بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 5 نوفمبر 2020

شَرْحُ مَتن شُرُوط الصَّلاَة وَأَرْكَانِها وَوَاجبَاتهَا

 

شَرْحُ مَتن شُرُوط الصَّلاَة وَأَرْكَانِها وَوَاجبَاتهَا
تأليف شيخ الإسْلام محمَّد بن عَبد الوهَّاب
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى
1115-1206هـ
شرح
فَضِيلَةِ الشَّيْخِ العَلاَّمَة
مُحَمَّدْ بْنُ أَمَان بْنُ عَلي الجَامِيّ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى
1349- 1416هـ
إعداد وترتيب :
أبي عبد الله الآجُّري
مُقَدِّمَةٌ
الحمد لله الحق الأحد، الواحد الصمد، واهب الصبر والجلد، أحمده حمداً كثير على جزيل نعمته ووافر رحمته، أمَّا بعد:
فلمَّا كانت الصلاة عمود الدين، وأعظم العبادات العملية، وثاني أركان دين الأمة الإسلامية، كان من أعظم فروض العين بعد معرفة التوحيد، إقامتها كما أمرنا الله بها، قال تعالى:{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}[البقرة:43]، وكما صلاَّها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- القائل: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))(1).
فلا يخفى عليك -عزيزي القارئ- أنَّ كثيراً من الناس اليوم لا يعرفون كيفية الصلاة كما صلاَّها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم-، وهم كثر، كأمثال المُسِيء صلاته المذكور في الحديث المشهور. ولكن المشكلة في كثير من الإخوة الذين يظهر عليهم الصلاح والخير والاستقامة وهم يعرفون ويهتمون بآداء صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلَّم- ولكنَّهم لا يعرفون شروطها، ولا واجباتها، ولا حتى أركانها، بل لا يعرفون حتى شروط الطهارة التي هي مفتاح الصلاة.
ولمَّا كان بعضهم قد بدأ يخوض ويَدْرُس بعضاً من تفريعات العلم الشرعي كعلم المصطلح مثلاً، ويخوض في مسائل ومسائل وهو لا يعرف هذه الأشياء التي هي من أفرض ما يكون عليه.
ورأيت البعض الآخر من طلبة العلم ممن علم هذه الأشياء، ولكنَّه غير مشغولٍ بالدعوة إليها، فتذكرت كلام أبي حامدٍ الغزالي -رحمه الله- حيث قال:

(1/1)


"وكل عامِي عرف شروط الصلاة؛ فعليه أن يُعرِّف غيره، و إلاَّ فهو شريك في الإثم، ومعلوم أنَّ الإنسان لا يولد عالماً بالشرع، وإنَّما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلَّم مسألةً واحدةً فهو من أهل العلم بها ... إلى أن قال: فحقّ على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يُعلِّم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده، ثم إلى أهل البوادي المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد، و إلاَّ حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج مادام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه، وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التى هى من فروض الكفايات، ولا يتقدّم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه"(2) اهـ
ومن هذا المنطلق: ينبغي أن يسعى كل مُعلمٍ للخير في التركيز على الأهم فالأهم، وأهم الأهم هو تعليم المسلم فرض العين من دينه.
فهذا الكتاب لك أخي المسلم أياًّ كنت: طبيباً أو مهندساً أو مزارعاً ..إلى آخره، وليس من الكتب المعقدة أو صعبة العبارة، بل هو لتعليمك أهم ما يجب عليك نحو صلاتك.
ومن أحسن المتون المختصرة الميسرة التي تعنى بشرح شروط الصلاة، كتاب "شروط الصلاة وأركانها وواجباتها" للإمام العلاَّمة مُحمد بن عبد الوهَّاب التميمي -رحمه الله تعالى.

(1/2)


ولكن هذه المتون المختصرة تحتاج إلى شرح، فبحثت عن شرحٍ له، فلم يقع بيدي غير شرحٍ للشيخ العلاَّمة/ مُحمد بن علي بن أمان الجامي -رحمه الله-، ولكنَّه في أشرطةٍ وليس في كتاب، وكما نعلم أن الكتاب أفضل من الشريط لعدَّة اعتبارات، فرأيت منه نسخة مفرغَّة قد فرَّغها أخونا/ أيمن الدبعي -جزاه الله خيراً-، ولكنَّها مجرد تفريغ فقط يعوزه التدقيق والمراجعة والضبط للنصِّ والشرح.
عملي في هذا الكتاب:
1- إضافة المتن إلى الشرح وتشكيله بالحركات.
2- ضم الشرح إلي المتن وذلك بواسطة جعله كحاشيةٍ للمتن.
3- عزو الآيات وتشكيلها.
4- تصحيح الأخطاء الإملائية والطباعية الناتجة عن التفريغ وتصحيح الكلام بما يقتضيه السياق.
هذا وأسأل الله أن ينفعني والمسلمين بهذا الكتاب، وأن يتعرفوا على صلاة نبيهم فيهتدوا بهديه فيها، راجياً من المولى -سبحانه وتعالى- ما وعدنا به على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا...))(3)، إنه على كل شيءٍ قدير آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(4).
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
شُرُوطُ الصَّلاَةِ تِسْعَةٌ (5): الإسْلاَمُ، وَالعَقْلُ، وَالتَمْييزُ، وَرَفْعُ الحَدَثِ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَسَتْرُ العَوْرَةِ، وَدُخُولُ الوَقْتِ، وَاسْتِقْبَالُ القِبْلَةِ، وَالنِّيَةُ(6).
الشَرْطُ الأَوَّلُ: الإِسْلاَمُ وَضِدُّهُ الكُفْر، وَالكَافِرُ عَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَلَوْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. قَالَ تَعَالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 32](7).

(1/3)


الشَّرْطُ الثَّانِي: العَقْلُ وَضِدُّهُ الجُنُون، وَالمَجْنُونُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ القَلَمُ حَتَّى يَفِيقَ(8)، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ: (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: النَائِمُ حَتَى يَسْتَيْقِظَ، وَالمَجْنُونُ حَتَى يَفِيقَ، وَالصَغِيرُ حَتَّى يَبْلُغْ))(9).
الثَّالِثُ: التَّمْييزُ وَضِدُّهُ الصِّغَرُ، وَحَدُّهُ سَبْعُ سِنِينَ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِع))(10).
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
رَفْعُ الحَدَثِ، وَهُوَ الوُضُوءُ المَعْرُوف، وَمُوجِبُهُ الحَدَثُ.
وَشُرُوطُهُ عَشَرَةٌ(11): الإِسْلامُ، وَالعَقْلُ، وَالتَّمْييزُ، وَالنِيَّةُ(12)، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِهَا بِأَن لاَ يَنْوِيَ قَطْعَهَا حَتَّى تَتِمَ الطَّهَارَةُ(13)، وَانْقِطَاعُ مُوجِبٍ(14)، وَاسْتِنْجَاءٌ(15) أَو اسْتِجْمَارٌ قَبْلَهُ(16)،
وَطُهُورِيَّةُ مَاءٍ(17) وَإِبَاحَتُهُ(18)، وَإِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ المَاءِ إِلى البَشَرَةِ(19)،
وَدُخُولُ وَقْتٍ عَلى مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ لِفَرْضِهِ(20).
وَأَمَّا فُرُوضُهُ فَسِتَّةٌ:
غَسْلُ الوَجْهِ، وَمِنْهُ المَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاق(21)، وَحَدُّهُ طُولاً مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ إِلى الذِّقْنِ، وَعَرْضاً إِلى فُرُوعِ الأُذُنَيْنِ(22)،
وَغَسْلُ اليَدَيْنِ إِلى المِرْفَقَيْنِ(23)، وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ(24) وَمِنْهُ الأُذُنَيْن(25)،

(1/4)


وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إِلى الكَعْبَيْنِ(26)، وَالتَّرْتِيبُ وَالمُوَالاَةُ(27)، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ(28) فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ(29) وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ(30) وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ(31)} [المائدة: من الأية 6].
وَدَلِيلُ التَّرْتِيبِ حَدِيثُ: ((ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ))(32).
وَدَلِيلُ المُوَالاَةِ حَدِيثُ صَاحِبِ اللُمْعَةِ عَنِ النَّبِيّ -صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أَنَّهُ لما رَأَى رَجُلاً في قَدَمِهِ لمُعَةً قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا المَاءُ فَأَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ(33).
وَوَاجِبُهُ التَّسْمِيَةُ مَعَ الذِّكْرِ(34).
وَنَوَاقِضُهُ ثَمَانِيةٌ: الخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ(35)، وَالخَارِجُ الفَاحِشُ النَّجِسُ مِنَ الجَسَدِ(36)، وَزَوَالُ العَقْلِ(37)،
وَمَسُّ المَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ(38)، وَمَسُّ الفَرْجِ بِاليَدِ قُبُلاً كَانَ أَوْ دُبُراً(39)، وَأَكْلُ لَحْمِ الجَزُورِ(40)،
وَتَغْسِيلِ المَيِّتِ(41)، وَالرِّدَّةُ عَنِ الإِسْلاَمِ أَعَاذَنَا الله مِنْ ذَلِكَ(42).
الشَّرْطُ الخَامِسُ: إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنْ ثَلاَثٍ(43): مِنَ البَدَنِ، وَالثَّوْبِ، وَالبُقْعَةِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4](44).
الشَّرْطُ السَادِسُ: سَتْرُ العَوْرَةِ.
أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى فَسَادِ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى عُرْيَاناً وَهْوَ يَقْدِرُ، وَحَدُّ عَوْرَةِ الرَّجُلِ مِنَ السُّرَّةِ إِلى الرُكْبَةِ، وَالأَمَةُ كَذَلِكَ، وَالحُرَّةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ إِلاَّ وَجْهُهَا، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأَعْرَافُ:31]. أَيْ: عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ(45).

(1/5)


الشَّرْطُ السَّابِعُ: دُخُولُ الوَقْتِ.
وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أَنَّهُ أَمَّ النَبِي -صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أوَّلِ الوَقْتِ وَفِي آخِرِهِ، فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ الصَّلاَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ)) (46).
وَقَوْلُهُ تَعَالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتًا}[النساء:103](47). أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الأَوْقَاتِ، وَدَلِيلُ الأَوْقَاتِ قَوْلُهُ تَعَالى:{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ(48) إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(49)[الإسراء:87].
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: اسْتِقْبَالُ القِبْلَةِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء(50) فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا(51) فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ(52)}[البقرة: من الآية144].
الشَّرْطُ التَّاسِعُ:
النِّيَّةُ.
وَمَحَلُّهَا القَلْبُ، وَالتَّلَفُّظُ بِهَا بِدْعَةٌ(53)،
وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ إِمْرِئٍ مَا نَوَى))(54).
وَأَرْكَانُ الصَّلاَةِ أَرْبَعَةُ عَشَر: القِيَامُ مَعَ القُدْرَةِ(55)، وَتَكْبِيرُ الإِحْرَامِ(56)، وَقِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ(57)،
وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ(58)،
وَالسُّجُودُ عَلى الأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ(59)،
وَالاعْتِدَالُ مِنْهُ، وَالجَلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتّيْنِ، وَالطُمَأْنِينَةُ فِي جَمِيعِ الأَرْكَانِ(60)، وَالتَّرْتِيبُ، وَالتَّشَهُدُ الأَخِيرُ، وَالجُلُوسُ لَهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالتَّسْلِيمَتَانِ(61).

(1/6)


الرُّكْنُ الأَوَّلُ القِيَامُ مَعَ القُدْرَةِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}(62)[البقرة:238].
الثَّانِي: تَكْبِيرَةُ الإِحْرَاِم، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ: ((تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ(63))). وَبَعْدَهَا الاسْتِفْتَاح -وَهُوَ سُنَّةٌ- قَوْلُ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ(64)
وَبِحَمْدِكَ(65)، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ(66)، وَتَعَالَى جَدُكَ(67)،
وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ(68))).
{أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، مَعْنَى أَعُوذُ: أَلُوذُ وَأَلْتَجِئُ وَأَعْتَصِمُ بِكَ يَا الله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ المَطْرُودِ المُبْعَدِ عَنْ رَحْمَةِ الله، لاَ يَضُرُّنِي فِي دِينِي وَلاَ فِي دُنْيَايَ(69).
وَقِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ: ((لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ))، وَهِيَ أُمُّ القُرْآنِ(70).
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: بَرَكَةٌ وَاسْتِعَانَةٌ(71).
{الحَمْدُ لله}، الحَمْدُ: ثَنَاءٌ، وَالأَلِفُ وَاللاَّمُ لاِسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ المَحَامِدِ، وَأَمَّا الجَمِيلُ الذِي لاَ صُنْعَ لَهُ فِيهِ مِثْلُ الجَمَالِ وَنَحْوِهِ، فَالثَّنَاءُ بِهِ يُسَمَّى مَدْحاً لاَ حَمْداً.
{رَبِّ العَالمَِينَ}، الرَّبُّ: هُوَ المَعْبُودُ، الخَالِقُ، الرَّازِقُ، المَالِكُ، المُتَصَرِّفُ، مُرَبِي جَمِيعِ الخَلْقِ بِالنِّعَمِ.
{العَالَمِينَ}: كُلُ مَا سِوَى الله عَالَمٌ، وَهُوَ رَبُّ الجَمِيعِ.
{الرَّحْمَنِ}: رَحْمَةٌ عَامَّةٌ بِجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ.
{الرَّحِيمِ}: رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالىَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43].

(1/7)


{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: يَوْمُ الجَزَاءِ وَالحِسَابِ، يَوْمَ كُلُّ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الإنفطار:17-19]، وَالحَدِيثُ عَنْهُ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى الله الأَمَانِي))(72).
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(73) أَي: لاَ نَعْبُدُ غَيْرَكَ، عَهْدٌ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَن لاَ يَعْبُدَ إِلاَّ إِيَّاهُ.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: عَهْدٌ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَن لاَ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ غَيْرَ الله.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} مَعْنَى:{اهْدِنَا}: دُلَّنَا وَأَرْشِدْنَا وَثَبِّتْنَا، وَ{الصِّرَاطُ}: الإِسْلاَمُ، وَقِيلَ: الرَّسُولُ، وَقِيلَ: القُرْآنُ، وَالكُلُّ حَقٌ. وَ{المُسْتَقِيَم}: الذِي لاَ عِوَجَ فِيهِ.
{صِرَاطَ الذِّينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: طَرِيقُ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69].

(1/8)


{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: وَهُمُ اليَهُودُ، مَعَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، نَسْأَلُ الله أَنْ يُجَنِّبَكَ طَرِيقَهُمْ، {وَلاَ الضَّالِّينَ}: وَهُمُ النَّصَارَى، يَعْبُدُونَ الله عَلَى جَهْلٍ وَضَلاَلٍ، نَسْأَلُ الله أَنْ يُجَنِّبَكَ طَرِيقَهُمْ، وَدَلِيلُ الضَّالِّينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104،103]، وَالحَدِيثُ عَنْهُ-صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ َمْن قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ؛ قَالُوا يَا رَسُولَ الله: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَْن))، أَخْرَجَاهُ(74).
والحَدِيثُ الثَّانِي: ((افْتَرَقَتِ اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، قُلْنَا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي))(75).

(1/9)


وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَالسُّجُودُ عَلَى الأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ، وَالاعْتِدَالُ مِنْهُ(76)، وَالجَلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج: من اللآية77]، وَالحَدِيثُ عَنْهُ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ ))، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي جَمِيعِ الأَفْعَالِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الأَرْكَانِ، وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ المُسِيءِ صَلاَتَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: ارْجِع فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَعَلَهَا ثَلاَثاً ثُمَ قَالَ: وَالذِّي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيًّا لاَ أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِذَا قُمْتَ إِلى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمْ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا(77)،

(1/10)


ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا(78)))، وَالتَّشَهُدُ الأَخِيرُ رُكْنٌ مَفْرُوضٌ(79)، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ، السَّلاَمُ عَلَى الله مِنْ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وقال النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَى الله مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنَّ الله هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا: ((التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ))(80)، وَمَعْنَى التَّحِيَّات: جَمِيعُ التَّعْظِيمَاتِ لله، مُلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا، مِثْلُ الانْحِنَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَجَمِيعُ مَا يُعَظَّمُ بِهِ رَبُّ العَالَمِين فَهْوَ لله، فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ الله فَهْوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، وَالصَّلَوَاتُ مَعْنَاهَا: جَمِيعُ الدَّعَوَاتِ. وَقِيلَ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالطَّيِّبَاتُ لله: الله طَيِبٌ، وَلاَ يَقْبَلُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ إِلاَّ طَيِّبَهَا، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، تَدْعُو لِلْنَّبِيّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّلاَمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ، وَالَّذِي يُدْعَى لَهُ، مَا يُدْعَى مَعَ الله(81)، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، تُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِكَ وَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالسَّلاَمُ دُعَاءٌ، وَالصَّالِحُونَ يُدْعَى لَهُمْ وَلاَ

(1/11)


يُدْعَوْنَ مَعَ الله(82)، أَشْهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، تَشْهَدُ شَهَادَةَ اليَقِينِ أَنْ لاَ يُعْبَدُ فِي الأِرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ بِحَقٍ إِلاَّ الله، وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله(83)، بِأَنَّهُ عَبْدٌ لاَ يُعْبَدُ، وَرَسُولٌ لاَ يُكَذَّبُ، بَلْ يُطَاعُ وَيُتَبَعْ، شَرَّفَهُ الله بِالْعُبُودِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1](84).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، الصَّلاَةُ مِنَ الله: ثَنَاؤُهُ عَلَى عَبْدِهِ فِي المَلأِ الأَعْلَى، كَمَا حَكَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي العَالِيَةِ قَالَ: صَلاَةُ الله ثَنَاؤُهُ عَلَى عَبْدِهِ فِي المَلأِ الأَعْلَى، وَقِيلَ الرَّحْمَةُ، وَالصَّوَابُ الأَوَّلُ، وَمِنَ المَلاَئِكَةِ: الاسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الآدَمِيينَ: الدُّعَاءُ، وَبَارِكْ وَمَا بَعْدَهَا سُنَنُ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ.
وَالوَاجِبَاتُ ثَمَانِيةٌ(85): جَمِيعُ التَّكْبِيرَاتَ غَيرَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَقَوْلُ: سُبْحَانَ رَبِيَ العَظِيمِ فِي الرُّكُوعِ، وَقَوْلُ: سَمِعَ الله لِمَنْ َحِمدَهُ لِلإِمَامِ وَالمُنْفَرِدِ، وَقَوْلُ رَبَنَا وَلَكَ الحَمْدُ لِلْكُلِّ، وَقَوْلُ: سُبْحَانَ رَبِيَ الأَعْلَى فِي السُّجُودِ، وَقَوْلُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالتَّشَهُّدُ الأَوَّلُ وَالجُلُوسُ لَهُ.
فَالأَرْكَانُ مَا سَقَطَ مِنْهَا سَهْواً أَوْ عَمْداً بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ، وَالوَاجِبَاتُ مَا سَقَطَ مِنْهَا عَمْداً بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ، وَسَهْواً جَبَرَهُ السُّجُودُ لِلْسَّهْوِ. وَالله أَعْلَمُ(86).

