بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 22 يونيو 2015

قطع الجدل ورفع الخلل في مسألة العذر بالجهل

قطع الجدل ورفع الخلل في مسألة العذر بالجهل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ مسألة العذر بالجهل كانت من المسائل التي ثار فيها الجدل بين الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وبين خصومه في وقته، وقد اتهمه الكثيرون من قبل – ولا زال البعض على أثرهم! – بأنه يُكفِّر أعيان المسلمين بما وقع منهم من شركيات قبل البيان والمعرفة وإقامة الحجة عليهم، وأنه لا يعذر أحداً منهم وقع في ذلك ولو صدر منه عن جهل وعدم معرفة!.
وكان الإمام المجدد رحمه الله يدفع هذه التهمة ويُفصِّل قوله في المسألة فيقول كما في [الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/ 102-104]: ((أركان الإسلام الخمسة: أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة؛ فالأربعة: إذا أقربها وتركها تهاوناً؛ فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفِّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم: وهو الشهادتان، وأيضاً نكفِّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر.
فنقول أعداؤنا معنا على أنواع:
 النوع الأول: مَنْ عرف أنَّ التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس وأقرَّ أيضاً أنَّ هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر الذي هو دين غالب الناس أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك: فهو كافر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس.
النوع الثاني: مَنْ عرف ذلك؛ ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت، وفضَّلهم على من وحَّد الله وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين"، وهو ممن قال الله فيه: "وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون".
النوع الثالث: مَنْ عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، ولكن يكره مَنْ دخل في التوحيد، ويحب من بقى على الشرك: فهذا أيضاً كافر فيه قوله تعالى: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم".
النوع الرابع: مَنْ سَلِمَ من هذا كله؛ ولكنَّ أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد وإتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله ونفسه: فهذا أيضاً كافر؛ فإنه لو يأمرونه بترك صوم رمضان ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم فعل - وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير - فهذا أيضاً كافر، وهو ممن قال الله فيهم: "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم" إلى قوله: "سلطاناً مبيناً"، فهذا الذي نقول.
وأمَّا الكذب والبهتان؛ فمثل قولهم: إنا نكفِّر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على مَنْ قدر على إظهار دينه، وإنا نكفِّر مَنْ لم يكفر ومَنْ لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفِّر مَنْ عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم مَنْ ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَنْ لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟! سبحانك هذا بـهتان عظيم، بل نُكفِّر تلك الأنواع الأربعة لأجل محادتهم لله ورسوله، ورحم الله امرءاً نظر نفسه وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم)).
فكلامه رحمه الله واضح أنه لا يُكفِّر إلا مَنْ عرف التوحيد والشرك ثم لم يعمل بما تقتضيه تلك المعرفة من عمل ومحبة ونصرة للتوحيد وأهله وترك وبغض ومعاداة للشرك وأهله، وكذلك هو لا يُكفِّر بأمر محتمل أو متنازع فيه، وإنما يكفِّر بما أجمع عليه العلماء.
لكنَّ كثيراً من خصوم الشيخ رحمه الله كانوا لا يقبلون دعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك، ولم يجدوا حجة في رد ما جاء به من أدلة وبراهين على صدق ما يدعوا إليه، وإنما وجدوا اتهامه بتكفير المسلمين سبيلاً للصد عن دعوته وقبولها وتنفير الناس عنها، فكانوا يعتذرون للناس بالجهل إقراراً منهم على ما كانوا عليه من دين المشركين، وليس من باب إقامة الحجة قبل التكفير!.
فلما رأى الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تلبيس هؤلاء على الناس لإقرار الشرك ومحاربة دعوة التوحيد، قال لهم بما مفاده: ليس الجهل عذراً في بقاء الناس على الشرك، بل الواجب عليهم أن يحرصوا على تعلم التوحيد والشرك وأن يعملوا بمقتضى هذا العلم، وإنَّ بعض الناس قد فرَّط في طلب معرفة التوحيد والشرك؛ فهو يسمع بدعوة التوحيد ولكنه معرض عنها تقصيراً لا جهلاً، وقال لهم بما مفاده أيضاً: ليست إقامة الحجة معناها أن يتبين لهم الحق فيعاندوا أو يفهموا الحجة بما يحصل به اقتناعهم، فإنَّ هذا ليس بلازم، لأنَّ الكافر غير محصور بالمعاند، ولا يشترط في إقامة الحجة الاقتناع أو الفهم الذي يوجب الهداية، وإنما يكفي فيها البلاغ بما يفهم منه السامع معنى الكلام القائم على الحجة الرسالية، وقد ختم الله على قلوب أهل الشرك الأوائل وطبع عليها فلم يفقهوا؛ ومع هذا وصفوا بالكفر وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. فأول الخلاف كان بين الشيخ رحمه الله وبين خصوم دعوة التوحيد الذين يقرون الناس على ما هم عليه من شرك وضلال.
