:

فلا تزال نعم الله – جل وعلا – علينا تتابع، وإحسانه لنا يكثر حينًا بعد حين، وكل يوم نحن منها في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحقها أخرى، يرحم بها عباده الفقراء إليه، والمحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه.

ألا وإن مِن أجلّ هذه النعم، وأرفع هذه العطايا، وأجمل هذه المِنن، إيجابه – عز وجل – علينا صوم شهر رمضان، وما أدراك ما رمضان، ثم ما أدراك ما رمضان، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن رمضان: (( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ )).

فيا لسعادة مَن أمسك بزمام نفسه في هذا الشهر العظيم المبارك، وشمَّر عن ساعد الجِّد، فسلك بها سبيل الجنة، وجنَّبها سُبل النار، والشقاء فيها، ويا خسارة مَن سلك بها طريق المعصية والهوان، وأوردها موارد الهلاك، وأغضب ربه الرحمن، وقد يُسِّرت له الأسباب، ففتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين وصُفِّدت.

أيها المسلمون:

مَن لم يتب في شهر رمضان فمتى يتوب؟ ومَن لم يُقلع عن الذنوب والخطايا في رمضان فمتى يُقلع، ومَن لم يرحم نفسه التي بين جنبيه وقت الصيام فمتى يرحمها؟ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعِد المنبر فقال مُرهِّبًا: (( آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ )).

فيا لحسرة وبؤس وشِقوة مِن دخل في دعوة جبريل – عليه السلام -، وتأمين سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم عليها، فأبعده الله وأخزاه وأهانه.

فيا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب   *   حتى عصى الله في شهر شعبان

لقد أظلك شـهر الصـوم بعـدهما   *   فلا تُصيره أيضًا شهر عصيـان

ويا باغي الخير أقبل على الصالحات واستكثِر، ويا باغي الشر أقصِر عن الذنوب والآثام واهجر.

فإن كنت تريد مغفرة الخطايا، وإذهاب السيئات فعليك بالصيام، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).

وإن كنت تريد مضاعفة الحسنات، فعليك بالصيام، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي )).

وإن كنت تريد أن تكون مِن أهل الجنة المنَعَّمِين السعداء فلا تغفل عن صوم شهر رمضان، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في حجة الوداع فقال: (( صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ )).

وإن كانت نفسك تتوق لأن تكون مِن أهل المنازل العالية الرفيعة، فدونك شهر رمضان، فقد ثبت أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟، قَالَ: مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ )).

أيها المسلمون:

ها قد أقبل عليكم  شهر رمضان، شهرٌ جعل الله صيامه أحد أركان دينه الإسلام، وأصوله الكبار، ودعائمه العظام، شهرٌ نزل فيه القرآن، شهرٌ تصفَّد فيه الشياطين، وتُفَتَّح فيه أبواب الجنَّة، وتُغَلَّق فيه أبواب النار، فاحرصوا غاية الحرص، على أن تكونوا مِمن يُحقق الغرض مِن صيامه، ألا وهو تقوى الله سبحانه، ألا وهو أن يزجركم الصيام ويمنعكم ويبعدكم عن معصية ربكم، ويحثكم ويقويكم على العبادة والطاعة، ويجعلكم معها في ازدياد، طاعة وامتثالًا لربكم، حيث قال – عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

أيها المسلمون:

إنَّ الصُّوام بتركك الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات كُثر جدًا، وهو سهل عليهم، وقد وثبت عن ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ )).

إلا أنَّ الصائم الموفق المسدد هو مَن صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرَّفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يَجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يُفسد صومه، وإن استمع لم يسمع ما يُضعف صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وتكون أعماله جميعها طيبة زكيه مرضِيَّة، فكما أن الطعام والشراب يقطعان الصيام ويفسدانه، فكذلك الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته، حتى تصَيِّر صاحبه بمنزلة مَن لم يصم، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )).

والمراد بالزور: كل قول محرم، فيدخل فيه الكذب، وتدخل فيه شهادة الزور والغيبة والنميمة والقذف والإفك والبهتان والغناء والاستهزاء والسخرية وسائر ألوان الباطل مِن الكلام.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ )).

أيها المسلمون:

احذروا في شهر رمضان أشدَّ الحذر، وانتبهوا غاية الانتباه، حتى لا تكونوا مِمن ليس لله حاجة في تركه الطعام والشراب، ومِمن حضه مِن صيامه الجوع والعطش، واجتنبوا مسببات ذلك، وعُفُّوا أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وباقي جوارحكم عن جميع المحرمات، وفي سائر الأوقات، وبالليل والنهار، وقوموا بما يُعينكم على ذلك، واعلموا أن إكثار الجلوس في المساجد نهار رمضان مِن أعظم مسببات حفظ الصيام وسلامته عن الآثام، وزيادة الأجور عليه، وقد صحَّ عن أبي المتوكل الناجي – رحمه الله – أنه قال: (( كان أَبِو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا )).

نفعني الله وإياكم بما سمعتم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد الأمين المأمون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي الفضل والإكرام، والجود والإنعام، وصلواته على عبده الكريم محمد خاتم أنبيائه وأفضلهم، وعلى آله وأصحابه الأخيار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

لقد كان السلف الصالح – رحمهم الله تعالى – يُقبلون على القرآن في شهر رمضان إقبالًا كبيرًا، ويهتمون به اهتمامًا عظيمًا، ويتزودون مِن تلاوته كثيرًا، فكان الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يختم في اليوم والليلة من رمضان ختمتين، وكان الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ يقرأ في كل يوم وليلة من رمضان ختمة واحدة، وبعض السلف كان يختم كل ثلاثة أيام ختمة، وبعضهم كان يختم كل خمسة أيام ختمة، ومنهم مَن كان يختم كل أسبوع ختمة واحدة.

وكيف لا يكون هذا حالهم مع القرآن، ورمضان هو شهر نزول القرآن، وشهر مدارسة جبريل ـ عليه السلام ـ للنبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن، وزمنه أفضل الأزمان، والحسنات فيه مضاعفة، وقد صحَّ عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: (( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: { الم } وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ )).

فأقبلوا ـ يا رعاكم الله ـ على القرآن في هذا الشهر المبارك العظيم، وحثوا أهليكم رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، على تلاوته والإكثار منه، واجعلوا بيوتكم ومراكبكم وأوقاتكم عامرة به.