(1/12)


(1) مُتَّفقٌ عليه.
(2) إحياء علوم الدين (2/370-371)، وهو كتاب لا يقرأه ولا يستخرج الفوائد منه إلاَّ المتنبه لما فيه، وقد سمّاه بعض العلماء "إماتة علوم الدين"، نظراً لما حواه من البدع، ويقال أن أبا حامداً تاب في آخر عمره وألَّف كتاب "إلجام العوام عن الخوض في علم الكلام".
(3) الحديث رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في "الأحاديث الصحيحة" رقم 863.
(4) لإرسال أي ملاحظة، قم بإرسالها مشكوراً عن طريق خدمة المراسلة في الموقع الذي على غلاف الكتاب.
(5) أولاً: نُفَرِّقُ بين الشرط والركن:
الشرط: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ لِذَاتِهِ.
بمعنى مثلاً: مِنْ عَدَمِ الطَّهَارَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ الصَّلاَة, أي عدم صحيتها، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة؛ قد يتوضأ المرء ولا يصلي، هذا معنى قولهم: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ لِذَاتِهِ؛ إلا إذا صلى الإنسان.
أما الركن: رُكْنُ الشَّيْءِ مَاهِيَّتُهُ.
أركان الصلاة، ماهية الصلاة، حقيقة الصلاة، لأن الصلاة أقوال وأفعال، تتكون ماهية الصلاة من الأقوال والأفعال، هذه الماهية المكونة من الأقوال والأفعال هي الصلاة، هذه الأشياء التي تتكون منها العبادة التي تسمى الصلاة هي الأركان، والشروط في الغالب خارجة عن ماهية الصلاة .
لذلك اختلفوا في النية عند الحنابلة، النية يعّدونها من الشروط، وعند الشافعية مثلاً يعدّون النية من الأركان، ووجه الاختلاف باعتبار أولها: النية خارجة عن ماهية الصلاة وعن فعل الصلاة، لأنك تنوي قبل أن تدخل في الصلاة، تنوي أن تكبر مثلاً، كذلك الوضوء.
ولكن باعتبار وجوب استدامتها واستمرارها إلى آخر الصلاة، اعتبرت ركناً من أركان الصلاة، وباعتبار أولها تعتبر شرط.

(1/13)


معنى هذا: أنَّ اختلاف أهل العلم في مثل هذا يعتبر اختلافاً غير جوهري, اختلافٌ صوريٌ شكلي، بمعنى: الكل يُلْزِمُ بأنَّ النية لابد منها لأي عمل, ((إنما الأعمال بالنيات)), لكن هل تسمى شرطاً أو تسمى ركناً؟ لا يضر مثل هذا الاختلاف.
(6) عدّد المؤلف -رحمه الله- شروط الصلاة التسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت: أي العلم بدخول الوقت، أن يكون المصلي عالماً بدخول الوقت هذه هي الشروط، ثم أخذ المؤلف -رحمه الله- يشرح من عند نفسه، لا يحتاج إلى شرح.
(7) الكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل, هذا معنى الشرطية، أي عدم الإسلام يستلزم عدم الصلاة، وعدم صحية أي عمل، لأن الكافر لا يقبل منه أي عمل.
وجميع الأعمال الصالحة من شرطها الإسلام، والدليل قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].
الشاهد: حبطت أعمالهم، وقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 32].
أي: لا يثابون عليه.
(8) والمجنون لا تصح منه الأعمال، لا الصلاة ولا غيرها, مرفوع عنه القلم، بمعنى: لا تكتب عنه السيئات ولا تكتب له الحسنات, هذا معنى رفع القلم، أي قلم التكليف, ليس مكلفاً بالعمل لأنه بدون عقل، والعقل: هو ذلك النور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب العباد، يميزون به بين القبيح والحسن وغير ذلك.
(9) النائم في حال نومه معذور, لذلك يُعَدُّ النوم عذراً من أعذار الصلاة, فإذا استيقظ صلى أداءً على الأصح لا قضاءً, ((من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها)), من شُغل إلى أن نسي الصلاة، ثم تذكر؛ فعليه أن يبادر إلى الصلاة, ووقت تذكر الصلاة هو وقت صلاته =

(1/14)


= يختلف أهل العلم هل يصلي قضاءً أو أداءً؟
الذي يظهر -والله أعلم- أنها أداءً, لأنه قال -عليه الصلاة والسلام-: ((فليصلها إذا ذكرها)), فَهِمَ من هذا بعض أهل الحديث أنه يصليها أداءً، وكذلك المستيقظ إذا استيقظ يبادر فور استيقاظه وفور تذكره، يبادر إلى الصلاة، مثلاً: إلى صلاة الظهر، لا يقول دخل وقت العصر أو أذَّن, بل حتى لو جاء إلى المسجد، ورأى الإمام يصلي العصر، عليه أن يصلي الظهر مقتدياً بالإمام الذي يصلي العصر، ثم يصلي العصر إمَّا منفرداً أو إذا وجد جماعة أخرى مسبوقة يصلي معها، فالواجب أن بيدا بالصلاة الأولى لأن الصلاة مرتبة.

(1/15)


(10) الصغير الذي دون السبع لا يعقل, لذلك أُمرنا أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع, لأنهم قبل ذلك لا يعقلون, وحَدُّهُ سبع سنين, ثم يؤمر بالصلاة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع اضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)), هذه آداب إسلامية ينبغي التقيد بها، أمر الأطفال بالصلاة لسبع, وليس معنى أمرهم أن تقول له صلي بس، يلزم من أمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن نأمر أطفالنا بالصلاة أن نعلمهم الصلاة, وإلا فكونك تقول للطفل -الذي يلعب عند الباب- إذهب إلى المسجد صلِّ، وأنت لا علمته الطهارة ولا علمته كيف يصلي، لا تخرج من العهدة, وإنما تخرج من العهدة إذا علمته الطهارة ثم قلت له صلي، هنا امتثلت، وأما تساهل كثيرٍ من الناس قد يحمل طفله إلى المسجد إما لسبعٍ أو دون السبع على غير طهارة, وبدون معرفة للصلاة, فيُوقف في الصف؛ فيُعتبر هذا الصف مقطوعاً بوقوف هذا الطفل في الصف؛ لأنه غير مصلٍ, ينطبق على هذا الشخص قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من وصل الصف وصله الله، ومن قطع الصف قطعه الله)), تحمل طفلاً لا يعقل الصلاة, يُوقف في الصف الأول خلف الإمام معك، والناس تسكت مجاملة، وهو ليس في الصلاة، ربما ليس على طهارة حتى في بدنه, لأنك أخذته من أمام البيت قبل أن تعلمه الطهارة والصلاة, هذا تصرف خطأ, فالواجب أن تعلمه في البيت كيف يتطهر وكيف يصلي؛ ثم تعلمه أين يقف, لا يقف في الصف الأول، وإنما يقف حيث تقف الأطفال, إن كان المأمومون يتكونون ويتألفون من صفين, فلهم الصف الثاني -أي آخر الصفوف- بعد صفوف الرجال, هكذا أدبنا رسول الله = =صلى الله عليه وسلم؛ فيجب أن نلتزم بهذه الآداب, فإذا بلغ الطفل عشر سنين، وحصل منه نوعٌ من عدم الامتثال والتمرد, يضرب ضرب تأديب وتخويف حتى يصلي, مع المحافظة عليه.
وفي هذا السن يفرق بينهم في المضاجع كل طفل ينام منفرداً, هكذا أدب الإسلام.

(1/16)


(11) المراد به الوضوء المعروف، وموجبه الحدث, وشروطه عشرة, الإسلام والعقل والتميز -كما تقدم- والنية واستصحاب حكمها.
(12) النية -كما تقدم- شرطٌ عند بعضهم وركنٌ عند البعض الآخر, الاختلاف لفظيٌ كما أشرنا.
(13) واستصحاب حكمها يعني أنَّه بهذا الاستصحاب تعتبر ركناً، ومعنى استصحاب حكم النية ألا ينوي قطع الصلاة وذلك قطع الوضوء أو قطع أي عبادة نوى، لا ينوي أنَّه في أثناء العمل أن يقطعه حتى تتم الطهارة, لو نوى أن يترك الوضوء، وهو في أثناء الوضوء؛ فيجب عليه أن يستأنف من جديد بنية جديدة.
(14) انقطاع موجب، الذي هو الحدث، يجب عليه أن ينقطع، أن يفرغ من البول ومن قضاء حاجته ومن خروج الريح، ينقطع من كل ذلك حتى يتوضأ، أما مع وجود وجريان الحدث فلا يصح الوضوء.
(15) والاستنجاء معروف، وللإنسان أن يجمع بينه [وبين الاستجمار]، وله أن يقتصر على أحدهما.
(16) استنجاءٌ أو استجمارٌ قبله: يشترط أن يستنجي الإنسان قبل الوضوء أو يستجمر، وله أن يجمع بينهما.
الاستجمار: هو استعمال أحجار ثلاثة فأكثر, يقف على الوتر، والمطلوب إزالة عين النجاسة، لا إزالة أثرها؛ فأثر النجاسة لا يزول إلا بالماء, ولكنَّ الإستجمار يزيل عين النجاسة وأثرها الظاهر, وما بقي من الرائحة وغير ذلك يُعفى عنه فتصح الصلاة.=

(1/17)


= الاستجمار ليس للضرورة -كما يتصور بعض الناس- بل للإنسان أن يستجمر مع وجود الماء، ولا يستنجي, هذا الذي كان عليه عمل الصحابة في وقتهم، لأنَّ الماء ليس بمتوفر كاليوم، ومع ذلك ما كانوا يتكلفون بطلب الماء، إذا قضى الإنسان حاجته يستجمر فيكتفي بذلك ولو كان الماء موجوداً, لو استوفى الشروط؛ فأزال عين النجاسة، صح له أن يصلي، وأمَّا الأثر فيعفى عنه، كذلك من وطئ النجاسة بنعليه أو بخفيه؛ فدحك بالأرض حتى أزال عين النجاسة؛ فبقي الأثر, له أن يصلي في نعليه وفي الخفين وفيهما الأثر بعد إزالة عين النجاسة كالمستجمر تماماً, ((إذا أتى أحدكم المسجد، فلينظر تحت نعليه؛ فإن رأى فيهما قذراً؛ فليدلكهما بالأرض؛ فليدخل بهما فليصلِ فيهما)), هذه من السنن المهجورة اليوم, بل من السنن المحاربة, عند كثير من الناس تحارب، بل تُعد جريمة في بعض الأقطار -دخول المسجد بالنعال وبالأحذية-، لو اشتريت الآن من الدكان ولبست ودخلت بها المسجد، عُدَّ ذلك جريمة وعدم احترام للمساجد ولبيوت الله، قلبت السنة بدعة والبدعة سنة, الصلاة في النعال كانت عند السلف أمراً معهوداً لا يختلفون فيه, بل كل ما في الأمر يتحفظ الإنسان، فيلاحظ نظافة نعليه عند دخوله للمسجد عملاً بالحديث الذي أشرنا إليه, ((ثم ليدخل بهما فليصل بهما)), وإن خلعهما جعلهما بين رجليه، لا يجعلهما بين يديه ولاخلفه ولا يمين ولا شمال، لكي لا تؤذي الناس، بل يجعلهما بين رجليه، بين قدميه, هكذا جرت السنة، ودرج على هذا سلف هذه الأمة, ولا تزال هذه السنة معمول بها في بعض المناطق في هذا البلد, ولكن في بعض المناطق وفي بعض الأقطار الأخرى في الخارج الموقف سيئ.

(1/18)


ولكن هنا ينبغي أن ننوه أن الصلاة في النعال سنة، وليس ذلك بواجب ولا شرط لصحة الصلاة أو واجب من واجبات الصلاة، فهذه السنة إذا تعارضت مع مصلحة أخرى، مع بعض المساجد، أو أدّى فتح الباب لدخول المساجد بها إلى إضاعة المال؛ فينبغي أن تترك هذه السنة تركاً مؤقتاً ومقيداً بمكان مقيد، حتى تحيى في أماكن أخرى مثل هذه المساجد, لا ينبغي أن يتسرع الشباب ليدخلوا بنعالهم؛ فيفتحوا بذلك باب دخول المساجد بالنعال؛ فيدخل المتسرعون قبل أن ينظروا تحت نعالهم؛ فيؤدي ذلك إلى إضاعة هذه الفرش, فقد نهينا عن إضاعة المال, إضاعة المال حرام، ودخول المساجد والصلاة في النعال سنة, وإذا حصل تعارض, نعمل بإحياء سنة الصلاة في النعلين في غير هذه المساجد، في المساجد التي لا تزال على فطرتها، المفروشة بالرمال والتراب، أو في بيوتنا، أو في البرية عندما نخرج في الرحلة والمعسكرات، والأماكن كثيرة, -معنى ذلك- لا نحارب الصلاة في النعال، ولا نبالغ إلى درجة أننا ندخل مثل هذا المساجد -المساجد المفروشة بالنعال- فتضيع هذه الأموال، ولكن نجمع بين هذه المصالح وبين هذه الأحاديث بأن نحيي ونعمل بسنة الصلاة في النعال في غير هذه المساجد، والمساجد كثيرة=
=والأماكن كثيرة، ولا بد من الفقه في الدين، والتوفيق بين النصوص، لا يأخذ الإنسان طرفاً أو نصاً أو حديثاً ويضيع النصوص الأخرى؛ بل لا بد من التوفيق دائماً حسب الإمكان.
(17) من شروط الوضوء أن يكون الماء طهوراً، فالماء إمَّا أن يكون نجساً أو طاهراً أو طهوراً.
إذاً أنواع المياه ثلاثة:
* ماء نجس لا يستعمل لا في الطهارة ولا في الشرب.
* ماء طاهر يستعمل في غير العبادة.
* ماء طهور يستعمل في العبادة.

(1/19)


قد يكون الماء طاهراً في نفسه غير مطهر,كالغسالة التي جمعت مثلاً في مكان, أو ماء تغير بطاهرحتى سلب اسمه, سُمي شاياً أومرقاً, وهو ماء في الأصل تغير بطاهر بواسطة لحم أو شاي سُلِب اسمه؛ فلا تصح به الطهارة، أو تغير بنجس، تغير لونه أو طعمه أو ريحه، لا يستعمل في الطهارة، إذاً طهورية الماء أي أن يكون طاهراً شرط.
(18) وأن يكون الماء مباحاً لا يكون مغصوباً، لو غصبت ماء إنسان وتوضأت به واغتسلت به ما صح، مع الخلاف في المسألة من أهل العلم, فهناك من يصحح الوضوء مع الأثم، و يقول أنَّ الإباحة ليست بشرط، ولكن يأثم من يستعمل الماء المغصوب، وهذا الخلاف جاء فيمن يصلي بالثوب المغصوب والعمامة المغصوبة والأرض المغصوبة والدار المغصوبة, هذه المسائل كلها محل خلاف، أي فيها روايتان في المذهب نفسه, في مذهب أحمد, وفي مسألتنا هذه, القول الثاني أنَّ إباحة الماء -أي كون الماء مباحاً حلالاً ليس بمغصوب- ليس بشرط لصحة الوضوء، لكنَّه واجب على الإنسان أن يتحرى، ولو توضأ بماء المغصوب فوضوءه صحيح لكنه يأثم, هذه الرواية هي التي تترجح عندنا: أنَّه يأثم ولكن الوضوء يصح، أي المسألة خلافية, وقلَّما تسلم مسألة فقهية من خلاف, والله أعلم.
(19) أن يزيل الإنسان من أعضاء الوضوء ما يمنع وصول الماء إلى البشرة,كالذين يشتغلون في (البويه), هذه المادة إذا كانت لاصقة بأعضاء الوضوء، مادة لاصقة قوية تمنع وصول الماء إلى البشرة، يجب أن يزيلها بالمزيلات قبل الوضوء، ومثل ما يسمى (بالمناكير) التي تستعملها النساء في الأظفار، يجب إزالة ذلك قبل الوضوء، على المرأة المسلمة أن تزيل هذه المناكير عندما تريد أن تتوضأ أو تغتسل=
=غسل الجنابة، لها أن تستعمل ذلك في بيتها بعد ذلك، بعد الاتفاق مع زوجها على أنها من وسائل الجمال والزينة.