ثم ظنَّ بعض العلماء في ذلك الوقت أنَّ الخلاف بين الشيخ رحمه الله وبين خصومه كان في مسألة العذر بالجهل، وظنَّ البعض أنَّ الشيخ لا يعذر بالجهل، فقام بعض أبناء الشيخ وطلابه في بيان أنَّ الشيخ يعذر بالجهل، ثم تطوَّر الخلاف وصار بين المنتسبين لدعوة الشيخ رحمه الله، منهم مَنْ يعذر بالجهل ويذكر أدلة شرعية ومواضع من كلام الشيخ وكلام غيره من العلماء تدل على ذلك، ومنهم مَنْ لا يعذر بالجهل ويذكر أدلة ومواضع أخرى للشيخ وغيره تدل على ذلك، ويردون ما استدل به الأولون بأنَّ هذه الأدلة وهذا المواضع المذكورة عن الشيخ رحمه الله وغيره من العلماء إنما هي في الأمور الخفية، وأما مسائل الاعتقاد الظاهرة من التوحيد والشرك فهذه لا تخفى على أحد ولا تحتاج إلى إقامة حجة لأنها شعائر ظاهرة يعلمها الخاص والعام من أهل الإسلام وغيرهم، فلا يُعذر أحد بجهلها.
ولا زال هذا الخلاف قائماً منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، فمن أهل العلم مَنْ يرى العذر بالجهل قبل إطلاق أحكام التكفير؛ لئلا يحكم على مسلم بالكفر وتترتب عليه أحكام الكافرين وهو لا يستحقها بسبب الجهل وعدم بلوغ الحجة، ومعلوم أنَّ إخراج المسلم من الإسلام بشبهة أو شك أو ظن أمر عظيم، ومن أهل العلم مَنْ يرى عدم العذر بالجهل لئلا يكون الجهل سبباً في إقرار الناس على ما هم عليه من شرك، وأنَّ الواجب على الجاهل أن يسعى بكل ما أوتي من سبيل في رفع الجهل عن نفسه.
وإنْ كان هذا الخلاف قد يقرب أحياناً بين بعض أهل العلم ويضيق، وقد يبعد بين آخرين ويشتد بسبب قوة الإمعان في النصوص والنقول، وإدراك الواقع الذي تعيش فيه دعوة التوحيد في أوساط الناس كافة، وما يصدر منهم من أقوال وأفعال شركية سواء كانت من المسائل الظاهرة أو الخفية، والموازنة في النظر بين حفظ جناب التوحيد من جهة وبين صيانة أعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم من جهة أخرى، ولهذا يرى بعض الناظرين إلى هذا الخلاف أنَّ الطرفين المختلفين في مسألة العذر بالجهل يحاولون أن يراعوا الأسباب المشار إليها آنفاً، فالذين يعذرون بالجهل لا يطلقون العذر في كل مسألة ولو كانت ظاهرة من مسلم طال به العهد في بلد الإيمان والعلم!، والذين لا يعذرون بالجهل لا يطلقون عدم العذر في كل مسألة ولو كانت خفية ولأصحابها شبهة معارضة أو تأويل سائغ أو صدرت من مسلم قريب العهد بالإسلام أو نشأ في البادية البعيدة أو المناطق النائية!، فليس الأولون يثبتون العذر بالجهل بإطلاق!، ولا الآخرون ينفونه بإطلاق!، فليُعلم هذا.
ولعلَّ بسبب ذلك؛ رأى البعض أنه لا خلاف بين العلماء في اعتبار الجهل عذراً في عدم التكفير، بينما رأى البعض الآخر أنه لا خلاف بينهم في عدم العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد الظاهرة، وكلاهما محق، لكنَّ طريقة رد بعضهم على بعض واستدلالهم بالنصوص والنقول ودفع استدلالات المخالف قد استغلت من بعض المتأخرين في توسيع الخلاف وعدم اعتبار الخلاف في المسألة والتشنيع على المخالف، حتى صار مَنْ لا يعذر بالجهل عند مخالفه من أهل التكفير، والذي يعذر بالجهل عند الآخر من أهل الإرجاء، بل تطوَّر الأمر عند البعض إلى تكفير المخالف!.
والحقيقة أنَّ بعض العلماء قد تجد له قولين في المسألة؛ مرة يُسأل فيعذر بالجهل في موضع ومرة لا يعذر في موضع آخر؛ وهذا الاختلاف في الجواب لو أمعنا النظر فيه لوجدنا سببه إما لاختلاف الواقعة وطبيعة السؤال أو لمراعاة جناب التوحيد تارة وأعراض المسلمين تارة أخرى، فهو وإن كان في الظاهر يراه الناظر تناقضاً واضطراباً ولكنه عند التأمل له أسبابه المعتبرة، والمشكلة ليست في المقروء وإنما في القارئ!، حيث يأتي كثير من القراء فيأخذ من كلام العالم ما يوافق مذهبه الذي يتبناه في المسألة فينسب له مذهباً واحداً في العذر أو عدمه، ويعرض عن كلامه الآخر – وقد يكون في نفس الموضع أو السياق - كأنه لم يكن!، ثم ينسب المستدل بكلامه الآخر بأنه كاذب في نسبة هذا القول إلى ذلك العالم!، بل رأينا وسمعنا مَنْ ينقل قولاً واحداً لهذا العالم الذي اختلف النقل عنه ويُعرض عما ينقله مخالفه من قول آخر لذلك العالم في نفس المقال المنشور أو المجلس الذي دار فيه النقاش؛ فلا يُعلِّق عليه بكلمة ولا يجيب عنه بتوجيه!، وليس مجرد النقل والإكثار منه هو العلم والحجة، وإنما الواجب تحرير الخلاف وأسبابه وتحقيق أقوال المختلفين ثم الحكم بالحجج والبراهين، وهذا ما لا يراه القراء – مع الأسف - في كثير من الرسائل والمقالات التي كُتبت في هذه المسألة العظيمة التي خاض فيها الكثير بلا نقل مصدَّق ولا بحث محقق، فلم يجد المختلفون اليوم إلا تراشق التهم والكلمات التي لا تليق والتهويل والتشغيب بديلاً عن ذلك، والله المستعان.
