بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 29 مايو 2017

إفادة الصُّوام بما على المكلف يدركه رمضان وعليه صيام لم يقضه مِن رمضان قديم

إفادة الصُّوام بما على المكلف يدركه رمضان وعليه صيام لم يقضه مِن رمضان قديم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإن مَن أخَّر صيام قضاء ما فاته مِن شهر رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر له حالان:

الحال الأول: أن يؤخره لعذر، كمرض يمتد به من رمضان إلى رمضان آخر.

وهذا لا كفارة عليه، لأنه لم يفرِّط، ولا يجب عليه إلا قضاء الأيام التي فاتته.

وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم مِن السلف الصالح فمن بعدهم.

 وحكاه الحافظ ابن عبد البر المالكي – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 227) عن:

الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وطاوس، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه.

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):

فأما مَن ترك قضاءه لعلة تبيح له ترك القضاء، فإنه لا يجب عليه مع القضاء في ذلك إطعام، وإنما عليه القضاء خاصة على مذهب ابن عباس وأبي هريرة الذي رويناه عنهما.اهـ

وأخرج عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7630) بسند صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال:

(( فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ »)).

الحال الثاني: أن يؤخره مع تمكنه مِن القضاء قبل دخول رمضان الثاني عليه.

وهذا عليه القضاء بسبب الفطر، والكفارة بإطعام مسكين عن كل يوم أخَّرَه، لأجل تأخير القضاء مع القدرة.

وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم مِن السلف الصالح فمن بعدهم.

وقد نسبه إليهم:

ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري”(4/ 190)، وبدر الدين العيني الحنفي في “عمدة القاري”(11/ 55)، والشوكاني في “نيل الأوطار”(4/ 278).

ومن حجتهم على ذلك:

الآثار الواردة عن الصحابة – رضي الله عنهم – في وجوب الكفارة بالإطعام من غير خلاف يُعرف بينهم.

ومن هذه الآثار:

أولًا: أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.

إذ قال ابن الجعد – رحمه الله – في “مسنده”(235):

أنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، قال:

(( سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ فِي رَمَضَانَ، وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَمْ يَصُمْهُ؟ قَالَ: «يَصُومُ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيَصُومُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ» )).

وإسناده صحيح.

وقال عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7628):

عن معمر، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال:

(( كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا تَتَابَعَ عَلَيْهِ رَمَضَانَانَ قَالَ: «تَاللَّهِ أَكَانَ هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِحْدَى مِنْ سَبْعٍ يَصُومُ شَهْرَيْنِ، وَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» )).

وإسناده صحيح.

وأخرج نحوه الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(887 و 888) مِن طريقين آخرين عن ميمون بن مهران.

ونقل ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734) تصحيح البيهقي لأثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.

وصححه النووي – رحمه الله – في كتابه “المجموع”(6/ 364).

ثانيًا: أثر أبي هريرة – رضي الله عنه -.

إذ قال الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2343):

حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا معاذ – يعني: ابن المثنى -، ثنا مسدد ثنا يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة: في رجل مرض في رمضان ثم صَحَّ ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر؟ قال:

(( يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, فَإِذَا فَرَغَ فِي هَذَا صَامَ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ )).

وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ

وله شاهد أخرجه عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7620)، فقال:

عن معمر، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال:

(( مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ صَحَّ، فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الَّذِي أَدْرَكَ، ثُمَّ صَامَ الْأَوَّلَ، وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ )).

قال معمر: ولا أعلم كلهم إلا يقولون هذا في هذا.اهـ

وأخرج نحوه الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2344) مِن طريق مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة.

وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ

وأخرج أيضًا (2348) نحوه مِن طريق عطاء، عن أبي هريرة.

وقال عقبه: هذا إسناد صحيح.اهـ

وقال ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734):

ثم رواه الدارقطني موقوفًا على أبي هريرة من طرق، ثم قال في كل منهما: هذا إسناد صحيح، وكذا قال البيهقي في “خلافياته”.اهـ

وله شاهد آخر عن عند الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(892) إذ قال:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا قتادة، عن أبي الخليل، عن طاوس، عن أبي هريرة، مثله.