(1/20)


(20) دخول وقتٍ لفرضه، أي لفرضه الحاضر على من حدثه دائم كسلس البول، والإستحاضة، يجب على المستحاضة أن تصبر حتى يدخل الوقت، كذلك من به سلس البول، لا يجوز لهم أن يتوضؤا قبل الوقت، بمعنى يتوضؤن لكل وقت.
(21) هذا هو مذهب الإمام أحمد، المضمضة والاستنشاق داخلين في غسل الوجه، أي يجب على المتوضئ أن يتمضمض ويستنشق ويستنثر، ويسبق ذلك غسل الكفين ثلاث مرات.
وهذه من المسائل التي بينتها السنة كما سيأتي، جاء مجملاً في القرآن وبينَّته السنة.
(22) وحدُّ الوجه طولاً من منابت شعر الرأس إلى الذقن، الذقن داخلٌ في الوجه، الذقن ملتقى اللحيين، العظم الذي عليه اللحية يسمى لحم, وملتقى اللحيين هنا يسمى ذقن -بالذال-.
ولذلك تسمى العامة اللحية ذقن، تحريف، الذقن ملتقى العظميين لا الشعر، الشعر ما يسمى ذقن، ولا يسمى ذقن, لغة مُغّيَّرة، اللحية لحية، سميت لحية لأنها تنبت على اللحيين، على اللحيين مع الذقن تسمى لحية، اللحية شعر الخدين والذقن، والذقن داخل بالوجه، إلى الذقن أي مع الذقن، وعرضاً إلى فروع الأذنين.
هل الأذنين من الوجه أم لا ؟
هناك خلافٌ بين أهل العلم, ويرى الإمام أحمد أنَّ الأذنين من الوجه، بدليل أنَّ من يمسح رأسه يمسح الأذنين مع الرأس، ولا يأخذ ماءً جديداً.
وعلى كلٍ، دخول الأذنين في الوجه محل خلاف, وعلى القول أنَّهما خارجتان عن الوجه، يكون معنى قوله إلى فروع الأذنين: إلى على بابها، ليست بمعنى مع فروع الأذنين, غير داخلتين في الوجه.
(23) أي مع المرفقين، [إلى] هنا بمعنى : [مع]، المرفق يغسل، بل يجب أن تشرع في غسل العضد لنتأكد من غسل المرفق، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، الشروع في غسل العضد واجب لتتأكد من غسل المرفقين, لأن المرفقين من اليد في باب الوضوء، اليد لها معاني، اليد تطلق على الكفين وتطلق على الذراعين، وتطلق على اليد بطولها إلى الإبط، لكن اليد هنا مع المرفقين.

(1/21)


(24) كم مرة؟ الجواب أنه يمسح مرة واحدة، مسح جميع الرأس هذا هو الصحيح, فليغير وضوءه من ينتسب إلى مذهب الإمام الشافعي أو مذهب الإمام أبي حنيفة أو غيرهما, ممن يرون بأنه لا يجب مسح جميع الرأس,كما سيأتي ذكر سبب الخلاف عند الآية، الواجب هنا الرجوع إلى بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كيفية مسح الرأس, وما يفعله بعض المنتسبين إلى مذهب الإمام الشافعي من أن الواحد يأخذ الماء بطرف إصبعه ويعمل هكذا -أي بطرف يده-, ويكرر ثلاث مرات، لا، خطأ بل في بعض فروعهم القول يجوز ولو مسح بعض شعره -يعني شعرة واحدة- بدعوى التبعيض وبأن الباء للتبعيض، ما هذا التفسير بعد بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!! لا يجوز أن تتعصب وتتعلق بالمعنى اللغوي بعد بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم منك باللغة العربية؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بيّن كيفية مسح الرأس: أن تضع يديك على مقدم رأسك وتذهب بهما إلى القفا، ثم تردهما إلى حيث بدأت، سواءٌ اعتبرت ذلك مرة أو مرتين، الذي يفهمه أهل العلم أن هذه مرة، بدليل لأنك لم ترفع اليدين، ذهبت بهما ورددتهما لو أنك تعلمت هكذا، ثم فعلت هكذا لاعتبرت مرتين، ولكن في الصورة التي فعلها -عليه الصلاة والسلام- حيث لم يرفع اليدين عند القفا، تعتبر هذه مرة، أي تمسح رأسك مرة واحدة ثم تعم, هذا الواجب.

(1/22)


(25) هذه المسألة التي أشرنا إليها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:((الأذنان من الرأس)), أخذ منه أن الأذنين من الرأس لا من الوجه، الأصل أو الصحيح عدم أخذ ماء جديد لهما، بل تمسحهما بالماء الذي أخذته لمسح الرأس مع الرأس، وثبت عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يأخذ لهما ماءً جديداً, وربما حاول أن يخفي ذلك عن بعض الناس, لأنَّه يرى أن هذا خلاف ما عليه الجمهور من الصحابة، الجمهور من الصحابة فهموا من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:((الأذنان من الرأس)) أنَّه لا يأخذ لهما ماءً جديداً, بل بعد ما ينتهي من مسح الرأس، يمسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بفضل ماء الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديداً.
(26) يقال هنا ما قيل عند المرفقين، غسل الكعبين واجب, بل يجب أن تشرع في الساق، في رأس الساق لتتأكد من غسل الكعبين، في كل رجلٍ كعبان، كعبٌ من الخارج، وكعبٌ من الداخل، فيجب غسلهما, وهما عظمان ناتئان في منتهى الساق.
(27) من واجبات الوضوء الترتيب بين الأعضاء، والموالاة بين الأعضاء, وعدم وجود فاصل طويل عُرفاً، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}[المائدة: من الأية 6].
(28) قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
(29) قوله تعالى:{فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}: أي مع المرافق.
(30) قوله:{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}: هذه الباء هي التي اختلف فيها الفقهاء، هل الباء هنا للإلصاق أو للتبعيض أو إنها زائدة، ما معنى الباء هنا؟
من فهموا من الباء أنها للتبعيض قالوا يكفي مسح الرأس، واختلفوا في هذا البعض، هل المراد بالبعض النصف أو الربع أو ولو بعض شعره؟

(1/23)


وهذا الاختلاف ينبغي أن ينتهي عندما تعلم بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وتقول ليست للتبعيض، إنما هي للإلصاق، إلصاق الكفين بالرأس.
(31) وقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}, وأرجلكم قرآئتان، الأولى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}، أي: فاغسلوا أرجلَكم وامسحوا برؤوسكم, والقراءة الأخرى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ}، أي: فامسحوا بأرجلِكم.
متى تمسح الأرجل؟ إذا كنت لابساً للخفين أو الجوربين، قراءة الجرِّ تفسر بما إذا كان الإنسان لابساً للخفين أو الجوربين، وأما في غير هذه الحالة؛ فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، أي مع الكعبين، هنا الآية: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}. من أين لنا أنَّ المضمضة والاستنشاق داخلان في غسل الوجه من السنة؟=
=السنة هنا تعتبر مُبَيِّنَة، السنة بينت الوجه أو كيفية غسل الوجه، أي من غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، والسنة بينت أن المرافق والكعبين داخلان في غسل الرجلان واليدين؛ لأنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يدير الماء على المرفقين حتى يأخذ في العضد, السنة تُبَيِّنُ وتفسر القرآن، وفي الرأس -كما تقدم- بَيَّنَتِ السنة معنى [الباء] هنا، وأنَّ مسح الرأس مرة واحدة مع الأذنين.

(1/24)


(32) الحديث رُوِىَ بلفظ الخبر وبلفظ الأمر، ((ابدءوا بما بدأ الله به))، يعني: يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-، عندما خرج من باب الصفا، وأخذ يرقى على جبل الصفا، قال: ((ابدءوا بما بدأ الله به))، أي في الرُّقِيِّ، أو قال للصحابة: ((ابدءوا بما بدأ الله به)), رُوِىَ هكذا وهكذا، وعلى كلٍ؛ فهذا استنتاج دقيق من الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، أخذ الترتيب من هذا,كأنَّه يقول: إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ الترتيب من قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}[البقرة: من الأية 158], {إِنَّ الصَّفَا}: بدأ بالصفا، أخذ من هذا الترتيب، وقال: ((ابدءوا بما بدأ الله به)), أي بالصفا والمروة، أو قال: ((ابدءوا بما بدأ الله به))، أي: بالصفا لا بالمروة، إذاً.. نحن نُرَتِّبُ لأنَّ الله بدأ بغسل الوجه ثم عطف باقي الأعضاء على غسل الوجه، علينا أن نرتب هذا الترتيب, هذا وجه الاستدلال.
(33) الإمام روى الحديث بالمعنى، ولكنه وافٍ؛ تجوز رواية الحديث بالمعنى إذا أدَّت المعنى المطلوب.
رأى رجلاً في قدمه لمُعة لم يصبها الماء -أو مثل الظفر- لم يصبها الماء، فأمره بالإعادة، هنا محل الخلاف، هل أمره بأن يتقن وضوءه؟..
(34) واجب الوضوء التسمية مع الذِّكر، الأحاديث التي وردت بهذا الحكم لم تسلم من مقال، ولكنها بمجموعها قد تنهض وتكون التسمية واجبة, هذا عند الإمام، وعند الجمهور سنة ليست بواجبة، والإمام يشترط الذكر، إذا لم يتذكر ونسي ليس عليه شيء, فهذا الوجوب ليس بتلك القوة, والله أعلم.
(35) الخارج من السبيلين -سواء كان معتاداً أو غير معتاد- كالحصى والدود (غير معتاد), إذا خرج، نقض الوضوء، وأمَّا بالنسبة للمعتاد كالبول والغائط فهو محل إجماع, وفيما عدا غير المعتاد مع الخلاف.

(1/25)


(36) والخارج الفاحش النجس من الجسد: كالدم، والقيح، والقيء، والقلس، إذا خرج، في المشهور في مذهب الإمام أحمد أنَّه ينقض الوضوء، الرواية الثانية: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء سواء كان قليلاً أو كثيراً.
وأمَّا على هذه الرواية،كونه فاحشاً؛ فالمرجع العرف، أي ما كان فاحشاً في العرف، ماكان كثيراً فاحشاً في العرف, لأنهم يختلفون، وكل مالم يرد تحديده في الشرع, المرجع العرف.
ولكنَّ الرواية مرجوحة، الرواية الراجحة عدم نقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين، لعدم وجود دليل صريح صحيح, لأنَّ طلاب العلم يفرقون بين الصحيح والصريح، قد يكون الدليل صحيحاً ولكنه غير صريح، غير صريح في المسألة أي فيه إحتمال، والأدلة هنا استدلوا بحديث القيء, أنَّه -عليه الصلاة والسلام- قاء فتوضأ, وقس على ذلك الرعاف والدم الخارج من البدن، والقلس وهو ما دون القيء، ما يخرج من الحلق ولم يصل إلى المعدة، أي أنَّهم قاسوا على القيء، فهل حديث القيء صريح، إن كان صحيحاً أي صريح بأن الوضوء انتقض، وهل مجرد كون النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ ولم يأمر بالوضوء، يدل على الوجوب، أو يدل على المشروعية, على مطلق المشروعية, إذاً الدليل غير صريح، هذا معنى قولنا: لا يوجد دليلٌ صريح.
بل المعروف عند الصحابة أنهم قد يخرج منهم دم في كثير من المناسبات، كالجروح في الجهاد ،وكأن يعصر أحداً بتره فيسيل, أو دملاً فيسيل منه الدم أو القيح, فيصلون ولا يتوضئون، وليس بمعروفٍ الوضوء مما يخرج من البدن، سواء كان كثيراً أو قليلاً، لذلك الرواية الثانية هي الراجح،ة والله أعلم، والروايتان في المذهب، ومسألة الترجيح كما شرحنا.
(37) لا أعلم في هذا خلافاً.
(38) إذاً أيضاً مسألة خلافية: مسُّ المرأة.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
* المذهب الأول: مطلق المسِّ ينقض الوضوء, ولو لم يكن بشهوة, مطلق المسِّ، وهذا الذي عليه الإمام الشافعي.

(1/26)


* المذهب الثاني: هو هذا إذا كان بشهوة.
* المذهب الثالث: لا ينقض الوضوء مطلقاً مسُّ المرأة، والذي ينقض الوضوء الجماع, ينقض الوضوء ويوجب الغسل، هذا مذهب ابن عباس -رضي الله عنه-، وكان إذا خالفه الناس يجعل إصبعيه في أذنيه ويقول: ألا وهو الجماع, في تفسير قوله تعالى:{ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}[المائدة: من الآية6]، سواءً على قراءة لامستم، أو على قراءة لمستم، فسَّر ترجمان القرآن عبد الله بن عباس اللمس بالجماع, وما دون الجماع لا ينقض الوضوء، هذا المذهب الثالث، وعليه أهل الحديث، وإليه نميل -إن شاء الله-، والله أعلم.
(39) يشمل القبل والدبر، ويختلفون في فرج غيره, إذا مس فرج نفسه، هذا محل إجماع، سواء كان قبلاً أو دبراً، والخلاف في لمس فرج غيره، ولكن إذا تتبعنا ألفاظ الحديث الذي جاء في هذا، نجد ما يدل على العموم، والأحوط أن يتوضأ الإنسان ولو لمس فرج غيره.
(40) مسألة أخرى خلافية,لم يذهب إلى هذا المذهب من الأئمة غير الإمام أحمد -رحمه الله-، وأمَّا الإمام الشافعي لماَّ بلغه الحديث -وهو حريص على تتبع السنة-, من شدة حرصه -رحمه الله- كان يقول لتلميذه الإمام أحمد بن حنبل: يا أخي! أنت أعلم منّا بالحديث؛ فإذا بلغك حديث فأعلمنا، فيطلب منه أن يعلمه ويخبره بثبوت حديثاً ما، لأنَّ الإمام أحمد كان معروفاً بحرصه على جمع الحديث، ويدل على ذلك كتابه العظيم هذا, الموسوعة العظيمة، "مسند الإمام أحمد", والإمام الشافعي كان كثير الاستنباط حريصاً على فقه الحديث, فيطلب من الإمام أن يخبره ما ثبت عنده من الأحاديث ، فلما بلغه هذا الحديث: ((من أكل لحم جزور فليتوضأ))، قال الإمام الشافعي إن صح قلت به، أي بلغه ولم يصح عنده، هذه من أسباب اختلاف الفقهاء في المسائل الفقهية الفرعية,كما نصَّ على ذلك الإمام ابن تيمية في كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". =

(1/27)


=من أسباب اختلاف أهل العلم، أنه قد يبلغ الحديث إمام من الأئمة، مثل هذا الحديث بالنسبة للإمام الشافعي, ولكن لم يصح عنده، فعاش بقية حياته ولم يثبت عنده هذا الحديث, لم يصح عنده، ليس مجرد الحديث يكفي، إذاً لا بد أن يبلغك الحديث ويصح عندك, فيجب العمل به بعد ذلك، مات الإمام الشافعي -رحمه الله- ولم يصح عنده هذا الحديث, فصح بعده عند كبار أصحابه، يقول الإمام البيهقي: وقد صحَّ عندنا، ونقول به، وهو مذهب الشافعي بناءاً على القاعدة التي قعدها الإمام الشافعي -رحمه الله-: ((إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي, وإن خالف قولي قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاضربوا بقولي عرض الحائط))، هكذا كان يقول الإمام الشافعي، وقال قبله هذه المقالة الإمام أبو حنيفة، الذي يعتبر أتباعه -اليوم- أشد الناس تعصباً لأراء الرجال، والأئمة الأربعة بريئون من المتعصبين، من المقلدين المتعصبين الذين يقدمون آراءهم ومذاهبهم على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، بل الإمام أبو حنيفة من أشدِّ الناس في هذا الباب، يقول: ((حرامٌ على من يقلدنا ولا يدري من أين أخذنا))، بهذه العبارة روى ابن عبد البر وصاحب حاشية ابن عابدين تحريم الإمام أبي حنيفة التقليد، حتى يعرف الإنسان من أين أخذ هذا الرأي , ومع ذلك بعض الناس يتعصبون تعصباً شديداً للأراء المنسوبة إلى مذهبه، وإن لم تكن من أقواله، بمجرد إنتساب هذه الأراء إلى مذهبه، فيرى تقديمها على الأحاديث الصحيحة؛ فيقول قائلهم: لو بلغني مائة حديث مخالفاً للمذهب، قدمت المذهب، ما أسوء هذا القول، يشبه قول رجال القانون الذين قدموا أراء الرجال في الأمور الدستورية مع علمهم بصحة الأدلة الشرعية، يكون هذا غير متبع لسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، من بلغ به التعصب إلى هذه الدرجة؛ فليقرأ قوله تعالى -لعله يتوب-:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ

(1/28)


يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء: 65], يجب على المسلم التسليم لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-, ليصح بذلك دعوى الإيمان برسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
الشاهد أنَّ الإمام الشافعي أوقف القول بهذا الحديث بصحته ولم يصح عنده، ولكن صح بعده، ونحن صح عندنا الآن؛ فيجب القول بهذا الحديث، وإن كنتَ فيما سبق دارساً للفقهيات على مذهب الإمام الشافعي؛ فتعلَّم مذهبه، وأنَّ هذا موافق لمذهبه.
(41) كذلك من المسائل المختلف فيها تغسيل الميت, على الصحيح أنه لا ينقض الوضوء، ولا يوجب الغسل، الحديث الذي يقول: ((من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)) ,حديث ضعيف، ضعَّفه الإمام أحمد نفسه, وإن حسَّنه غيره, و إذا أردنا أن نجمع بين الأراء قلنا بالإستحباب, هذه أقصى درجة تقال، أمَّا الوجوب فلا، لايجب على من حمل الميت أن يتوضأ, وهذه الرواية مرجوحة والراجح المسألة الأخرى، أي الرواية التي في المذهب، والله اعلم.
(42) عن ذلك لا أعلم فيها خلافاً والله أعلم.
(43) لماذا من ثلاث؟ ماذا نُقَدِّرُ التمييز [هنا]؟ التمييز يكون هنا مجرور، نقول: "من ثلاث جهات"، والتركيب العربي يقتضي هذا، وأمَّا قولنا: "من ثلاثة"؛ فيعني من ثلاثة أشياء.