وإنما مكمن الخطر في هذه المسألة المهمة من عدة جهات:
الأولى: إقرار أهل الشرك على ما هم عليه بحجة أنَّ الجهل عذراً في عدم التكفير، والمجادلة عنهم.
الثانية: إضعاف مكانة التوحيد والشرك في قلوب الناس والتهوين من أمرهما.
الثالثة: تضييع مبدأ الولاء والبراء وعدم التمايز بين أهل التوحيد وأهل الشرك.
الرابعة: تفريق أهل السنة والجماعة بسبب الخوض في هذه المسألة بلا علم.
الخامسة: التشنيع على المخالف ورميه بالكذب ونسبته إلى الضلال والفرق الهالكة بسبب تبني أحد الأقوال في المسألة.
السادسة: دعوى الإجماع في غير محله الذي ذكره بعض أهل العلم، أو على غير مرادهم منه.
السابعة: إطلاق أحكام تكفير المعينين - سواء كانوا بالجملة أو فرادى – على ألسنة غير المؤهلين بدعوى عدم العذر بالجهل.
الثامنة: رد النصوص الصريحة والنقول الموثَّقة بمجرد الظن أو إتباع الهوى.
فإذا راعى المختلفون في هذه المسألة هذه الجهات ضاق الخلاف بينهم من حيث التأصيل وضعف أثره في الواقع، وهذا مطلب شرعي لا بد أن يحرص على تحقيقه أهل السنة والجماعة، بخاصة أنَّ أهل الباطل يحيطون بهم من كل جهة، ويشمتون بتفرقهم ويفرحون باختلافهم، ويصدون الناس عن سبيلهم بمثل ذلك.
وقد قال العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى في هذه المسألة كلاماً جامعاً قاطعاً لكل جدل وفتنة لما سُئل حول مسألة العذر بالجهل؟
فكان جوابه كما في [مجموع كتب ورسائل وفتاوى فضيلة الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي 14/ 309-312]:
((هذه المسألة؛ مسألة العذر بالجهل أو عدم العذر، يركض من ورائها أناس أهل فتنة، ويريدون تفريق السلفيين، وضرب بعضهم ببعض.
وأنا كنتُ في المدينة اتصل بي رياض السعيد وهو معروف وموجود في الرياض الآن قال لي: إنَّ هنا في الطائف خمسين شاباً كلهم يكفِّرون الألباني!!.
لماذا؟!
لأنه لا يكفِّر القبوريين ويعذرهم بالجهل!!.
طيب؛ هؤلاء يكفرون ابن تيمية وابن القيم وكثير من السلف، لأنهم يعذرون بالجهل وعندهم أدلة منها: "وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا" الإسراء/ 15، ونصوص أخرى فيها الدلالة الواضحة، ومنه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" النساء/ 115، "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" التوبة/ 115، ونصوص أخرى تدل على أنَّ المسلم لا يكفر بشيء من الكفر وقع فيه، نقول: وقع في الكفر؛ هذا كفر وقع فيه عن جهل مثلاً، فلا نكفره حتى نبين له الحجة ونقيم عليه الحجة، فإذا عاند كفرناه.
وهذا القول عليه عدد من أئمة العلماء في نجد، وبعضهم قد يختلف كلامه، مرة يشترط قيام الحجة، ومرة يقول: لا يعذر بالجهل!!؛ فيتعلَّق أناس بأقوال مَنْ لا يعذر بالجهل، ويهمل النصوص الواضحة في اشتراط قيام الحجة، وأنه لا يكفر المسلم الذي وقع في مكفّر حتى تقام عليه الحجة؛ ومنه ما ذكرته لكم عن الإمام الشافعي رحمه الله، والنصوص التي ذكرتها لكم.
كنتُ أعرف شيخاً فاضلاً لا يعذر بالجهل، ونحن في سامطة وزارنا هذا الشيخ، ويحمل هذه الفكرة!، لكنه ما كان يثير الفتن ولا يناقش ولا يجادل ولا يضلل مَنْ يعذر بالجهل، وعشنا نحن وإياه أصدقاء قرابة أربعين سنة، وقد مات من عهد قريب رحمه الله.
وجلستُ مرة في إحدى المجالس وواحد يقرر عدم العذر بالجهل، فذكرتُ له هذه الأدلة وذكرتُ له أنَّ علماء نجد يعرف بعضهم بعضاً؛ بعضهم يعذر بالجهل وبعضهم لا يعذر، وهم متآخون، ليس هناك خلافات، ولا خصومات، ولا إشاعات، ولا، ولا..، فسكت ولم يجادل لأنه لا يريد الفتن.