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – حمه الله – كما في “مختصر اختلاف العلماء(2 / 22-23 – مسألة رقم:505) :

إلا أن هذه الجماعة مِن الصحابة قد اتفقت على وجوب الإطعام بالتفريط إلى دخول رمضان آخر، وكان ابن أبي عمران يحكي أنه سمع يحيى بن أَكْثَم يقول:

وجدته – يعنى: وجوب الإطعام في ذلك عن ستة مِن الصّحابة، ولم أجد لهم مِن الصحابة مخالفًا.اهـ

ونقله أيضًا عن يحيى بن أكثم:

ابن عبد البر المالكي – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 225-226).

وقال موفق الدين ابن قدامة الحنبلي – رحمه الله – في كتابه المغني”(4 / 401) في ترجيح هذا القول بآثار الصحابة:

ولنا:

ما رُوي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، أنهم قالوا: (( أَطْعِمْ عن كل يوم مسكينًا )) ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلافهم.اهـ

وقال أبو الحسن الماوردي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(3 / 451):

وإن أخَّره غير معذور فعليه مع القضاء الكفارة عن كل يوم بمُد من طعام، وهو إجماع الصحابة.اهـ

وقال أيضًا (3 / 452):

مع إجماع ستة من الصحابة لا يُعرف لهم خلاف.اهـ

وقال صاحب كتاب “الإنباه” – رحمه الله – كما في “الإقناع بمسائل الإجماع”(2/ 747 – رقم:1345) في ترجيح هذا القول:

وبه قال عديد أهل العلم، وهو عندنا إجماع الصحابة.اهـ

وقال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):

غير أنا نظرنا إلى ما رُوي عن ابن عباس وأبي هريرة فِي إيجابهما الإطعام على مَن وجب عليه قضاء رمضان، فلم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر، وقد أمكنه صومه مع القضاء الذي أوجبناه عليه في ذلك، فلم نره منصوصًا في كتاب الله عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، ولا وجدناه يثبت بالقياس، فعقلنا بذلك أنهما لم يقولاه رأيًا، ولا استنباطًا، وإنما قالاه توقيفًا، فكان القول به حسنًا عندنا، ولم نجد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواهما إسقاط الإطعام في هذا، فقلنا به، وخالفنا أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا في نفيهم وجوب الإطعام في ذلك.اهـ

وقد ذهب الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه والمزني وداود الظاهري – رحمهم الله – إلى:

أنه ليس عليه إلا القضاء فقط.

واحتُج لهم بقوله تعالى:

{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.

وقالوا:

لم يُذكر في الآية إلا القضاء، فلا نلزم المؤخِّر إلا به وحده.

وأجيب عن استدلالهم هذا بجوابين:

الأول: أن الصحابة – رضي الله عنهم – أدرى بمدلول الآيات القرآنية وأحكامها مِن غيرهم، ولو استقام هذا الاستدلال لكانوا أوَّل مَن قال به.

كيف وقد نصَّ جماعة مِن العلماء – رحمهم الله – على أنه لا يُعرف بينهم خلاف في لزوم الإطعام بالتأخير.

الثاني: أن متعلق الكفارة تأخير القضاء لا الفطر.

إذ قال أبو لحسن الماوردي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(2/ 452):

فأما قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ } فلا دليل فيه، لأن الفدية لم تجب بالفطر، وإنما وجبت بالتأخير.اهـ

وهذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكتابة الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.

وكتبه:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.



ها قد أقبل شهر رمضان فأحسنوا فيه العمل

ها قد أقبل شهر رمضان فأحسنوا فيه العمل

الخطبة الأولى:

الحمد لله الجواد الكريم، الذي جعل الصيام جُنَّة للصائمين من النار، ومكفرًا للخطايا والآثام، ومضاعفًا للأجر، ورافعًا للدرجات، ودافعًا إلى زيادة البِّر والإحسان، وشافعًا لمن كان مِن أهله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العظيم الكريم، البَّر الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مَن صلى لربه وقام، وأتقى مَن حج وصام، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الكرام، ما تعاقب ليل مع نهار.

أما بعد، أيها المسلمون:

فلا تزال نعم الله – جل وعلا – علينا تتابع، وإحسانه لنا يكثر حينًا بعد حين، وكل يوم نحن منها في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحقها أخرى، يرحم بها عباده الفقراء إليه، والمحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه.

ألا وإن مِن أجلّ هذه النعم، وأرفع هذه العطايا، وأجمل هذه المِنن، إيجابه – عز وجل – علينا صوم شهر رمضان، وما أدراك ما رمضان، ثم ما أدراك ما رمضان، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن رمضان: (( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ )).