(1/29)


(44) إزالة النجاسة من ثلاثة أشياء: من البدن، والثوب، والبقعة, أي المكان الذي يُصَلَّي فيه، والدليل قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4], وإن كان هذا الدليل -حسب ما تقدم من تفسير الإمام نفسه- المُراد بالثياب هنا الأعمال، أي طهر أعمالك, لكنَّ الطهارة في هذه الأماكن محل إجماع والأدلة كثيرة، وكون النبي -عليه الصلاة والسلام- ذات مرة صلى في نعليه وخلع وهو في الصلاة؛ فخلع الصحابة من بعده، فلمَّا سلَّم سألهم: لماذا خلعتم نعالكم؟ فقال الصحابة: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال الرسول-صلى الله عليه وسلَّم-: أمَّا أنا؛ فقد أتاني جبرائيل؛ فأخبرني أنَّ تحت نعلي قذراً، أي: نجساً، إذاً الطهارة من النجاسة في ملابسك وفي بدنك وفي مكانك شرطٌ لصحة الصلاة، لا إشكال فيه.
ولكن في هذا الحديث فقه آخر، وهو أنَّه من صلى في ثيابٍ يظنها على طهارة؛ فعلم -وهو في الصلاة- أنَّ غترته, ليست بطاهرةٍ فماذا يفعل؟ الغترة ما يضع على الرأس.
الجواب: يرميها ويكمل صلاته, لا يستأنف.
لكن إن كان ليس بالإمكان و ثوبه نجس كيف يفعل؟
الجواب: يقطع.=
=إذا كان في الإمكان أن يتخلص مما فيه نجاسة: كغترته، وطاقيته، وشاله، لا يبطل صلاته؛ يرمي هذا الشيء فيتم صلاته، من أين نأخذ ذلك؟
النبي -صلى الله عليه وسلَّم- لما أُخبر أنَّ تحت نعليه قذراً، خلع نعليه ثم استمر في صلاته، فلم يقطع صلاته؛ فصلاته صحيحة؛ وعلى هذا؛ فلو خرجت من الصلاة، وبعد أن خرجت من الصلاة علمت أن ثوبك غير طاهر، هل تعيد؟ لا؛ ولكن تُطَّهر للمستقبل.

(1/30)


(45) أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو يقدر؛ قولي: "وهو يقدر"، يشير إلى فاقد الطهورين، إنسان فقد التراب والماء معاً؛ فيصلي على قدر حاله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: من الآية16]، حدُّ عورة الرجل من السُّرَّةِ إلى الركبة، والفقهاء يدققون فيقولون: هل السرة والركبة داخلان في العورة أم لا؟ أو هما حد فاصل بين العورة وغير العورة؟ والأحوط ستر السُّرَّة والركبة، وإن كان يرى بعضهم أنهما ليسا من العورة, ولكن ما يتم الواجب به فهو واجب، [لا يتم ستر ما قبلهما إلاَّ بسترهما]، والأمة كذلك أي كالرجل، والحرة كلها عورة إلا وجهها، هذا في مذهب الإمام، والصحيح إلا وجهها وكفيها، المرأة عورة وهي في الصلاة إلا وجهها وكفيها، لا يجب ستر وجهها وكفيها في الصلاة مالم تخف نظر أجنبيٍ إلى وجهها؛ فتستر كما تستر المحرمة وجهها؛ إذا خشيت الفتنة من نفسها أو على نفسها، وجب عليها أن تستر وجهها،بصرف النظر عن الخلاف القائم بين أهل العلم، هل الوجه عورة أم لا؟ أي في غير الصلاة، ولكن الستر واجب، سواء اقتنعت أنَّ الوجه عورة أو لم تقتنع، ولكنك مقتنع أنَّ الوجه محل فتنة، إذاً لدفع الفتنة يجب ستر الوجه، سميت ذلك عورة أو لم تسمي، والخلاف لفظيٌ على هذا. =
=والدليل قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأَعْرَافُ:31]، أي: عند كل صلاة؛ يقولون هذا من باب إطلاق المحل وإيراد الحال، المسجد محل للصلاة، والصلاة هي التي تحل في المسجد، {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأَعْرَافُ:31]، أي: عند كل صلاة، لأن الأصل والغالب أنَّ الصلاة تؤدى في المساجد، والمراد بالزينة هنا: ما يستر العورة، وما زاد على ذلك؛ فهو من الكماليات.

(1/31)


(46) أي أن تعلم يقيناً أن الوقت دخل، إمَّا بشهادةٍ أو خبر الثقة، والدليل من السنة حديث جبرائيل -عليه السلام-: أنَّه أمَّ النبي -صلى الله عليه وسلَّم- في أول الوقت وفي آخره؛ فقال: ((يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين))، وهذا دليلٌ على اهتمام الشريعة الإسلامية بالصلاة، الله -سبحانه وتعالى- لمَّا أوجب الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء والمعراج؛ فنزل النبي -عليه الصلاة والسلام- ؛ فأرسل إليه جبرائيل ليعلمه كيفية الصلاة، ووقت الصلاة، ومحل الجهر ومحل السر؛ هذا الاهتمام دليل على أنَّ الصلاة كما تقدم عمود الإسلام، وتهاون كثيرٍ من الناس بالصلاة مع دعوى الإيمان، دعوى غير مسموعة.
(47) وقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتًا}[النساء:103]،كتاباً: أي مكتوباً مفروضاً في الأوقات، أي لم يطلقها الرب -سبحانه وتعالى- بل قيدها بالأوقات؛ فيجب أن تؤدى في الأوقات، لذلك من فوتها بغير عذرٍ؛ فلم يصلها في وقتها، يختلف أهل العلم في القضاء هل يقضي أم لا؟ لأنَّ الصلاة فاتت بوقتها، إلا من نام أو نسي، الثابت في السنة أن يصلي بعد خروج الوقت هو النائم أو الساهي, أما من يتركها عمداً يختلف أهل العلم في هل يقضي أم لا؟ أي لا قضاء لها، لأنها فاتت وقتها، والله أعلم، وعلى كلٍ ينبغي على طلاب العلم أن يُشعروا عوام المسلمين مكانة الصلاة في الإسلام,كثيرٌ من المسلمين المنتسبين إلى الإسلام على جهل، لا يعرفون مكانة الصلاة في الإسلام، يتهاونون، وقد يقعون في الكفر بالاستخفاف بها وتركها سنوات؛ وهذا بالنسبة لمن يترك الصلاة ولم يجحد وجوبها، ولكن تأثر بالبيئة التي يعيش فيها: يتكاسل ويتهاون؛ فيتركها سنوات، يعني: يضرب عنها إضراباً تاماً، أمَّا من جحد وجوبها؛ فيكفر بالجحود، ولو صلي مداراة ومجاملة، يقول: أيش نسوي ما دام نحن معهم؟ لكن نصلي ما فيها شيء؛ هذا كافر وهو في صلاة.

(1/32)


(48) {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسراء:87]، أي: لميل الشمس، وميل الشمس يشمل ميلها عند الزوال، وميلها عند الغروب؛ فدخلت صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب والعشاء، ثم قرآن الفجر، أي: صلاة الصبح، بهذا تكون الآية دلَّت على الأوقات.
(49) {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء: من الآية87]، أيَّد بعض أهل العلم في هذه الآية أنَّ صلاة الصبح هي الصلاة الوسطى، والخلاف قوي، وإن كان الذي عليه الجمهور أنَّ الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، لكن دلالة هذه الآية، وما يحصل من اجتماع الملائكة الذين يتعاقبون فينا بالليل والنهار، يحصل اجتماعهم في الوقتين في صلاة العصر وفي صلاة الصبح، هذا الذي قوى هذا الخلاف، ولكن كثرة الأدلة، وكثرة من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، تجعل الإنسان يهاب من هذه الكثرة= =أن يخالفهم إلى ترجيح القول بأن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، وإلا فالخلاف قوي جداً، والله أعلم.
(50) قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}[البقرة: من الآية144]، خطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يتمنى أن يصلي إلى قبلة إبراهيم عليه السلام.
(51) {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة: من الآية144]، الكعبة.

(1/33)


(52) {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة: من الآية144]، الشطر الجهة،كيفية الاستقبال تختلف بالنسبة لمن هو داخل المسجد الحرام، يجب عليه أن يصيب عين الكعبة بصدره كله لا يخطئوها، لو أخطأ بطلت صلاته، ومن كان خارج الحرم -وهو في مكة- يجتهد، يجب عليه أن يصيب المسجد الحرام، ولا يجب عليه أن يصيب الكعبة، مع التحري، يتحرى، ومن كان خارج مكة -كحالنا- الواجب الجهة، وليس بلازم إذا صليت أن تكون صلاتك على عين الكعبة، أو عين المسجد الحرام، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: من الآية16]، وعلى من كان بعيداً أن يصلي إلى الجهة، فيتحرى، وإن كانت هناك آلات تحاول أن تحدد، ويمكن أن تستعمل أخبار الثقات والمجرِّبين، يتحرى، ولكن لا يجب عليه أن يصيب القبلة بعينها.

(1/34)


(53) سبق أن ذكرنا أن النية عند بعض أهل العلم ركنٌ، ما وجه تعداد النية من الشرط؟ علماً بأن النية داخلة في هيئة الصلاة، وفي هيكل الصلاة؟ لماذا عددنا النية شرطاً؟ ولم نَعُدَّها ركناً بينما غيرنا عددها ركناً؟ ما وجهة ذلك؟ باعتبار المبدأ؛ لأنك في البداية تنوي، والنية تسبق الصلاة، والشروط خارجة عن الصلاة، والنية باعتبار مبدأها خارجة عن الصلاة، لكن باعتبار وجوب الاستدامة هي داخلة في الصلاة، وتستمر معك حتى تنتهي من الصلاة، هذا وجه الآخرين الذين عَدُّوا النية من الأركان؛ والخلاف لفظي، ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة ، عند الشافعية: التلفظ بالنية سنة، فقهائهم المتأخرين يعللون فيقولون: ليساعد اللسان القلب، لكن أين الدليل؟‍‍‍ يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- وجزاه الله عنا وعن طلاب العلم خير الجزاء، نَبَّهنا على مسألة لم نعلمها قبله، يقول: شبهة الشافعية، قول الشافعي: إنَّ الصلاة ليست كالصيام، وإنما يشرع فيها بذكر الله، أساء الشافعية الفهم في هذا النص الشافعي، ظنوا أن المراد بالذكر أن يقول المصلي: نويت أن أصلي العصر أربع ركعاتٍ أداءً مستقبل القبلة مقتدياً بهذا الإمام(!) هكذا يقرءون قبل الصلاة، فسَّروا بهذا، يقول العلامة ابن القيم: مراد الشافعي أنَّ الصلاة يشرع فيها بذكر الله، أي بالتكبير، والصيام ليس فيه التكبير، تنوي وتنام، وتقوم تمشي لا تأكل ولا تشرب، هل شرعت فيه بذكر اللسان؟، ذكر القلب لا بأس، أمَّا ذكر اللسان لم يحصل، أمَّا الصلاة فتشرع فيها بذكر لفظي، وهو الله أكبر، يقول هذا، وهم من الشافعية المنتسبين إلى الإمام الشافعي، وَهِمُوا في فهم قوله، وهذا مراده، وهذا هو الأساس في الخلاف؛ فطالب العلم علم هذا، لا يقرأ هذه الجملة بعد اليوم قبل تكبيرة الإحرام، إذا استقبل القبلة يكبر، شوف الفرق بين أن يقال: "بدعة"، وبين أن يقال: "سنة"، فرق بعيد، القائل أنها بدعة أي: لا أصل لها غير مشروعة،

(1/35)


البدعة عمل غير مشروع، والسنة عمل مشروع، وهل التلفظ بالنية مشروع؟ الجواب: لا، عند طلاب العلم، اللهم إلا إذا كان في الحج والعمرة؛ أمَّا في الوضوء، وفي الصيام، وفي الصلاة، لم يرد شيء؛ والتلفظ في هذه الأماكن بدعة.
(54) وهذا حديث عظيم، ويختلف أهل العلم: هل النية ركن من أركان الصلاة أو شرط من شروط الصلاة؟ سبق لنا أن ذكرنا توجيه أهل العلم بين القولين، وأن الخلاف لفظيٌ، وليس بجوهري، أي: إن النية لا بد منها، سواءً سميناها شرطاً لكونها أول ما تقع خارج العمل، أو سميناها ركناً باعتبار استدامتها، بحيث لو نوى الإنسان قطع الصلاة، أو قطع الوضوء، في أثناء العمل، تبطل الصلاة، ويبطل الوضوء، إذاً: لا بد من استمرار النية؛ بهذا الاعتبار تعتبر ركناً من أركان الصلاة، النية عند الفقهاء لها معنى، وعند أهل الحديث والسلوك والعقيدة لها معنى، النية عند الفقهاء: "القصد إلى العمل"، أو: "الإرادة المتوجهة إلى العمل"، تلك الإرادة التي يتعين بها العمل، تفرق بها بين الفرض والنفل، تصلي الظهر، تصلي ركعتين، قبل الظهر أو بعد الظهر، تصلي العصر أو الظهر، تفرق بين هذه الأعمال بالنية، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))، القصد المتوجه إلى هذا العمل الذي يفرق بين الفرض والنفل، ويعين نوع العمل، هذا القصد -أو الإرادة- المتوجهة، هي التي تسمى النية عند الفقهاء، والحديث يشمل هذا وذاك، وعند أهل الحديث، أهل السلوك والعقيدة، المراد بالنية: "الإخلاص"، أي إرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته في العمل، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما الأعمال بالنيات))، يشمل هذا وذاك، لذلك يعتبر هذا الحديث من جوامع كلمه وحكمه -عليه الصلاة والسلام- حيث يجمع جميع المعاني.

(1/36)


وهذا الحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، الذي استدل به المؤلف على شرطية النية بقوله: "والدليل حديث: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))"؛ قال بعض أهل العلم: إنَّ هذا الحديث يدخل في ثلاثين باباً، حتى قال الإمام الشافعي: يدخل في سبعين باباً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، من فتح الله عليه، ورزقه الفقه في الدين، استطاع أن يُدخل هذا الحديث في جميع الأبواب، وقال بعضهم: إنَّه ثلث العلم، وَوَجَّه الذهبي هذا الكلام فقال: لأنَّ كسب العبد إما بالقول، أو بالقلب، أو بالجوارح، اكتساب العبد الأعمال، يكتسب العبد الأعمال بالقلب واللسان والجوارح ثلاث، النية محلها القلب، صارت الثلث؛ ثم إنَّ الأعمال التي يكتسبها العبد باللسان وبالجوارح لا تستغني عن النية، والنية قد تستعمل عملاً صالحاً مستقلاً دون الجوارح، وعمل اللسان انقطاع من الحديث الشريف: ((نية العبد خير من عمله))، قد يعمل الإنسان عملاً لا يُوَفَّقُ إلى الإخلاص؛ فعمله لاغٍ، وقد يقول قولاً، ويقرأ كثيراً، لا يوفق للإخلاص؛ فقوله وقراءته وذكره لاغٍ، لا أجر له، لكنَّ النية قد تنفرد وتستقل؛ فتعتبر عملاً صالحاً، وأنت لم تعمل بجوارحك ولا بلسانك، كأن يعزم الإنسان عزماً على أن ينفق مبلغاً معيناً=

(1/37)


=من المال؛ فلم يتمكن من الإنفاق، لظرف ما، أو عازم على الجهاد في سبيل الله وحال بينه حائل، عزم على عملٍ صالحٍ ولم يعمل لمانع منعه؛ يثاب على هذه النية؛ لأن من همَّ بحسنةٍ ولم يعملها، تكتب له حسنة، وهو لم يعملها لا بالقول ولا بالجوارح، إذاً النية قد تنفرد وتستقل؛ فتعتبر عملاً مستقلاً، يثاب عليها المرء دون أن يعمل شيئاً، لذلك النية الصالحة الثلث، خير من الثلث، ((إنما الأعمال بالنيات))، "إنَِّمَا": أداة حصر وقصر، أي: إنما صحة الأعمال بالنيات، وفي لفظ في الحديث: ((بالنية))، بالإفراد، بالنِّيات: جمع باعتبار تعدد الأعمال، إنما الأعمال بالنيات، سواء على الإطلاق الأول، إطلاق الفقهاء، أو على الإطلاق الثاني، المعنى صحيح، إنما صحة الأعمال بالنيات، بدون نية صالحة والعمل فاسد، إذا صحت النية وعمل عملاً صالحاً بنية صالحة صح عمل، إن عمل عملاً والنية فاسدة؛ فسد عمله: ((إنما الأعمال بالنيات))، لذلك يستفتح كثير من المؤلفين الأولين بهذا الحديث، حديث عظيم مبارك، ومن جوامع كلم النبي -عليه الصلاة والسلام-.
(55) وأمَّا العاجز فيصلي حيث تيسر له، وإن قاعداً أو مضطجعاً، ولو أدَّى الحال إلى أنَّه عادم الحركة، ولكنه عنده شعور يجري أعمال الصلاة على قلبه، وإلى هذه الدرجة الصلاة لا تسقط، طالما الإنسان عنده شعور، ولو كان لا يستطيع أن يتحرك، أو لم يجد من يساعده على الحركة، عليه أن يجري أعمال الصلاة على قلبه، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة في الإسلام، ولا تسقط حتى عند الحرب في الخوف في القتال، تجب بهيئة معروفة، فكيف يترك الإنسان الصلاة ثم يدَّعي أنَّه مسلم، فليتنبه.
(56) لأنها مفتاح، تحريم الصلاة ومفتاح الصلاة تكبيرة الإحرام، بها يدخل الإنسان في الصلاة.