فنحن نعرف أنَّ الخلاف واقع في نجد بين بعض المشايخ وغيرهم، لكن لا خصومة ولا تضليل ولا فتن؛ وإنما هذه طريقة الحدادية؛ يا إخوان، الفتنة الحدادية الماكرة الضالة أنشأت لإثارة الفتن بين أهل السنة وضرب بعضهم ببعض، وهم تكفيريون مستترون، وعندهم بلايا أخرى، يمكن غير التكفير، ويستخدمون أخبث أنواع التقية ستراً على منهجهم الخبيث وأغراضهم الفاسدة.
وأنا رأيتُ شاباً تأثر بهذا المنهج وكان يحمل كتاباً فيه أقوال منتقاة في عدم العذر بالجهل، وينتقل ما بين الرياض والطائف ومكة والمدينة وإلى آخره، كان عندنا، ويدرس عندنا، ثم ما شعرنا إلا وهو يحمل هذا الفكر بهذه الطريقة.
فناقشته مراراً وبينتُ له منهج شيخ الإسلام بن تيمية ومنهج السلف والأدلة وهو يجادل قلتُ له: مَنْ إمامك؟
قال: فلان وفلان.
فبحثتُ فوجدتُ عندهم أقوال متضاربة، مرة يعذر بالجهل!، ومرة لا يعذر بالجهل!.
قال لي معي فلان.
قلت له: فلان هذا كلامه - قد أعددت له - هذا فلان هنا يعذر بالجهل ويشترط إقامة الحجة!!.
قال: أنا مع ابن القيم.
قلت له: ابن القيم من زمان رفضته أنت، ابن القيم يشترط إقامة الحجة، لكنه مُصِر على ضلاله، فعاند وطرد من هذه البلاد، ثم رجع.
وفي مناقشاتي له قلتُ له: قوم كفار في جزيرة من الجزر في إحدى جزر بريطانيا أو جزر المحيط الهادي أو غيرها ما أتاهم أحد من السلفيين وجاءهم جماعة التبليغ وعلموهم، وقالوا: هذا الإسلام فيه خرفات فيه بدع فيه شركيات وفيه وفيه ...
قالوا لهم: هذا الإسلام فقبلوه وتقربوا إلى الله ويعبدون الله على هذا الدين الذي يسمى الإسلام.
 تكفرهم أنت أم تبين لهم وتقيم عليهم الحجة؟
قال: هم كفَّار!، ولا يشترط إقامة الحجة.
قلت: اذهب إلى الجزائر فأنت أشد من هؤلاء الثوار الآن، أنت أشد تكفيراً منهم، ليس لك مجال في هذه البلاد.
مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في هذا قائم على الحجج والبراهين وهو مذهب السلف إنْ شاء الله.
ومَنْ تبنى واقتنع بغير هذا وسكت ما لنا شغل فيه، لكن يذهب يثير الفتن ويضلِّل ويكفِّر فلا؛ لا والله لا يسكت عنه.
وأنصح الشباب أن يتركوا هذه القضية لأنها وسيلة من وسائل أهل الشر والفتن يبثونها بين المسلمين.
طيب؛ مرَّ عليكم دهور من عهد الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى وقتنا هذا ليس هناك صراعات بينهم في القضية هذه أبداً، الذي اجتهد ورأى هذا المذهب سكت ومشى، قرره في كتابه ونشره فقط ومشى، والذي يخالفه مشى، كلهم إخوة ليس بينهم خلافات، ولا خصومات، ولا أحد يضلل أحداً، ولا يكفره.
أما هؤلاء يكفرون، انظروا توصلوا به إلى تكفير أئمة الإسلام، مما يدلك على خبث طواياهم وسوء مقاصدهم.
 فأنا أنصح الشباب السلفي أن لا يخوضوا في هذا الأمر .
والمذهب الراجح: اشتراط إقامة الحجة، وإذا ما ترجَّح له فعليه أن يسكت ويحترم إخوانه الآخرين، فلا يضللهم لأنهم عندهم حق، وعندهم كتاب الله، وعندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندهم منهج السلف.
والذي يريد أن يكفِّر يكفِّر السلف، يكفِّر ابن تيمية وابن عبد الوهاب أيضاً، الإمام محمد بن عبد الوهاب قال: نحن لا نكفر الذين يطوفون حول القبور ويعبدونها حتى نقيم عليهم الحجة لأنهم لم يجدوا مَنْ يبين لهم)).
ومن الغرائب:
أنَّ البعض يحث القراء على قراءة العقيدة في كتب (فلان) من العلماء المعاصرين وقد يُضاف إليه آخر، ويتجاهل باقي العلماء كأنَّهم عندهم تخليط في هذه المسائل؛ وقد وقال الشيخ ربيع حفظه الله تعالى في [شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث ص179-180]: ((أهل البدع لا يسكتون عن أهل السنة، بل يطعنون فيهم كما هو حال الخوارج الجدد الحدادية!، بل هم الآن من أشدِّ الناس طعناً في أهل السنة، ومن أشدِّهم حرباً على أهل السنة؛ حيث إنَّ علماء مكة وعلماء المدينة وعلماء اليمن وعلماء العالم الإسلامي كلهم – الآن - عندهم مرجئة مبتدعة!!، ولا يعترفون إلا بشخص واحد - تقريباً! - وهو الشيخ صالح الفوزان فقط!، ليندسوا من ورائه!، وليطعنوا في أهل السنة جميعاً!!.