أيها المسلمون:

صحَّ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ )).

فاقتدوا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وجودوا في هذا الشهر الجليل، وازدادوا جودًا، وكونوا من الكرماء، وأذهبوا عن أنفسكم لهف الدرهم والدينار، وتعلقها بالريال والدولار، وتخوفها مِن الفقر، فإن الشَّحيح لا يضر إلا نفسه، وقد قال الله تعالى معاتبًا ومُرهبًا: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }.

فأنفقوا ولا تمسكوا، وجودوا ولا تبخلوا، ولا تحقروا قليل البذل والعطاء، لا تحقروا قليل الصدقة، فتردكم عن الإنفاق في وجوه البِّر والإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحَّ عنه أنه قال: (( لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ )).

إلا وإن مِن الجود بالخير في رمضان: تفطير الصائمين مِن القرابة والجيران والأصحاب والفقراء والعُزَّاب وغيرهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مرغبًا لكم إلى تفطير الصائمين، ومبينًا عظم أجره، وكبير فضله، وحُسن عائده على فاعله: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ )).

أيها المسلمون:

اتقوا الله ربكم حق تقواه، وأجلوه حق إجلاله، وعظموا أوامره، وأكبروا زواجره، ولا تهينوا أنفسكم بعصيانه، وتذلوا رقابكم بالوقوع في ما حرم، فتنقادوا للشيطان، وتخضعوا للشهوة، بالفطر في نهار الصوم بغير عذر إما بجماع، أو استمناء، أو أكل، أو شرب، أو غير ذلك، فإن الإفطار قبل حلول وقته مِن غير عذر ذنْبٌ خطير، وجُرم شنيع، وفِعل قبيح، وتجاوز لحدود الله فظيع، ومَهلكة للواقع فيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مبينًا عقوبة مَن يفطرون قبل تحِلَّة صومهم وإتمامه: (( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ )).

وقد قال الإمام الألباني – رحمه الله – عقب هذا الحديث:

“هذه عقوبة مَن صام ثم أفطر عمدًا قبل حلول وقت الإفطار، فكيف يكون حال من لا يصوم أصلًا؟! نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة”.اهـ

هذا وأسأل ربي – جلّ وعلا – أنْ يبلغنا رمضان بلوغًا حسنًا، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، وأنْ يجعلنا فيه مِن الذاكرين الشاكرين المتقبلة أعمالهم، اللهم قِنا شر أنفسنا والشيطان، واغفر لنا ولوالدينا وسائر أهلينا، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وأعذهم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنبهم القتل والاقتتال، وأزل عنهم الخوف والجوع والدمار، اللهم مَن أراد ديننا وبلادنا وأمننا وأموالنا بشر ومكر ومكيدة فاجعل تدبيره تدميرًا له، ومكره مكرانًا به، إنك سميع الدعاء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 خطبة ألقاها:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.


الأحد، 23 أبريل 2017

الأسئلة والأجوبة في العقيدة 4

س53/ ما حكم تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام يختلف باختلاف نوعية التعظيم فتعظيمه الحقيقي قبول سنته ومتابعته والأخذ بأوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وأما تعظيمه بالغلو فيه وإعطائه حقاً من حقوق الله فهذا لا يجوز، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» وقال: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» فرسول الله عبد لا يعبد ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، ومن الغلو فيه صرف شيء من العبادة له كدعائه والاستغاثة به واللجوء إليه في كشف الشدائد وطلب الحوائج منه، ومن الغلو فيه المبالغة في مديحه شعراً ونثراً المتضمن ما يغضبه لأنه قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».
* * *
(1/56)

س54/ ما حكم دعاء الرسول، - صلى الله عليه وسلم - عند قبره؟
الجواب: دعاء الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، من دون الله شرك بالله سواء عند قبره أو بعيداً عنه لأن الدعاء عبادة خاصة لله قال ـ تعالى ـ ناهياً نبيه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» ومن أراد شفاعة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، فيعمل بسنته ويسأل الله أن يشفعه فيه يوم القيامة فهذا شأن المحب للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، قال ـ تعالى ـ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}.
* * *

س55/ ما حكم الدعاء عند قبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: وحكم الدعاء عند قبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، مستقبلاً القبر لا يجوز سواء كان قبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أم غيره، فالله ـ تعالى ـ لم يجعل قبلة غير الكعبة فهي قبلة المسلمين أحياء وأمواتاً واستقبال القبور لا يشرع إلا عند السلام على من فيها وأما إذا أراد المسلم أن يدعو لنفسه أو لغيره من المسلمين فليستقبل القبلة فهذا المستحب وإن أراد الصلاة وجب استقبال القبلة، فالمقصود أن استقبال القبر عند
(1/57)

الدعاء لا يجوز لأنه وسيلة إلى تعلق القلوب بالأموات وصرف ما كان لله لغير الله والمسلم يحتاط لدينه وعقيدته فلا يشابه القبوريين والمتعلقين بغير الله.
* * *

س56/ عرف السحر لغة واصطلاحاً وما حكمه مع الدليل؟
الجواب: السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، واصطلاحاً: السحر عزائم ورقى منه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، وحكم من تعلمه وفعله حرام ومؤد إلى الكفر لقوله ـ تعالى ـ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها "السحر".
* * *

س57/ هل السحر حقيقة أو خيال؟
الجواب: والسحر منه ما هو حقيقة يؤثر في البدن والقلب فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه ولو لم يكن حقيقة لما حكم بكفر صاحبه ولما نفى عنه النصيب في الآخرة ولما أمر بالاستعاذة منه ومنه ما هو خيال وهو ما يعمل أمام العيون بحيث يتخيل
(1/58)

الشيء حقيقة وهو ليس كذلك من غير أن يتأثر بدنه ويزول هذا التخيل بزوال ما خيل به وهذا ضرب من الشعوذة وحكمه حرام لما يشتمل عليه من التضليل والحيل والخدع فلربما يؤخذ ما بيد المخيل له ويسرق ماله ويأخذ عوضاً غير حقيقة بسبب التخييل عليه، ولربما رأى بسبب التخييل ما يجزم بحقيقته من منظر قتل أو دخول نار أو شق بطن والأمر ليس كذلك وهو لون من الخداع الذي ينشأ بواسطة معالجة أو بقوة تحيل أو بحذق ومنه سمي القمار قماراً لاشتماله على شيء من هذه المعاني، والمقصود أن ما كان من السحر خيالاً أو شعوذة فإن حكمه حرام ولا يصل إلى حد الكفر بهذا الشكل.
* * *