فيا لسعادة مَن أمسك بزمام نفسه في هذا الشهر العظيم المبارك، وشمَّر عن ساعد الجِّد، فسلك بها سبيل الجنة، وجنَّبها سُبل النار، والشقاء فيها، ويا خسارة مَن سلك بها طريق المعصية والهوان، وأوردها موارد الهلاك، وأغضب ربه الرحمن، وقد يُسِّرت له الأسباب، ففتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين وصُفِّدت.

أيها المسلمون:

مَن لم يتب في شهر رمضان فمتى يتوب؟ ومَن لم يُقلع عن الذنوب والخطايا في رمضان فمتى يُقلع، ومَن لم يرحم نفسه التي بين جنبيه وقت الصيام فمتى يرحمها؟ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعِد المنبر فقال مُرهِّبًا: (( آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ )).

فيا لحسرة وبؤس وشِقوة مِن دخل في دعوة جبريل – عليه السلام -، وتأمين سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم عليها، فأبعده الله وأخزاه وأهانه.

فيا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب   *   حتى عصى الله في شهر شعبان

لقد أظلك شـهر الصـوم بعـدهما   *   فلا تُصيره أيضًا شهر عصيـان

ويا باغي الخير أقبل على الصالحات واستكثِر، ويا باغي الشر أقصِر عن الذنوب والآثام واهجر.

فإن كنت تريد مغفرة الخطايا، وإذهاب السيئات فعليك بالصيام، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).

وإن كنت تريد مضاعفة الحسنات، فعليك بالصيام، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي )).

وإن كنت تريد أن تكون مِن أهل الجنة المنَعَّمِين السعداء فلا تغفل عن صوم شهر رمضان، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في حجة الوداع فقال: (( صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ )).

وإن كانت نفسك تتوق لأن تكون مِن أهل المنازل العالية الرفيعة، فدونك شهر رمضان، فقد ثبت أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟، قَالَ: مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ )).

أيها المسلمون:

ها قد أقبل عليكم  شهر رمضان، شهرٌ جعل الله صيامه أحد أركان دينه الإسلام، وأصوله الكبار، ودعائمه العظام، شهرٌ نزل فيه القرآن، شهرٌ تصفَّد فيه الشياطين، وتُفَتَّح فيه أبواب الجنَّة، وتُغَلَّق فيه أبواب النار، فاحرصوا غاية الحرص، على أن تكونوا مِمن يُحقق الغرض مِن صيامه، ألا وهو تقوى الله سبحانه، ألا وهو أن يزجركم الصيام ويمنعكم ويبعدكم عن معصية ربكم، ويحثكم ويقويكم على العبادة والطاعة، ويجعلكم معها في ازدياد، طاعة وامتثالًا لربكم، حيث قال – عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

أيها المسلمون:

إنَّ الصُّوام بتركك الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات كُثر جدًا، وهو سهل عليهم، وقد وثبت عن ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ )).

إلا أنَّ الصائم الموفق المسدد هو مَن صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرَّفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يَجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يُفسد صومه، وإن استمع لم يسمع ما يُضعف صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وتكون أعماله جميعها طيبة زكيه مرضِيَّة، فكما أن الطعام والشراب يقطعان الصيام ويفسدانه، فكذلك الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته، حتى تصَيِّر صاحبه بمنزلة مَن لم يصم، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )).

والمراد بالزور: كل قول محرم، فيدخل فيه الكذب، وتدخل فيه شهادة الزور والغيبة والنميمة والقذف والإفك والبهتان والغناء والاستهزاء والسخرية وسائر ألوان الباطل مِن الكلام.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ )).

أيها المسلمون:

احذروا في شهر رمضان أشدَّ الحذر، وانتبهوا غاية الانتباه، حتى لا تكونوا مِمن ليس لله حاجة في تركه الطعام والشراب، ومِمن حضه مِن صيامه الجوع والعطش، واجتنبوا مسببات ذلك، وعُفُّوا أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وباقي جوارحكم عن جميع المحرمات، وفي سائر الأوقات، وبالليل والنهار، وقوموا بما يُعينكم على ذلك، واعلموا أن إكثار الجلوس في المساجد نهار رمضان مِن أعظم مسببات حفظ الصيام وسلامته عن الآثام، وزيادة الأجور عليه، وقد صحَّ عن أبي المتوكل الناجي – رحمه الله – أنه قال: (( كان أَبِو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا )).