وهم والله بدؤوا بالشيخ الفوزان – وربِّ السماء - وأدين الله بأنهم يبغضونه ويحتقرونه!!. فعلماء السنة كلهم – الآن - عند هؤلاء المبتدعة مرجئة!!.
ومَنْ يكونون هم؟!
ما ندري؛ لهم ثلاثة رؤوس أو أربعة بارزين فقط!.
وهم من أضلِّ خلق الله!، وأكثرهم خيانة وفجوراً!، فكيف بالمخفيين؟!
المخفيون يمكن فيهم باطنية وروافض!، والله أعلم، فما أبقوا لأهل السنة شيئاً، هذا حالهم الآن حرب أهل السنة!)).
وأحدهم يحشر قول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في أقوال الذين لا يعذرون بالجهل، وهو يعلم أنَّ له قولاً آخر كما في [فتاوى اللجنة الدائمة 1/ 386-387] [العلماء/  سماحة الشيخ ابن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ عبدالله غديان رحمهم الله] جاء السؤال الآتي: مسألة العذر بالجهل في مواضيع عبادة القبور أو عبادة الطاغوت؛ هل يعذر صاحبها بالجهل؟!
فكان جوابهم:
((عبادة القبور وعبادة الطاغوت شرك بالله، فالمكلَّف الذي يصدر منه ذلك يُبيَّن له الحكم؛ فإنْ قَبِلَ وإلا فهو مشرك، إذا مات على شركه فهو مخلَّد في النار ولا يكون معذوراً بعد بيان الحكم له، وهكذا مَنْ يذبح لغير الله)).
وفي فتوى رقم (11043) تحت عنوان: [هل يعذر المسلم بجهله في الأمور الاعتقادية؟]، كان السؤال الآتي: عندنا تفشي ظاهرة عبادة القبور، وفي نفس الوقت وجود مَنْ يدافع عن هؤلاء ويقول: إنهم مسلمون معذورون بجهلهم؛ فلا مانع من أن يتزوجوا من فتياتنا، وأن نصلي خلفهم، وأنَّ لهم كافة حقوق المسلم على المسلم، ولا يكتفون بل يسمون من يقول بكفر هؤلاء: إنه صاحب بدعة يعامل معاملة المبتدعين، بل ويدَّعوا أنَّ سماحتكم تعذرون عباد القبور بجهلهم؛ حيث أقررتم مذكرة لشخص يُدعى الغباشي يعذر فيها عباد القبور، لذلك أرجو من سماحتكم إرسال بحث شاف كاف تبين فيه الأمور التي فيها العذر بالجهل من الأمور التي لا عذر فيها، كذلك بيان المراجع التي يمكن الرجوع إليها في ذلك، ولكم منا جزيل الشكر.
فكان جواب اللجنة [العلماء/  سماحة الشيخ ابن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمهما الله]:
((يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر: باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاء، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفاً.
فمن استغاث بأصحاب القبور دفعاً للضر أو كشفاً للكرب بُيِّنَ له أنَّ ذلك شرك، وأقيمت عليه الحجة؛ أداء لواجب البلاغ، فإنْ أصرَّ بعد البيان فهو: مشرك يعامل في الدنيا معاملة الكافرين، واستحق العذاب الأليم في الآخرة إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"، وقال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"، وقوله تعالى: "وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ"، وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البيان وإقامة الحجة قبل المؤاخذة.
ومَنْ عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم مَنْ بلغته الدعوة الإسلامية وأصرَّ على الكفر، ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، كما يشهد له ما قصه الله تعالى من نبأ قوم موسى إذ أضلهم السامري فعبدوا العجل وقد استخلف فيهم أخاه هارون عند ذهابه لمناجاة الله، فلما أنكر عليهم عبادة العجل قالوا: "لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى"، فاستجابوا لداعي الشرك، وأبوا أن يستجيبوا لداعي التوحيد، فلم يعذرهم الله في استجابتهم لدعوة الشرك والتلبيس عليهم فيها...... إلى أن قالوا:
وبهذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحِّدين الذين يعتقدون كفر عباد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحِّدين الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة؛ لأنَّ توقفهم عن تكفيرهم له شبهة وهي اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم...)).
وأغرب من ذلك حشر العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مع القائلين بعدم العذر بالجهل؛ مع إنَّ أقواله في العذر بالجهل أظهر وأكثر؛ ففي لقاء الباب المفتوح؛ سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم المرجئة؟ وما حكم مَنْ يصف الذين يعذرون بالجهل بأنهم دخلوا مع المرجئة في مذهبهم؟!
فكان جوابه:
((أولاً: لا بد أن نعرف مَنْ هم المرجئة؟ المرجئة هم الذين يقولون: الإيمان عمل القلب، ولكن قولهم هذا باطل لا شك فيه؛ لأنَّ النصوص تدل على أن الإنسان إذا عصى الله عز وجل نقص إيمانه.
وأما العذر بالجهل فهذا مقتضى عموم النصوص، ولا يستطيع أحد أن يأتي بدليل يدل على أنَّ الإنسان لا يعذر بالجهل، قال الله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"، وقال تعالى: "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، ولولا العذر بالجهل لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يلزمون بمقتضى الفطرة ولا حاجة لإرسال الرسل، فالعذر بالجهل هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، وقد نصَّ على ذلك أئمة أهل العلم: كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
لكن قد يكون الإنسان مفرطاً في طلب العلم فيأثم من هذه الناحية؛ أي: أنه قد يتيسر له أن يتعلم لكن لا يهتم، أو يقال له: هذا حرام ولكن لا يهتم، فهنا يكون مقصراً من هذه الناحية، ويأثم بذلك.