س58/ هل سحر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حقيقة ومن سحره؟
الجواب: نعم، وقد سحر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حقيقة سحره لبيد بن الأعصم اليهودي فجعل له العقد في جف طلع نخل ووضعه في بئر فأرسل الله ملكين يرقيان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ويخبرانه بمن سحره كما أخبراه بموضع السحر وأمراه بالتعوذ بالله ونزل في ذلك سورتان قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فانحلت تلك العقد وبرئ عليه الصلاة
(1/59)

والسلام كأنما نشط من عقال، فشرعت الاستعاذة بهاتين السورتين والرقية بهما لأمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
* * *

س59/ هل يتنافى كون النبي سحر مع مقام النبوة؟
الجواب: كونه - صلى الله عليه وسلم - سحر لا ينافي مقام النبوة وذلك أن السحر لم يؤثر في عقلية الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وإنما تأثر بدنه لأن الله تكفل بحفظ الوحي: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وتأثر بدنه دليل قوي على بشرية النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يصاب ببعض الأمراض والأعراض التي يصاب بها البشر ودليل على إكرام الله له حيث شفاه الله ودله على السحر الذي حصل له وسبب لمشروعية التعوذات والرقى وأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يلجأ إلى الله لكشف ضره كما يلجأ الآخرون من الناس ودليل على وقوع ما أذن الله به كوناً وقدراً وأنه شرع ما يرفعه قال ـ تعالى ـ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فلم يستثن نبياً ولا غيره، كما سم عليه الصلاة والسلام وكسرت رباعيته وجرح وشج ومرض فهو - صلى الله عليه وسلم -، بشر يعتريه ما يعتري البشر.
* * *
(1/60)

س60/ ما حكم التداوي من السحر؟
الجواب: حكم التداوي عند السحرة من السحر فهذا لا يجوز لما يشتمل عليه من وجود الاعتقاد في السحر وطرقه وإذا اعتقد حصل المحظور من فساد العقيدة والإيمان ولهذا شرع الله التعوذ به لحل السحر وغيره وجاء في الحديث أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان» والنشرة هي حل السحر عن المسحور وهي نوعان:
نوع يكون حل السحر بسحر مثله فكل من الساحر والمسحور يتقرب إلى الشيطان بما يحب فيبطل تأثير السحر عن المسحور فهذا لا يجوز.
والنوع الثاني: أن يكون حل السحر بالرقى والتعوذات والأدعية الشرعية والأدوية المباحة فهذا جائز.
ومن التعوذات الشرعية قراءة (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس). وقال بعض أهل العلم يدق ورق من السدر فيخلط بالماء فيقرأ فيه آية الكرسي والقواقل وآيات من الأعراف وهي {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وآية يونس: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ
(1/61)

سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} وآية طه وهي قوله ـ تعالى ـ: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به .. فهذا نافع بإذن الله لمن أصيب بحبس عن أهله بسبب السحر.
* * *

س61/ ما المقصود بالطيرة وما حكمها مع الدليل؟
الجواب: المقصود بالطيرة: أصله التشاؤم بالطيور وهو اعتقاد النفع أو دفع الضر إذا لاقته على هيئة من الهيئات، فإذا جعلته عن يمينها اعتقدوا فيها نفعاً وتسمى السوانح وإذا جعلته عن يسارها اعتقدوا ضرها وتسمى البوارح وإذا جاءته من أمامه سموها النواطح وإذا جاءته من خلفه سموها القاعدة والقعيد وهذا الاعتماد باطل لا أصل له في الشرع وهكذا إذا سمعوا أصواتها تشاءموا بها فقالوا خير خير كما قيل ذلك عند ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزجر القائل بقوله: لا خير ولا شر وأي شيء عند هذا الطير، فتوسع في التشاؤم إلى أن جعلوه في كل شيء سواء في الطيور وغيرها من الأشخاص والأزمنة، والتطير موجود من وقت فرعون واستمر في الناس فكل من ضعف إيمانه
(1/62)

غلبت عليه التشاؤمات الفرعونية والجاهلية وأبطل الله هذا الاعتقاد وهذا التشاؤم وأوجب تعلق قلوب المؤمنين بالله وثقتها به وأن سائر المخلوقات ليس عندها نفع ولا ضر قال ـ تعالى ـ في إبطال تشاؤم فرعون وقومه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فإذا أصيبوا بشر نسبوه لموسى وقومه تطيراً منهم وتشاؤماً فأخبرهم الله أن موسى لم يأت إلا بالخير والخير يأتي بالخير، وأخبرهم أن ما أصابهم بشؤم معاصيهم ومخالفتهم لموسى وأن ذلك بقضاء الله وقدره فقال ـ تعالى ـ: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} فما أصابهم إلا ما قدر عليهم المربوط بأفعالهم السيئة فهم سبب ذلك ولكنهم جهلوا هذا المعنى فلم يعترفوا بتقصيرهم وخطئهم وجعلوا سبب ذلك ما أتى به موسى فلهذا قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وقال ـ تعالى ـ: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} فقوله معكم أي أنتم سببه وقوله في سورة الأعراف:
(1/63)

{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي أن ما أصابهم بقضاء الله وقدره بسبب معاصيهم فلو تركوا معصية الرسول لما أصابهم ما كرهوا وبهذا يتضح معنى الآيتين العظيمتين ويبطل تشاؤمهم وتطيرهم، وقد تضافرت الأدلة على إبطال التطير ففي الحديث الشريف: «لا عدوى ولا طيرة» فالحديث ينفي اعتقاد تأثير التشاؤم بنفسه كما هو معتقد الجاهلية وقال عليه الصلاة والسلام: «الطيرة شرك الطيرة شرك» وذلك أنهم يعلقون النفع والضر بغير الله ثم جاء الضابط الصريح للطيرة المنهى عنها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك» فإذا وقع في نفس الإنسان شيء بسبب مرئي أو مسموع اعتقد فيه وتشاءم فرده عن حاجته أو حمله على المضي فيها والشرع لم يجعله سبباً لذلك فهذه الطيرة الممنوعة وهذه هي الطيرة الشركية شرك أصغر فإن اعتقد أن ما تطير به يجلب النفع بنفسه أو يدفع الضرر بنفسه فهذا شرك أكبر.
والخلاصة أن ما جعله الإنسان سبباً ولم يجعله الله سبباً فهو شرك أصغر وإن اعتقد النفع أو الضر به فهو شرك أكبر، ولقد بين النبي، - صلى الله عليه وسلم -، العلاج لمن رأى أو سمع شيئاً يكرهه فإنه يدفعه بقوله: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا
(1/64)

يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك» وإذا وقع شيء من التطير في نفس المسلم فليرفعه بقوله: «اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك».
* * *

س62/ ما الفرق بينها وبين الفأل؟
الجواب: والفرق بين الطيرة والفأل أن الطيرة سوء ظن بالله وصرف شيء من حقوقه لغيره وتعلق القلوب بمخلوق لا ينفع ولا يضر وأما الفأل فهو حسن ظن بالله لا يرد عن الحوائج ولا يحمل على المضي فيها وحسن الظن بالله مطلوب وسوء الظن ممنوع وحسن الظن من خصال الإيمان والمؤمنين وسوء الظن من خصال النفاق والمنافقين قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} ومثال التفاؤل أن يبادره كلمة طيبة أو عمل طيب فيحسن الظن بربه ويسأله من فضله كأن يكون الشخص مريضاً فيسمع كلمة سليم أو عافية أو يباركه من اسمه راشد ونحو ذلك.
ومن الأمثلة للتطير الممنوع والتشاؤم الممنوع أن يبادره ويواجهه مرأى أو مسمع يكرهه في بدء سفره أو في أول يومه
(1/65)

كحادث مروري أو رأى ذا عاهة كأعرج أو أعور أصابه القلق وامتنع عن المضي في أعماله فهذا والتشاؤم والتطير الممنوع فليتق الله المسلم وليأخذ بالأسباب المشروعة ولا يحدث أسباباً لم يشرعها الله على لسان نبيه ومن أمثلة التشاؤم الممنوع التشاؤم بالأزمان الامتناع عن السفر في شهر صفر والزواج في شهر شوال أو في يوم الأربعاء ففي الحديث الشريف: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» وفي رواية: «ولا نوء ولا غول» فالأعيان والأزمان خلق من خلق الله ليس بيديها نفع ولا ضر.
"مسألة" وهناك مسألة قد تشكل على بعض الناس وهي قوله، - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان الشؤم ففي ثلاث في الدابة والمرأة أو البقعة» فالشؤم في هذا الحديث ليس معناه جواز الاعتقاد في هذه الثلاث أنها تنفع أو تضر وإنما يراد به مفارقة هذه الأمور الثلاثة لأنها أعيان مخلوقة قد تكون مجبولة على شر فهو مقارن لها وصاحب لها فإذا رأى المسلم ذلك جاز له أن يفارقها تخلصاً من شرها المقارن لها فيبيع الدابة، ويفارق الزوجة ويبيع البقعة كما هو مشروع مفارقة أقران السوء مخافة العدوى قال ـ تعالى ـ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا
(1/66)

تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فكل عين ظهر شرها شرع لك مفارقتها وهذا من الأخذ بالأسباب لا من الشؤم الممنوع فتأمل يا أخي الفرق بين الشؤم الممنوع والأخذ بالأسباب المشروعة وفقني الله وإياك لكل خير.
* * *

س63/ ما هو التوسل وما حكمه؟
الجواب: التوسل هو العمل الذي يتقرب به فإن كان يتقرب به إلى الله فهذا ما نحن بصدده فنقول لا يتقرب إلى الله ولا يتوسل إليه إلا بما شرع ومما شرع التقرب به التوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ومما يتوسل به إلى الله الأعمال الصالحة قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وقال ـ تعالى ـ عن أنبيائه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ومعلوم أن وسيلة الأنبياء هي الأعمال الصالحة والقيام بما أمرهم الله به وهذا إنكار على من يدعوهم من دون الله يتوسل بهم إلى الله والمطلوب أن يجعل الوسيلة سنة الأنبياء والقيام بما أمروا به وترك ما نهوا عنه قال ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وقال ـ تعالى ـ:
(1/67)

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} ومن ذلك توسل أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بأن دعوا الله وتوسلوا إليه بأعمالهم الصالحة فأحدهم توسل ببره بوالديه والآخر توسل بتورعه عن أكل الحرام والآخر توسل بكفه عن الوقوع في الزنا وكل واحد يقول: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فتنفرج عنهم الصخرة شيئاً فشيئاً حتى تكاملوا فانكشفت عنهم الصخرة فخرجوا يمشون والحديث هذا نصه عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت
عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقها فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى
(1/68)

برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي» وفي رواية: «كنت أحبها كِأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها» وفي رواية: «فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت لا استهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء
(1/69)

وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» متفق عليه.
والنوع الثالث من التوسل الجائز هو طلب الدعاء من الرجل الصالح الحي الذي على قيد الحياة أن يدعو الله فهذا لا بأس به كما طلب الأعرابي من الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، أن يدعو الله نزول المطر فاستجاب الله دعاء نبيه ثم أتاه في الجمعة الأخرى فطلب منه أن يدعو الله أن يمسك عنهم المطر فدعا الله، ومنه ما روي عن عمر أنه طلب من العباس أن يدعو الله بنزول المطر وما عداها فتوسل ممنوع.
فتلخص من هذا أن التوسل المشروع ثلاثة أنواع:
1 - التوسل بأسماء الله وصفاته.
2 - التوسل بالأعمال الصالحة.
3 - التوسل بدعاء الحي الصالح.
* * *
س64/ ما هي الشفاعة وما أقسامها مع بيان الجائز منها وغير الجائز والأدلة؟
الجواب: الشفاعة لغة: مأخوذة من الشفع وهو ضم واحد لآخر وضم صوت لصوت هذا من حيث اللغة العربية والمراد بها
(1/70)