نفعني الله وإياكم بما سمعتم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد الأمين المأمون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي الفضل والإكرام، والجود والإنعام، وصلواته على عبده الكريم محمد خاتم أنبيائه وأفضلهم، وعلى آله وأصحابه الأخيار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

لقد كان السلف الصالح – رحمهم الله تعالى – يُقبلون على القرآن في شهر رمضان إقبالًا كبيرًا، ويهتمون به اهتمامًا عظيمًا، ويتزودون مِن تلاوته كثيرًا، فكان الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يختم في اليوم والليلة من رمضان ختمتين، وكان الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ يقرأ في كل يوم وليلة من رمضان ختمة واحدة، وبعض السلف كان يختم كل ثلاثة أيام ختمة، وبعضهم كان يختم كل خمسة أيام ختمة، ومنهم مَن كان يختم كل أسبوع ختمة واحدة.

وكيف لا يكون هذا حالهم مع القرآن، ورمضان هو شهر نزول القرآن، وشهر مدارسة جبريل ـ عليه السلام ـ للنبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن، وزمنه أفضل الأزمان، والحسنات فيه مضاعفة، وقد صحَّ عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: (( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: { الم } وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ )).

فأقبلوا ـ يا رعاكم الله ـ على القرآن في هذا الشهر المبارك العظيم، وحثوا أهليكم رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، على تلاوته والإكثار منه، واجعلوا بيوتكم ومراكبكم وأوقاتكم عامرة به.

أيها المسلمون:

صحَّ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ )).

فاقتدوا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وجودوا في هذا الشهر الجليل، وازدادوا جودًا، وكونوا من الكرماء، وأذهبوا عن أنفسكم لهف الدرهم والدينار، وتعلقها بالريال والدولار، وتخوفها مِن الفقر، فإن الشَّحيح لا يضر إلا نفسه، وقد قال الله تعالى معاتبًا ومُرهبًا: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }.

فأنفقوا ولا تمسكوا، وجودوا ولا تبخلوا، ولا تحقروا قليل البذل والعطاء، لا تحقروا قليل الصدقة، فتردكم عن الإنفاق في وجوه البِّر والإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحَّ عنه أنه قال: (( لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ )).

إلا وإن مِن الجود بالخير في رمضان: تفطير الصائمين مِن القرابة والجيران والأصحاب والفقراء والعُزَّاب وغيرهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مرغبًا لكم إلى تفطير الصائمين، ومبينًا عظم أجره، وكبير فضله، وحُسن عائده على فاعله: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ )).

أيها المسلمون:

اتقوا الله ربكم حق تقواه، وأجلوه حق إجلاله، وعظموا أوامره، وأكبروا زواجره، ولا تهينوا أنفسكم بعصيانه، وتذلوا رقابكم بالوقوع في ما حرم، فتنقادوا للشيطان، وتخضعوا للشهوة، بالفطر في نهار الصوم بغير عذر إما بجماع، أو استمناء، أو أكل، أو شرب، أو غير ذلك، فإن الإفطار قبل حلول وقته مِن غير عذر ذنْبٌ خطير، وجُرم شنيع، وفِعل قبيح، وتجاوز لحدود الله فظيع، ومَهلكة للواقع فيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مبينًا عقوبة مَن يفطرون قبل تحِلَّة صومهم وإتمامه: (( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ )).

وقد قال الإمام الألباني – رحمه الله – عقب هذا الحديث:

“هذه عقوبة مَن صام ثم أفطر عمدًا قبل حلول وقت الإفطار، فكيف يكون حال من لا يصوم أصلًا؟! نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة”.اهـ

هذا وأسأل ربي – جلّ وعلا – أنْ يبلغنا رمضان بلوغًا حسنًا، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، وأنْ يجعلنا فيه مِن الذاكرين الشاكرين المتقبلة أعمالهم، اللهم قِنا شر أنفسنا والشيطان، واغفر لنا ولوالدينا وسائر أهلينا، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وأعذهم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنبهم القتل والاقتتال، وأزل عنهم الخوف والجوع والدمار، اللهم مَن أراد ديننا وبلادنا وأمننا وأموالنا بشر ومكر ومكيدة فاجعل تدبيره تدميرًا له، ومكره مكرانًا به، إنك سميع الدعاء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 خطبة ألقاها:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.