أما رجل عاش بين أناس يفعلون المعصية ولا يرون إلا أنها مباحة، ثم نقول: هذا يأثم، وهو لم تبلغه الرسالة هذا بعيد.
ونحن في الحقيقة يا إخواني لسنا نحكم بمقتضى عواطفنا إنما نحكم بما تقتضيه الشريعة، والرب عز وجل يقول: "إنَّ رحمتي سبقت غضبي"، فكيف نؤاخذ إنساناً بجهله وهو لم يطرأ على باله أن هذا حرام؟!
بل إنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: نحن لا نكفر الذين وضعوا صنماً على قبر عبد القادر الجيلاني وعلى قبر البدوي لجهلهم وعدم تنبيههم.
والمرجئة لم أعلم أنَّ أحداً أخرجهم من الإسلام، وهم لا شك أنهم مخطئون، وأنَّ الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما يدل على ذلك نصوص كثيرة، وأنَّ عدم عمل الصالحات ينقص من الإيمان.
فالجهل بهذا لا يكون عذراً؛ بل يجب عليه أن يتعلم هذا الأمر وأن يتبصر فيه، ولا يعذر بقوله إني جاهل بمثل هذه الأمور وهو بين المسلمين وقد بلغه كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام؛ وهذا يسمى معرضاً، ويسمى غافلاً ومتجاهلاً لهذا الأمر العظيم فلا يعذر، كما قال الله سبحانه: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً"، وقال سبحانه: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"، وقال تعالى في أمثالهم: "إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ"، إلى أمثال هذه الآيات العظيمة التي لم يعذر فيها سبحانه الظالمين بجهلهم وإعراضهم وغفلتهم.
أما من كان بعيداً عن المسلمين في أطراف البلاد التي ليس فيها مسلمون ولم يبلغه القرآن والسنة فهذا معذور، وحكمه حكم أهل الفترة إذا مات على هذه الحالة الذين يمتحنون يوم القيامة، فمن أجاب وأطاع الأمر دخل الجنة ومن عصى دخل النار، أما المسائل التي قد تخفى في بعض الأحيان على بعض الناس كبعض أحكام الصلاة أو بعض أحكام الزكاة أو بعض أحكام الحج، هذه قد يعذر فيها بالجهل، ولا حرج في ذلك؛ لأنها تخفى على كثير من الناس وليس كل واحد يستطيع الفقه)).
وسئل رحمه الله في [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين]: هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟
فأجاب بقوله:
((العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ" حتى قال عز وجل: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، ولقوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"، ولقولهتعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ"، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي واحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار"، والنصوص في هذا كثيرة.
فمن كان جاهلاً فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين؛ ولكن يجب أن نعلم أنَّ من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي إنه يذكر له الحق ولكنه لا يبحث عنه ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه ومن يعظمهم ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور، لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظِّم من يعظِّم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ"، وفي الآية الثانية: "وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ".
فالمهم؛ أنَّ الجهل الذي يعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق ولا يذكر له: هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله.
ثم إنْ كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه يعتبر منهم، وإنْ كان لا ينتسب إلى المسلمين فإنَّ حكمه حكم أهل الدين الذي ينتسب إليه في الدنيا، وأما في الآخرة فإنَّ شأنه شأن أهل الفترة؛ يكون أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم: أنهم يمتحنون بما شاء الله، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار، ولكن ليعلم أننا اليوم في عصر لا يكاد مكان في الأرض إلا وقد بلغته دعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة واختلاط الناس بعضهم ببعض، وغالباً ما يكون الكفر عن عناد)).
وسئل رحمه الله: عن العذر بالجهل فيما يتعلق بالعقيدة؟
فأجاب بجواب مطوَّل مفصَّل:
((الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافاً لفظياً في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين أي إنَّ الجميع يتفقون على أنَّ هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضى في حقه وانتفاء المانع؟ أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات أو وجود بعض الموانع؟
وذلك أنَّ الجهل بالمكفِّر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام أو لا يدين بشيء ولم يكن يخطر بباله أنَّ ديناً يخالف ما هو عليه فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله تعالى، والقول الراجح: أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: "وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"، وإنما قلنا: تجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا وهي أحكام الكفر؛ لأنه لا يدين بالإسلام فلا يمكن أن يعطى حكمه، وإنما قلنا بأنَّ الراجح أنه يمتحن في الآخرة لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "طريق الهجرتين" عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام ولكنه عاش على هذا المكفِّر ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبهه أحد على ذلك: فهذا تجري عليه أحكام الإسلام ظاهراً، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"، وقوله: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ"، وقوله: "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، وقوله: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ"، وقوله: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ"، وقوله: "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ"، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنَّ الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.