في القرآن الوسيلة التي يتحصل بها المقصود وهي ما تسمى بالواسطة والشفاعة التي جاءت في القرآن والسنة نوعان: شفاعة منفية وشفاعة مثبتة، والناس في الشفاعة قسمان قسم أثبتوها مطلقاً وجعلوا صفاتها في الآخرة كما كانت في الدنيا وهؤلاء هم المشركون والنصارى فكلما عن لهم أمر طلبوا ممن له مكانة أن يشفع لهم وقسم نفوها مطلقاً وهم اليهود فلم يجعلوا لها أي اعتبار وبعض المبتدعة في أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، أثبتها مطلقاً كالمشركين والنصارى وهم الغلاة في الأنبياء والملائكة والصالحين فزعموا أن مجرد طلب الشفاعة منهم نافعة وبعض المبتدعة نفوها ولم يثبتوا منها إلا الشفاعة الكبرى لفصل القضاء، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: الشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية عن الكفار والمشركين من أي نوع كان وهي التي في قوله ـ تعالى ـ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقوله ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}، وشفاعة مثبتة بشرطين الشرط الأول إذن الله للشافع أن يشفع والشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له قال ـ تعالى ـ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
(1/71)

ارْتَضَى} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وجمع الشرطان في قوله ـ تعالى ـ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ولما نفى الله الملكية عن غيره ونفي الشركة ونفى العوين نفى الانتفاع بالشفاعة إلا من بعد إذنه قال
ـ تعالى ـ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
قال بعض العلماء: إن هذه الآية تقطع عروق الشرك من القلوب حيث دحضت مزاعم من طلب الشفاعة بغير هذين الشرطين أو زعم نفي الشفاعة مطلقاً فثبت أن المستحق للشفاعة هو من مات على التوحيد كما سئل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من أحق الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصاً بها قلبه» والشفاعة المثبتة على أقسام الشفاعة العظمى وهي شفاعة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لفصل القضاء وهي لا يستطيع من يدعي الإسلام إنكارها وشفاعة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في استفتاح الجنة لدخول المؤمنين وشفاعته في رفع درجاتهم، وشفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب
(1/72)

وشفاعته في أهل الكبائر من أمته أن يخرجوا من النار وشفاعته في قوم استوجبوا النار أن لا يدخلوها وشفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين والأفراط وفي الصحيح من حديث أبي سعيد ـ - رضي الله عنه - ـ مرفوعاً قال: «فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط».
* * *

س65/ ما عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم؟
الجواب: عقيدة أهل السنة في القرآن الكريم أنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه يتلى بحرف وصوت وأنه كلام الله حقيقة حروف ومعاني.
* * *

س66/ ما أبرز أحكام التلاوة؟
الجواب: أبرز أحكام التلاوة تقويم حروفه والتدبر في معانيه والتعبد بتلاوته وتلاوته حق التلاوة والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه واستحباب تلاوته على طهارة واستقبال القبلة وصفاء الذهن حال التلاوة والابتعاد عن الأماكن القذرة حال التلاوة وترك التلاوة ممن عليه جنابة أو حيض أو نفاس والوقوف عند
(1/73)

رؤوس الآي والسجود عند قراءة سجدة وسؤال الله من فضله عند ذكر الوعد والاستعاذة به عند ذكر الوعيد.
* * *

س67/ ما حكم هجر القرآن الكريم؟
الجواب: المراد بهجر الشيء تركه والصدود عنه وهجر القرآن يشمل ترك تلاوته وترك العمل بأحكامه وترك الحكم به والتحاكم إليه وترك تقديره واحترامه وترك الاستشفاء به وعدم الانتفاع به، واللغو حالة سماعه، والإعراض عن استماعه وعدم محبته ووجود الحرج عند مخالفة المسلم شيئاً منه إما مخالفة في المعصية أو في البدعة ووجود الحرج عند سماع قوارعه وزواجره وعدم الميول في وعده وترغيبه ومن هجره كتابته على صفة تزيين الجدران وتزويق الحيطان به وجعله للمباهاة وتحسين مناظر المنازل والمجالس قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} وقال ـ تعالى ـ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال ـ تعالى ـ: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
* * *
(1/74)

س68/ هل يجوز التداوي بالقرآن الكريم؟
الجواب: والقرآن علاج لأمراض القلوب والأبدان بشرط صحة الإيمان والإخلاص والإقبال على الله حال الاستشفاء به قال ـ تعالى ـ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} فالإيمان شرط للراقي والمرقي. قال ـ تعالى ـ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ففيه اطمئنان القلوب وهو أكبر شفاء. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
* * *

س69/ هل التداوي بالقرآن الكريم من الطب الشعبي؟
الجواب: وليس التداوي بالقرآن من الطب الشعبي بل هو طب شرعي بنص القرآن والسنة لأن الطب الشعبي عبارة عما حصل بالتجربة وحسب الخبرة بل وفي الآونة الأخيرة ربما أطلقوا الطب الشعبي على الشعوذة وما كان محرماً والقرآن لا يصح أن يوصف بهذا الوصف لأنه كلام الله وأمر بالاستشفاء به واستشفى به رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يوصف بهذا؟!
* * *
(1/75)

س70/ هل يجوز إهداء تلاوة القرآن إلى الميت؟
الجواب: قراءة القرآن أو شيء منه وإهداء ثوابه لحي أو ميت يصل إلى المهدى إليه عند كثير من العلماء وهو الراجح إن شاء الله كما يصل إليه ثواب الدعاء والصدقة والصوم والحج وسر ذلك أن الثواب ملك للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه وأما إهداء ثواب القرآن أو بعضه لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لم يرد فيه شيء عنه عليه الصلاة والسلام ولا فعله الصحابة وكل فعل خير من المسلمين فلرسول الله مثل ثوابه أهداه العامل له أم لم يهده لقوله، - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على هدى كان له مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجورهم شيء» وهذه الأمور يتحرى فيها الوارد، فلا ينبغي التساهل فيها.
* * *

س71/ ما حكم قراءة القرآن في المآتم والحفلات؟
الجواب: وأما قراءة القرآن في المآتم وإحياؤها فإنها لا تجوز لكون المآتم تجديداً للأحزان وإبقاء لذكر المصيبة ونعياً للميت وكل هذا منهي عنه، وقراءة القرآن لإحياء البدع لا تجوز ولربما ارتزق به القارئ فيجمع بين سوء النية وعدم موافقة العمل
(1/76)

للشرع ولو كان خيراً لسبقنا إليه صحابة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عند أفضل ميت وأفضل جنازة وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(1/77)