(1/38)


(57) على الجميع أي على الإمام والمأموم والمنفرد على حدٍ سواء، وعلى الأصح ولو في الصلاة الجهرية، استماع المأموم لقراءة الإمام والإصغاء لها، لا يسقط عنه قراءة الفاتحة على أصحِّ أقوال أهل العلم، والمسألة خلافية، لأنَّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، يشمل الإمام والمأموم والمنفرد، قال: ((لاصلاة لمن لم يقرأ))، والاستماع غير القراءة، صحيح أنّه واجب على المأموم أن يصغي لقراءة الإمام، ولكن المقدار الذي يقرأ فيه فاتحة الكتاب يستثني، سواء قرأ الفاتحة مع الإمام يتابع، أو يتمكن من قراءتها في سكتات الإمام، أو يقرأ والإمام يقرأ السورة في أي حالة من الحالات، إذ لم يرد تحديد لزمن قراءة المأموم للفاتحة، ولكن لا بد من قراءتها، فصلاة من لم يقرأ بفاتحة= =الكتاب باطلة، سواء كان إماماً أو منفرداً، وعلى الصحيح كما قلنا: ولو كان مأموماً يصلي خلف إمام يجهر، وأقوى دليل على هذا، الحديث القدسي الذي قال الله فيه: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين))، المراد بالصلاة هنا الفاتحة، الله سمَّى الفاتحة صلاة، ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله -عزَّ وجل-: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علىَّ عبدي، وإذا قال العبد: مالك يوم الدين، [أو ملك يوم الدين]، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم… الى آخر السورة، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))، تسمية الربِّ -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي الفاتحة صلاة، وهذا يشمل جميع المصلين، بمعنى: من لم يقرأ الفاتحة ليس له صلاة، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، ويؤيد بعضه بعضاً، لذلك لا ينبغي للمأموم -ولو كان خلف إمام يجهر- أن يترك فاتحة الكتاب، اعتمادا على ما قرأ في

(1/39)


مذهب من المذاهب، لأنه إذا ثبت عنده مثل هذا الحديث، والحديث الثاني: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، وما في معناهما من الأحاديث التي جاءت في فاتحة الكتاب، لا يجوز له أن يعرض عن هذه الأحاديث بدعوى أنه على مذهب فلان، وأنَّ المذهب الفلاني لا يوجب الفاتحة على المأموم، وخصوصاً إذا كان الإمام يجهر، هذا الموقف غير سليم، وقد نصح الإمام مالك -رحمه الله- إمام دار الهجرة وكبير المدرسين في [المسجد النبوي] في عهد تابع التابعين الذي كان يُدَرِّسُ بجوار الروضة، كان يقول لأصحابه: "كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر"، مشيراً إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقبر بجوارهم، وهذا معناه: لا ينبغي لمسلم -خصوصاً طالب علم- اطلع على حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ويدعي أنَّ هذا الحديث معارض لمذهبنا؛ فيترك الحديث بدعوى إتباع المذاهب، واتباع المذاهب ليس بواجب، لا يوجد مخلوقٌ يجب اتباعه، ونسأل عن إتباعه إن قصرنا في إتباعه، إلاَّ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلَّم-، أبداً، لا يوجد، وقول من يقول: "وواجبٌ تقليد حبرٍ منهم"، كذا حكى القول، بلفظ يُفهم كما حكى ذلك صاحب جوهرة التوحيد، هذا كلام باطل، لا يجب تقليد أحد المذاهب الأربعة، لا يجب، بل الأصح لا يجوز، الوجوب حكم شرعي، الحكم الشرعي لا يثبت إلا بكتاب أو سنة، من يدَّعي الوجوب عليه أن يأتي بالدليل، ما معنى وجوب تقليد الإمام مالك وفي وقته يوجد ثلاثة من أئمة المسلمين في طبقته؟ ويعتبر الأربعة أئمة الدنيا في عهد تابع التابعين كما قال الإمام ابن تيميه: "أربعة من أئمة الدنيا في عصر تابع التابعين، منهم الإمام مالك في الحجاز، والليث بن سعد بمصر، والثوري في العراق، والأوزاعي في الشام"، ثلاثة لا يجوز تقليدهم، الرابع يجب تقليده؟!!! =

(1/40)


=من أين؟ ما الدليل؟ الثلاثة لا يجوز، مش لا يجب! لا يجوز، مجرد الجواز لا يجوز، لا يجوز أن نقلد ليثاً أو ثورياً أو الأوزاعي في الشام، لكن الإمام مالك يجب أن تقلده، أيش هذا التقسيم من أين؟ من الذي يوجب هذا الإيجاب؟ هل نزل وحيٌ يقول: "إذا بلغ الإمام درجة الإمامة فيجب على الأمة تقليده"، لا بُدَّ من وجود نص كهذا، هل يوجد؟! لذلك دعوى تقليد أحد الأربعة دعوى باطلة، إنما مَثَّلْتُ بمالك، لأني استدللت بقوله، ثم تذكرت الثلاثة الذين في طبقته، وإلا فالحكم واحد، الإمام أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد كلهم من أئمة المسلمين، ومعهم من هم مثلهم، ألم يكونوا أعلم منهم؟ وقد قيل أن الليث بن سعد أعلم من مالك، الشاهد: الواجب الذي يجب اتباعه، ونُسأل عن اتباعه، هو محمد -عليه الصلاة والسلام- وكل مسلم يعلم ويحفظ الأسئلة الثلاثة التي يسأل عنها في القبر، إذا دفن الإنسان يُسأل هذه الأسئلة الثلاثة، ولا بد منها: من ربك؟ ومادينك؟ ومن نبيك؟ وفي بعض الألفاظ: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ وهو محمد -عليه الصلاة والسلام-، وليس في الأسئلة من إمامك؟ ما مذهبك؟ وما طريقتك؟ غير وارد، إمامنا وقدوتنا ونيبنا وقائدنا إلى الله هو محمد -عليه الصلاة والسلام- مالنا إمام آخر، والأئمة الأربعة ومن في طبقتهم دعاة إلى اتباع هذا الإمام، لم يأتوا ليدعوا الناس إلى اتباع أنفسهم، لذلك يقول الإمام أبو حنيفة: حرامٌ أن يقلدنا أحدٌ حتى يعرف من أين أخذنا، نقلها غير واحد من أهل العلم، كابن عبد البر، وابن عابدين في حاشيته الحنفية، أريد أن أؤكد لطلاب العلم أنَّ تجريد المتابعة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا تقل عن تجريد العبادة لله، لأنَّ تجريد العبادة لله: معنى لا إله إلا الله، وتجريد المتابعة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-: معنى قولك أشهد أنَّ محمداً رسول الله، كلمتان ككلمة واحدة، لا يتم الجزء الأول بدون الثاني، والجزء الثاني بدون

(1/41)


الأول، فلنفهم جيداً.
إذاً فاتحة الكتاب ركنٌ مهم من أركان الصلاة.
(58) يسمى الاعتدال، سمَّى الشيخ ما قبل الركوع قياماً، ولم يسمي ما بعد الركوع قياماً، قال الرفع منه، يسمى الرفع من الركوع ويسمى الاعتدال، هذا هو سبب اختلاف أهل العلم في مشروعية وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر بعد الركوع، أي هل هذا القيام داخل في عموم القيام؟ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قائماً، يضع يمناه على يسراه على صدره، إذا كان قائماً، وهل إذا كان قائماً قبل الركوع؟ أو قبل الركوع وبعد الركوع؟ احتمال، لكن أقوى الاحتمالين ما هو؟ قد يكون الحديث نصاً في القيام الذي قبل الركوع، والذي بعد الركوع ليس فيه نص، ويعتبر ظاهراً، ونحن نفرق بين =

(1/42)


=النص وبين الظاهر، النص ما لا يحتمل معنيين، والظاهر يحتمل معنيين، ما قبل الركوع لا خلاف فيه بأنه القيام، وما بعد الركوع يحتمل أن يدخل في عموم الحديث، ويحتمل ألا يدخل، ولعل هذا هو الذي جعل الإمام أحمد -رحمه الله- يخيّر المصلي بالنسبة لوضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الركوع، إن شاء أرسل وإن شاء قبض، ولم يخيرهذا التخيير بالنسبة لما قبل الركوع، لأنَّ الحديث فيه نص، والذي بعد الركوع فيه احتمال، إذا كان الأمر كذلك، لا ينبغي أن يتشدد صغار الطلبة، الذي يقبض يبدع الذي لا يقبض، والذي لا يقبض يبدع الذي يقبض، هذا خطأ وتعجل، وإن سبقكم إلى هذا التعجل من هو أعلم منكم، وأسن منكم، وأكثر منكم علماً، لكن كما قلنا: كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر؛ وأنا أستغرب قول العلاَّمة المُحَدِّث الشيخ/ ناصر الألباني في تبديع الوضع بعد الركوع، يعتبره بدعة، وهذا قول في فهمنا، قولٌ لا يؤخذ من الشيخ ناصر، مع اعترافنا له بالعلم والفضل والورع، حسب ما يظهر لنا، لأنَّنَا عاشرناه، وحرصه على اتباع السنة والدعوة إلى السنة وسلامة العقيدة -حسب علمنا- نشهد له بكل خير فيما نعلم، ولا نزكيه على الله، مع ذلك في مثل هذه المسألة، وغيرها من بعض المسائل، ينبغي التوقف في حكمه، ولكن قديماً قد قيل: "كفى بامرء فضلاً أن تعد معايبه"، نسأل الله أن يمد له في عمره في العمل الصالح وخدمة السنة.

(1/43)


(59) الأعضاء السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وأطراف أصابع الرجلين، هذه الأعضاء من حيث التطبيق كُلُّها واضحة، حتى عند العوام، ولكن ننبه على عضوين، أحدهما الأنف، بعض العوام يتكأتكاً على الجبهة حتى يكاد يسجد على رأسه، ويرفع الأنف وهذا خطأ، يجب أن تضع الأنف مع الجبهة، الأمر الثاني: أطراف أصابع الرجلين، كثيراً ما يسجد بعض الناس على ظهور الأصابع، الواجب السجود على بطون الأصابع، بطون أصابع الرجلين، لا على ظهورها، قد لا يفطن لهذا بعض الناس، خصوصاً في السجود الثاني، إذا جلس بين السجدتين، ثم سجد، يترك الرجلين، لا ينتبه لهما، ويسجد على ظهور الأصابع، والواجب النصح لمن رأيناه يفعل ذلك نصحناه، والنصح شيء، والتشدد والحكم بإبطال الصلاة شيء آخر، لا تتسرع بالحكم بأنَّ الصلاة باطلة، لأنَّ هذه من المسائل الخفية، المسائل الخفية -ولو كانت ركناً أو شرطاً- التي تخفى على بعض العوام، لا بد من التساهل فيها، معرفة الناس
وجوب السجود على بطون أصابع الرجلين، ليس كمعرفتهم السجود على الجبهة مثلاً، هذه قد تخفى، وهذه لاتخفى، فلينتبه.
(60) الجلسة الهيئة، هيئة معينة، ولما كانت هذه الجلسة على هيئة معينة، فيمكن أن نسميها جلسة.

(1/44)


هنا: ننبه المنتسبين إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، بعدم اشتراط الطمأنينة في الاعتدال، وفي الجلسة بين السجدتين، يعتبرونهما ركنين خفيفين لاتشترط الطمأنينة فيهما، وعمل الأحناف يدل على ذلك، لذلك تلاحظون الخفة في صلاتهم في الركنين، إذا رفع من الركوع، قبل أن يعتدل يسجد، وإذا رفع من السجود قبل أن يستقر يسجد، نقول: كأنهم تخرجوا من مدرسة واحدة، فهذا خطأ؛ فإذا عرفت بأن الطمأنينة ركنٌ، كما تعرف في حديث المسيء صلاته، لا فرق بين الركوع والسجود، وبين الاعتدال وبين الجلسة بين السجدتين، الطمأنينة واجبة وركن، أو شرطٌ في هذه الأركان كلها على حدٍ سواء، وإذا كنت حنفياً، ثم اطلعت على صفة صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام- يجب عليك أن تترك حنفيتك لتكون محمدياً صرفاً بدون إضافة، احذف الإضافات التي بينك وبين الرسول -عليه الصلاة والسلام-، اربط نفسك رأساً برسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقودك إلى الله، وأنت على بصيرة، لاتشك بأنك تصل إلى الله -إن شاء الله- إذا اتبعت قيادة محمد رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، احذف الإضافات التي في الوسط.
(61) والتسليمتان، لأن إعراب التسليمتان معطوف على ما قبله من المرفوعات، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه الألف والنون، عوضاً عن التنوين في الاسم المفرد، وكون التسليمتين محل من أركان الصلاة ليس محل اتفاق، عند بعضهم التسليمة الأولى، والثانية مؤكدة، بدليل قد يجوز للإنسان أن يكتفي بالتسليمة الأولى فقط، وهذه رواية في المذهب.

(1/45)


(62) والشاهد:{وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]، ولفظة:{قَانِتِينَ}، قد يستدل بهذه اللفظة من يرى وجوب الخشوع في الصلاة، {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]: خاشعين ساكنين، والخشوع في الصلاة روح الصلاة، سواء سميناه ركناً، أو شرطاً، أو واجباً، أو من أفعال الصلاة المهمة، والخشوع من أهم أعمال الصلاة، والصلاة بدون خشوع ميته، ومما ينافي الخشوع كثرة العبث في الصلاة، العبث شيء، والحركات التي يقصد بها مصلحة الصلاة شيء آخر، والناس هنا على طرفي نقيض، منهم من يتشدد في عدم الحركة ويتصلب إذا دخل في الصلاة، ولو كان هناك فرجة على يمينه أو على شماله، لو سحبته لن ينسحب، كأن رجليه مغروزتين في الأرض، ولو حاولت تقدم أو تأخر يتصلب، وهذا خطأ وهذا غلو، الطرف الثاني: طرف يكثر الحركة في الصلاة، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويرفع إحدى الرجلين ويقف على رجل واحدة، ثم يرد هذه ويقف على الثانية، عبثٌ كثير، هذا العبث يبطل الصلاة، والوسط أن تتحرك لمصلحة الصلاة، فرجةٌ على يمينك تسدها، أو جارك ليسُدّ، لا يجوز ترك الفرج والخلل بين الصفوف، أمامك فرجة في الصف الذي أمامك؛ فتقدم بهدوء لتسد الفرجة، كل هذا من مصلحة الصلاة، الصف معوج تتقدم وتتأخر لمصلحة الصلاة، هذه الحركات التي هي في مصلحة الصلاة لا تضر الصلاة، الحركات العبثية التي تعلمونها ووصفناها هذه تبطل الصلاة، والتصلب وعدم الحركة، وترك الصفوف معوجة وفي خلل، وأمامك فرجة لا تتحرك، هذه حنفية متطرفة لا تنبغي لمن ينتسبون إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، فيفسدوا بذلك سمعة الإمام بهذا التصرف، ولم يأمر الإمام بهذا أبداً، وهذا من متأخري الحنفية، هم الذين يفعلون هذا الفعل، وهذا لا ينبغي، ينبغي إتباع السنة، تحرك حيث دعت الحاجة إلى الحركة، ولا تتحرك بدون حاجة، هذا هو الاعتدال، وعلى كلٍ، هنا، عندما ندرس الأحكام الفقهية، نحن نتذكر المذاهب كلها، المذاهب الأربعة المدونة،

(1/46)


ونعلم أنَّ في الحضور من ينتسبون إلى هذه المذاهب الأربعة كلها، ولو فرداً واحداً؛ فالواجب علينا أن ننصح لكل منتسب إلى مذهب معين ليعلم أن دراسته للمذهب المعين للتفقه وللدراسة وللتعليم وللوصول إلى العمل بالسنة، دراسة المذاهب ليست محرمة، لك أن تدرس ما شئت من المذاهب الأربعة، وغير الأربعة، بل الأولى لو تمكنت أن تدرس الفقه على المذاهب الأربعة، هذا هو الأولى، لئلا تخرج بربع فقه، لا تكن ربع فقيه، كن فقيهاً، اطلع على المذاهب الأربعة= =حتى تكون فقيهاً، أمَّا كونك تقتصر على مذهب معين وتتعصب، ولو فرضنا أنَّك فقيه؛ فإنك ربع فقيه، إذاً لا تكن ربعاً، تعلم وأطَّلع، الذي يعينك على هذا أن تطَّلع على السنة، وعلى شروح الحديث، مثل نيل الأوطار، وسبل السلام، وإن توسعت كثيراً فتح الباري، هذه الكتب، ونصب الراية، الكتب هذه تطلعك على المذاهب الأربعة وأكثر من الأربعة، لتكون على بصيرة، ولتحترم أئمة المسلمين على حد سواء، بدون غلو في إمام معين والنيل من الأئمة الأخرين، وهذا لا يجوز، يجب أن تحبهم جميعاً لأنهم جميعاً من الدعاة إلى السنة.
(63) الذي عليه جمهور أهل العلم، أنّه لا يحصل الخروج من الصلاة -التحليل- إلا بالتسليم، وليس هناك ما يقوم مقام التسليم، وما تسمعون أو تقرءون في بعض كتب المتأخرين، في بعض المذاهب، أنَّ الإنسان له أن يخرج من الصلاة بأي شيء ولو غير التسليم، ولو بالحدث، وهذا الكلام غير سليم، وغير صحيح.