وأما السنة: ففي صحيح مسلم 1\134 عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
وأما كلام أهل العلم: فقال في المغني 8\131: "فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم: لم يحكم بكفره"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 3\229 مجموع ابن قاسم: "إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى. وإني أقرر: أنَّ الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية" إلى أن قال: "وكنت أبين أنَّ ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير مَنْ يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين" إلى أن قال: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا". وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 1\56 من الدرر السنية: "وأما التكفير فأنا أُكفِّر مَنْ عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله: فهذا هو الذي أُكفِّره"، وفي ص 66: "وأما الكذب والبهتان فقولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على مَنْ قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفِّر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفِّر مَنْ لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟!".
وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، فهو مقتضى حكمة الله تعالى ولطفه ورأفته، فلن يُعذِّب أحداً حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره؛ لأنَّ في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم ، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به؛ أما الأول فواضح حيث حكم بالكفر على مَنْ لم يكفره الله تعالى فهو كمن حرم ما أحل الله؛ لأنَّ الحكم بالتكفير أو عدمه إلى الله وحده كالحكم بالتحريم أو عدمه، وأما الثاني فلأنه وصف المسلم بوصف مضاد فقال: إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك، وحري به أن يعود وصف الكفر عليه لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما"، وفي رواية: "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه"، وله من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"، يعني رجع عليه. وقوله في حديث ابن عمر: "إن كان كما قال" يعني في حكم الله تعالى، وكذلك قوله في حديث أبي ذر: "وليس كذلك" يعني في حكم الله تعالى.
وهذا هو المحذور الثاني؛ أعني عود وصف الكفر عليه إن كان أخوه بريئاً منه، وهو محذور عظيم يوشك أن يقع به؛ لأنَّ الغالب أنَّ مَنْ تسرع بوصف المسلم بالكفر كان معجباً بعمله محتقراً لغيره فيكون جامعاً بين الإعجاب بعمله الذي قد يؤدي إلى حبوطه، وبين الكبر الموجب لعذاب الله تعالى في النار كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله عز وجل: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار".
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أنَّ هذا مكفِّر؛ لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين؛ بحيث تتم شروط التكفير في حقه وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً"، فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له.
ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره، أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلًا بما يترتب عليها؟
الجواب: الظاهر الثاني؛ أي إنَّ مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه، لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأنَّ الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالمًا ما زنى.
ومن الموانع: أن يُكره على المكفِّر لقوله تعالى: "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
ومن الموانع: أن يُغلق عليه فكره وقصده؛ بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح، أو حزن، أو غضب، أو خوف، ونحو ذلك، لقوله تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً"، وفي صحيح مسلم 2104 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك؛ إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".
ومن الموانع أيضاً: أن يكون له شبهة تأويل في المكفِّر بحيث يظن أنه على حق؛ لأنَّ هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ"، ولأنَّ هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"، قال في المغني 8\131: "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - عني يكون كافراً -، وإنْ كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أنَّ أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى... إلى أن قال: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا"، وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13 \30 مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب"، وفي ص 210 منه: "فإنَّ الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن بإتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله، من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم ولا إتباع للسنة ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن"، وقال أيضًا 28\518 من المجموع المذكور: "فإنَّ الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين"، لكنه ذكر في 7\217: "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع"، وفي 28\518: "أنَّ هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره"، وفي 3\282 قال: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم؛ قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذي ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيض؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه"، إلى أن قال: "وإذا كان المسلم متأولاً في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك"، إلى أن قال في ص 288 : "وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره..، والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"، وقوله: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
والحاصل: أنَّ الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة والاعتبار وأقوال أهل العلم)).

وأخيراً:
هذا ما أحببتُ بيانه فإنْ أصبتُ فمنة من الله عز وجل عليَّ، وإنْ أخطأتُ فمني ومن الشيطان، والله عزَّ وجلَّ بريء منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والسداد والبصيرة في الدين.