الأسئلة والأجوبة في العقيدة 3

س37/ ما حكم الخوف من الشرك؟
الجواب: يجب الخوف من الشرك لأن عاقبته وخيمة وبلية على الإنسان وظلمة في الدنيا والآخرة ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فتوعده بعدم المغفرة يجعل الإنسان متخوفاً من الشرك وقال ـ تعالى ـ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وقوله، - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار».
فهذه النصوص تبعث الخوف من الشرك، وتدفع الكافر إلى الإسلام، وترغب فيه، كما أن هناك نصوصاً تجعل المسلم يتحرز ويتخوف من الشرك لأنه يحبط ما طرأ عليه وسبقه من الأعمال الصالحات، قال ـ تعالى ـ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقال ـ تعالى ـ في دعاء إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} فانظر كيف خاف إبراهيم على
(1/37)

نفسه من الشرك مع قوة إيمانه وعلو درجته وقربه من ربه فهو خليله فلا يصح لمسلم أن يعجب بإسلامه ولا أن يثق من نفسه ومن هواه وشيطانه بل يعبد ربه وجلاً خائفاً سائلاً ربه الثبات، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم، وقد اشتد خوف رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، على الصحابة وهم أفضل هذه الأمة فقال: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال "الرياء" يقوم الرجل فيحسن صلاته لما يرى من نظر رجل إليه» وذلك لخفائه وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل».
* * *

س38/ هل الخوف من غير الله شرك؟ مع بيان أنواع الخوف؟
الجواب: الخوف من الشرك يتفاوت معناه عن خوف ما سوى الله وهو أمر واضح ولله الحمد من نصوص الشريعة وألفاظ اللغة العربية، فقد يكون الخوف عبادة لله وصرفه لغير الله شرك، وهذا إذا حمل الإنسان على ترك عبادة الله أو ارتكاب معصية لله خوفاً من تأثير هذا الصنم أو الوثن أو الميت، أو خاف من حي وهو لا يقدر أن يجلب له نفعاً أو يدفع عنه ضرراً، فهذا هو الخوف الممنوع قال ـ تعالى ـ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا
(1/38)

تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} وقال ـ تعالى ـ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} فأما الخوف المنبعث في الغريزة الإنسانية كالخوف من سبع وعدو ولص يأخذ ماله فيحمله هذا الخوف على التحفظ والتحرز والاستعداد فهذا لا يضر في الإيمان ولا يزيد ولا ينقص من التوحيد، ولهذا شرعت الأسباب الواقية لأن الضرر متوقع من العدو والسبع، أما العتق من النار وإدخال الجنة فليس بيد أحد من المخلوقين وأسبابها طاعة الله وعبادته فمن علقها بغير الله خوفاً منه وقع فيما فر منه، ومن عرف معاني الخوف وجد الفرق واضحاً جلياً، فمن الخوف ما هو شرك وهذا ما نحن بصدده ويسمى خوف السر وهو أن يؤثر فيه مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله من مرض أو منع رزق أو إصابته بفقر أو نحو ذلك بقدرته ومشيئته فهذا الخوف من الشرك الأكبر.
الثاني: الخوف من المخلوق المؤدي إلى فعل محرم أو ترك واجب فهذا حرام.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان.
الرابع: الخوف الطبيعي كخوف الإنسان من السبع ونحوه وهذا جائز.
* * *
(1/39)

س39/ ما حكم التفرق في الإسلام؟
الجواب: في الحديث الشريف: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
فالحديث يشير إلى تعدد الفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة وإن تعددت إلى أكثر في هذا الوقت فيحمل على أن ما في الحديث أصولها وأنها ترجع إلى ما ذكر في الحديث، أو أن الحديث ليس على سبيل الحصر، والفرقة بالكسر معناها الطائفة والجماعة وبالضم الفرقة معناها: الافتراق، وإذا ألقيت نظرة على العالم الإسلامي اليوم وجدت اختلاف الاتجاهات لا تعد ولا تحصى وكفانا عنها تحذيراً وتنفيراً قوله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
* * *
(1/40)

س40/ من هي الفرقة الناجية وما صفاتها وما أبرز خصائصها؟
الجواب: الفرقة التي على الحق هي التي قال عنها النبي، - صلى الله عليه وسلم -: «هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» وهي الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة، ونسبوا إلى السنة لتمسكهم بالنصوص وما تدل عليه.
قال الشيخ عبد العزيز الرشيد في كتابه التنبيهات السنية: "أي المختصون والمتمسكون بها والمعتنون بدراستها وفهمها المحكمون لها في القليل والكثير، وسموا أهل السنة لانتسابهم لسنته، - صلى الله عليه وسلم -، دون المقالات كلها والمذاهب، وقد سئل بعضهم عن السنة فقال ما لا اسم له سوى السنة، يعني أهل السنة ليس لهم اسم ينتسبون إليه سواها خلافاً لأهل البدع، فإنهم تارة ينتسبون إلى المقالة كالقدرية والمرجئة وتارة إلى القائل كالجهمية والنجارية، وتارة إلى الفعل كالروافض والخوارج، وأهل السنة بريئون من هذه النسب كلها" ص15.
والمراد بالجماعة الذين نسبت الفرقة إليهم هم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والمراد بها: لزوم الحق ولو كان المتمسك بها قليلاً والمخالف لها كثيراً قال ـ تعالى ـ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَا
(1/41)

يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
فهذه النصوص تدل على أنه لا عبرة بالكثرة الضالة، يوضح هذا ما جاء في حديث عرض الأنبياء وأممهم حيث قال: «يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد» وفي الحديث الآخر: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة» وفي هذا المعنى جاءت هذه الجملة الحية: "لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين". وأبرز خصائص أهل السنة والجماعة تقديم النص على العقل.
* * *

س41/ لماذا تعتبر هذه الفرق فرقاً إسلامية؟
الجواب: وشمل اسم الإسلام سائر الفرق لانتسابهم إليه ولكنهم استعملوا التأويلات والمشابهات وهذا أبرز خصائص الفرق الأخرى.
قال ابن حجر في فتح الباري عند حديث حذيفة وقول الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، لما وصف له أصحاب الفتن، وفرض تعذر وجود إمام وجماعة «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك» قال:
(1/42)

ويؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلاً خلاف الكتاب والسنة وجعلهما فرعاً لذاك الأصل الذي ابتدعوه" فتح الباري 13/ 37.
* * *

س42/ ما المقصود بالكهانة وما تأثير الكهانة على أصول الدين؟
الجواب: المقصود بالكهانة الإخبار عن المغيبات، وقيل: الإخبار عما في الضمير، وكان الكاهن قبل بعثة النبي محمد، - صلى الله عليه وسلم -، يأخذ من الشياطين التي تسترق السمع، ولما حرست السماء بالشهب بعد مبعث النبي محمد، - صلى الله عليه وسلم -، صار الكهان يتلقون عن أوليائهم من الجن الأخبار البعيدة، فيخبر الكاهن الجهال بذلك فيقع في أذهانهم وظنونهم أن هذه كرامة لهذا الكاهن فيعتقدون فيه الولاية فيصدقونه بما يقول مما يضرهم في دينهم ودنياهم قال ـ تعالى ـ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ومعنى استمتاع الإنس والجن أن تقضي الجن حوائج الإنس، واستمتاع الجن بالإنس أن الإنس يعظمونهم، وكون الشيء يحصل به
(1/43)

منفعة دنيوية من كف شر أو جلب خير لا يدل على أنه ليس من الشرك.
أما تأثير الكهانة على أصول الدين فلأنها تتضمن ادعاء علم الغيب وهذا خاص بالله ـ تعالى ـ ولأن الكهانة تعتمد على وسائل الشرك كاستخدام الجن، فكلا الأمرين يؤثر على التوحيد لكونه اعتقد علم الغيب في غير الله واعتقد صحة هذه الوسائل الشركية.
وحكم الكهانة كفر في الجملة وكذلك التصديق بها، فإذا تضمنت اعتقاد جواز اتخاذ هذه الوسائل الشركية وإضافة علم الغيب للمخلوق فهذا كفر وإن كان عمله دجلاً ومجرد ادعاء من دون استخدام الجن وتخرصاً وتمويهاً على العامة فهذا حرام ويكون كفراً دون الكفر الأكبر.
* * *

س43/ ما هي العرافة وما حكمها مع الدليل؟
الجواب: تحدث عنها الشارع بأسلوب التحذير عن إتيان الكهان والتحذير عن تصديقهم ببيان كفر من أتاهم وعدم قبول ثواب طاعاتهم ففي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: «من
(1/44)

أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً» وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، - صلى الله عليه وسلم -» وتارة ببيان أن من تعاطى بالكهانة فليس على طريقة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث عمران بن حصين مرفوعاً: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، - صلى الله عليه وسلم -».
* * *

س44/ ما الأسباب الداعية إلى الكهانة؟
الجواب: والأسباب الداعية إلى الكهانة إما عدم الإيمان بالشرع أو ضعف الإيمان أو المحبة لامتصاص الأموال بما يأخذه الكاهن عوضاً عن تكهنه وإخباره بما لا يعلمه الناس مما أطلع عليه أولياؤه من الجن فأخبروه به وهذا النوع له مكانته عند الكفار وضعفاء الإيمان من عوام المسلمين في قديم الزمان وحديثه.
* * *
(1/45)

س45/ ما الأسباب الداعية إلى إتيان الكهان؟
الجواب: الأسباب الحافزة على إتيان الكهان وتصديقهم لها عدة عوامل منها أن الإنسان مجبول على طلب الشفاء وحبه إذا كان الكاهن يستعمل كهانته باسم العلاج، ومن العوامل ما في غريزة الإنسان من حب الاستطلاع على ما غاب عن نظره وعلمه فيأتي الكاهن ليخبره بما قد حدث وما قد يحدث فيعتقد أن ذلك من الكاهن علم بالغيب وما علم أنه استخدام للجن الذين لا يخدمون إلا على حساب عقيدة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.
* * *

س46/ ما الآثار المترتبة على الكهانة؟
الجواب: الآثار المترتبة من الكهانة:
1 - فقد الإيمان أو ضعفه.
2 - الكفر بما أنزل على محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
3 - عدم الثواب على الأعمال الصالحة عقوبة على ما ارتكبه من معاصي.
4 - حدوث التشكيك بين صفوف المسلمين والأسر ومن ثم ينتج التفرق والتباغض.
(1/46)

5 - بذل الأموال في غير محلها لتحريم صرفها في الكهانة وأمثالها، ومعلوم أنهم لا يتكهنون إلا بمال.
6 - من آثارها تعلق قلوب العامة بالطرق الممنوعة شرعاً وترك الأسباب المباحة شرعاً كما المشاهد من حب العامة للكهان والدجالين وترك الأسباب الناتجة عن خبرة أو دراسة كعلوم الطب.
7 - التفريق بين الزوجين بحيث يستخدم الكاهن بإخباره عما حصل من زوجته إن صدقاً وإن كذباً فينتج عن ذلك فراقها وتشتيت شمل الأسرة.
8 - من آثار التكهن والكهانة الاضطراب النفسي والقلق والضجر لأن مريدها لا يصل إلى نهاية وليس لها غاية، فما طاب منها تبعه، وما فيها من الخبث والأضرار يربو على ما استطابه.
9 - الوقوع في الشرك كأن يصف له الكاهن علاجاً شركياً كسفك دم في ساعة محددة وفي مكان معين ووصف للذبيحة، ومعلوم أن الذبح لغير الله شرك.
* * *

س47/ ما الفرق بين الكاهن والعراف؟
الجواب: الفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن هو من
(1/47)

يدعي علم الغيب، والعراف هو من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل لا فرق بينهما.
* * *

س48/ ما التنجيم وما حكم تعلمه؟
الجواب: التنجيم هو: تعلم النجوم ومنازلها وحركاتها ومدى الاستفادة منها، أما حكم تعلمها فبحسب المعلوم منها ومقاصد المتعلم:
أ- فإن قصد من تعلم النجوم معرفة دلالتها على الجهات وعلى القبلة فهذا جائز وهو ما يسمى بعلم التسيير قال ـ تعالى ـ: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وهذا النوع ميسر لكل أحد لربط حاجات الناس به في أسفارهم جواً وبراً وبحراً وتتعلق به معرفة أوقات العبادات كأوقات الصلوات وتجزئة الليل ومعرفة الأوقات التي يناسب فيها الغرس وبذر الحبوب بإذن الله، وما وجد من الآلات التي هدى الله الخلق إليها مما تدل على الأوقات فإنها برمجت على علم التسيير في حركة منازل الكواكب والنجوم.
ب- وإن كان قصد متعلم النجوم ربط تأثير النجوم بالحوادث الأرضية معتقداً أنها فاعلة مختارة فهذا كفر، لاعتقاده أن النجوم
(1/48)