(1/47)


(64) ونصَّ الشيخ -رحمه الله- على أن الاستفتاح سنة، وليس بركن، ولا واجب، ولا شرط، ولكنه سنُّة، واختار من أدعية الاستفتاح نوعاً واحداً، أقصر تلك الأدعية وأشملها وأجمعها من حيث الثناء على الله والتمجيد والتعظيم، وهو قول: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ))، وقد سرد العلامة ابن القيم عدداً من أدعية الاستفتاح في زاد المعاد، ولكنه فّضَّل هذا الدعاء على غيره من تلك الأدعية الكثيرة، وبعضها طويلة، لما في هذا الدعاء الموجز من الثناء على الله، والتمجيد والتعظيم، مالا يوجد في غيره، وغيره أكثر دعاءً وطلباً، وهذا تمجيد وتسبيح وتعظيم، وهو يتضمن الطلب: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ))، وتولي المؤلف -رحمه الله- شرح هذا الدعاء، وما بعده، ومعنى: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ))، أي: أنزهك يارب التنزيه اللائق بك، التنزيه اللائق بجلاله -سبحانه وتعالى-، وهو المأخوذ من الكتاب والسنة، وقد أفترقت الناس في باب التنزيه، وجعل بعض الناس التنزيه نفي الصفات، لذلك نفت الجهمية والمعتزلة جميع الصفات بدعوى التنزيه، لأن إثبات الصفات تؤدي إلى التشبيه، والتنزيه بنفي الصفات عندهم، كذلك فعلت الأشاعرة والماترودية بالنسبة للصفات الخبرية، الصفات الخبرية: التي لامجال للعقل إلى اثباتها إلا بالسماع والدليل النقلي والخبري، إثبات تلك الصفات على ظاهرها يتنافى مع التنزيه في مفهوم الأشاعرة،=

(1/48)


=وعمدوا إلى التاويل، لم ينفوا كما نفى غيرهم، ولكنهم زعموا أن ظاهر تلك النصوص غير مراد الله، فيجب تأويلها بدعوى التنزيه، وأنت ترى كلٌ من النفاه والمؤولة يزعمون التنزيه فيما ذهبوا إليه، أي النفاه لم يقصدوا عندما نفوا صفات الله تعالى لم يقصدوا الإساءة إلى الله، ولكن في زعمهم يريدون التنزيه، ولكن أين التنزيه؟ ضلوا عن التنزيه، لماذا ضلوا؟ لأنهم التمسوا الهدى في غير كتاب الله، من التمس الهدى من غير كتاب الله، وفي غير ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضل ولا محالة، هذه قاعدة كل من يلتمس الهدى والحق في غير ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ فهو يضل جزاءً لإعراضه، إذ الهدى والصواب والحق ينحصر فيما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا أردنا أن نعرف التنزيه الحق اللائق بالله سبحانه وتعالى، نقرأ قوله تعالى: {ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، أيوجد تنزيه أبلغ من هذا التنزيه؟ يثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه الصفات، ينفي المماثلة فيما أثبت هذا، هو معنى التنزيه أن تثبت له ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ومن الأسماء الحسنى ومن الأفعال، تثبت له ما أثبته لنفسه، ثم تنفي المماثلة فيما أثبت، إذ لا يصف الله أعلم من الله، وتثبت له سبحانه ما وصفه به رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم- وتنفي المماثلة فيما أثبت، إذ لا يصف الله من خلق الله أعلم من رسول الله -عليه السلام-، هكذا هدى الله أهل الحق، ودعاء الحق إلى هذا التنزيه، وعرفوا كيف ينزهون دون تعطيل أو تحريف ودون تشبيه أو تمثيل، ودون نفي لصفات الله تعالى، إلى هذا يشير الشيخ عندما يقول: أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك، وهذا التنزيه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، أي التنزيه المأخوذ من الكتاب والسنة.

(1/49)


(65) وبحمدك: أي مع الثناء عليك، تنزيه مع الثناء على الله، إذا نفيت صفات الكمال بم تثني على الله تعالى؟! إذا كنت تنفي عنه الرحمة كيف تثني عليه، تقول الرحمة مستحيلة على الله، والمحبة مستحيلة على الله، لا يَحب ولا يُحب، كيف تثني عليه وأنت تنفي عنه الرحمة، وقد سمعت في الحديث القدسي حديث الفاتحة ((إذا قال العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي))، ومن ينفي الرحمة، لا يمكنه أن يثني على الله تعالى، وإنَّما الثناء على الله بأسمائه وصفاته وأفعاله الحميدة.
(66) أي البركة تنال بذكرك، تنزه اسمك وتُنال البركة بذكرك، بذكر الله تعالى هكذا فسَّر الإمام.
(67) أي: جلت عظمتك، الجد بمعنى العظمة وبمعنى الغنى، جلت عظمتك وغناك.
(68) أي: لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يالله، كلمة بحق لا بد من الإتيان بها، عندما تفسر لا إله إلا الله، يجب أن تأتي "بحق"، أو "حق"، وإلا يكون المعنى فاسداً، لو قلت: لا معبود في السماء ولا في الأرض غيرك، نحكي خلاف الواقع، المعبودون كثيرون، لكن المعبود المنفي هو المعبود بالحق، لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق غيرك، وكل من عبد في السماء وفي الأرض؛ فعبادتهم باطلة، عبدت الشمس والقمر عبادتها باطله، عبدت الأشجار، وكثيراً من الدوحات، ولا تزال تعبد، و الأحجار والأضرحة والقباب؛ فعبادة هذه الأشياء باطلة، عبادة الجن، عبادة القبور، كلما عبد فهو إله في اللغة، لا يسمى الله ولكن يسمى إله، لفظة إله عامة، تشمل المعبود بالحق والمعبود بالباطل، ولكن لفظ الجلالة "الله"، خاص بالمعبود الحق، خالق السماوات والأرض سبحانه، لامعبود في السماء والأرض سواك ياالله.
(69) أي: ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا الله من الشيطان الرجيم المطرود المبعد من رحمتك، لا يؤثر في ديني وعقيدتي وعبادتي، ومعنى الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام.

(1/50)


(70) ولم يفصل الشيخ، ولم يستثني المأموم الذي يصلي خلف الإمام الذي يجهر، كما يستثني غيره، لكنه أطلق إشارة منه -رحمه الله- إلى أنَّ الفاتحة ركن من أركان الصلاة، وهي أمُّ الصلاة،كما أنَّها أمُّ القرآن؛ فهي أمُّ الصلاة، لاصلاة إلا بها، ولو كنت مأموماً خلف إمامٍ يجهر على الصحيح، لذلك لم يلتفت الشيخ إلى هذا الخلاف، ولم يشر إليه، هذا هو الحق، بل استدل على هذا الإطلاق بقوله: "كما في حديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، أيً كان هذا المصلي: إماماً، أو مأموماً، أو منفرداً، وسواء كان المأموم في الصلاة السرية أو الجهريه؛ يؤكد هذا المعنى ليعلم بعض الناس الذين يتساهلون بقراءة الفاتحه إذا كانوا مأمومين خلف إمام يجهر، هذا الحديث الذي ذكرناه سابقاً: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين))، هذان الحديثان وما في معناهما يؤكدان أنَّ فاتحة الكتاب ركن في الصلاة على جميع المصلين.
(71) وفي الحقيقة، الشيخ كفانا مؤنة شرح البسملة والتعوذ ودعاء الاستفتاح وفاتحة الكتاب؛ إذاً الواضح لا يُوَّضَح؛ نترك كما وضَّح الشيخ.

(1/51)


(72) الحديث من حيث الإسناد ضعيف، قال الذهبي: فيه راوٍ اسمه ابن أبي مريم، وهو واهٍ ومن حيث الإسناد ضعيف، ولكنَّ معنى الحديث صحيح، حديثٌ ضعيفٌ من حيث الإسناد، ولكنَّه صحيح من حيث المعنى، إذ تشهد له نصوص الكتاب والسنة، تأمَّل في معنى الكيس العاقل الفطن من دان نفسه، أي من أذل نفسه حتى لأوامر رسوله -عليه الصلاة والسلام- وخضع لأوامره، وعمل لما بعد الموت، وهل هذا المعنى فيه غضاضة؟ وفيه توقف؟ لا، معنىً صحيح مائه بالمائة، العاقل الفطن الموَّفق من أخضع نفسه= =لأوامر الكتاب والسنة، وعمل لما بعد الموت، ولم تشغله دنياه عن أخرته، العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، يترك الصلاة، ويرتكب المعاصي، ويترك المأمورات، ومع ذلك يتمنى على الله الأماني، أنَّه في أعلى الفردوس، في أعلى الجنة، لماذا؟ لأن الإيمان هنا! [في القلب]، لا يَضُرُّه ترك الصلاة وارتكاب المعاصي، هذا فيه نوعٌ من الإرجاء، وإن كان لا يدري عن نفسه؛ فهو مرجئ، أي أن ترك الأعمال لا يضرُّ طالما عنده اعتقاد تصديق بالجملة، لما جاء به رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، بعد ذلك فليفعل ما يريد من المعاصي، فليترك ما يريد أن يترك من المأمورات؛ فهو في الجنة(!) هذه الأماني الكاذبة، يُصاب بهذه الأماني الكاذبة المرجئة، الذين يرون أنَّ الإيمان، إمَّا مُجَرَّدُ التلفظ بلا إله إلا الله، أو مجرد التصديق بالقلب، وإن كان ذلك التصديق لا تصدقه الأعمال، وقد أحسن الإمام الحسن البصري عندما قال: ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدَّقه العمل))، العمل هو الذي يصدق ما وقر في القلب، من ادعى أنَّ إيمانه في قلبه لكن لا يعمل، لا يتمثل و لاينتهي، ودائماً إيمانه في القلب، كلما ينصحه ناصح أشار إلى صدره: الإيمان هنا!، هذا مخدوع ضائع؛ فنسأل الله أن يتوب علينا وعليه، الإيمان والعمل: إيمان القلب، وأعمال الجوارح، والنطق باللسان؛ من هذا

(1/52)


يتكوَّن الإيمان الصحيح، بهذا تكسب الولاية، إذا كنت تريد أن تكون ولياً لله، الولاية مكتسبة بخلاف النبوة، النبوة والرسالة بالاصطفاء، الله الذي يصطفي من الملائكة ومن الأنس من يشاء للرسالة والنبوة، لكنَّ الولاية مكتسبة، تكتسب أنت بتوفيق الله تعالى بالإيمان الصادق، والعمل الصالح، حتى تكون ولياً لله تعالى، تكثر أولاً من أداء الفرائض، ثم تكثر من النوافل حتى يحبك الله، عند ذلك أصبحت ولياً لله، يعطيك سؤلك، ويعيذك إن استعذت به، هكذا تكتسب الولاية، كلٌ يريد الولاية، لكنَّ كثيراً من الناس لا يريد أن يكون هو الولي، ولكنَّ الولي في مكان آخر، يدعو ذلك الولي، الناس حصرت الولاية إما في بيوت معينة، بيت ابن علوان بيت الولاية، بيت غضنفر بيت الولاية، كل من يدلي من هذا البيت فهو ولي، ولو كان فاسقاً لا يصلي، يتعلقون بهؤلاء الأولياء لأنَّهم من بيت فلان، لكن لا يحاول المرء أن يكون هو ولياً، أترك أولئك لله، أمرهم لله، اكتسب الولاية أنت بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح، الولاية مكتسبة.

(1/53)


(73) أشار الشيخ في تفسيره إلى الحصر، أي أن تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك، ثُمَّ فسَّر الصراط؛ فقال: الصراط الإسلام، الصراط الرسول، الصراط القرآن، قال: والكل حق، القرآن لأنه يهدي للتي هي أقوم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يطلق عليه أنَّه الصراط المستقيم، لأنَّه يهدي:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى:52]، إذاً الصراط الحقيقي الإسلام، ولكن القرآن يهدي إلى ذلك، يطلق عليه الصراط لأنه يهدي إلى الصراط، ويطلق الصراط على النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه يهدي إلى الصراط، إلى السبيل الحق، القرآن يهدي والرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ لذلك يطلق على كل واحد منهما أنَّه صراط، لأنَّه يدل على الصراط، أي: السبيل المستقيم سبيل الله الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}[آل عمران:19].
(74) كما أن الحيَّة تدخل على الضب في حجره، توذي الضب؛ كذلك أنتم تفعلون إذا فعل من كان قبلكم الإيذاء والإزعاج والضلال والبعد عن الحق، كما يفعلون تفعلون، لا تتركون شيئاً، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ أي: تعني اليهود والنصارى، هل هم اليهود والنصارى؟ جائزٌ بالرفع والنصب، ولكن الكثير على النصب، أي: تعني اليهود والنصارى، قال: فمن؟ من غيرهما، من الذي قبلكم غيرهما، أي هم هم، تتبعون اليهود والنصارى بأخلاقهم، ومن يعبد الله على جهل تشبه بالنصارى، ومن علم وترك العمل بالعلم وضل تشبه باليهود، هكذا الناس ينقسمون إلى قسمين في هذا التشبه، إمَّا بالنصارى، لا يشتغل بالعلم يكون جاهلاً ضالاً، قد يفتي للناس على جهل، يضل ويضلل، هذا فيه شبه النصارى، والذين يعرفون الحق ويتركون الحق اتباعاً للهوى والشهوات؛ فيهم شبه اليهود، ولو تتبعت كثيراً من أحوال كثير من المسلمين لوجدت الناس لا يخرجون من الفريقين، إمَّا هذا أو ذاك.

(1/54)


(75) هذا العدد، ثلاث وسبعين فرقة، باعتبار أمهات الفرق، الخوارج والقدرية والشيعة والجبرية، إذا عددنا أمهات الفرق، تصل أو تزيد على هذا، لكن إذا نظرنا إلى كل فرقة كم تفرقت، الخوارج افترقت على عشرين فرقة، والمعتزلة افترقت على كذلك، والشيعة نحو سبعة عشر فرقة، كل فرقة من الفرق الرئيسية افترقت إلى فرق، ولكن هذا الحديث، إمَّا يعني أصل هذه الفرق باعتبار أصولها لا باعتبار= =الفروع التي تفرعت -الروافض أنفسهم قريبون من عشرين فرقة-، والروافض طائفة من الشيعة الإمامية يقربون من عشرين فرقة، إذاً، إذا نظرت في كتب الفرق "كالفرق بين الفرق" للبغدادي، و"مقالات الإسلاميين" للأشعري، لا تندهش ولا ترتبك، كيف قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة))، والفرق اليوم تزيد على مائة، تعد بالمئات لا بالعشرات، هذا باعتبار الفروع، الفروع لاتزال تزداد كل يوم، بأخذ زعيم يريد أن [ينفصل] من هذه الفرقة ويستقل، يأخذ له مجموعة فينفرد ويستقل؛ فيطلق عليها لقباً، إن كان هو أسد؛ فتسمى أسدية، إن كان هو شيطان؛ فتسمى شيطانية، وبالفعل توجد فرقة يقال لها: "الشيطانية"، موجودة(!).
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كلُّها في النار إلا واحدة))، أي: الفرق المنتسبة إلى الإسلام، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي))، أي: من لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يزيدوا ولم ينقصوا، اكتفوا بما كان عليه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- والصحابة، صراط الله المستقيم، المحجة البيضاء التي أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في آخر حياته، قال للصحابة: (( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك))، لا يمكن أن نعرف، هل أنت على ما كان عليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه؟ وهل أنت على ما كانت عليه الجماعة؟!