والله الموفِّق

وأما مسألة إطلاق اسم (كافر أو مشرك أو مسلم) على مَنْ وقع جهلاً في شيء من الشرك الأكبر ممن ينتسب إلى الإسلام؛ فهذه قد اختلف فيها أئمة الدعوة، فمنهم مَنْ يرى إطلاق اسم الكفر أو الشرك عليه ومنهم مَنْ يرى بقاء اسم الإسلام حتى تقام عليه الحجة فيصر على شركه، ومنهم مَنْ يصف الذين تلبَّسوا بالأفعال والأقوال الشركية بالجهَّال أو أهل الفترة فلا يُطلق اسم الكفر عليهم ولا الإسلام، وأسباب هذا الاختلاف كثيرة:
منها بعض ظواهر النصوص والنقول والتفاوت في فهمها وتفسيرها، ومنها قياس هؤلاء الجهَّال على أهل الكفر الذين لم يدخلوا في الإسلام أصلاً؛ فيبقى اسم الكفر ملازماً لهم حتى يأت ما يدل على خلافه، فهؤلاء يُنازعون في صحة نسبتهم إلى الإسلام ابتداءاً، قالوا: مَنْ لازم الشرك في حياته كلها – ولو نسب نفسه إلى الإسلام - لا يُمكن أن يُطلق عليه أنه مسلم موحِّد، فلم يبق إلا اسم الشرك والكفر، أو قياسم على الذي يزني ويسرق ويقتل؛ فهؤلاء بمجرد أن يفعلوا هذه الفواحش يُطلق عليهم اسم زان وسارق وقاتل؛ وكذلك مَنْ وقع في الشرك فهو مشرك بمجرد ذلك، ومن هؤلاء مَنْ لا يرى كفر أولئك الذين تلبَّسوا بالشرك جهلاً لكن ينظر إلى المسألة من باب التمايز بين صف الموحدين وصف المشركين؛ فيُطلق على أولئك كفاراً لئلا يلتبس الباطل بالحق ولا يختلط أهل الباطل بأهل الحق، ومنهم مَنْ يفرِّق بين الكفر الظاهر والكفر الباطن والعقاب الدنيوي والعقاب الآخروي، فيرون أنَّ أولئك يُطلق عليهم اسم الكفر من حيث الظاهر ويستحقون العقاب الدنيوي – على خلاف بينهم في مقداره وصفته - بمجرد تلبسهم بالشرك ولو كان عن جهل وأما الكفر الباطن والعقاب الآخروي فلا يثبت إلا بعد قيام الحجة، ومنهم مَنْ يرى أنَّ أكثر هؤلاء الجهَّال هم في الحقيقة ومن جهة الواقع معرضون لا يريدون معرفة الحق ولا يحرصون عليه كما قال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ))، ومنهم مَنْ يفرِّق في اطلاق اسم الكفر على هؤلاء الجهَّال بين المسائل الظاهرة والأمور الخفية، وبين الذي كان قريب عهد بالكفر وغيره، وبين الذي نشأ في بلد العلم والإيمان والذي نشأ في المناطق النائية، ومنهم مَنْ يرى أنَّ الحجة قامت بالميثاق الذي أخذه الله على بني آدم أو بالفطرة أو بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبلوغ القرآن، فليس ثمة جهال بعد ذلك، بل إما موحدون وإما مشركون.
وأما العلماء الذي لا يُطلقون اسم الكفر أو الشرك على مَنْ تلبَّس بالشرك جهلاً، ولا يرتبون أحكام الكفار عليهم في الدنيا حتى تقام عليهم الحجة ويُبيَّن لهم الحق، فهؤلاء لا يرون تلك الاستدلالات صالحة في إثبات تلك الدعوى:
فالأدلة التي استدل بها الأولون إما أنها نزلت في الكفار وأهل الأوثان الأصليين ولا يدخل فيها أهل الإسلام خلافاً لمذهب الخوارج واستدلالهم، وإما أنها بعيدة عن محل النزاع والدعوى، وأما نقول العلماء - فمع ثبوت الخلاف بينهم - فلا يصح الاحتجاج ببعضهم؛ هذا لو صحت نسبة الأقوال إليهم بدقة ولم تثبت عنهم أقوال أخرى مخالفة لتلك بحسب الواقعة والسؤال؛ فكيف والأمر ليس كذلك بسبب الغلط في فهم كلامهم أو تحميله ما لا يحتمل أو وضعه في غير محله الذي أرادوه؟!، وأما القياس على الكفار الأصليين فلا يصح؛ لأنَّ العلماء فرَّقوا بالإجماع بين الكافر الأصلي وبين المرتد، وأما دعوى أنَّ كلَّ مَنْ وقع في الشرك كان مشركاً كما أنَّ كل مَنْ زنى وسرق وقتل أطلق عليه اسم الزنى والسرقة والقتل؛ فينقض هذه الدعوى مَنْ وقع في الشرك بسبب إكراه أو إغلاق في القصد فلا يُسمَّ مشركاً كافراً ولا يسلب عنه اسم الإسلام، فإنْ قيل: هذه أعذار تمنع من الحكم عليه بالكفر، قيل: والجهل كذلك!، وأما مسألة التمايز فلا يشترط فيها إطلاق اسم الكفر على المخالف كما هو الحال في التمايز بين أهل السنة وأهل البدعة، وأما التفريق بين إطلاق اسم الكفر الظاهر على أولئك الجهلة وأنهم يعاقبون في الدنيا وبين منع الكفر الباطن والعقاب الآخروي إلا بعد قيام الحجة  فهذا تفريق لا دليل عليه؛ لأنَّ النصوص عامة، ومبنى هذا التفريق على قياس هؤلاء الجهلة على الكفار الأصليين؛ وقد تبين فساد هذا القياس، وأما كون أكثر الناس معرضين عن الحق فلا يلزم منه تكفير الجميع، والتفريق بين المسائل الظاهرة والخفية وغير ذلك أمر نسبي يختلف من بيئة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر ومن زمن إلى زمن ومن حال إلى حال، وأما أنَّ الحجة قامت بالفطرة أو الميثاق فما فائدة إرسال الرسل؟!، وأما أنَّ الحجة قامت بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن؛ فهذا حق، لكن منْ لم تصله دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقة ولم يفهم معاني الآيات ومدلولاتها هل يُقال في حقه قامت الحجة عليه؟!
فهذا هو خلاصة الخلاف بين القولين، وقد أحسن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما قال في [الصارم المسلول 1/ 516]: ((فإنَّ التكفير لا يكون بأمر محتمل))، وقال [المجموع 34/ 136]: ((فلا يزول الإيمان المتعين بالشك، ولا يباح الدم المعصوم بالشك))، وقال [المجموع 12 / 466]: ((ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك)). 
رائد آل طاهر