مدبرة مع الله ـ تعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ، وإن ربط الحوادث الأرضية بسير الكواكب كاجتماعها وافتراقها معتقداً أنها مؤثرة بإذن الله فهذا حرام لكونه وسيلة إلى الشرك، قال قتادة ـ رحمه الله ـ: "خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به". قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} وقال ـ سبحانه ـ: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وفي الحديث الوعيد الشديد على من تعلم علم النجوم المحرم «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر» فدل الحديث على تحريم تعلم السحر والتصديق به ومنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وادعاء تأثيرها لما فيه من ادعاء علم الغيب والشعوذة وهذا نوع من السحر، وقال الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ومجيء الأمطار وتغير الأسعار وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك بمعرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها يدعون أن لها تأثيراً في
(1/49)

السفليات وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم قد استأثر الله بعلمه فلا يعلم الغيب سواه. قرة عيون الموحدين ص184.
* * *

س49/ ما حكم الطواف بالقبور وما الفرق بينه وبين الطواف بالكعبة؟
الجواب: لا يجوز الطواف بالقبور ويعتبر شركاً لأن الطواف عبادة، والطواف بالقبور يعتبر تعظيماً وعبادة لصاحب القبر وأيضاً الطواف صلاة والصلاة عند القبور ممنوعة ففي الحديث الشريف: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي حديث جندب عند مسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» وعند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد».
الطواف بالكعبة عبادة لله لا يجوز صرفها لغير الله ولا إحداثها عند غير الكعبة قال ـ تعالى ـ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وفي الحديث: «الطواف بالبيت صلاة» وشرع الله حج هذا البيت
(1/50)

والطواف به ولو كان الطواف جائزاً عند غير الكعبة لما أذن الله للناس بالحج إليه، فجعل الله الطواف بهذا البيت توحيداً ونفياً للشرك عن الله قال ـ تعالى ـ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
* * *

س50/ ما حكم دعاء الأولياء؟
الجواب: حكم دعاء الأولياء والصالحين لنفع أو دفع ضر شرك أكبر وهذا ما أنكره القرآن على الذين يعبدون الصالحين بقوله ـ سبحانه ـ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وقال ـ تعالى ـ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وقال ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
(1/51)

وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وكذلك لا يجوز التبرك بقبورهم قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فهذا تقريع وتوبيخ للذين يتبركون باللات والعزى رجاء أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم ضراً لأنهم لا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون بل يرجون بركتها.
* * *

س51/ ما حكم تشييد القبور وزخرفتها وما آثار ذلك؟
الجواب: حكم تشييد القبور وزخرفتها: لا يجوز تشييدها ولا زخرفتها لأن هذا من باب الغلو المؤدي إلى اعتقاد تعظيمها والاعتقاد بها وفي الحديث نهى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أن تجصص القبور وأن يجلس عليها أو يبنى عليها فقد تضمن الحديث النهي عن الغلو بها وعن إهانتها وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها ذكرت لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال، - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» وعن علي ـ - رضي الله عنه - ـ قال لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ - صلى الله
(1/52)

عليه وسلم -، أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
فدلت النصوص هذه على منع البناء على القبور كما دل الحديث الآخر على منع إنارتها قال، - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ومن الزخرفة الممنوعة الكتابة عليها وكذا من تعظيمها الممنوع شرعاً وضع أكاليل الزهور عليها أو تقديم شيء لها من الأموال أو سفك الدماء عندها كل ذلك وأشباهه من الغلو في القبور الممنوع شرعاً المؤدي إلى الشرك.
* * *

س52/ ما المقصود بالغلو؟ ومن هم أهل الكتاب؟
الجواب: المقصود بالغلو: تجاوز الحد وإعطاء الشيء أكثر من حقه أو الزيادة في ذمه، وحكمه لا يجوز وقد يصل إلى حد الشرك وإلى حد البدعة وإلى حد الكفر قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وقال ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا
(1/53)

عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وأهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى فاليهود غلوا وزادوا في ذم عيسى حتى وصل بهم الأمر أن جعلوه ولد بغي، والنصارى غلوا فيه مدحاً فأوصلوه إلى منزلة الألوهية وجعلوه معبوداً لهم هو وأمه وجعلوا الله ثالث ثلاثة تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً. قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} وقد أدى الغلو في الصالحين ومجاوزة الحد بهم درجتهم إلى أن عبدوا من دون الله وصار ذلك سبباً لهلاك العابدين والغالين، والغلو سبب أول شرك حصل في بني آدم كما حصل من قوم نوح فهم أول من أحدث الشرك ونوح عليه السلام أول رسول أرسل بالدعوة إلى توحيد الله والإنذار والتحذير عن الشرك.
قال ـ تعالى ـ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فاستمر قومه في كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعباداتهم الشركية وتواصوا فيما بينهم بالبقاء على معبوداتهم {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.
قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلك
(1/54)


أولئك أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم فعبدت" فمن فهم ما حصل في قوم نوح فهم غربة الإسلام؛ لأن دعوة محمد، - صلى الله عليه وسلم - هي دعوة نوح وما حصل في أمة محمد عليه السلام من الغلو في الصالحين الذي حملهم على التعلق بهم هو الذي حصل من قوم نوح وعرفنا أن الغلو سبب الهلاك وأن أول شرك حدث بشبهة الصالحين وتبين لنا أن الغلو في الصالحين هو أول أمر غير به دين الأنبياء ومما دلت عليه النصوص سرعة انفتاح القلوب للبدع مع أن الشرائع والفطر تردها وأن سبب قبول البدع مزج الحق بالباطل فأولاً محبة الصالحين والثاني فعل أناس من أهل العلم شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره، وفي قصة قوم نوح دلالة واضحة على أن جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد ودلت على أن البدعة سبب الكفر وفي قصة قوم نوح تنبيه للمسلم وتحذير من الشيطان حيث إنه يعرف ما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد فاعل البدعة.
* * *