(1/55)


لأنَّ في بعض التفاسير قال: ((هي الجماعة))، الفرقة الناجية هي الجماعة، لكن بم تعرف الجماعة؟ الجماعات كثيرة، لا بدَّ من التفقه في الدين، وإلاَّ كل يدَّعي وصلاً بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك، كلٌ يدعي: أنا من الفرقة الناجية، وجماعتي من الفرقة الناجية، نحن الجماعة الإسلامية، ونحن ونحن…إلى آخره، الدعاوى كثيرة، لكن بما تُحدد؟
بالفقه في الدين، إعرف تعرف ما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في عقيدته، تعرف العقيدة التي أخذها الصحابة من فيّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وكيف كانوا في عبادتهم؟ وكيف كانوا في أخلاقهم؟ وكيف كانوا في معاملاتهم وإقتصاداتهم وجميع أعمالهم؟ في سياستهم؟

(1/56)


كثير من الناس يتحاشون السياسة، ويحسبون أنه ليس في الإسلام سياسة، في الإسلام سياسة، وسياسة عميقة، سياسة إسلامية يجهلها كثيرٌ من السياسيين اليوم، السياسة اليوم: المخادعة، والكذب، والملق، والنفاق في الغالب الكثير، لكنَّ السياسة الإسلامية غير هذه، السياسة الإسلامية: حُسن التدبير، وتعرف كيف تتخلص دون أن تقع في الكذب، وكيف تقدم المصالح على المفاسد، كيف تقدم إذا كان هناك مفاسد، كيف ترتكب أخف مفسدة وتترك أعظمها مفسدة، معرفتك لهذا من السياسة الشرعية، ومن السياسة الشرعية، ترك الرسول -عليه الصلاة والسلام- المنافقين بين صفوف الصحابة وهو يعرفهم،= =خشية أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، لو قتل المنافقين الذين يعرفهم بأسمائهم، والناس الذين لا تعرف الحقائق تُكَبِّرُ المسألة -كما يقولون-، يبنون من الحبة قبة؛ فيقولون: إن محمداً بدأ في قتل أصحابه، وهذا [يضر] بسير الدعوة، والدعوة لا تسير، تقف ويكثر أعداءها، إذاً من المصلحة أن يبقى هذا العدد بين المسلمين، والدعوة تسير في العالم، ومن السياسة الشرعية رأى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كيف يتأذى كثيرٌ من الناس من باب الكعبة العالي، همَّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن يهدم الكعبة، ويلصقها بالأرض، ويجعل بابين، باب يدخل منه، وباب يخرج منه، بدلاً من هذا التعب، ثم قال لعائشة: لولا أن قومك قريبوا عهد بالجاهلية لفعلت ذلك، ولكن لو هدم وردَّ على بناء إبراهيم وألصق الباب بالأرض، وأراح الناس، يدخلون من هنا فيخرجون من هناك، لا يوجد إلاَّ أن يصعد الناس يرصُّ بعضهم فوق ظهور بعض، من دفع شيئاً، سحبوا بيده، طلَّعوه، ومن لم يدفع ردوه، ورموه في الأرض، لكنَّ هذا أخف -مع ما فيه من التعب والضرر على الناس-، أّخّفُّ من أن يقال: إنَّ محمداً بدأ يهدم الكعبة، لو شاع هذا الخبر في العالم، سُدَّ الناس عن الدخول في الإسلام؛ فترك ذلك إرتكاباً لأخف الضررين، هذا من

(1/57)


السياسة الشرعية، وأمثال هذا كثير، إذا قرأت في السياسة الشرعية للإمام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم، وغيرهما، لعرفت أنَّ في الإسلام سياسة، لكن سياسة صادقة غير كاذبة، فلنعلم ذلك تماماً، وإذا عرفت الإسلام في عقيدته في عبادته ومعاملاته وجميع الأبواب التي ذكرناها، عرفت ذلك تأخذ من المنبع الأصلي، تأخذ من مشكاة النبوة، عند ذلك تعرف أين الفرقة الناجية، وقبل ذلك لا، لا تعرف، إنَّما تصفق مع كل من يصفق، تسمعون الآن بالتصفيق من الجماعة التي سمت نفسها بالجماعة الإسلامية، صفَّقوا مع الشيوعيين، ومع العلمانيين، ومع القوميين، في مناصرة الظالم على المظلوم، لماذا؟ لعدم الفقه في الدين، مجرد دعوى الإسلام، الإسلام.. الإسلام..، ليست هذه لفظةً الجوفاء، الإسلام دين عمل، تعلم العلم قبل القول والعمل، بذلك تعرف الفرقة الناجية، وكلٌ يتمناها.
(76) المراد بالاعتدال منه، أي: الرفع من السجود، ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج: من الآية77]، والحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن اسجد على سبعة أعظم))، أي: سبعة أعضاء، ولعل ذلك معلوم لدى جميع المصلين، الجبهة مع الأنف، والكفان، والركبتان، =

(1/58)


=وبطون أصابع الرجلين، سبق أن نبهنا على ما قد يخفى على بعض الناس، وهو كثير، أما ينسى بعض المصلين السجود على الأنف، ويتكأ على الجبهة وينسى الأنف؛ فيجب التفطن، لأن بعض المذاهب لم تنص على هذا،كما نص مذهب الإمام أحمد، فيطلقون الجبهة؛ فيتركون، ولكن الإمام أخذ من السنة العملية نص على هذه المسألة، وتبعه على ذلك الإمام المؤلف، وهي من المسائل التي قد تخفى على بعض العوام، ينبغي التفطن لذلك، لأن السجود على الأنف جزء من السجود على الجبهة، تابع، فلا ينبغي الترك، ولا يلتفت إلى الخلاف، لأنَّ العبد، خصوصاً في مثل هذه العبادات، ينبغي أن يحتاط، لو قرأت في بعض المذاهب أنَّ السجود على الأنف غير مطلوب، وغير ركن، وعلمت أنَّه ركن في بعض المذاهب، والقول بأنَّه ركنٌ هو الأقوى من حيث الدليل، عليك أن تتبع وتحتاط، ولو لم يكن هناك دليل، اختلفت آراء الفقهاء استنتاجاً واجتهاداً، من العقل أن تتبع ما فيه براءة الذمة، وما فيه الاحتياط، وهو السجود على الأنف، كذلك مما ينبغي التنبيه عليه من وقت لآخر، السجود على بطون أصابع الرجلين، يغفل بعض الناس-بعض المصلين- وخصوصاً في السجود الثاني عن السجود على بطون أصابع الرجلين، ويترك رجليه كما جلس، أي يسجد على ظهور الأصابع، هذا السجود لا يصح، إذا لم يصح السجود على عضو من الأعضاء السبعة، السجود كله يكون باطلاً، فإذا بطل السجود بطلت الصلاة، أمرٌ يتهاون به بعض الناس وهو صعب، ينبغي الاحتياط، وهذا من الإتقان، وعلى المرء أن يتقن عمله، وخصوصاً العمل الذي تتقرب [به] إلى الله -الفرائض- إتقان الفرائض، وأداءه على الوجه المطلوب بحسب الإمكان مقدمٌ على الاجتهاد في السنن، الاجتهاد في السنن والإكثار من السنن، يأتي ذلك بعد إتقان العمل، أي بعد إتقان أداء الفرائض، والله الموَّفق.

(1/59)


(77) قصة معروفة عند طلاب العلم، رجل سُمِيَ المُسيء صلاته، في ذلك الوقت لعله يقل أمثاله، ولذلك أخذ اللقب، أمَّا اليوم المسيئين في صلاتهم مثل ذلك المسيء ما أكثرهم، ولعلَّ [طلاب العلم] الذين يَرَوْن [المسيئين لصلاتهم]، إمَّا أنَّهُم لا يُنَبِّهُون مجاملةً، أوظناً منهم أنهم ما عليهم إلا أن يُؤَدُوا [الصلاة فقط]، وما عليهم وليس عليهم شيء بالنسبة لغيرهم، وهذا تصور خاطئ عند بعض طلاب العلم، يعني أنَّ المرء لا يهتم إلاَّ بأداء [العبادات] لنفسه، وينسى مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لعباد الله. والبعض الآخر قد لا يفطن لذلك، وأنَّ ذلك يفسد صلاته، أي كالذين ينقرون في صلاتهم ويخففون الركن، الاعتدال والجلسة بين السجدتين، هذان الركنان يتساهل كثيرٌ من المصلين فيهما؛ فينقرون في صلاتهم ولا يطمئنون، لا يكاد يرفع ظهره -وقبل أن يستقيم- يسجد، ولا يكاد يرفع رأسه من السجود الأول -وقبل أن يطمئن- يسجد للسجود الثاني، ومن يفعل ذلك، فصلاته باطلة، وهو المسمى بالمسيء صلاته؛ فينبغي لطلاب العلم أن ينصحوا للمسيئين في صلاتهم، وهم كثر اليوم، قصة الرجل معروفة لدى طلاب العلم، دخل رجلٌ ورسول الله -عليه الصلاة والسلام- بين أصحابه؛ فصلى فسلم فجاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وسلَّم عليه، فردَّ عليه [النبي] السلام- ثم قال له: ((ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ))، لم يعلمه من أول وهلة، ولكنَّه قال له: ((ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ))، لأنَّه يحتمل أنَّه يعلم، ولكنَّه استعجل وترك لظروف ما، كما يحصل لكثير من المستعجلين في صلاتهم، فرجع فصلى الرجل كما صلى في المرة الأولى؛ فعاد فسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ فرد عليه السلام، فقال له: ((ارجع فصلِّ؛ فإنَّك لم تصل))؛ فعاد فصلىَّ كما صلىَّ في المرة الأولى، ورجع في المرة الثالثة؛ فسلم، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد أن ردَّ عليه السلام: ((ارجع

(1/60)


فصلِّ؛ فإنَّك لم تصل))، من هنا أعلن الرجل عن جهله، قال: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غيرها، هذه هي التي أعرفها، ما أعرف= =غيرها؛ بعد أن جعل النبي -عليه الصلاة والسلام- يهتم للرجل بهذا الاهتمام، بهذا التردد، وتأكد بأنه لا يعلم غيرها، وإنَّما ترك ذلك جهلاً، وأنَّ هذا التردد أثار فيه الانتباه، وجعله مستعداً للقبول -[في حيث أنَّه] لو علمه من أول مرة، ما اهتم هذا الاهتمام، ولا قبل ذلك القبول؛ هذه من الحكم التي يذكرها أهل العلم في أن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- لم يعلِّمه من أول مرة، يُسْتَحْسَنُ للمعلمين أن يعاملوا طلاب العلم في بعض المسائل مثل هذه المعاملة؛ بأن يسأله فيخبره ما إذا يعلم من المسألة الفلانيه [شيئاً ما]؛فإذا توقف، ولم يعلم، لا يبادر بالجواب حالاً، المعلم يتركه ليشغل باله، وليفكر، ويقول له: لتأتي بها غداً، وهكذا.. إذا كانت المسائل ليست من المسائل المستعجلة، هكذا كان يفعل المعلمون الأولون من المشايخ الذين أدركناهم، يطرح المسائل على طالب العلم الذي لا يستحضر، لا يجاب؛ فيترك ليبحث، ويأتي بالجواب في جلسة أخرى، وهذه من الحكم، كذلك طرح النبي -عليه الصلاة والسلام- أحياناً الأسئلة على الصحابة حتى يقولوا: الله ورسوله أعلم، يعلنون بجهلهم، وبعد ذلك يعلمهم، وهكذا عامل المسيء صلاته، بعد ذلك علمه: أنَّه أوَّل ما يستقبل القبلة فيكبر، أي يشرع في الصلاة بتكبيرة الإحرام، وهذا دليل على أنَّه لا يتلفظ بالنية قبل تكبيرة الإحرام، والنيَّة محلها القلب، والتلفظ بها بدعة -كما تقدم- لأنَّ كل ما علَّم النبي -عليه الصلاة والسلام- المسيء صلاته -في الغالب الكثير- إمَّا ركن أو واجب، وما لم يأتي ذكره في هذا التعليم ليس بركن ولا واجب، عند الذين يفرقون بين الركن وبين الواجب هنا، وبعض المذاهب لا تفرِّق بين الركن وبين الواجب، والفرق [لا يكون عندهم] إلاَّ في باب الحج والعمرة، بخلاف ما نحن عليه الآن، ثم

(1/61)


أمره بعد تكبيرة الإحرام أن يقرأ ما تيسر معه من القرآن، والذي يتيسر معه من القرآن فُسِّر في رواية أخرى بفاتحة الكتاب، أنَّه يقرأ فاتحة الكتاب، لم يذكر دعاء الاستفتاح، ولكن ورد ذكره في بعض الألفاظ، كذلك التعوذ مشروع، إذاً قد لا يكون كلُّ ما ذكر في هذا الحديث، يكون واجباً، وإن كان الفقهاء يختلفون في الوجوب والاستحباب بالنسبة للتعوذ ودعاء الاستفتاح، ثم أمره أن يركع فيطمئن راكعاً، هذا هو محل الشاهد: لأنَّ الرَّجُلَ مِنَ الأشياء التي تَرَكَهَا -وأهم ما ترك- الاطمئنان، ثم أمره أن يرفع فيعتدل قائماً، هذا القيام الثاني يسمى اعتدال، وقد جاء التصريح في بعض الأحاديث أنَّه اعتدال، وهذا ما استدل به بعض أهل العلم الذين يرون عدم وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر بعد الركوع، لأنَّه لا يُسمَّى قياماً إلا بقرينة؛ فإذا أطلق القيام فهو الذي قبل الركوع، ليكون قول الصحابي: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- إذا كان قائماً في الصلاة، وضع يمناه على يسراه فوق صدره قائماً))، معنى [ذلك أنَّه] إذا أطلق هكذا فإنما يراد [به] القيام الذي قبل الركوع، والقيام الذي قبل الركوع لا يسمى قياماً إلا بقرينة، قد يسمى اعتدال، سبق أن =

(1/62)


=نبَّهنا على هذه المسألة، وأن أدق فهم في هذه المسألة فهم الإمام أحمد بن حنبل، وليس يُستكثر عليه ذلك -رحمه الله-: حيث رأى أنَّ المصلي مخير بالنسبة للقيام الذي بعد الركوع في وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر؛ فمخيَّر إن شاء وضع، وإن شاء أطلق، لماذا؟ هذا من دقة الفقه، لأن الحديث ليس بنص بالنسبة لهذا القيام، وهو نصٌ بالنسبة للقيام الأول، ما كان نصاً لا ينبغي أن يُختلف فيه، ومن خالف فيه ينصح، وأمَّا الثاني الحديث الذي فيه ظاهر ليس بنص، وما كان ظاهراً فهو مظنَّةٌ لإختلاف الفقهاء؛ فإذا اختلف الفقهاء المتقدمون والمعاصرون في هذه المسألة، ينبغي أن يعذر الجميع، الذي يضع معذور، لأنَّه أخذ من ظاهر الحديث، أي من الاحتمال لا من النص، والذي ترك كذلك يُعذر لأنَّ الحديث ليس بنص، بل هو ظاهر -كما قلنا- وهذه من أسباب اختلاف الفقهاء في المسائل الفقهية الفرعية، الذي يريد أن يتقن هذه الأسباب، ويطَّلِع عليها من طلاب العلم، عليه أن يقرأ الكتيب الصغير العظيم من حيث المعنى: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لتعرف أسباب اختلاف الفقهاء، وما نحن بصدده من الأسباب، كون أحدهم مثلاً يفهم أنَّ الأدِّلة تشمل القيام الأول والثاني، والآخر يقول: لاتشمل إلا القيام الأوَّل، والثاني غير داخل لأنَّه يسمى إعتدالاً، [ولا يسمى قياماً] إلاَّ بقرينة، وإلاَّ فالقيام ينصرف إلى الأول، إذاً الاحتمال قائم، والله أعلم.
(78) إذاً الطمأنينة في الاعتدال: إمَّا شرطٌ أو ركن، على الاختلاف الذي ذكرناه، كذلك الطمأنينة في الجلسة بين السجدتين: إمَّا ركن أو شرط، أي أنَّ الصَّلاة لا تصح إلا بالطمأنينة فيهما،كما لا تصح إلاَّ بالطمأنينة في الركوع والسجود.

(1/63)


(79) أيضاً مما ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم، [أنَّه] فلتكن دراسة الفقه على هذه الطريقة التي سلكها هذا المؤلف، أي تختار من كتب الفقه، من جميع المذاهب، الكتاب الذي يذكر الحكم ويذكر الدليل.
وأمَّا إذا أخذت كتاباً يسرد الآراء من ألفه إلى يائه، لا تجد فيه: قال الله، أو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، [بل تجد]: هكذا المذهب، هكذا قال الأصحاب، هذا المشهور، هذا المعروف.. حتى تنتهي من الكتاب، مثل هذا الكتاب لا يُخرجك من الجهل أبداً، تبقى جاهلاً، الكتاب الذي يخرجك=

(1/64)


=من الجهل في الفقهيات، الكتاب الذي يذكر الحكم ويذكر الدليل، قد يكون مختصراً كهذا الكتاب، لكن يفتح لك الأبواب، تذهب تبحث من حيث تصحيح الأدلة والتوَّسع، مثل هذا الكتاب هو الذي ينبغي أن يُرَبَّى عليه صغار الطلبة، صغار طلبة العلم، ثم ينتقلون فيختارون كتاباً مثله أو قريباً منه في الفقهيات، إذا أرادوا أن يدرسوا كتب الفقه؛ وفى الإمكان الاستغناء عن دراسة كتب الفقه بدراسة أحاديث الأحكام، كالأحاديث التي اشتملت عليها "عمدة الأحكام"، أحاديث متفق عليها -أو جُلُّهَا-، وقد ينفرد بها البخاري أو مسلم، أي لا تخرج أحاديث عمدة الأحكام من الصحيحين، إمَّا متفق عليها، أو ينفرد بها البخاري أحياناً، ومسلم أحياناً، ثم "بلوغ المرام"، لأنَّ الحافظ قد بينه على الحديث المعلول والضعيف، أحكام تؤخذ من السنة، ثُمَّ "المنتقى": من أوسع المتون الجامعة لأحاديث الصحيحين وغيرهما، من درس هذه الكتب، مع الاتصال بالشروح، يتخرج فقيهاً متضلعاً في المذاهب الأربعة وغير الأربعة، لأنَّ المذاهب ليست هي الأربعة فقط، المذاهب كثيرة، مذاهب أهل العلم كثيرة، وأئمة المسلمين الذين بلغوا درجة الإمامة كثيرون، ولكن الله بارك في تلامذة هؤلاء الأربعة، فدوَّنوا آراءهم واستنتاجاتهم واستنباطاتهم؛ فدونت واشتهرت بين المسلمين بالمذاهب الأربعة، وإلاَّ -كما قلنا غير مرة- يوجد في طبقتهم من هم مثلهم تماماً، وربما [كان] في بعضهم [من هو] أعلم منهم، كاللَّيث بن سعد، الذي كان يعيش في مصر، في عهد تابع التابعين، في الوقت الذي كانت تضرب أكباد الأبل إلى الحجاز، لطلب العلم على الإمام مالك، تضرب أكباد الإبل إلى مصر، لطلب العلم على يد اللَّيث بن سعد، وكذلك الثوري في العراق، والأوزاعي في الشام، وقد أحسن الإمام ابن تيمية في الثناء عليهم، حيث قال: "يُعتبر هؤلاء أئمة الدنيا في عصر تابع التابعين، لتعلموا أننا بحمد الله لدينا أئمة، أئمة عظام، وبلغوا درجة

(1/65)


الإمامة، ليسوا هم الأئمة الأربعة فقط"، وقد عرفتم سبب شهرة الأربعة، وإلاَّ فأمثالهم كثيرون، كالحمَّاديْن، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي عبيد، ما أكثرهم، كلُّهم أئمة، الشاهد: الذي يريد أن يتفقه في الدين فقهاً صحيحاً، يدرس كتباً على هذا النمط، كتباً تذكر الأحكام وتذكر الأدلة، وإلاَّ فآراء الرجال المجردة من ذكر الأدلة لا تفقه الإنسان في الدين، الفقه معناه: الفهم الصحيح في الدين، ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين))، ليس معنى ذلك أنَّه يوَّفقه ليحفظ آراء أهل العلم، لا، لتفهم الفهم الصحيح عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

(1/66)


(80) هذا تشَّهُّدٌ مشهور، وهناك تشهد آخر، لك أن تحفظ ما شئت من ألفاظ التشهد، ولكن تختار المتفق عليه، وإذا رأيت أنَّ غيرك يتشهد بغير هذا التشهد لا تنكر عليه، كذلك يُقَالُ في ألفاظ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلَّم-، إذا حفظت أنت هذه الصيغة التي ذكرها الإمام، وهناك صيغ أخرى نبَّهنا غير مرة أنها كثيرة جداً، وحاول أن يجمعها، ربما جمعها العلاَّمة ابن القيم في كتابه الفريد في بابه "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام"، الصلاة هذه تسمى: "الصلاة الإبراهيمية" ولعلَّ أجمعها الصيغة المتفق عليها: ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ))، هذه صيغة متفق عليها، وغيرها كثير، لاحظوا، لا توجد في أي صيغة من صيغ الصلاة الإبراهيمية التي ساقها العلاَّمة ابن القيِّم في الكتاب المذكور، لا توجد كلمة اللهم صل على ((سَيِّدِنَا)) محمد، عند كثير من إخواننا المسلمين العاطفيين، إذا لم يذكر ((سَيِّدِنَا)) في الصلاة، وقلت اللهم صل على محمدٍ، ربما يسيئ بك الظن، يقول هذا لا يُعَظَّم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وحصل هذا بالفعل، فقد قال حاج مغربي لي: يا شيخ! كنت أحضر دروسك من أوَّل إلى الآن، وأنا مسافر، ولكن ألاحظ عليك أنَّك عندما تصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام- تقول: اللهم صلِّ على محمد، ولم أسمع مرة واحدة بأنَّك تقول: اللهم صلِّ على ((سيدنا)) محمد، لماذا يا شيخ؟ وقد أحسن في السؤال، بينَّت له، خفَّفت ما يجد في نفسه من الاستثقال، يستثقل جداً كون الإنسان يصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، عوام المسلمين لا يفرِّقون بين الأمور،

(1/67)


ربما يحسبون أن من ترك لفظة ((سيدنا)) أنَّه لا يعظم النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا يحبه المحبة اللائقة، الجواب: هذا جهلٌ، وربما يسمى جهلاً مركباً، الجهل المركب: كون الإنسان يجهل ولا يدري أنه يجهل، إذا كنت لا تدري بأنك لا تدري؛ فذلك إذاً جهلٌ مضاف إلى جهل مضاف، والمضاف إليه جهل، ما= =الذي يطلع؟ لا شيء، الشاهد: محمد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سيدنا، وسيد الناس أجمعين، سيد ولد آدم، هذا ما أدين الله به، يجب أن نعتقد ذلك تصديقاً لخبره -عليه الصلاة والسلام- حيث قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد ولد آدم ولا فخر))، يجب أن نعتقد أنَّه سيد الناس أجمعين، لكن مع ذلك، إذا علَّم الصحابة كيف يصلون عليه، ولقَّنهم الصلاة الإبراهيمية في مناسبة نزول الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56]، الصحابة سألوا: يا رسول الله، علِّمنا كيف نسلم عليك، وقد أُمِرْنا أن نصلي، أُمِرْنَا أن نصلي عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ لعلَّ ذلك حصل في عدة مجالس، بدليل تعدد هذه الصيغ؛ فعلَّم النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة أن يقولوا هكذا: ((اللهم صلِّ على محمد))، وليس معنى ذلك أَّنه تنازل عن سيادته، أنَّه ليس بسيد، لا، وأنتم تلاحظون، يُنكِرُ [النبي -صلى الله عليه وسلَّم] أحياناً، على من يقول في بعض المناسبات ما يفهم منه الغلو والإطراء، ينكر على من يقول له: ((أنت سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا))، وفي الواقع هو سيدنا، لكن خَشِيَ أنَّ الرجل يُصاب بالغلو، الغلو في الصالحين سبب خطير من أسباب عبادة غير الله، حمايةً لحمى التوحيد قال له: لا، نهاه عن ذلك، فقال: ((إنَّما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله))، مع ما تقدم من إعلان أنَّه سيد ولد آدم، لا منافاة بين هذا وذاك، لأنَّ لكلِّ مقامٍ مقال، المقام الذي

(1/68)


أنكر فيه، مقام يقتضي الإنكار والتوجيه، المقام الذي أعلن فيه، بمناسبة الشفاعة في حديث الشفاعة، لبيان الواقع، فهو واقعه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه سيد الناس أجمعين، الشاهد: ينبغي أن يصلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- بالصيغة الواردة، ولا تزيد لفظة سيدنا، وهو سيدنا، أرجو أن يكون هذا الكلام مفهوم، وبعد الشاهد أعود وأقول: نؤمن ونعتقد تصديقاً لخبره بأنَّه سيدنا، ولكن عند الصلاة عليه، لا نقول: اللهم صل على سيدنا، ولكن نقول: اللهم صل على محمد، تأسياً به وتمسكاً بتعليمه، وتنفيذاً لهذا التعليم، هذه العبارة أوقفت بعض الناس، لذلك أكرر وأقول أهل العلم اتفقوا على أنَّه لا يجوز للمسلم الذي يريد أن يتعبد بالألفاظ والأدعية المأثورة، لا ينبغي له أن يزيد أو ينقص أو يغير أو يبدِّل، أهل الحديث من دقة حفظهم يستدلون بعبارة واحدة، قد لا يفطن لها غيرهم، ذلك عند ما علم النبي -عليه الصلاة والسلام- أحد الصحابة الدعاء الذي يدعو به إذا أخذ مضجعه، جاء في ذلك الدعاء: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيِّك الذي أرسلت))، جعل الصحابي يكرر ليحفظ، وفي بعض المرات قال: ((ورسولك الذي أرسلت))، ماذا فعل؟ بدل لفظة بنبيك أتى بلفظة رسولك، يقول الصحابي: طعن النبي -عليه الصلاة والسلام- في صدري وقال: لا، قل: ((ونبيك الذي أرسلت))، ماذا فعل؟ هل فعل منكراً؟ كون النبي -عليه الصلاة والسلام- لمجرد أنَّه غير لفظة نبي برسول، يطعن في= =صدره تأكيداً في الإنكار، ويقول له باللسان أيضاً: لا، قل: ((ونبيك الذي أرسلت))، هذا دليل واضح أنَّه لا ينبغي للإنسان الذي يريد أن يتأسى برسول الله -عليه الصلاة والسلام- ويأخذ تعليماته، أن يريد من عند نفسه أو ينقص أو يغير أو يبدل، الرسول والنبي لقبان من ألقاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، من الألقاب الشرعية، ولكن الصيغة لا ينبغي تغيرها عما وردت، وردت هكذا؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى،

(1/69)


هذه الألفاظ [نزلت على] النبي -عليه الصلاة والسلام- بوحيٍ من الله، أي مشروعية هذا الذكر عند النوم جاءت من السماء، المشروعية جاءت من السماء، ما كان من السماء فبلغ النبي -عليه الصلاة والسلام الصحابة كما جاء، لا ينبغي للصحابة أن يغيروا، ونحن تبعاً لهم، والله أعلم.
(81) لماذا؟ لأنه عبد الله، ولكن هل يستحق أن يُدعى هو من دون الله، أو مع الله؟ لا، عبدٌ يحتاج إلى أن يدعى له، إذاً هو لا يدعى.
(82) على عباد الله الصالحين تدعو للصالحين، الصالحين الذين تدعو لهم، هل يجوز عقلاً قبل أن نقول شرعاً ومنقطعاً أن تدعوهم؟ عبدٌ صالح يحتاج إلى أن يدعى له، وخصوصاً بعد موته، وبحاجةٍ إلى دعائك، لأن هذا منقطع، إلاَّ إذا كان معه أحد الثلاثة، بحاجة إلى الدعاء، وهل من المنطق السليم أن تدعوه؟!= =تذهب إلى قبر الرجل الصالح، تسلم عليه، وتدعو له، وتترحم له، هذا هو الشرع، وهذا هو العقل، وهذا هو المنطق.

(1/70)


(83) الذي قلت بلسانك: "أشهد أن محمداً رسول الله"، أي: رسولٌ لا يكذب، تكذيبه كفرٌ وردة، رسول يطاع، يطاع طاعة مطلقة، وعدم طاعته معصية، وهذه المعصية قد تصل إلى الكفر، وقد لا تصل، له الطاعة المطلقة، لا يوجد في المخلوقات من له طاعة مطلقة غير رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، استنتج ذلك أهل العلم، من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }[النساء:59]، قالوا أعاد الفعل مع طاعة الرسول، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، إشعار بأن له الطاعة المطلقة، أي لو لم تجد ما أمرك به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في كتاب الله، أو نهاك عنه، لم تجد ذلك في كتاب الله، وجب عليك أن تطيعه قبل أن تسأل، هل يوجد نظيره في الكتاب أم لا؟ لأنَّه شهد له ربه سبحانه، أنَّه:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4،3]، فأخبر أنَّ طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، لذلك: السنة المطهرة قد تأتي أحياناً مؤسسة لأحكام لا وجود لها في الكتاب، حرَّم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الحُمُرَ الأهلية يوم خيبر، وامتثل الصحابة لم يقولوا: إنه لا يوجد في المحرمات إلاَّ التي في الكتاب، بل امتثلوا فحرَّموا، حرَّم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، امتثلوا، لم يقولوا: ما وجدنا ذلك إلاَّ في الجمع بين الأختين في الكتاب، بل امتثلوا؛ فحرموا، والذين سمَّوا أنفسهم بالقرآنيين، فرقة فاشلة، نشئت أوَّل ما نشئت في القارة الهندية، ثم انتشرت في بعض الأقطار الإسلامية العربية، تسمَّى "القرآنيون" الذين لا يعملون إلا بالقرآن، وقد كذبوا؛ فهل يستطيعون أن يعملوا بالقرآن بدون السنة؟ لا يمكن، إلاَّ إذا تركوا الصلاة والصيام والحج، تفاصيل الصلاة، وتفاصيل كثير من الصيام والحج جاءت في السنة، القرآن

(1/71)


قال:{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، وهذه التفاصيل من عند تكبيرة الإحرام التي مرت في حديث المسيء صلاته، هذه التفاصيل من أين؟ في السنة، وهل القرآنيون يصَلُّون لكتاب والسنة؟ أم بالكتاب فقط؟ لا يمكن، وهل يحجُّون بالكتاب فقط؟ لا يمكن، لا يمكن أن تعمل شيئاً إلا بالكتاب والسنة معاً، هل يمكن أن تقول:كتاب الله ليس بكافٍ، أم هو بيان وتبيان كل شيء، الجواب: كتاب الله كافٍ، وهل كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام- خارج من كتاب الله؟ أليس الله قال:{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}،=

(1/72)


=القرآن أمر بطاعة الرسول، القرآن جاء ليبينه {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44]، بيان الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقوله، وبفعله، وتقريره، من عند الله، أي أنَّ هذا البيان كله الذي في الكتاب والذي في السنة راجع إلى الله، ليس [هناك] شيء من عند رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولو في السنة التي استقلت، التي ليست تلك الأحكام -ولا وجود لها- في الكتاب، وهي في الواقع من عند الله، لأنَّ الله يبين كما يشاء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قد تبين بعض البيانات في الكتاب، ويترك بعض البيانات، ليبين فيما يوحي إلى رسوله -عليه الصلاة والسلام-، إذاً المبين في الحقيقة هو الله، المشرع في الحقيقة هو الله، فبيان الله وأحكام الله تأتي أحياناً في الوحي المتلو القرآن، وتأتي أحياناً في الوحي الغير متلو السنة، كلا الوحيين من عند الله، رجعت الأمور كلها إلى الله، لذلك لا ينبغي أن تعارض كتاب الله بسنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لا معارضة بينهما، لأنَّهما كلاهما من عند الله وحده؛ فالرسول -عليه الصلاة والسلام- واسطة في التبليغ والتشريع، ولكن انتبه ليس بواسطة في العبادة، عندما تعبد الله، تعبد الله مباشرة، لكن الرسول -والرسل جميعاً- واسطة بين الله وبين عبادة في التشريع والبيان، لأنَّ الله اصطفاهم ليبينوا وليبلغوا، وهم رسلٌ ووسطاء في باب التشريع والتبليغ والبيان، فالله سبحانه وتعالى بالنسبة للعبادة، تعبد الله مباشرة، لا يحتاج إلى واسطة يبلغ عبادتك ودعائك وتضرعك إليه، هو معك، من الذي يبلغه؟ كيف يحتاج إلى من يبلغه وهو معك؟ لا يفارقك في شيء، يراك ويرى مكانك ويسمع كلامك، ويعلم بذات الصدور، لا معنى للواسطة إذاً، تلك الواسطة ليست بهذه المثابة، من توسطه إلى الله ليكون واسطة بينك وبينه لا يتمتع بهذه الصفة، لا يعلم منك شيء إلا ثوبك الظاهر هذا الذي يعلم، ما

(1/73)


تحت الثوب لا يعلم، تترك القريب المجيب الذي هو معك في كل لحظة، مع كل فرد مع كل مخلوق لا تخفى عليه خافية، ما معنى الوساطة إذاً، لا معنى للوساطة في باب العبادة.
(84) لو حرصت على معرفتك أنَّ الله شرَّف نبيه بالعبودية، أكثر من حرصك على لفظة سيدنا، لو وقفت على ذلك، تجد الله سبحانه وتعالى يقول: :{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}[الكهف: من الآية1]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}[الإسراء: من الآية1]، العبودية من أعظم صفات النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكونه حقق العبودية، نال= =إمامة المرسلين، وهو إمام المرسلين، أمّ المرسلين ليلة الإسراء والمعراج، حقق العبودية؛ فوصل إلى حيث لم يصل قبله أحدٌ من الرسل، حيث وصل إلى حيث يسمع صريف الأقلام، أقلام الملائكة وهم يكتبون المقادير بإذن الله، مخاطبة الله مباشرة دون واسطة جبرائيل، حقق العبودية؛ فصار يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ويقال له في ذلك؛ فيكون جوابه: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).

(1/74)


(85) والواجبات ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: سبحان ربي العظيم في الركوع، وقول: سمع الله لمن حمده، للإمام والمنفرد، إلى ماذا يشير الشيخ؟ يشير الشيخ إلى خلافٍ فقهي، هل المأموم يقول سمع الله لمن حمده؟ أو إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، يقول المأموم ربنا لك الحمد، أو ربنا ولك الحمد؟ هذا المشهور، ولكن بعض أهل العلم، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي على مذهبه، [استدل] بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))، سواءً سلم الاستدلال أو لم يسلم، كما تقدم أن بحثنا، أهل العلم قد يختلفون في الاستنباط من النصوص وفهم النصوص، هذا هو فهم الإمام الشافعي -رحمة الله عليه-، أنَّه يرى أنَّ المأموم يقول كما قال الإمام: سمع الله لمن حمده، المشهور عند كثير من أهل العلم ما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أنَّ قوله: سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد، والقول ربنا ولك الحمد للكل، وقول سبحان ربي الأعلى إلى آخره.
هكذا ننتهي من الشروط والأركان والواجبات.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(86) والحمد لله الذي ينعمته تتم الصالحات، تم الفراغ من تنسيق وتنضيد وتشكيل هذا الشرح المبارك صبيحة يوم الإثنين بواسطة: أبي عبد الله الآجُّري، أسأل الله أن ينفعنا به يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

(1/75)

ليست هناك تعليقات: